بعد المقال الأول في نقد نظرية
فرويد حول الدين
اليوم نشرع بحول الله تعالى في نقد نظرية شخص له وزنه في علم الإجتماع ، فهو أول واضع لقواعد هذا العلم ، ، ولا نستطيع ذكر علم الاجتماع دون ذكر هذا الاسم، وبعيدا عن سمعة هذا الرجل الذي اكتشف العديد من علماء الاجتماع سرقاته العلمية ، واجتياز قواعده في المنهج..فعموما ليس كل ما أتى به دوركايم مخالف للإسلام ويتعارض معه، بل مواقفه النابعة من إلحاده هي السبب في انحراف نظريته حول الدين. فقد كان ينادي بالحياد في دراسة الظواهر لكنه مع الأسف لم يستطع التجرد الكامل من خلفياته الإيديولوجية فكانت تحليلاته متأثرة بنظرته الإلحادية دون أن يدري...

جولة مختصرة مع نظريته:

يعزو إميل دوركايم نشأة الديانة إلى الحياة الإجتماعية، فالأفراد بتآلفهم يعيشون حياة كلها حماسة ونشاط ينبعث منها شكل تيار كهربائي يتوهمون أنه صنع الإله، مع أنه ليس من الإله في شيء،ولكنه وليد الحرية الاجتماعية، أي أن منشأ الدين اجتماعي وليس غيبي. فالدين في نظره حقيقة إجتماعية إنسانية فقط، لأن له دورا حيويا في الحفاظ على النظام والتركيبة الإجتماعية فحسب. فالافراد يخترعون الدين وما يلحقه من عادات وتقاليد وشعائر، لأن في ذلك تضامناً جمعياً لهم وقوة لمجتمعهم. فمراسم التعميد، والزواج، ومناسبات الأحد في الكنيسة النصرانية، والسبت في المعابد اليهودية، وأعياد رأس السنة الميلادية ونحوها تذكّر الافراد بهويتهم الدينية وتقاليدهم الإجتماعية.
هذا قطب رحى نظرية دوركايم حول الدين، مع وجود تفصيلات مملة جدا حول الطوطم وكيفية ظهور النفس لا أريد إزعاج القارئ الكريم بسردها لأننا بصدد نقض لأصل نظريته وليس النظرية بتفريعاتها فلو كان كذلك للزمنا تأليف كتاب في هذا الصدد، وليس مجرد مقال، وعموما فنقض الأصل يُسقط البناء بالكلية، ويغني عن التطرق إلى الفروع.
انتقادات ومتابعات:


يتلخص انتقادي لنظرية إيميل دوركايم الزاعمة بأن العقائد الدينية تتضمن تصورات إجتماعية وضعية لتركيبة المجتمع كالآتي:

1-نلاحظ أن النظرية الدوركايمية مهملة لعدة أشياء لم تتطرق إليها في الدراسة مثل المحيط الجغرافي،والتركيب الجسمي ...، مما يجعلنا أمام دراسة ناقصة الجوانب، فهذه النظرية لا تخلو من التطرف والمغالاة التي جعلت المجتمع هو الصانع لثقافته وديانته... وبالتالي ليست تلك الدراسة ذات الطابع الشمولي التي أمكن الارتياح لنتائجها.

2-تفسير ظاهرة الدين في المجتمعات الإنسانية بأنها وليدة أسباب اجتماعية فقط ، وليس لها سند عقلي أو علمي ، وليس لها دوافع فطرية في النفس الإنسانية، مجرد ادعاء خال من الصحة، ففي علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع المعاصر يوجد إجماع على أن الدين فطري في الإنسان، والدليل على ذلك أنه لا يوجد مجتمع في تاريخ الإنسانية لم يعتنق دينا معينا، ولم نسمع عن مجتمع في التاريخ الإنساني ككل عاش دون دين ودون فلسفة حياة..وأيضا الإسلام على عكس كل الديانات يتوفر على استنادات علمية وعقلية وقوة حجاجية كبيرة.

3-أن مصطلح "العقل الجمعي" الذي يدعي دوركايم أنه موجود خارج الأفراد، مجرد شماعة تسهل كل ماهو مستعصي حله على دوركايم، فقد نسي هذا الباحث أن الحركة الشعبية والموكب الجماهيري التي تشملها عاطفة موحدة معينة تكون مجرد مسيرة اتكالية تبعية، وقد يكون قائدها مجرد رجل واحد معين يستطيع التأثير في الحشود أو مجموعة من الأشخاص من "النخبة"، بحيث يستطيع هؤلاء تحريك جمهور الشعب كيفما شاؤوا.. وليس "العقل الجمعي".

4-من سقطات النظرية أيضا تعميم الظاهرة الجزئية على كل السلوك الإنساني (تأثير العقل الجمعي في الأفراد كمثال)

5-من سقطات النظرية أيضا تفسير الظاهرة بغير ما يصح أن تفسر به ،لتحقيق مآرب إلحادية دفينة .

6-اعتماده على أساطير تأسيسية كالتي اعتمدها فرويد دون إعطاء الدليل والبرهان.

7-اعتماده على دراسة يتيمة لقبيلة أسترالية معاصرة وسحبها وتعميمها على كل القبائل الإنسانية البائدة .

8-إغفاله في دراسته لمسألة الوقت والزمن، فلا نسلم له أن عقائد القبائل الأسترالية هي نفسها عقائد القبائل البائدة التي عاشت قبل ملايين السنين، كما لا نسلم له بعدم تغير معتقدات القبائل الأسترالية عبر الزمن وانحرافهم عن عقائد وشعائر الأجداد.

9-نسي دوركايم بأننا لو سلمنا معه جدلا بأن الدين ناتج عن صنع جمعي، سوف يصطدم بمسألة أن الدين يحتوي على ممارسات وعبادات فردية وعناصر تكون بين الفرد ومعبوده .

10-أنه لو كان الدين نتاجا من فرد او مجموعة من الأفراد، فما الذي يمنعهم من الإفصاح عن أنفسهم وتحقيق مآربهم بتبوء الحكم والسلطة والغنى فلم يدعي أحد أنه هو مخترع الدين الفلاني، وهنا سؤال منطقي يستعصي حله على نظرية دوركايم. فالدين السماوي لو كان من وضع فرد معين. فلماذا لم يدعُ ذلك الفرد الناس الى الارتباط به بدل حثهم على الارتباط بالغيب وبالخالق الذي يرانا ولا نراه ؟ وبالتأكيد فإن نظرية دوركايم عجزت عن الإجابة على تلك الاسئلة، وهو دليل على ضعفها وعدم صمودها أمام الإشكالات والإستدلالات العلمية والفلسفية.

11-أن الأدلة العقلية والمنطقية والفلسفية على وجود الله عز وجل لا تترك لنظرية دوركايم مجالا للعيش.

12-أن الأشخاص لا يستطيعون اختراع نظام محكم مثالي خال من الأخطاء والتناقضات، كما هو الحال في الإسلام.

13-من المعضلات التي تصطدم بها النظرية، إجماع الأقوام على رؤية المعجزات من لدن الأنبياء، بحيث تواترت الأخبار من أعداد كثيرة من الناس استحال اجتماعهم على الكذب.

14-المعضلة التي يصطدم بها دوركايم أن الإسلام جاء بمعجزة عظيمة، وهو القرآن الكريم. فلو كان الإسلام حقيقة اجتماعية لما تحدى القرآن الكريم الأجيال المتعاقبة في المجتمع الإنساني على أن تأتي بآية واحدة تشابه أسلوب بلاغة ذلك الكتاب السماوي الخالد. وقد عجزت كلها عن الإتيان بذلك، والقرآن يتحداها كل يوم، بل تحداها إلى يوم القيامة. فالحقيقة الإجتماعية تزعم بأن الدين السماوي والقرآن بالخصوص، إنما اُنشأ بالأصل من قبل الأفراد، وقد نفى الإعجاز القرآني هذا الزعم.

وهناك انتقادات كثيرة حول منهج دوركايم في الدراسة وغيره ليس ههنا المقام لإيضاحها ولا تهم إلا الباحثين المتخصصين..
وهكذا رأينا باختصار شديد أن أطروحة دروكايم ، ليست تلك النظرية التي أمكن الارتياح لها لسقطات عدة وقعت فيها مما يضعنا امام مسألة الفرضيات الإلحادية التي غزت العلوم الإنسانية نظرا لعدة ظروف معاشة من طرف أصحاب تلك الأنساق الفكرية أبرزها تهافت النصرانية وتناقضاتها، ويأتي الملاحدة العرب بكل عنجهية يعتنقون مثل هذه النظريات المتهافتة لمجرد عوامل سيكولوجية واجتماعية أو انبهارا بالغرب وجهلا بالإسلام.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.


فخر الدين المناظر