أوزال.. والحركة الإسلامية

تورجوت أوزال

لقد واجه قادة الانقلاب الأخير أزمة حقيقية؛ فهم يريدون استخدام الإسلام لمقاومة المد الشيوعي، وفي نفس الوقت يخشون من تنامي المد الإسلامي في الشارع والحياة السياسية التركية، وعلى حد تعبير البعض فهم يريدون إسلامًا تابعًا للنظام وليس منافسًا له.
وعندما بدأت الحياة السياسية تعود للبلاد تدريجيًّا أسس "تورجوت أوزال" حزب الوطن الأم، والمعروف أن أوزال مهندس كهربائي ولد عام (13446هـ = 1927م) وتمتع بخبرة عالية في الشئون الاقتصادية والسياسية وأنه كان مرشحًا لحزب السلامة الوطني عن ولاية "أزمير"، وكان يقال عنه إنه سفير الغرب في بلاده، ورغم ذلك فإن الحركة الإسلامية في عهده –سواءً كان في رئاسة الوزراء أو في رئاسة الجمهورية- كانت تتمتع بحرية أكبر، واحتلت مساحة أكبر في السياسة والشارع التركي، فأوزال كان يرى الأسلمة المعتدلة كإطار أيديولوجي للحد من تطرف الأتاتوركية، وخوفًا من تطرف بعض الإسلاميين ونمو الأفكار المتطرفة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران لذلك تَبَنَّى سياسات إسلامية معتدلة مقارنة بسابقيه، فدعم المدارس التي تُخرِّج الأئمة والخطباء لتصل نسبة خريجيها إلى 20% من خريجي المدارس المتوسطة، كما سمح بالدعوة الإسلامية في الإذاعة والتلفزيون، وسمح للفتيات بارتداء الحجاب بعد أن كان مجرَّمًا قبل ذلك، وسمح بقيام مؤسسات الأوقاف، كما سمحت السياسات الاقتصادية التي تبناها بوجود شركات ومشروعات إسلامية، كما سمح بنشاط رابطة العالم الإسلامي في تركيا.
الحجاب.. هو البداية
وقد تولى أوزال رئاسة الجمهورية في (ربيع الثاني 1410هـ = نوفمبر 1989م) وقبل توليه الرئاسة بيوم واحد نظمت طالبات جامعة "أنقرة" مظاهرة كبيرة اشترك فيها خمسة آلاف طالبة؛ احتجاجًا على منع الحجاب في الجامعات التركية بقرار من المحكمة الدستورية العليا، وأحدثت هذه المظاهرة أثرها في الشارع التركي، حيث رأى البعض أن الظهور المكثف للمحجبات هو من قبيل التخطيط السياسي، حيث يقدمون النساء والفتيات في الواجهة مما يجعل تأثيرهن أقوى ومواجهتهن أقل، ورأى آخرون أن النساء رفعن رايات الانتماء للإسلام بارتداء الحجاب لتثبت الحركة الإسلامية في تركيا أنها موجودة في الوجدان الشعبي والجماهيري، وبذلك استطاعت الحركة الإسلامية أن تنقل معركتها مع العلمانيين من الحرم الجامعي إلى الشارع العام لإثارة المشاعر الإسلامية لدى المواطن التركي، ولا شك أن هذا الأداء الإسلامي المحسوب بدقة كان يهدف إلى عدم حدوث انتكاسة للإسلاميين كالتي حدثت في بداية الثمانينيات والتي أدت إلى اقتصار المد الإسلامي على العباءات فقط بعد الانقلاب الأخير.
الرفاه.. من المسجد إلى المجتمع

نجم الدين أربكان رئيس وزراء تركيا الأسبق

تأسس "حزب الرفاه" عام (1403هـ = 1983م) وكان "النظام العادل" هو عنوان البرنامج الذي يطرحه الحزب، وهو في مضمونه يعني النظام الإسلامي. وكان النظام العادل للحزب يهدف إلى إلغاء العلمانية في تركيا والتي تختلف عن العلمانية الغربية التي تقتصر فقط على فصل الدين عن السياسة وليس محاربة الدين. وكان أربكان يرى أن الديمقراطية وسيلة وليست غاية؛ فهي تهدف إلى إقامة نظام السعادة وإذا فشلت في ذلك فلا قيمة لها، وكان هذا هو الخطاب السياسي الذي خاض به أربكان الانتخابات بعد ذلك، فاستطاع في الانتخابات المحلية عام (1410هـ = 1989م) أن يحصل على خمس بلديات، أما فوزه الكاسح فكان في عام (1413هـ = 1992م)، وكان مفاجأة كبيرة في الوسط السياسي التركي، ودعت هذه النتائج أربكان إلى مطالبة رئيس الوزراء "سليمان ديميريل" بالاستقالة وإحلال النظام العادل محل النظام المُفْلِس.
لقد بدأ حزب الرفاه والإسلاميون يقتربون من السلطة في هدوء وبطء، فعمل على خلق قاعدة اجتماعية قوية له، وساعده على ذلك انشغال المؤسسة العسكرية التركية والائتلاف الحكومي بمواجهة حزب العمال الكردستاني وزعيمه "عبد الله أوجلان"، فاستثمر حزب الرفاه ذلك الأمر في إعلانه أنه يرفض العنف، وأنه لن يخرج على خط الدولة وسياساتها، وساعده– أيضًا وجود الرئيس "تورجوت أوزال" في الحكم بأفكاره غير المتطرفة تجاه الإسلاميين. إلا أن أوزال توفي بأزمة قلبية مفاجئة في (24 شوال 1413هـ = 17 أبريل 1993م) قبل أن يكمل فترة رئاسته، وتولى الحكم بعده "سليمان ديميريل".
ومع ازدياد الشعور الإسلامي في تركيا وسيطرة حزب الرفاه على عاصمتي تركيا: أنقرة وإستانبول، توحدت أحزاب اليمين واليسار ضده لتستطيع مواجهته، إلا أن أربكان السياسي العجوز رأى في هذه الوحدة إضعافًا لهما وتقويةً له، فحقق الحزب فوزًا في انتخابات (1414هـ = 1994م) وهو ما أقلق الأحزاب المختلفة فبدأ بعضها يخاطب ودَّ الجماهير عن طريق فتح معاهد لتدريس القرآن الكريم، وأثبت فوز الرفاه في هذه الانتخابات البلدية أنه حزب مستقيم استطاع أن يقدم خدمات يومية في البلديات التي فاز فيها دون تفرقة بين أحد؛ لذلك كان كثير من غير المسلمين يصوتون لصالحه، وبذلك انتقل الحزب من المسجد إلى المجتمع بهدوء وقوة فحقق شعبية كبيرة رغم تشكيك الكثيرين في هذا الأمر، وتجلت هذه الجماهيرية للحزب في الانتخابات البرلمانية في (1416هـ = 1995م) حيث حصل الحزب على أعلى المقاعد وهي: (158) مقعدًا من أصل (550) مقعدا، وحصل في الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت في ذلك العام على 33% من الأصوات، وأعقب هذا الفوز الكاسح للرفاه فشلُ وانهيارُ الحكومة الائتلافية بين حزبي "الطريق القويم" و"الوطن الأم".
ولقد تحالف الجميع ضد وصول الرفاه للحكم، فعهد الرئيس ديميريل إلى "تانسو تشيلر" زعيمة الطريق القويم بتشكيل الوزارة ففشلت، وقدَّم الرفاه ملفات تُدينها بالفساد، وحصل على موافقة من البرلمان على إجراء تحقيق حول ممتلكاتها الشخصية. أما "مسعود يلماظ" زعيم حزب الوطن الأم فألجأ الرفاه إلى المحكمة الدستورية العليا واستطاع الحصول منها على حكم بعدم دستورية اقتراع الثقة على حكومته، فأدى ذلك إلى فوضى سياسية مع إصرار المؤسسة العسكرية والعلمانيين على عدم صعود أربكان لرئاسة الوزارة.
وأمام هذه الإدارة المنظمة للحملة السياسية التي قام بها الرفاه لمواجهة خصومة الأقوياء، رفعت تشيلر الراية البيضاء حتى يتوقف الحزب عن فتح ملفات فسادها، وأعلنت قبولها الائتلاف السياسي مع الرفاه ،على أن يتولى أربكان رئاسة الوزارة، وتكون الوزارات السياسية السيادية من نصيب حزب الطريق القويم.
وفي (صفر 1417هـ= يونيو 1996م) تشكلت وزارة ائتلافية على رأسها نجم الدين أربكان ليصبح بذلك أول إسلامي يصعد إلى قمة السلطة السياسية في العصر الحديث في الشرق الأوسط عن طريق الانتخاب. واستطاع أربكان في الفترة التي تولى فيها الوزارة وهي عام واحد أن يخفض ديون تركيا من (38) مليار دولار إلى (15) مليار دولار، وقاد سياسة ناجحة داخليًّا وخارجيًّا بعيدًا عن التشدد والتطرف، وهذه السياسة تعتمد الواقع ولا تبتعد عنه، إلا أن المؤسسة العسكرية رأت في نجاحاته الكبيرة خطرًا كبيرًا، خاصة أنه اقترب من بعض القضايا الشائكة في تركيا –وعلى رأسها القضية الكردية- لحلها، وبدأت قيادة الجيش في حملة تطهير للإسلاميين من صفوف الجيش، وتوجيه انتقادات لاذعة لأربكان فتأزمت الأوضاع السياسية واحتقنت، وأمام ذلك لجأ أربكان إلى إجراء انتخابات مبكرة، ثم قدم استقالته من رئاسة الحكومة بعد أقل من عام.
ولا يخفى أن النخبة السياسية في تركيا وافقت على صعود الرفاه للسلطة لإثبات فشله والالتفاف عليه وحتى يفقد شعبيته إلا أن أربكان كان يدرك قواعد اللعبة السياسية ويتحرك من خلالها، مدركًا التوازنات السياسية التي تحيط به فنجح في أقل من عام في تحقيق إنجازات زادت من رصيده الشعبي والسياسي، لذلك رأى منافسوه ضرورةَ إقصائه عن موقعه رغم هتاف مائة ألف شاب تركي أمامه في مدينة قونية: "نريد الإسلام".