ك..."الكون كله تحكمه نواميس تمنع تنافره واندثاره رغم آياته المتضادة أو المختلفة أحيانا،كذلك نحن يا طفلتي رغم اختلاف طباعنا وميولنا نحن أسرة واحدة. تجمع خيوط المحبة بيننا ، وما يجب أن تنفك أبدا".
كانت تلك كلمات والدي التي ألفت سماعها منه كلما حدثت بيني وبين أحد إخوتي "وخاصة الأكبر"مناوشات لأسباب كانت تبدو مقلقة لي أيام صغري.
لم يكن عقلي حينها "الذي أفسده الدلال المفرط "ليتسع لمفاهيم مجردة ،ولا يملك القدرة على إيجاد القاسم المشترك بين الكون ونواميسه، وما يحدث داخل أسرتنا من شغب متكرر بيني وبين بقية إخوتي السبعة.ومع ذلك كانت نفسي تأنس لكلماته أو بالأحرى لنبرة صوته المطمئنة ،بأن ذلك الشجار لا يخرج عن حدود المألوف لما يحدث عادة بين الأشقاء.
دون سابق إنذار خطف الموت والدنا ..ورحلت معه كلماته المطمئنة،لأجد قلبي يكاد ينفطرعليه، وعلى نفسي...فالحصن المنيع انهار فجأة، دون إنذار مسبق من المرض ،والذي ربما كان سيجعلني أتقبل فكرة فقده.
تبادر لذهني حينها أن كل شئ من حولي سيتغير ،فالذي سيرأس الأسرة لا محالة أكبر إخوتي..كانت فكرة جد مرعبة بالنسبة لي ولبقية شقيقاتي.
ك...كان أخي طالبا جامعيا .ناضجا جدا؛متفوق في دراسته بشكل لافت للنظر ..والكل يتنبأ له بمستقبل واعد..وكثيرا ما كان يعين والدي أوقات فراغه في تجارته.مما أكسبه محبة التجار خاصة أصدقاء والدي.ومعرفة واسعة بالتجارة وأسرارها.
تفاجأت والدتي بقرار توقفه عن الدراسة ليدير تجارة والدنا ..حتى يتسنى لنا نحن إخوته الصغار إكمال دراستنا المتوسطة والثانوية .ونحيا في نفس المستوى الذي ألفناه.ورغم رفض والدتي القاطع للفكرة .أصر على موقفه.
حتى طباعه الحادة أصبحت أكثر هدوءا ..لتختفي بطريقة سحرية كل شجاراته معي ومع بقية شقيقاتي...كأنه استشعر خوفنا الذي غزى قلوبنا بعد غياب والدنا،لتأتي تصرفاته عكس كل توقعاتنا ..غاب والدنا جسدا، أما روحه فكأنه كان قد أودعها أمانة قبل رحيله قلب أخي ..حتى ترفرف من حولنا..كما ألفناها دوما في شخص أخي من جديد.
ك..كنت أرقب تلك التحولات المتسارعة من حولي..لكن في صمت غريب أفزع كل من هم حولي ،وفي مقدمتهم أخي الأكبر.
ك.. كل شئ سقط فجأة من قلبي وعقلي ،حتى اهتماماتي البسيطة والساذجة محيت من دفتر يومياتي.أهملت نفسي.وفي مقدمة ذلك دراستي.لأجد نفسي بعدها عاجزة عن الحديث حتى مع عقلي..أرتمي في كل ليلة داخل فراشي جثة هامدة هجرتها بهجة الحياة..بين أحضان غرفة اشتاقت لوهج نور الشمس.وأخفي كل معالم وجهي تحت وسادتي التي نادرا ما كانت تستقر فوق سريري في حياة والدي...فقد كانت سلاحي الذي أدافع به عن نفسي ,أثناء معاركي مع إخوتي ،ثم استغرق في نوم عمييييييييييييييق.
ك...كاد الحزن يفطر قلبا صغيرا فجع في والده. ويقتل كل الأشياء الجميلة التي كان والدي زرعها بعناية فائقة داخل عالمي..لولا أيادٍ بيضاء أمسكت ذات صباح مقبض باب غرفتي ..ومن ثم فتحت النافذة كأنها تستنجد بخيوط الضوء الشفافة ،كي تطلق سراحي من ظلمة ذلك السواد المميت.
ك..كانت تلك أيدي إخوتي التي اعتلتهم يد شقيقي الأكبر..فوجئت بهم جميعا حول سريري ..ونظراتهم تستعطفني أن أعود إليهم من جديد.بينما والدتي تلقفتني بين ذراعيها مذعورة ،مستنجدة برحمة الإله أن لا تفقدني أنا الأخرى.
لم تكن لدي أدنى رغبة في الحياة لحظتها..جسدي الضعيف والمنهك لم يعد يقوى على ذلك..لست أدري لم لحظتها قفزت في ذهني عندما رأيتهم حولي صورة النوارس المهاجرة ...وأنني ربما أفقدهم فجأة كما حدث مع والدي.وأنني لن املك بعدها غير الانزواء داخل بحيرة الوجع كما يحدث للبجع المسكين دائما.
استيقظت من فكرتي على صوت بكاء والدتي وهي تزيد من شدة ضمي ..كأنها تريد أن تشعرني بوجودها ..وترجوني أن أتمسك بالحياة. كنت كلما أغمضت عيناي لشدة الضوء الذي كان يتعبني..تهزني حتى أفتحهما من جديد.
مخطئ من يظن أن ألم الطفل سرعان ما ينمحي ..وأنه وجع آنٍ سرعان ما تذروه الرياح.
آخر صورة علقت بذهني من كل ذلك المشهد ؛كانت لأخي وهو ينتزعني من حضن والدتي انتزاعا ..لأجد نفسي بعد يوم أو يومين أو أسبوع أو أكثر لست أدري ..في غرفة لونها يقارب لون السماء .وكل من حولي يرتدون رداءً أبيضا..للأول وهلة ظننت أنني رحلت إلى السماء..للأدرك بعدها أني ملقاة على سرير بالمستشفى.
ك..كان هناك وجه مبتسم داخل الغرفة ،اقترب مني وهو يمازحني قائلا:"ع السلامة".أشحت وجهي عنه ،كي لا أرى ابتسامته التي شعرت أنها في غير محلها.فعاد ليقول :"إن لم تكلميني أعدك أن تكون حقنة اليوم مضاعفة".
ك..كانت تلك وظيفته التي "ربما" تحتم عليه الظرف واللطف في غير أوانه أو ساعاته..لكنه لم يكن ليفهم أن وجعي أنا يمنعني من التفاعل مع أي حديث مها كان نوعه..
زاد من غيضي عندما استدار من الجهة الثانية وجلس قبالتي ..ثم بادر بالحديث مرة أخرى.."هناك شخص بالخارج قضى ليلته كاملة هنا ينتظر استيقاظك. فهل ترغبين في رؤيته؟"
شعرت أن ملامح وجهي العابسة كأنها استرخت فجأة ، لتخرج من فمي كلمة واحدة:"يمة أي أمي"؟.
رد قائلا:"لا ليست والدتك إنه شقيقك ".
مسح على رأسي الذي كنت أشعر أنه صخرة فوق جسمي من شدة ثقله ثم خرج .ليدخل أخي بعد فترة قصيرة . شاهدت دموعه تفر منه وهو يقترب مني..مددت يدي مستنجدة أن يبعدني عن ذلك المكان...ولأول مرة بعد وفاة والدي شعرت برغبة في البكاء .بكيت طويلا ،وهو لا يعلم كيف السبيل لإيقاف دموعي ..استنجد بالطبيب الذي أعطاني حقنة مهدئة لأنام بعدها..لأستيقظ ليلا وأنا أشعر براحة وباشتياق لأهلي..بقيت هناك فترة ليست بالقصيرة ..لأعود بعدها لتفاصيل حياتي بشكل يقارب ما هو طبيعي..
الهواجس والمخاوف تضاعف الأحزان ..وقد تقود الإنسان للموت ..ربما كان ذلك ما أدركه شقيقي،ليصنع بقربه مني ومن بقية شقيقاتي ..عهدا بالأمان ..أنه سيكون والدًا لا أخا متسلطا كما كان قد تسلل لحظة ذعر لأذهاننا الصغيرة .
كان حبنا له يربوا تحت ظل عطفه..فقد أصبح والدا يتفنن في دلالنا و صناعة نجاحاتنا وأفراحنا،لكنه في خضم كل ذلك النجاح والفرح نسي نفسه...كأي أب تهون عليه سعادته أمام سعادة أبناءه.
من كان ليتصور أن الأقدار ستعيد صياغة جذرية لذهنية كل واحد منا ..لتصنع من قلوبنا المشاغبة لما كنا صغارا..بدافع الغيرة والأنانية التى لا يسلم منها عالم الطفولة ...سنابل خير حانية أثقلها الحب لتميل مربتة على أكتاف بعضها البعض..لم يكن لأي شئ أن يعكر صفونا أنا وشقيقاتي وحتى والدتي غير هاجس فقدهم ..أو رحيلهم ..وفي مقدمتهم شقيقي الأكبر...لكن كان هناك يقين أن عدل الإله سينصف مشاعر الخوف فينا ..وأن الرحيل رغم أنه سنة ،كذلك اللقاء هو أمل فينا..تماما كما في عالم النوارس.