ينابيع الإبداع




كتبها: فيصل الملّوحيّ




قبل أربعين سنة كان لقاؤنا الأول، عشناه عاما كاملا، يوم كنا نعلّم الشباب اللغة العربية وآدابها، كنا نلتقي يوميّا، في أماكن متفرقة في البيوت وغير البيوت، كنا نتنادم الشعر، فأسمعه ويسمعني، ينقد أحدنا أخاه، يثني عليه، يقدمه لذوّاقة الشعر..
وعلى عادتها فرقت الأيام جسدينا، لكنها لم تستطع تفريق روحينا. فكانت خطابات الشعر والأدب البريديّة تحمل روح كل منا إلى صاحبه.
وجاءني يوماً البشير بثلاث قصائد طربت لواحدة، ونازعتني نفسي المتعة وبعض الضيق في القصيدتين الأُخريَيْن. وكتبت إليه:
أمّا الأولى: ( والترتيب هنا للإبداع لا لزمان القراءة): فهي قصيدته إلى ابتته اتي كانت وحيدة وعمرها ثلاث سنوات -.
وأمّا الثانية: فإلى ابنه المولود منذ أيام.
وأمّا الثالثة: ففي مناسبة لا حاجة لذكرها.
لماذا كانت الأولى؟ لأنها فرضت نفسها على الشاعر، أو كما يقول الجاهليون: لأنّ شيطان الشعر أنطق لسانه بها. كان التفاعل في النفس، في الروح– لست أدري– فانطلقت القصيدة تتحدّث عن لواعج النفس، وتنقل إلى السامعين الأحاسيس الصادقة – وليس الصدق هنا ما يقابل الكذب، إنه أعلى، إنه صدق التجربة، لا صدق المعلومة أو كذبها.
لهذا أنا أصدّق ما يقوله كاتبنا الصقر، بل أعضّ بالنواجذ.
بل لا أعدّ من الإبداع إلا ما فرضته النفس على اللسان والقلم، والقريحة الوثابة من خيال وصور.
يحضرني هنا قول ذلك العالم لذلك الواعظ: يا هذا في نفسك مرض أو في نفسي، حين سمعه ولم يحرّك في نفسه شيئا.
يقولون: هذا شاعر مقلّ، وذلك شاعر مكثر، هذا تندر قصائده ، وذلك اطلب تعط، شاعريّة متدفّقة، وقريحة ثرّة!
لم أنج مما لا أراه صوابا، قلت ما قلت من قصائد يوم كان الشباب يفور بين جنبيْ، أريد أن أبرز، أن أنجح في عيون الناس. واليوم– لا أدّعي أني مزقتها كما مزّق طه حسين شعره الذي لم يرق لروحه- أحتفظ بها، وأرددها بين حين وحين، فألوم نفسي، وأقول يا ضيعة النفس أن تقول ما لم تجُد به حقّا!
تجويد الإبداع
لا أدّعي أن الإبداع فقط هو ابن مرحلة الولادة وحدها، بل يمكن أن نعود إلى الشعر والنثر بالتجويد والصقل، لكنه يبقى نوعين:
- نوعاً يرتبط بالإبداع بلا منازع، ولن تنجزما تريد إلا بتأثير مرحلة الإبداع المتمادّة التي قد تعيشها وقتاً أطول من ساعة، فتصل إلى أيّام. وهو أمر يحدث في الشعر والنثر على سواء.
كنت في صغري أتفيّأ ظلّ شاعري المحبوب عمّي – أسكنه الله فسيح جنّاته -، كانت لحظة الشعر كارثة على البيت كلّه، لا أحد يستطيع الوصول إليه، كنا نسمعه يقول، ونقف صامتين نفهم ما نفهم ويغيب عنّا ما يغيب، منّا الطفل وبعضنا أميّ، أمّا المثقفون منّا فكانوا يتميّزون فيهفمون إلا نكاتاً منها يحتاجون إلى وقت لتفسيرها!
ثمّ يأتينا الفرج، فيخرج من البيت صوب البساتين– كنّا نتمتّع بجمالها ونتحسّر عليها اليوم-
ليردّد ما قاله، ويعيد ويصقل، ثمّ يعود إلى البيت فيطلب منه من يطلب أن يعيد عليهم ما قرّ عليه، ويبدأ الحوار بين القادرين عليه، لا لتصويب ما يعدّونه خطأً، فالتصويب أخذ حظّه في البساتين، و إنّما هوتلذّد بما حواه من خيال مبتكر، وتمثل لعاطفة دفعته إلى الشعر،وتثقيف بما فيه من معلومات.
- ونوعاً يرتبط بهنات صغيرة تصوّب أو معلومة خاطئة تصحّح، وهو أمر يقلّ في الشعر ويكثر في النثر.

الإبداع وعرض المعلومات
يتعلم الإنسان ويعلّم، يتلقط معلوماته من مصادر متعدّدة بحواسّه الخمس، فيعرضها حفظاً أو تعليما. فلا نستطيع أن نقول عنه هذا إبداع، إنّما هو عرض لهذه المعلومات قد ينجح فيها، وقد يخفق.
وهو ما يحدث في المدارس والجامعات وقاعات المحاضرات..
أما حين يتفتق ذهنه عن جديد في العلم أو الأدب فنحن أمام إبداع حقّ.
وهو أمر أقل في الوجود كطبيب – أو كيماويّ- يكتشف دواء، أو فيزيائي يكتشف جاذبيّة الأرض، أو أديب يكتب مسرحيّة يصفها النقّاد بالإبداع.