حيث الوسادة يجب أن تنام وضعت رأسي أريد أن أنام ، تتراكم من حولي أحداث النهار وأكاد أهرب للنوم منها ويكاد النوم يهجر جفوني كلما سبحت في طيفي سحابة للأخبار العاجلة، وحيث علمت أن هذه الأخبار العاجلة لا تؤخر ولا تقدم في حياة الإنسان فوضعت جنبي أريد مفارقتها زاعماً أني تغلبت عليها بإهمالي لها، ولكن صوت خبر عاجل ارتفع في موعده آذانه ولم يكن ليؤرقني كما يفعل هذه اللحظة، انتشرت الأخبار العاجلة في كل الشوارع وها قد بدأ جاري يعلن بصوت مولدته المتعجرفة عن انقطاع التيار الوطني ، لم تكن مولدته تعرف الهدوء لحظة وكانت عاجلاتها أسوء من كل المحطات الإخبارية، لا تصلني رائحتها العفنة كما يصلني صوتها، وأكاد أتسمر وأنا استمع لنشرتها المطولة ومجازرها المروعة بحق وجدان البشرية، وكلما ركزت لنسيان صوتها تغازل أحلامي الفارة من هذا الجو السىء


تراها ترفع من حدة زمجرتها الصاخبة في هذا الليل الهادئ، تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلاً ومن بعدها تجاوزت الواحدة ولم يقتنع هذا الجار بأن النوم نعمة مفيدة للإنسان، خرجت إلى الشرفة هاجراً فراشي متمنياً لو أني أقدر على الصراخ بقوة كما تفعل مولدته مرغماً إياه على الاعتراف بحقي في النوم، نظرت فرأيته قد وضع مولدته خارج منزله وقد أوثق رباطها ككلب إلى شجرة، كانت من النوعيات السيئة ذات الدخان الكثيف والزمجرة المزعجة، فكرت في عدة أفكار تعيسة كالتي يفكر غيري حين يفكر ، لماذا لا تمنع الدولة شراء هذه النوعيات الرخيصة والمخالفة للمواصفات، فيرد عقلي وهل الدولة مهتمة بدفتر شروط راحتك الشخصية، المهم لديها كمية الضرائب التي تدخل حتى ولو على حساب عافيتك وأحلامك الوردية، أقول في نفسي و مالذي تجنيه من هذه الحوارات الداخلية وكأنك محطة إخبارية تأتي بالضيف لتسوق أفكارها وتجعله جسراً لإيصال رغبات الوكالة المشرفة عليها، لم أكن لأعرف لماذا أجهد وجداني بكل هذه الهلوسات ولا زال صوت المولدة يضايقني، وفي لحظة العجز وعدم القدرة على فعل أي شيء، قد تتولد لديك فكرة شريرة بفعل شيء ما، وماذا ستفعل: قلت وماذا لو أني سكبت بعض الماء في خزان المولدة وهربت، بالتأكيد لن تعمل وسأتخلص من صوتها وأنام قرير العين، فكرت جدياً بالفكرة وعزمت على تنفيذها بعد مراقبة الموقع في اليوم التالي.


في الصباح الباكر اقتربت من الموقع ودرست تفاصيل المكان، اقتربت من المولدة و كأني أقرأ تفاصيل صنعها ومددت يدي بكل هدوء وفتحت غطاء خزان الوقود فانفتح ومعه انفرجت أساريري صرخت تكبير: الله أكبر ، قلت ما أسهل العملية إذن.


حينها سمعت من يلقي عليَّ التحية، نظرت فإذ به جاري، ارتبكت ، لكن سؤاله : هل تريد واحدة، تظاهرت بأني أبحث عن واحدة، فقال لي هذه النوعية هي أرخص النوعيات وصحيح أن صوتها مرتفع لكنها تصرف من الوقود القليل.


قلت لكن صوتها مرتفع ومزعج


قال والله إن تكاليف الحياة باهظة ، وحينها مرَّ ولده الأكبر وكان يحمل كتبه ثم ابنه الأصغر ، قال هذا ولدي أحمد في يدرس ثالث ثانوي علمي وهذا مضر في الصف التاسع ، لقد حرما من متابعة دوامهما في المدرسة لأنها أصبحت ملجأ للنازحين، وهما في النهار يأخذان بعض دروسهم عند المدرس وفي الليل يدرسان حتى ساعة متآخرة هم وزملائهم في البناية، كنت لا أزال بجانب المولدة، ولازال غطاء الخزان بيدي حتى هممت بإغلاقه، قال أحمد: بابا هل جلبت المازوت لتشغيلها، أردف الأب : والله لم أجد البارحة ولا نقطة مازوت، لقد تم حرق قافلة الصهاريج القادمة لمدينتنا و لا يوجد في السوق قطرة واحدة، سأحاول البحث لعلي أجد في الحواري البعيدة.
انتابتني حالة من القلق جراء هذا الموقف العاجل، ولم أتمكن من التعبير عما اختلج في قلبي ، فرميت بعض المجاملات وهممت بالانصراف.
مشيت ولم أنظر خلفي
طالب بكلوريا وطالب في الصف التاسع، و كيف لهما بالتركيز برفقة هذا الصوت المزعج، عادت الحوارات لتبدأ لكنها كانت حزينة ، حاولت النوم في الظهيرة لعلي أعوض فاقد المساء، لكن عبثاً، كلما حاولت النوم ،تذكرت من يدرس على صوت هذه المولدة المزعجة ، اليوم هو يومها الأخير ،تقلبت عشرين مرة وأنا أتألم لأوضاع البناية المجاورة ، ففي الساعة التي أخلد فيها للنوم هرباً من عواجل الإخباريات هناك من ينشط ويتعلم، في الوقت الذي أشتري المازوت لما لا ينفع هناك من يشتريه ليتعلم ويدرس، دخل المساء هادئاً كغير عادته، خرجت إلى الشرفة أتأمل هذه المولدة الطارئة على حياتنا فإذ بجارنا يخرج ويفتح غطاء المولدة وينظر فيها ، يلحقه ولده فيقول : بابا كم يكفينا يقول له ربما نصف ساعة.
نصف ساعة ، هي النصف الأخيرة، سينقطع صوت هذه المولدة حتى خبر عاجل جديد.
بدأت المولدة بالعمل لكن صوتها كان حزيناً كأنه مقطوعة موسيقية، لم تعد تزعجني وكنت أخشى أن تصمت
عزمت على خطتي ، وتسللت حتى المولدة فتحت الغطاء وسكبت لترين من المازوت، عاد صوت المولدة يزمجر بقوة.
أحكمت إغلاق الغطاء وانسحبت من مسرح العملية
وضعت رأسي ليلتها على الوسادة و النوم يداعب أجفاني، المولدة تزمجر وأنا أشخر مرتاح البال.


طارق شفيق حقي
2013