صفحة 2 من 97 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 12 52 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 1155

الموضوع: أدب الرحـــــــلة ...

  1. #13 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    رحلات هانس كريستيان أندرسن في بلاد المشرق
    "ثروة بإمكانها أن تزيّن أي بيت أنيق في أوروبا"





    قصص الكاتب الدانماركي أندرسن مترجمة إلى أكثر لغات العالم.
    الشاعر الدانماركي الذي ترجمت أعماله إلى أكثر لغات العالم هانس كريستيان أندرسن، والذي يُحتفل في هذه السنة بمرور 200 سنة على ميلاده كان معروفا بولعه المفرط بالأسفار. وقد قاده حنينه إلى المغرب أيضا. كريستيان هاوك يقدم لمحة عن انطباعات الشاعر الرحالة.

    كان السفر بالنسبة لأندرسن(1805-1875) يمثل وسيلة للهروب من الوحدة. قام أندرسن برحلات واسعة الامتداد عبر العديد من البلدان الأوروبية.

    وقد وضع مجمل الانطباعات التي حصلت لديه من سفراته العديدة في كتب الرحلة التي ألفها.

    غير أن هذه الانطباعات لم تجد لها بالمقابل سوى حضور صعيف داخل حكاياته. وفي حالات متفرقة فقط جعل من الأماكن التي زارها مسرحا لتلك الحكايات، مثل ألمانيا وإسبانيا وسويسرا.
    الحنين إلى "ألف ليلة وليلة"
    لم تكن رحلة أندرسن إلى إسطنبول سنة 1840 بدافع البحث عن مصدر إيحاء لحكاياته. بل إنه من خلالها قد قام بسفر داخل طفولته الخاصة؛ ذلك أن أباه كان قد قرأ عليه في سنوات صباه حكايات "ألف ليلة وليلة". وبالنسبة لأندرسن كانت القسطنطينية تمثل "مدينة الحكايات والأساطير".
    ومباشرة بعد عودته من هذه الرحلة برزت إلى الوجود حكايات "البطة الصغيرة القبيحة" و"ملكة الثلج" و"راعي الخنازير". ولقد استندت الحكاية الأخيرة منها، كما هو متداول في طريقة الكتابة لدى أندرسن، على نموذج حكائي تقليدي، بينما جاءت الحكايتان الجديدتان الأخريان ذات طابع مستقل. لكن إلى أي مدى كانتا تحملان بعضا من تأثيرات الرحلة المشرقية، فذلك ما يظل غير معروف.
    من إسبانيا إلى المغرب
    بعد ما يقارب العشرين سنة من رحلة إسطنبول سيتجه أندرسن إلى ركن آخر من العالم الإسلامي. ففي الثاني من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1862 يمدد الرحالة سفرته داخل إسبانيا مستقلا الباخرة من جبل طارق باتجاه شمال إفريقيا. وقد قضى بعدها أسبوعا كاملا في طنجة.
    كان أندرسن يقضي كامل أيامه متنقلا بفضول بين قوافل الإبل وبساتين البرتقال وحيوانات الضربان ("لقد عثرت في طريق عودتي على واحدة من أشواكه الطويلة، وهي نفسها التي أستعملها الآن غلافا لقلم الحبر").

    وقد أقام أندرسن في الأثناء لدى القنصل الدنماركي، وبالنهاية قام بزيارة لباشا المدينة في حي القصبة.

    ومن بين ما جلب انتباه الكاتب الذي غدا شهيرا بحكاياته في العالم كله هذه المعاينة:".. جمع من الموريسكيين يجلسون منصتين في حلقة حول قصاص لا يكف عن الضرب على دف بينما كان يروي حكاياته..."
    مفخرة أب يهودي
    إلى جانب السكان المسلمين تتميز مدينة طنجة بحضور مجموعة سكانية لا بأس بها من التجار اليهود، في يوم جمعة بينما كان المسلمون يؤدون صلاة الجمعة وأبواب المدينة مقفلة بسبب ذلك، والشوارع تبدو خالية، خاطبه رجل يهودي في الشارع وراح يحاول أن ينتحي به إلى زقاق جانبي، هل ينبغي أن يتبعه؟


    قاده ذلك الشخص إلى زقاق مسدود وكان في الواقع يريد أن يريه بيته: "رحت أفكر هل يمكنني أن أثق في هذا الرجل، وكنت أحمل معي مبلغا صغيرا من الذهب. لكنه بدا لي مع فقره أمينا وصادقا، بينما كل شيء من حولنا كان يوحي بشيء شبيه بأجواء مغامرة."

    كان أندرسن مولعا بالسفر.
    وبالنهاية عرف أندرسن أن الرجل كان يود فقط أن يعرفه على ابنه من باب الاعتزاز والفخر فقط.-"وكان عليّ إذن أن أقدم هبة لذلك الطفل."

    الشاعر والقنصل يحتفلان داخل دائرة ضيّقة من الناس: "كان ذلك يوم الأحد. وبما أن سكّان طنجة من المسلمين واليهود، فإن الأفراد القلائل من المسيحيين الكاثوليكيين والبروتستانت لم تكن لهم بطبيعة الحال كنيسة ولا مُصلّى. وبالتالي فإن قدّاس الأحد كان يقام في المنازل الخاصة أو في قلوب الأفراد كل على حده.
    داخل غرفة في حديقة المنزل بُسط سجاد على مائدة وفوقه وضع الإنجيل وكتاب المزامير. قرأ علينا دروموند هاي بعض المزامير وبعدها بعض مقاطع من الإنجيل. وقد كان الجوّ داخل هذا القدّاس المجرد من كل فخامة ملائما للخشوع والتأمل."
    وداع المغرب
    بتأثر عميق وبحزن كان أندرسن يعيش لحظات الرحيل على متن باخرة حربية فرنسية باتجاه إسبانيا. "بعد بضعة ساعات سيكون عليّ أن أغادر هذا الموطن الذي وجدته، أنا الغريب، في هذا الجزء الآخر من العالم. كان علي أن أودع أناسا ظلوا طوال المدة الزمنية القصيرة التي قضيتها بينهم حريصين كل الحرص على توفير أسباب الفرح لي.
    لم يكن معلوما لنا إن كنا سنرى بعضنا بعدها مرة أخرى في هذه الحياة؛ وفي أغلب الظن قد لا يكتب لي أن أضع قدمي فوق أرض هذا الساحل الإفريقي بعدها.(...) لقد كانت إقامتي على الساحل المغربي بحق الحلقة الأكثر فائدة من كل ما عشته في هذه الرحلة كلها."


    بقلم كريستيان هاوك
    ترجمة علي مصباح

    *****************************

    من قراءات
    (السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    آراء أوروبية لمثقف مناوش

    الاستطلاعات الأدبية لأحمد فارس الشدياق


    الشدياق، شخصية لم تنل حقها من الاهتمام حتى الآن في العالم العربي.
    أحمد فارس الشدياق (1804-1887) من ألمع الرحالة العرب الذين سافروا إلى أوروبا خلال القرن التاسع عشر. كان الكاتب والصحفي واللغوي والمترجم الذي أصدر أول صحيفة عربية مستقلة بعنوان الجوائب مثقفا لامعا وعقلا صداميا مناوشا أيضاً. تقرير باربرا فنكلر.

    كانت لهذا الرجل الذي عاصر فيكتور هوغو وغوستاف فلوبير وإدغر ألن بو وشارل ديكنس اتصالات بمستشرقين ومثقفين أوروبيين وكذلك بمفكرين إصلاحيين عرب. وكمتمكن بارع في اللغة العربية، متمرس بفن البلاغة وبدقائق القاموس اللغوي، فقد كان في الوقت ذاته أحد أهم مجدديها.
    ساهم مساهمة فعّالة في تطوير لغة صحفية حديثة منقّاة من البلاغة الزائدة. وصقل العديد من المصطلحات الحديثة مثل عبارة الإشتراكية التي أضافها إلى اللغة العربية. لقد عاش الشدياق حياة مليئة بالحركة على نحو خارق للعادة التي سنورد هنا بعضاً من جوانبهاعلى سبيل الذكر لا الحصر.
    حياته

    ولد فارس الشدياق في بلدة عشقوت في لبنان، من الديانة المارونية وتحول إلى البروتستانتية، الأمر الذي كان يعد في ذلك الزمن عملا لا يخلو من المخاطر، وقد مات أخوه مسجوناً لدى المارونيين بسبب ذلك.
    وجد الشدياق نفسه إذاً مجبرا على الرحيل إلى القاهرة سنة 1825. وعمل ابتداء من سنة 1834 مدرسا لدى البعثة الكهنوتية (البريسبيتريانية) الأميركية ومصححا صحفيا في مالطة لمدة 14 سنة. وفي سنة 1848 تلقى دعوة من الجمعية اللندنية لنشر الإنجيل للقدوم إلى لندن من أجل المشاركة في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، فانتقل ليقيم في أماكن مختلفة ببريطانيا وكذلك بباريس.
    طلق زوجته المصرية ليتزوج بامرأة بريطانية، الأمر الذي مكنه من الحصول على حماية القنصلية البريطانية. وفي سنة 1857 انتقل للإقامة في تونس واعتنق الديانة الإسلامية، قد يكون ذلك بدافع تسهيل الحصول على وظيفة في إدارة السلطنة العثمانية . وبالفعل فقد دعي من طرف السلطان إلى إسطنبول سنة 1860.

    إلى أي حد يستعصي تصنيف الشدياق، يتضح من الظروف التي حفت بدفنه. فبعد وفاته حصل خلاف بين الطوائف الدينية التي كانت تتنازع على أحقية تولي شؤون جنازته. وبالنهاية تم التوصل إلى اتفاق على دفنه بعد صلاة متعددة الديانات في موقع يتوسط المنطقتين المسيحية والدرزية من جبل لبنان.
    رحلاته وأعماله
    تتميز التجارب والانطباعات الأوروبية لفارس الشدياق بامتداد وعمق يتجاوزان إلى حد بعيد ما كان لغيره من الرحالة الآخرين. تنقل الشدياق، ضمن مختلف المهام التي كلف بها- أو في بحثه عن وظيفة ما- بين بلدان عديدة وفي ظروف مادية ومعنوية عسيرة في أغلب الأحيان.
    وكانت تنقلاته تختلف كليا مثلا عن رحلة رفاعة رافع الطهطاوي الشيخ الأزهري والموظف الحكومي لاحقا، الذي جاءت إقامته في باريس ضمن إطار بعثة دراسية رسمية.
    وخلافا للتقرير ذي الصبغة التوثيقية العملية لهذا الأخير جاء كتاب الشدياق الصادر سنة 1885 تحت عنوان "الساق على الساق في معرفة الفارياق " ذا طابع أدبي، وبالتالي فهو لا يعتبر وثائقياً صرفا. فقد جاء هذا العمل المهول الذي يقع في حوالي 700صفحة مقسماً إلى أربعة أجزاء قد ركز آخرها بصفة خاصة على فترة الإقامة في أوروبا، في هيئة نص يتنقل بين مختلف الأصناف الأدبية: لا هو بالرحلة في مفهومها التقليدي، ولا هو بالسيرة الذاتية الحقيقية ولا هو بالدراسة القاموسية الصرف، بل كل هذا معا.
    يعرض هذا النص الذي يصور حياة بطله المسمى "الفارياق"( وهم إسم خيالي مصاغ من توليفة لشطري إسم الكاتب ولقبه كما يمكن للمرء أن يتبين ذلك بسهولة) في الوقت نفسه مناقشات فلسفية واجتماعية ووصف للأماكن التي مر بها إلى جانب تداعيات التعليقات اللغوية والأدبية.
    وقد وردت الموضوعات المتنوعة لهذا العمل مصاغة غالبا في شكل نقاشات سجالية بين الفارياق والفارياقة، زوجته الذكية المثقفة والواعية. وقد جاء هذا التصوير النقدي الذي يتناول المنجزات الجديدة وكذلك الجوانب السلبية للحضارة الأوروبية الحديثة ومن ضمنها الأوضاع الاجتماعية في أوروبا أيام الثورة الصناعية، ينضح سخرية، من الآخر ومن الذات على حد سواء.
    فرنسا وإنكلترا في أعماله
    والجدير بالذكر هنا هو أن الشدياق لم يتناول أوروبا ككتلة متجانسة، بل كان يفرق بين بلد وآخر، وطبقة اجتماعية وأخرى. مقارنة بفرنسا تبدو بريطانيا في كتاباته أفضل منزلة: ولئن كان الشدياق لا يتردد في انتقاد المعاملات التي يراها ذات غايات ربحية، والافتقار إلى آداب معيشية وإلى التعبير التلقائي عن المشاعر وانعدام قيم الكرم والضيافة، فإن انطباعه العام يظل مع ذلك إيجابيا.
    كانت إنكلترا بلده المضيف الأول، وقد حظي هناك بموقع جيد، بل ولعله قد تبنى أيضا بعض الأحكام المسبقة التي يغذيها الإنكليز ضد الفرنسيين. ينوه الشدياق بصدق الإنكليز ومصداقيتهم ووفائهم وكذلك المعاملات المتحررة بين الجنسين.
    وقد حظيت النساء بتنويه خاص من طرفه: فهن في إنكلترا، حسب قوله، متواضعات وفيات ونقيات. أما فرنسا فوصف نساءها بالافتقار إلى الطهارة – وكذلك الحالة البائسة للشوارع وتدهور النظافة والقيم الأخلاقية. فالفرنسيات في نظره يحبذن استعراض مفاتنهن ومستبدات تجاه الرجال كما أنهن يطلبن نمط عيش مكلف جدا.
    يفيض الكاتب في التنويه بتنظيم مجالات الحياة العامة في إنكلترا؛ الجميع يتمتعون بنفس الحقوق، ولا وجود لأي نوع من التعسف من طرف الحكام. وفي كتاب آخر صدر سنة 1867 بعنوان "كشف المخبّأ في فنون أوروبا" ، وهو كتاب رحلة من النوع التقليدي، قدم الشدياق صورة إيجابية عن فرنسا كأمة ذات حضارة تتمتع بنمط عيش متحضر.
    لقد كان الشدياق دون شك مثقفا محباً للمواجهة لا يبتعد عن أي نوع من المحرمات: انتقادات إنجيلية، تصويرات شهوانية مثيرة، الدفاع عن حقوق المرأة وعن الفصل بين الدين والدولة، بالإضافة إلى انتقادات لاذعة للإكليروس اللبناني ولكبار الملاّك والطائفية؛ كل ذلك كان مستفزاً للغاية في ذلك الزمن - وما يزال جزئياً إلى يومنا هذا.
    ولعل بقاء الشدياق مغمورا لا يحظى بما يستحق من التقدير، يعود إلى هذا الطابع الصدامي الاستفزازي، وحتى الآن ما يزال هذا العمل الجامع الذي خلفه لا يحظى بما يليق به من التكريم.

    بربارا فينكلر
    ترجمة
    علي مصباح
    ********************************************
    من قراءات
    (السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    غرترودة بيل والشرق:

    هروبا من الحضارة التافهة نحو الشرق الفاتن



    يعُد اسم غروترودة بيل، من أهم الأسماء الغربية التي لعبت دورا خفيا وخطيرا في تاريخ السياسة العراقية الحديثة، منذ نشوء دولة العراق في بداية العشرينات من القرن الماضي. لكن ما الذي جاء بها إليه؟ تقرير أندرياس بفليتش
    كانت البريطانية غرترودة بيل مفتونة "بأصالة وعنفوان العرب في الصحراء". ولكنها رأت على عكس ذلك في المدن الحديثة، حيث انتشار التأثير المفسد للغرب، والإنحطاط غير الصحي والمتضارب مع الطبيعة. وأخيراً وليس آخراً كانت الحداثة الأوروبية والإحساس بثقل تأثيراتها الجانبية قد دفعا بغرترودة بيل للقيام بأسفارها.
    ولدت بيل عام 1868 في كنف عائلة إنكليزية، صناعية، ميسورة الحال. إذ جمع جدها ثروة طائلة من إمتلاكه لمناجم فحم ومصانع للحديد الصلب. يعود الفضل لوالد بيل لإنفتاحه ولتوفيره التحصيل العلمي لها، الذي لم يكن عاديا لفتاة في ذلك الزمن. فأنهت دراسة التاريخ في جامعة أكسفورد بدرجة إمتياز عام 1888.
    شدت غرترودة بيل الرحال عام 1892 لأولى رحلاتها إلى الشرق. وبينما كان رحالة القرن الثامن عشر يستكشفون البلاد الأجنبية معرضين أنفسهم وحيواتهم لمخاطر جمة، وتحت وطأة جهود جسدية هائلة وأعباء مالية باهظة، سهلت خطوط الملاحة البحرية، الدورية، بين أوروبا وشرق المتوسط، وأولى خطوط السكك الحديدية، السفر في أواخر القرن التاسع عشر.
    كان توماس كوك
    Thomas Cook أول من افتتح مكتباً للسفر في إنكلترا عام 1845 وأسس كارل بيدكرز Karl Baedekers عام 1827 في كوبلينتس Koblenz أول دار نشر تُعنى بدليل الرحلات، فتزود المسافرون منها بالمعلومات اللازمة.
    الهروب من التقاليد المحافظة
    لم تكن رحلة بيل التي قادتها بدايةً عبر باريس وميونيخ وفيينا، ومنها إلى القسطنطينية، ومن ثم إلى بلاد فارس عبر جورجيا هرباً من التشدد الإجتماعي السائد في إنكلترا الفيكتوريانية وحسب. "آه! ليت هذه التقاليد غير موجودة" كما دونت في دفتر ترحالها الذي نشر عام 1894 في لندن، "كم مرة سيجلس المرء بجانب إنسان من لحم ودم، بدلاً من الجلوس بجانب بدلة سهرة رسمية!"
    كانت بيل تصبو لرؤية أناس من لحم ودم في الشرق، لم يُزجوا في مشد الحداثة الضيق بعد. لكنها لم تسعى يوماً كي تعيش بنفسها تلك الحياة الشرقية البسيطة، المزعومة، التي كانت تتشوق لها، فقد سافرت مع مرافقة ضخمة ضمت فيما ضمته ثلاثة طباخين وعشرين خادماً وقافلة كاملة من البغال.
    وفي ذات الوقت استهزأت بيل بتجاهل المسافرين الآخرين. "بعض الناس" تقول بيل محتجة على بدايات ازدهار السياحة "يجوبون العالم بحثاً عن أفضل الفنادق ويذكُرون أمامك بإعجاب كيف أنهم قبل فترة وجيزة سافروا في روسيا.
    أما عندما تسألهم، فسوف تتأكد من أنهم لن يستطعوا إخبارك أكثر من أن الراحة كانت متوفرة في موسكو فعلياً، تماماً كما في أوطانهم، لا بل أنها أكثر زخراً، إذ كان على المائدة في الفندق ثلاثة أصناف من اللحوم البرية".
    سر الشرق الغامض
    كان الشرق بالنسبة لبيل عالما خياليا مليئا بالأسرار، على غرار ما خبرته منذ نعومة أظفارها من قصص ألف ليلة وليلة. تقول سابحة بخيالها "المشرق المليء بالأسرار" و "المفاجآت الأخاذة".
    ويتعين على الشرق أن لا يفقد غرائبيته. ثيوفيل غاوتير Gautier Théophile
    عبر عن تخوفاته من إمكانية "أن حضارتنا التافهة سوف تُفني صورة البربرية الفاتنة". حين قابلت بيل أميراً هندياً في فارس بدت مشدوهة لعدم إكتنافه الأسرار، وخاب ظنها بشدة بسبب إنكليزيته السلسة: "هذا يشوه، بشكل ما، الطابع المحلي للمشهد".
    بالرغم من إنتفاء السحر جزئياً لم تبق هذه الرحلة، رحلتها الأولى والأخيرة للشرق. إذ سافرت بعد فترة وجيزة إلى فلسطين ولبنان وسوريا. "لا يستطع المرء أن يبقى بعيداً عن الشرق بعد أن يكون قد ولجه إلى الأعماق" كما كتبت لوالدها.
    تعرفت بيل على عالم آثار في باريس، أيقظ فيها حب البحث العلمي، فنشرت عدداً من الكتب والمقالات في علم الآثار جلبت لها إعتراف العاملين في هذا المضمار. عملت أثناء الحرب العالمية الأولى لصالح الإستخبارات البريطانية، بداية في القاهرة ومن ثم في بغداد والبصرة.
    دعمت فيصل الهاشمي في العراق لتحقيق طموحاته بالعرش وبعد أن تتوج ملكاً في عام 1921 أضحت بيل مستشارته. في ذات الوقت بنت المتحف الوطني في بغداد. ربما كان طول وقت عملها وتعدد اهتماماتها وعدم ركونها للراحة هي أوجه متنوعة لدواعي هربها. توفت غرترودة بيل في بغداد في تموز/يوليو 1926 عن عمر يقارب 58 عاماً بسبب جرعة زائدة من مادة منومة.

    أندرياس بفيلتش
    ترجمة
    يوسف حجازي
    حقوق الطبع قنطرة 2005


    ************************************************** ********

    من قراءات
    (السندباد)

    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    بسم الله الرحمن الرحيم

    سلام الله عليك أخي السندباد ورحمته تعالى وبركاته
    وبعد ..
    هل من جديد يستحق الذكر؟
    أخوك أبو شامة المغربي

    د. أبو شامة المغربي

    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    كتاب الرحلة إلى المغرب والمشرق لأبي العباس المقري
    د.عبد القادر شرشار

    *مقدمة:

    أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني واحد من أعلام القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، سطعت فضيلته العلمية في تلمسان وفاس بالمغرب العربي، وذاعت في مصر والحجاز وبلاد الشام بالمشرق العربي إبان حكم العثمانيين الأتراك.

    وقد شهد له معاصروه بالإمامة والفضل، في الفقه وأصوله، وفي الحديث وعلوم القرآن، وفي علوم العربية، وتدل آثاره الحسان على علم وفهم، ورواية ودراية، وإتقان وإحسان، ويعتبر "كتاب الرحلة إلى المغرب والمشرق" من الآثار المفقودة لأبي العباس المقري لولا الهدية التي قدمتها حفيدة المستشرق الفرنسي جورج ديلفان سنة 1993م للمكتبة الوطنية بالجزائر العاصمة، والمتمثلة في مجموعة من المخطوطات من بينها رحلة المقري هذه.
    الدافع إلى الرحلة في الثقافات الإنسانية
    كان هم الناس عموماً في البلدان والأجناس المختلفة والأماكن والأزمان حب السفر والشغف بمعرفة العالم المحيط بهم، وعلى الرغم من محاولة هؤلاء اعتبار ذلك سعياً وراء غايات بذاتها، لكنهم في الحقيقة يكونون مدفوعين برغبة لا تعرف الحدود لفهم واستيعاب الآخر، الغريب، والمختلف، وإقحام الذات في ماهو أبعد من الآفاق المعروفة والولوج بها إلى فضاءات مجهولة وخرافية التفاصيل أحياناً.

    وربما علل الفاتحون العظام أمثال الاسكندر الأكبر، أو جنكيز خان أو نابليون أو شخصيات على طرازهم انجذابهم الجامح للغزو والفتوحات بالضرورة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وذلك إخفاء لدوافعهم الشخصية في حب المغامرة.

    وربما تستر بعض الرحالة العرب، ومنهم المقري عن ذكر الأسباب الحقيقية التي تدفعهم لذلك، كالفرار من إحباطات شخصية، أو مضايقات سياسية أو خوف من مصير مجهول، كل هذه الأسباب وغيرها يمكن أن يؤسس إلى فكرة الرحلة.

    ليس في نيتنا في هذه المداخلة دراسة خطاب الرحالة المغاربة حول المشرق، فلقد وجدنا أن في التعريف بماهية الرحلة ومضمونها وتطور هذا المضمون، بالإضافة إلى التعريف بصاحب الرحلة وطبقته ودوافع انتقاله إلى المشرق مساهمة أولية لا غنى عنها قبل إبداء الرأي التقييمي في ما كتبه.

    الرحلة والسفر في الثقافة العربية والإسلامية قبل النهضة

    يبدو أن الإنسان العربي المسلم متعطش بطبعه لمعرفة العالم، فهو شغوف بالذات لرصد تفاصيل الأعياد والمناسبات والعجائب التي تظهر غير ذات أهمية بالنسبة لنا اليوم، فقد احتوت كتب الرحلات العربية على موروث مهم، وصفوا فيه مسالك الطرق، وصنفوا الأماكن والحيوانات، والثقافات والبلدان التي عرفوها في العوالم التي حلوا بها أو تخيلوها، وقد يعكس بعضاً من ذلك شغفهم بسرد العجائب والغرائب، فحتى الرسائل التاريخية والجغرافية الخاصة بطبيعة الأماكن كانت موشاة بحوادث وأخبار عجيبة، فهي بدلاً من أن تكتفي بذكر الحقائق الموصوفة نجدها قد تعمدت أسلوب الإثارة الأدبية عند القارئ المثقف المتلقي لهذه الحكايات.

    لقد تعود مؤلفو كتب التاريخ والجغرافيا والرحلات والعجائب على حشوها بوقائع غريبة، وأمور مذهلة، وكائنات خرافية، وقد قدمت الصين والهند والسند العجيبة والبعيدة موضوعاً طبيعياً لهذا النوع من الروايات، وهي القصص التي لا يمكن إثبات صحتها أو بطلانها، ولهذا صنفت مواضيعها في واحد من الأجناس الأدبية الآتية:

    كتب الرحلات.

    كتب العجائب.

    كتب الفرج بعد الشدة والضيق.

    إن الحماس الذي عرفه العرب المسلمون للفتح ومد صرح الدولة الإسلامية سرعان ما طغى عليه حبهم للثقافة والانفتاح على العالم والترحال.

    وكانت الدوافع الأولى للسفر والرحلة عند المسلمين هي حاجتهم الأساسية لشد الرحال نحو مكة لأداء فريضة الحج، خاصة مع توسع رقعة العالم الإسلامي، ثم ظهرت الحاجة بعد ذلك لزيارة العلماء والأولياء والصالحين للأخذ عنهم أو التبرك بمعرفتهم، فقد عرف عن المسلمين السفر طلباً للعلم، عملاً بالحديث الشريف: "اطلبوا العلم ولو بالصين"، كما كانت الرحلة من الدوافع المهمة التي ساهمت في تطور علم الحديث الذي تطلب من علمائه الأتقياء، أن يدققوا في تفاصيل ناقل الحديث، وأماكن سكناه، وخلفيته الأسرية، وأمانته الشخصية لتأكيد أهمية ومصداقية وموثوقية النص الذي أورد فيه الحديث، أدى هذا كله إلى الاهتمام بالكتابات الطوبوغرافية والجغرافية والتاريخية، وقد تطلبت هذه المجالات العلمية الجديدة قدراً كبيراً من السفر، وأنتجت جنساً أدبياً هو أدب "الرحلة"، كمادة أدبية في حياكة نسيج متين من الحقائق العلمية والثقافية والتاريخية مع زركشتها أحياناً بزخرف خيالي خصب كان الرحالون يطوعونه لأغراض معلنة أو خفية.

    ويمكن اعتبار كتاب الرحلة تدويناً دقيقاً يومياً للمشاهد والملاحظات، لكن هذا النوع من الإنتاج الفكري والأدبي والجغرافي الذي عظم انتشاره في فترة متقدمة من تاريخ الإسلام لم يكن واضح الحدود، فهو فعل كتابي مناسب لكل فن لأنه يمكن أن يُسكب فيه أي شيء من التوسيعات العلمية وفهارس المتاحف وحكايات القبائل وغيرها.

    وعلى الرغم من طغيان الطابع الوثائقي على هذا النوع من كتب الرحلات يبقى نوعاً من التعبير الأدبي الهجين والضبابي، لكن الاطلاع عليه يفضي إلى قيمة كبيرة قد تكون محصلة لمعارف جمة.
    الرحلة إلى المشرق
    على الرغم من ارتفاع مستوى الكتابة التاريخية العربية وكتب الجغرافيا، فإن المعرفة المغاربية الإسلامية عن المشرق، والعكس بقيت متناثرة، وقليلة الدقة، حيث كان أغلبها مثقلاً بالفجوات والأخبار الخاطئة أحياناً. لذلك كانت رحلة المقري للمغرب والمشرق خلال الحكم العثماني الفرصة المناسبة للمغاربة والمشارقة لأن يوسعوا اتصالهم، بعدما كانت هذه الاتصالات تعرف فترات انقطاع.

    على هذا الأساس يكون هذا النمط من الرحلة تأريخاً غير رسمي، أتاحه هذا النوع من الكتابة (أدب الرحلة)، استطاع أن يقدم الكثير من المعلومات عن المغرب والمشرق، ساهمت بلا شك في التعريف بالمنطقتين على نطاق واسع، أكثر مما قدمته الأعمال التاريخية والجغرافية المتخصصة للطابع التوثيقي الذي اعتمدته.

    يطرح كتاب الرحلة إلى المغرب والمشرق لأبي العباس أحمد المقري جملة من التساؤلات الفكرية حول نشر الفكر والآداب المغاربية المرتحل إلى بلاد المشرق، وضمن هذا السياق تكشف الرحلة ذلك التكامل الفكري والحضاري في مؤلفات الرحالة من خلال التواصل بين العلماء وطلاب العلم سواء عبر الرحلات أم عبر المراسلات والقراءات المختلفة، وفي الوقت ذاته تجلي الحرص الشديد لدى المقري على الاحتفاظ بهويته المغاربية على الرغم من التباين الحاصل أحياناً بين البيئتين: المشرقية والمغاربية في التكوين الثقافي، إن هذا الشعور (الإحساس المغاربي) كان القاسم المشترك لدى رحّالينا المغاربة على اختلاف موضوعاتهم وأسلوب كتاباتهم.

    وحتى ظهور البعثات العلمية في القرن الثامن عشر، كانت الرحلة إلى المشرق نوعاً من التكملة لا غنى عنها لتربية طالب العلم وتكوينه الديني والمعرفي. كما كانت وسيلة للعالم للتعريف بعلمه ومهاراته.

    وانطلاقاً من الأهمية التي نعلقها على كتاب رحلة المقري إلى المغرب والمشرق رأينا ضرورة تقديمه ببعض الإسهاب، لكننا مع ذلك لا نرى فائدة كبيرة من الاستعاضة بهذه القراءة عن العودة إلى نص الرحلة ذاتها.

    كلمة عن المؤلف: مؤلف كتاب الرحلة هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد يحيى بن عبد الرحمن بن أبي العيش بن محمد المقري التلمساني، المولود سنة 986هـ/1578م، والمتوفى سنة 1041هـ/ 1631م.

    ليس الهدف ها هنا، بسط القول عن حياة المقري، وإنما يمكن الاقتصار على أهم ما لابد منه، لأن حياة المقري مبسوطة في كثير من المصادر والمراجع، ويأتي في مقدمتها كتب المقري نفسه وهي نفح الطيب، وروضة الأس، وأزهار الرياض، وفتح المتعال، وكتاب الرحلة هذا.

    ومن المصادر التي ترجمت للمقري، خلاصة الأثر للمحبي، ورحلة العياشي، وصفوة من انتشر لمحمد الأفراني، ونشر المثاني للقادري وغيرها. أما المراجع الحديثة فمنها أطروحة المقري وكتابه نفح الطيب لمحمد بن عبد الكريم،وكتاب المقري صاحب نفح الطيب للجنحاني، وتراجم إسلامية لعبد الله عنان، والمقري لعثمان الكعاك، والزاوية الدلائلية لمحمد حجي، وتحقيق كتاب الرحلة لمحمد بن معمر.

    والمقري ابن عائلة وابن مدينة على حد تعبير الدكتور محمد بن معمر، فهو ابن عائلة المقري ذات التاريخ العريق التي تعود أصولها إلى القبيلة العربية الشهيرة وهي قريش، وقد أثبت قرشية هذه العائلة المقري نفسه وابن الخطيب وابن خلدون وابن الأحمر وابن مرزوق.

    ثم إن المقري ابن مدينة هي تلمسان (الجزائر) حيث ولد ونشأ وقرأ وتعلم، وكانت المدينة عاصمة للدولة الزيانية لعدة قرون قبل مجيء العثمانيين، فاشتهرت برصيدها الثقافي الكبير لكثرة علمائها، وتنوع علومها، وتعدد مكتباتها، ووفرة مدارسها.

    وفي التاريخ الذي ولد فيه المؤلف كان قد مر على دخول الأتراك العثمانيين المدينة ثلاثة عقود من الزمن، الأمر الذي أفقدها أهميتها العلمية والسياسية، بسبب معاملة الأتراك لأهلها، وكذلك الحروب والفتن الداخلية التي كانت قد عرفتها الدولة الزيانية في أخريات أيامها، وعلاقتها بالإسبان في وهران، وضغط بني وطاس ثم السعديين عليها من الغرب والعثمانيين من الشرق، كل ذلك دفع الكثير من علمائها وأدبائها وشرفائها ممن فقدوا الشعور بالراحة إلى الهجرة منها شرقاً وغرباً، وقد اكتفى المقري بالأخذ عمن بقي من العلماء والفقهاء مقيماً لم يهاجر.

    وفي الثالثة والعشرين من عمره غادر تلمسان قاصداً مدينة فاس التي حل بها في صفر سنة 1009 هـ، ومنها إلى مراكش حيث اتصل بأبي العباس أحمد المنصور الذهبي، أشهر سلاطين السعديين وقمة مجدهم ووساطة عقد ملكهم، الذي اشتهر بعظائم الأعمال، وكانت فكرة حكمه من أزهى فترات التاريخ السعدي سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

    ومكث المقري هناك متنقلاً بين فاس ومراكش، عايش خلالها أحداثاً سياسية بارزة في تاريخ المغرب، من أهمها وأشهرها أزمة العرائش، فبعد موت المنصور الذهبي دخل المغرب الأقصى مرحلة اتسمت بالصراع والتطاحن حول العرش بين الأبناء الثلاثة: أبو عبد الله محمد الشيخ المأمون، وأبو فارس عبد الله الواثق، وزيدان الناصر. وفي خضم الصراع بين الأخوة الأمراء استفحل أمر الأمير زيدان الذي تكلم به أهل فاس وسائر بلاد المغرب في الوقت الذي ازدادت فيه سمعة المأمون سوءً، إذ رفضته القلوب وضاق أهل فاس بشؤمه ذرعاً.

    وبسبب هذه العزلة انتقل المأمون إلى العرائش ومنها إلى القصر الكبير، وهناك اتخذ قراره الخطير وهو طلب النجدة من نصارى الإسبان لتمكينه من العرش.
    ولما خاف المأمون الفضيحة وإنكار الخاصة والعامة عليه صنعته، احتال وكتب في ذلك سؤالاً إلى علماء فاس وغيرها يطلب فتوى تجيز له فدي أولاده من أيدي الكفار، فانقسم الفقهاء والعلماء في موقفهم من هذه الفتوى إلى طوائف ثلاث بين مبيح للمأمون ما فعل اتقاء لشره وخوفاً من بطشه، وبين منكر عليه عمله ومغلظ له في الملام، وبين مختف عن الأنظار حتى تصدر الفتوى عن غيره، وكان المقري من الطائفة التي اختفت.

    وقد قدرت العامة والخاصة في فاس هذا الموقف من المقري واعتبرته تصرفاً شرعياً وازداد احترامها له.و بعد مدة من هذه الفتنة رقي إلى أعلى منصب في جامع القرويين وذلك سنة 1022 هـ تاريخ وفاة الشيخ أبي عبد الله محمد الهواري خطيب الجامع. غير أن المقري أحسّ بأن الأمور تسير على غير ما يرام بسبب التطورات الخطيرة التي عرفها المغرب الأقصى، لذلك قرر الرحيل، سيما وأنه اتهم بالميل إلى عرب الشراقة، ففي أواخر سنة 1027هـ/ غادر المغرب الذي أصبح أمنه منعدماً وأوضاعه متدهورة، تاركاً وراءه زوجته وابنته وخزانة كتبه، بعد أن قضى فيه أربعة عشر عاماً.

    ومن ميناء تطوان ركب السفينة التي عرجت به على الجزائر وتونس فسوسة وصولاً إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة التي دخلها في رجب من عام 1028هـ، وفي ذي القعدة من السنة نفسها توجه صوب مكة المكرمة وأدى العمرة وبقي هناك ينتظر موسم الحج، وبعد أداء الفريضة توجه إلى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي شهر محرم من 1029هـ/ 1620م عاد المقري من الحرمين الشريفين إلى مصر.

    ومنذ ذلك التاريخ أخذ يكرر السفر من القاهرة إلى الحرمين الشريفين وبيت المقدس ودمشق، فكان دخوله إلى مكة المكرمة للحج خمس مرات، وزيارته للمدينة المنورة سبع مرات، أما بيت المقدس فقد سافر إليه ثلاث مرات، وأما دمشق فقد رحل إليها مرتين، وعند عزمه العودة إليها والاستقرار بها في المرة الثالثة وافاه الأجل، فيكون المقري قد قضى حوالي أربعة عشر عاماً متنقلاًًً بين مصر والحجاز والشام، كلها في طاعة الله وعبادته وتدريس العلم والتأليف ووضع المصنفات المختلفة حتى وافته المنية سنة 1041هـ/ 1632م بالقاهرة.

    وقد ترك المقري وراءه ثروة هائلة من المؤلفات التي كتبها بتلمسان وفاس ومصر والحجاز والشام في فنون الأدب والتاريخ و الفقه والعقائد، وهي تقارب الأربعين تأليفاً حسب ما أحصاه محمد بن عبد الكريم صاحب "المقري وكتابه نفح الطيب"، و أوردها المحقق في مقدمته.

    كتاب رحلة المقري إلى المغرب والمشرق
    ليس ثمة أدنى شك في أن هذا الكتاب من وضع أبي العباس أحمد المقري، إذ لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من ذكره أو الإشارة إليه، سواء من خلال توقيعاته في آخر رسائله وقصائده التي كان يبعث بها إلى غيره، أو ماكان يبعثه غيره إليه، أو في سياق الحديث عن نفسه.

    ويذكر محقق الرحلة الدكتور محمد بن معمر أن المخطوط قبل أن يؤول إلى جورج ديلفان كان في مكتبة الشيخ حميدة بن محمد العمالي وهو ما يستفاد من التوقيع المقيد على إحدى صفحات المخطوط بخط وحبر مخالف، والشيخ العمالي من مواليد العاصمة في بداية القرن التاسع عشر، تتلمذ لعلماء عصره أمثال محمد بن الشاهد ومصطفى الكبابطي وحمودة المقايسي وأحمد بن الكاهية ومحمد الصالح الضوي وغيرهم، تولى مناصب شرعي سامية ووظائف دينية عالية، منها القضاء والفتوى والإمامة والتدريس، وكان جمّاعة للكتب مشهوراً بين العلماء باقتناء نفائسها ونوادر المخطوطات حتى صار مضرب الأمثال في ذلك بين علماء المغرب، توفي سنة 1873م بالجزائر العاصمة.

    ونسجل خطوة جديدة مع تحقيق كتاب الرحلة في فهم المقري، حيث استوفى المحقق الدكتور محمد بن معمر شروط التحقيق الضرورية، وقد تطلب هذا العمل الشاق من الباحث جهداً غير يسير لترتيب المادة وتبويبها خاصة إذا علمنا أن المخطوط المعتمد عليه مبتور، حيث فقدت بدايته ونهايته مما حدا بالمحقق إلى إجراء تصميم جديد في ترتيب المادة فوضع عناوين وأرقاماً، وبوب المتن، فأعطاه وجهاً لائقاً يسرّ قراءته، بالإضافة إلى تدبيج مقدمة وافية عن المؤلف والعصر، والمدونة المحققة وأسلوب الكتابة وغيرها من الأمور الضرورية في هذا المجال.

    ونقدر بشكل خاص المحاولة المنهجية للمحقق الهادفة إلى تسهيل القراءة بما وفره من فهارس للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وفهارس للأعلام وأخرى للأماكن والبلدان، وبما أثبته من مصادر ومراجع للتحقيق، وكلها أمور تشهد على جدية هذا الباحث وحرصه على الدقة العلمية في ثبت المعلومات ومناقشتها وتخريج بعضها بشكل ينمّ عن ذكاء حادّ.
    *****
    (من قراءات السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    كتاب الرحلة إلى المغرب والمشرق لأبي العباس المقري
    /الجزء الثاني/
    د.عبد القادر شرشار

    عنوان الكتاب
    أما فيما يخص عنوان الكتاب، وهو رحلة المقري إلى المغرب والمشرق، يذكر المحقق في المقدمة أنه لم يعثر على كتاب بهذا العنوان ضمن قائمة مؤلفات المقري التي وضعها مترجموه القدامى والمحدثون، كما انعدمت الإشارة إلى أي عنوان في ثنايا الرحلة من طرف المؤلف. ويؤكد هذا الإشكال محقق الرحلة الذي اعتمد نسخة واحدة في التحقيق مبتورة البداية والنهاية، إلا أن مايمكن الاطمئنان إليه هو أن كتباً أخرى للمؤلف لا تزال في حكم المفقود، وأن بعض عناوينها تبعث على احتمال تطابقها مع محتوى الرحلة مثل كتاب الغث والسمين والرث والثمين، والبدأة والنشأة، وغيرهما.

    يستفاد من محتوى الكتاب أنه من المؤلفات الأخيرة التي وضعها المقري، حيث ذكر أن أحمد ابن شاهين وهو الذي اقترح عليه تأليف كتاب نفح الطيب، قد استدعاه إلى بيته في محرم سنة 1041هـ حين زار دمشق للمرة الثانية، قبل عودته إلى القاهرة ووفاته بها في جمادى الثانية من السنة نفسها، فالمدة الواقعة بين التاريخ الوارد في الكتاب وبين تاريخ وفاته أقل من خمسة أشهر، ويبدو أن أخبار المقري قد انقطعت ابتداء من أواخر ربيع الأول سنة 1041هـ وهو التاريخ الذي بعث فيه رسالة إلى شيخه محمد الدلائي صاحب الزاوية الدلائية.

    يحتوي كتاب الرحلة على معلومات هامة، تتعلق بحياة المقري الشخصية في تلمسان والمغرب الأقصى ومصر والشام والحجاز، يعالج في الرحلة الحياة الثقافية والأدبية في عصره، وتتضمن الرحلة معلومات تاريخية عن بلاد المغرب وأرض الحجاز واليمن، وبعض القضايا الفقهية والعقدية وغير ذلك.

    وما يلاحظ عموماً هو أن الرحلة لم تكن مجرد مشاهدات سياحية كما هو الشأن في أدب الرحلات، ولم تكن أيضاً صادرة عن حاجة سياسية أو طائفية وإن خالطت الرؤية الذاتية التي اتسعت عبر الرحلة لتغدو معبرة عن السياسة والاجتماع، فالمقري لم يعن كثيراً بوصف ما شاهده من مظاهر العمران في المدن التي زارها في المشرق أو المغرب، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المظاهر أضحت من الأمور المعروفة لدى الناس؛ فلا تصوير للمؤسسات السياسية أو الاقتصادية، ولا وصف للشوارع والحدائق والساحات العامة، وإنما التفت المقري إلى أعمق من ذلك، إلى مظاهر الحياة العلمية، فوصفها وصفاً ينم عن خبرة وثقافة عاليين لم نلمسهما عند من سبقه من الرحالين.

    جديد ما يتضمنه كتاب الرحلة:

    يتمثل جديد ما يتضمنه كتاب الرحلة في خصوصية المعلومات المتصلة بجانب تتعلق بحياة المؤلف الشخصية، الأمر الذي يجعل طروحات مترجميه في حاجة إلى مراجعة وتدقيق، فقد ذكر مترجموه القدامى والمحدثون، مثلاً، أنه بنى بامرأتين فقط وهما زوجته المغربية التي بنى بها أيام إقامته في فاس وولدت له أنثى سنة 1026هـ كما أخبرنا في هذه الرحلة، وحين رحل إلى المشرق ترك المرأة وابنتها ولم يعد إليهما، وأما الزوجة الثانية فهي مصرية من عائلة السادات الوفائيين وقد بنى بها عندما استقر في القاهرة. غير أن نصوص الرحلة تفيد بأنه تزوج بثلاثة نساء وليس اثنتين فقط، فقد بنى قبل المغربية والمصرية بامرأة تلمسانية وهي بنت المفتي محمد بن عبد الرحمن بن جلال التلمساني مفتي تلمسان وفاس، ولم يخبرنا المؤلف فيما إذا كان زواجه منها قد تم بتلمسان أو ي مدينة فاس وتاريخ ذلك.

    وأما أولاده فقد أخبرنا مترجموه أن المقري لم يرزق طوال حياته سوى بأنثيين فقط، بنت المغربية والتي عاشت حتى تزوجت، وبنت المصرية التي توفيت صغيرة، وأنه لم ينجب ذكراً، ولكن نصوص الرحلة تثبت العكس، فهي تؤكد أنه رزق بذكر من زوجته المصرية واسمه محمد المكي، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في ثلاثة مواطن من الرحلة، وقد مات ولده صغيراً وقد تلقى المقري سيلاً من رسائل التعزية أورد بعضها المتعلق بابنته في نفح الطيب.

    أما عن أسباب رحلته من المغرب الأقصى إلى المشرق، فقد اضطربت حولها الآراء، واختلفت الأقوال، وإن كانت في مجملها تتفق على أنها سياسية، ومنها أن سلطان المغرب هو الذي أجبر المقري على مغادرة المدينة، وأنه خرج متخفياً، وهو رأي غير سديد بدليل ما ورد في الرحلة من أن المؤلف هو الذي استأذن ملك المغرب صاحب فاس وهو الغالب بالله عبد الله بن المأمون في السماح له بالرحيل. وقد أذن له في ذلك وكتب في شأنه رسالة من إنشاء محمد بن أحمد الفاسي إلى سلطان الحجاز شريف مكة يخبره عن قدوم المؤلف إليه ويبلغه عن علمه وفضله ومكانته ويوصيه به خيراً.

    كما أن هناك مسألة هامة تتعلق بنزول المقري مدينة الجزائر وتونس وسوسة واتصاله بعلماء هذه المدن وهو في طريق الرحلة من المغرب صوب المشرق. وباستثناء إشارة المقري في منظومته فتح المتعال إلى أنه نزل بهذه المدن فإن بقية المصادر لم تشر إلى ذلك قط، لكن نصوص الرحلة تؤكد لنا نزوله بهذه المدن واتصاله بعلمائها وتواريخ ذلك، إذ يخبرنا المقري أنه نزل بالجزائر العاصمة يوم الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة 1027 هـ، حيث خرج إلى رأس تافورة صحبة جماعة من الأعيان منهم مفتي الحنفية الخطيب محمود بن حسين بن قرمان، والشاعر الأديب محمد بن راس العين الذي تبادل معه نظم الشعر بمناسبة هذا الاجتماع، كما التقى بعالم الجزائر وفقيهها الشيخ سعيد قدورة (ت 1066هـ)، الذي كان قد رافقه في الأخذ عن عمه سعيد المقري.

    وأثناء هذا اللقاء لا غز سعيد قدورة المؤلف في لفظ القوس نثراً فأجابه، كما لاغزه في لفظ الصنّبر بتسعة أبيات، وأجابه المؤلف بأحد عشر بيتاً في حل هذا اللغز.

    ومن جملة ما قال المقري في مدح مدينة الجزائر المحروسة وعلمائها:

    جزائر الغرب لا تطرقك أحزان*



    *يا بهجة الجهر طابت منك أزمان
    وزادك الله يا أرض الجهاد عُلى*



    *فكم علا فيك إسلام وإيمان
    وصانك الله من كيد العدى وغدا*



    *للنصر والعز في مغناك إدمان
    وزانك الله بالشيخ الذي بهرت*



    *علومه أوحد العليا سليمان

    فاعذر محباً قصير الباع مغتربا*



    *عن معهد الأنس والأحباب قد بانوا


    ثم غادر مدينة الجزائر وركب البحر متوجهاً إلى تونس، ولما وصلها اتصل بالشيخ أبي عبد الله محمد تاج العارفين بن أبي بكر العثماني التونسي إمام وخطيب جامع الزيتونة، وقبل أن يقدم عليه كتب إليه يطلب منه الإجازة، فأجابه المقري مجيزاً في قصيدة فاقت الأربعين بيتاً وذلك في شهر صفر من سنة 1028هـ، وهو على وشك أن يركب البحر مواصلاً رحلته نحو مصر. وقد أخبرنا المقري في نفح الطيب أن السفينة ظلت على حذر شديد أثناء مدة السفر من قراصنة الإفرنج خصوصاً أهل مالطة الذين كانوا يطاردون مراكب المسلمين في عرض البحر الأبيض المتوسط، وأن وصوله إلى مصر كان بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وأما عن تاريخ دخول مصر فقد أخبرنا في نفح الطيب أن ذلك كان في رجب سنة 1028هـ، وهو ما أكده تلميذه عبد الباقي الحنبلي حين أشار إلى أن المقري لما دخل رجب افتتح البخاري فأتى بما هو أعجب وكان حافظاً أديباً.
    غير أن كتاب الرحلة يعطي تفاصيل أكثر ويزيل بعض اللبس حين يثبت أن المقري حل بالإسكندرية، بعد رحلته الشاقة في البحر في شهر جمادى الأولى 1028هـ، وتكون كلمة مصر الواردة في النفح وفي نص الحنبلي إنما تعني القاهرة وليس القطر المصري، وعليه فلا تناقض بين النصين وقد ورد في الرحلة أنه قبل دخوله القاهرة أكمل تأليف كتابه إتحاف المغرم المغرى بتكميل شرح الصغرى وهو من العقائد.
    كما يحتوي كتاب الرحلة على مخاطبات ومكاتبات ومساجلات ومراسلات المؤلف مع أعيان عصره، من فحول الأدباء والشعراء، والعلماء والفقهاء، والقضاة والأمراء ورجال الإفتاء من المغرب العربي ومصر وأرض الحجاز وبلاد الشام، ومن هؤلاء: محمد بن يوسف الكلشني، وإبراهيم بن محمد الأكرمي، ومحمد بن علي الحريري، وابو بكر الدلائي وابنه محمد، وفتح الله بن محمد البيلوني، ومحمد بن راس العين، وسعيد قدورة، وأيوب بن أحمد الخلوتي، وأحمد شهاب الدين الغنيمي، وغيرهم من الأعلام الأعيان الذين حفلت بهم الرحلة.

    كما يتضمن كتاب الرحلة مظهراً من مظاهر النشاط الثقافي للمؤلف، وهو المتمثل في إجازاته النظمية والنثرية التي أجاز بها طلبته وعلماء عصره، وقد فاقت العشرين إجازة، أما عن إجازات العلماء له، فقد تضمن الكتاب إجازة واحدة في هذا الشأن، وتتعلق بإجازة الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوارث الصيفي المالكي المصري للمقري، وجاءت مطولة ومؤرخة في شهر ربيع الأول سنة 1029هـ.

    كما يحتوي كتاب الرحلة على مجموعة كبيرة من القصائد والمقطوعات من نظم المقري وبعض أدباء عصره، والكثير منها جاء في فن المدح سواء أكان المؤلف مادحاً أم ممدوحاً، ويبدو أن هذه الظاهرة موجودة في باقي كتب المؤلف. ومن الفنون التي شاعت في عصر المؤلف ظاهرة التلغيز نظماً ونثراً، وقد احتوى الكتاب على بعض النماذج من هذه الظاهرة. وممن لاغز المقري عالم الجزائر وفقيهها سعيد قدورة، وإبراهيم السحوري، وعلي بن أحمد الفاسي في لفظ أمس، ومحمد بن عبد الرحمن الأعمش في كلمة رمضان.

    ومما جاء حول لغز سعيد قدورة مايلي: "كتب إلي مفتي الجزائر وعالمها وإمامها وخطيبها الأخ في الله سيدي سعيد الشهير بقدورة حفظه الله/ملغزاً في القوس:

    يا بارعاً أربى على ذوي النهى*



    *ولامعاً يسمو على نجم السهى

    لفظ تراه في كتاب الله*



    *أتى مثنى يا أخا انتباه

    ولم يثن فيه واصطحبه*



    *في السفر المبرور تستطبه


    فأجابه المؤلف بما نصه:

    الحمد لله الذي ألهما*



    *لحل مُشْكلٍ عَرَا وأفهما

    وصلواته على المُقَرَّبِ*



    *كقاب قوسين النبيِّ العربي

    ثم الرضى عن صحبه وعترتِهْ*



    *الفائزين بمزايا إثرته

    ووارثيه علماء الملة*



    *السعداء العاملين الجلة


    وبعد:

    يا صدر الكمال والورع فقد أتانا نظمك الذي عجز عن ألفاظه قاريها، فأسلم القوس إلى باريها، وكيف لا وقد رمى عنها، فلم تحط شريد الفهم.."
    ولم يخل الكتاب من الإشارات والمعلومات التاريخية التي جاءت متناثرة في ثناياه، وقد تضمنتها رسائل المؤلف إلى بعض أعلام عصره، فإن كان المقري قد اهتم تخصيصاً بمسائل الحديث والفقه، والبلاغة، والتلغيز، والشعر، والأخبار، فلأنها بدون شك كانت تعتبر من المسائل المركزية، وأنها من الأهمية بحيث ينبغي الإنطلاق من فهمها وتوضيحها قبل التصدي لأية مسألة أخرى، وعبر نقل هذه العلوم والمعارف التي كرس لها المؤلف جزءاً كبيراً من حياته، برهن أبو العباس المقري التلمساني كيف شارك المغاربة في تطور الحياة الفكرية، والسياسية، والثقافية، والدينية في البلاد الإسلامية، كما يعود إليه الفضل في تعريف المغاربة بما كان يجري في المشرق من حركة علمية وأدبية، وتقريب ماكان يجري في المغرب إلى المشارقة، إضافة إلى أنَّه نبّه إلى نقاط التقاء كثيرة بين المذاهب الفكرية والدينية في العالم الإسلامي، حيث انطلق منها للبحث عن فهم أكثر شمولاً لما يجمع بينهما، بعيداً عن الصراعات السياسية والمذهبية، وأمور الحكم، وقد خلت الرحلة من كل ذلك، غير أن ما يلاحظ حول بناء الرحلة هو الانقطاع الغريب بين الموضوعات، فليس بها من مميزات الخطاب المتماسك شيء يذكر، يأخذ فيه البعض برقاب البعض الآخر، فلا يربط المتن خيط واصل، ولا يجمع المادة ناظم منسجم، وإنما يقوم بناؤها على تشكيل مادة نصيّة كان المؤلف يتلقاها من أقرانه العلماء من تقريظ أو مدح، أو ماكان يصدر عنه من إجازات ومدح وشكر، أو من تلغيز ومراسلات، كما أن هذه المادة النصية لا تخضع لأي بناء كرونولوجي أو جغرافي معين، حيث تبدأ الرحلة في الصفحة الأولى، بالحديث عن علماء مصر والحجاز وهي مرحلة لاحقة زمنياً في رحلة المقري وإنما كان تجميعها في مؤلف واحد خاضعاً لحس حاولنا تتبعه في المدونة فلم نقف على ما يوصل الأجزاء والفقرات والمواد، اللهم إلا المواضيع التي لا تكاد تخرج عن المحاور الآتية:
    التقريظ-الإفتاء-الإجازات-أسئلة حول فنون البلاغة والنحو-التلغيز-المدح-المراسلات-النجوى.

    كما يلاحظ تداخل كبير بين أخبار ورد ذكرها في نفح الطيب، أعيد ذكرها في الرحلة، وقد يرد تكرار الحادثة نفسها في نص الرحلة ذاتها، ولعل ذلك يعود إلى أنّ المؤلف كان يعتمد في تآليفه على الذاكرة والحفظ دون سواهما؛ فلم تكن معه في دار الهجرة (القاهرة) مستندات أو مصادر يرجع إليها، اللهم إلا ما علق بذاكرته من معلومات. ولا نستبعد من جهتنا أن يكون هذا التكرار نتيجة إرهاق أصاب الرجل بعد هذه الرحلة التي تميزت بكثرة الحركة والتأليف. بقي أن نقول إن أسلوب المقري في هذا الكتاب لا يختلف كثيراً عن أسلوبه في بقية كتبه ومخطوطاته، فقد حاز قصب السبق في فني المنظوم والمنثور، وذلك بشهادة معاصريه، كما أنه صاحب نثر علمي سلس التركيب، قريب المعنى، مجرد من أساليب الكناية والتورية وما شابهها.
    أما نثره الفني المسجع فهو متين التركيب، قوي البنيان، حسن الديباجة، جيد السبك، في حين امتاز نثره المرسل ببساطة التركيب، وقصر الجمل، وجزالة اللفظ، وعلى العموم فإن المقري كانت له اليد الطولى في تقدم فن النثر في وقت كاد الإنتاج العلمي يقتصر على شروح الفقه ومنامات التصوف.
    *****
    (من قراءات السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    الرحلة في طلب العلم
    أحمد تمام


    ... كانت الرحلة في طلب العلم من التقاليد عند علماء المسلمين؛ فبعد أن ينهل الطالب من علماء بلدته والبلدان المحيطة يبدأ في الاستعداد للرحلة إلى الحواضر الكبرى، وقد ألف الخطيب البغدادي رسالة في هذا الموضوع باسم "كتاب الرحلة في طلب الحديث"، أورد فيه الأحاديث والآثار التي جاءت في فضل الرحلة، وسجل رحلات الصحابة والتابعيين ومن جاء بعدهم، وبيَّن الغرض من الرحلة وهو تحصيل علو الإسناد، ولقاء الحفاظ والمذاكرة معهم.

    كانت البصرة هي المدينة التي قصدها، وهو في العشرين من عمره في سنة (412 هـ= 1021م) والتقى بعلمائها الكبار وأخذ عنهم، ثم عاد إلى بغداد في السنة نفسها، وبدأ اسمه في الذيوع والانتشار، ثم عاود الرحلة بعد مضي ثلاث سنوات على رحلته الأولى، واتجه إلى نيسان بمشورة شيخه أبي بكر البرقاني سنة (415هـ=1024م)، وفي طريقه إليها مر بمدن كثيرة كانت من مراكز الثقافة وحواضر العلم، فنزل بها وأخذ عن شيوخها، حتى إذا استقر بنيسابور بدأ في الاتصال بعلمائها وشيوخها، فأخذ عن أبي حازم عمر بن أحمد العبدوي، وأبي سعيد بن محمد بن موسى بن الفضل بن ساذان، وأبي بكر أحمد بن الحسن الحرشي، وصاعد بن محمد الاستوائي وغيرهم، ثم عاد إلى بغداد.

    ثم عاود الرحلة إلى أصبهان سنة (421 هـ=1030م)، واتصل بأبي نعيم الأصبهاني صاحب "حلية الأولياء"، فلازمه وروى عنه، كما روى عن عدد من العلماء والمحدثين، وأخذ عنهم رواياتهم، وكر راجعًا إلى بغداد، واستقر بها مدة طويلة...


    http://www.islamonline.net
    *****
    (من قراءات السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    رحلات الذهبي واتصاله بشيوخ العصر
    أحمد تمام


    ... كانت رحلاته الأولى داخل البلاد الشامية، فنزل بعلبك سنة(693هـ= 1293م)، وروى عن شيوخها، ثم رحل إلى حلب وحماة وطرابلس والكرك ونابلس والرملة والقدس، ثم رحل إلى مصر سنة (695هـ= 1295هـ) وسمع من شيوخها الكبار، على رأسهم ابن دقيق العيد المتوفى سنة (702هـ= 1302م) وذهب إلى الإسكندرية فسمع من شيوخها، وقرأ على بعض قرائها المتقنين القرآن بروايتي ورش وحفص، ثم عاد إلى دمشق.

    وفي سنة (698هـ= 1298م) رحل الذهبي إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وكان يرافقه في هذه الرحلة جمع من شيوخه وأقرانه، وانتهز فرصة وجوده هناك فسمع الحديث من شيوخ مكة والمدينة.

    وإذا كانت عناية الذهبي الرئيسية منصبّة على الحديث، فإنه لم ينشغل بذلك عن دراسة العلوم الأخرى، فدرس النحو والعربية على شيخه ابن أبي العلاء النصيبي، وبهاء الدين بن النحاس إمام أهل الأدب في مصر، واهتم بكتب المغازي، والسير، والتاريخ العام وكتب التراجم.

    وفي الوقت نفسه اتصل بثلاثة من شيوخ العصر وترافق معهم، وهم: ابن تيمية المتوفى سنة (728هـ= 1327م)، وجمال الدين المزي المتوفى سنة (739هـ= 1338م) والبرزالي المتوفى سنة
    (739هـ= 1338م)، وقد جمع بين هؤلاء الأعلام طلب الحديث، وميلهم إلى آراء الحنابلة ودفاعهم عن مذهبهم، ويذكر الذهبي أن البرزالي هو الذي حبب إليه طلب الحديث...


    (من قراءات السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0
    رحلات الإمام مسلم العلمية وشيوخه
    أحمد تمام
    ابتدأ الإمام مسلم رحلاته في طلب العلم، وكان ذلك سنة متبعة بين طلبة العلم، إلى الحجاز، ولم يتجاوز سنه الرابعة عشرة لأداء فريضة الحج، وملاقاة أئمة الحديث والشيوخ الكبار، فسمع في الحجاز من إسماعيل بن أويس، وسعيد بن منصور.

    ثم تعددت رحلاته إلى البصرة والكوفة وبغداد والري، ومصر، والشام وغيرها، ولقي خلال هذه الرحلات عددًا كبيرًا من كبار الحفاظ والمحدثين، تجاوز المائة، كان من بينهم الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث وصاحب صحيح البخاري، وقد لازمه واتصل به وبلغ من حبه له وإجلاله لمنزلته أن قال له: "دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله".
    وكان من شيوخه محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل الحديث بخراسان، والحافظ الدارمي أحد الأئمة الحفاظ وصاحب مسند الدارمي، وعبد الله بن مسلمة المعروف بالقعنبي، وأبو زرعة الرازي محدث الري المعروف.
    http://www.islamonline.net
    *****

    (من قراءات السندباد)
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رحلة ابن بطوطة المغربي
    رمضان والحج في كتابات الرحالة المسلمين
    هو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، ولد في 703هـ الموافق 1304م، وعندما بلغ الثانية والعشرين من العمر قرر الخروج من مدينة طنجة لأداء فريضة الحج، وهكذا خرج ابن بطوطة من مراكش عابرا الجزائر وتونس وليبيا حتى مصر، ليرحل جنوبا إلى بلاد الصعيد ويسلك طريق البحر الأحمر، لكنه لم يوفق في ذلك فعاد إلى الفسطاط ورحل منها إلى بلاد الشام ثم للحجاز ليؤدي فريضة الحج لأول مرة.
    وعندما وصل إلى مكة المكرمة قام بطواف القدوم وتعلق بأستار الكعبة وشرب من ماء زمزم قبل أن يسعى بين الصفا والمروة.

    وصف ابن بطوطة المسجد الحرام ومساحته وأبوابه كما أشار إلى دور الخليفة المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور في توسعه المسجد في عام 167 هـ، ووصف الكعبة المشرفة: ارتفاعها وعرضها وأبوابها وأستارها والميزاب المبارك والحجر الأسود، وأشار إلى أن باب الكعبة يفتح بعد كل جمعة فضلا عن فتحه يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.


    الكعبة لم تخل من طائف


    وفي أعلى كل صومعة خشبية في مكة تم نصب خشبة كبيرة بحيث يعلق فيها قنديلان من الزجاج طوال وقت السحور بحيث إذا اقترب آذان الفجر يتم إطفاء هذين القنديلين مرة بعد أخرى وبعد ذلك يبدأ ويبدي ابن بطوطة دهشته وإعجابه بمكانة الكعبة المشرفة حين يكتب في رحلته "من عجائبها أنها لا تخلو من طائف أبدا ليلا ونهارا، ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف..." بعد ذلك عرج على ذكر أبواب المسجد الحرام ثم وصف الصفا والمروة والمسافة بينهما، ولم يفته ذِكْر وجود سوق تجارية كبرى إلى جانب الطريق.


    وأشار ابن بطوطة إلى فضائل أهل مكة، فوصفهم بأنهم أصحاب (المكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار للضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء) كما أشار إلى نساء مكة فقال إنهن (ذات صلاح وعفاف)، ولاحظ توجههن للطواف بالمسجد الحرام في كل ليلة جمعة وهن في أحسن زي وأبهى زينة وأطيب رائحة.


    وتحدث ابن بطوطة في كتابه عن العديد من علماء مكة ومنهم قاضي المدينة نجم الدين محمد الطبري وخطيب مكة بهاء الدين الطبري، كما أشار إلى إمام المالكية بالحرم الشريف، الفقيه أبو عبد الله محمد، وإلى إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي وإمام الحنابلة محمد بن عثمان.


    الأكل مرة كل يوم
    ونظرا لمكوث ابن بطوطة فترة طويلة في مكة المكرمة بانتظار الحج فقد لاحظ بعض العادات الاجتماعية لسكانها من ذلك قوله (وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر ولذلك صحت أبدانهم وقلت فيهم الأمراض والعاهات).


    ولاحظ أنه بمجرد ثبات رؤية هلال رجب، أمر أمير مكة بضرب الطبول والأبواق إيذانا بدخول الشهر، وتوجه وركبه للطواف بالبيت الحرام، كما احتفل أهل مكة بعمرة رجب احتفالا مهيبا، وذكر ابن بطوطة أنه شاهد شوارع مكة المكرمة ليلة السابع والعشرين من رجب وقد غصت بالهوادج وجِمَال المعتمرين وهي تخرج إلى التنعيم وأمامها الشموع والمشاعل.



    ولم ينس ابن بطوطة الإشارة إلى حضور أهالي المناطق القريبة من مكة لعمرة رجب بعد أن يجلبوا معهم الحبوب والسمن والعسل وغيرها من السلع، الأمر الذي يسهم في توفير السلع للمعتمرين وفي رخص الأسعار أيضا.


    حضر ابن بطوطة ليلة النصف من شعبان في مكة المكرمة فذكر أنها ليلة مباركة عند أهالي مكة، حيث يبادرون فيها إلى الطواف والصلاة جماعات في المسجد الحرام بعد إيقاد السرج والمصابيح فضلا عن ضوء القمر، ويقومون بأداء مائة ركعة وبعضهم يطوفون بالبيت الحرام، والبعض الآخر خرج من أجل أداء العمرة.


    قرع الدبادب لاستقبال رمضان
    وذكر ابن بطوطة أنه عند حلول شهر رمضان لعام 726 هـ أمر أمير مكة بقرع الطبول والدبادب (آلات خشبية عالية الصوت)، وإقامة احتفال بالمسجد الحرام الذي تم تجديد الحصر به، وزيادة الشمع والمشاعل به، كما لاحظ إقامة الصلاة وراء أئمة المذاهب المختلفة حول الكعبة فضلا عن وجود العديد من قراء القرآن الكريم حتى (.. لا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي لجماعته فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس، وتحضر القلوب).


    كما تحدث عن وقت السحور في رمضان بمكة المكرمة فأشار إلى قيام (المؤذن الزمزمي) في الصومعة الموجودة في الركن الشرقي من الحرم الشريف بالدعاء والذكر والتحريض على السحور بالإضافة إلى العديد من المؤذنين الآخرين.

    وفي أعلى كل صومعة خشبية في مكة تم نصب خشبة كبيرة بحيث يعلق فيها قنديلان من الزجاج طوال وقت السحور بحيث إذا اقترب آذان الفجر يتم إطفاء هذين القنديلين مرة بعد أخرى وبعد ذلك يبدأ المؤذنون في الأذان.


    أما سكان مكة الذين لا يصل الأذان إليهم نتيجة ابتعاد بيوتهم فإنهم ينظرون من أعلى سطوح منازلهم فإذا شاهدوا القنديلين مضاءين فإنهم يقومون بالتسحر وإذا رأوهما مطفأين يقلعون عن الطعام.


    ويذكر ابن بطوطة أن أهالي مكة يحتفلون بالعشر الأوائل من رمضان فيقوم في كل ليلة أحد أبناء كبار رجال مكة بختم القرآن أمام القاضي وكبار الفقهاء وبعد الانتهاء من ذلك يقام له منبر مزين بالحرير ليخطب للناس من فوقه، وبعد الانتهاء من الخطبة يقوم والده بدعوة الحاضرين إلى وليمة بمنزله.


    ويشير ابن بطوطة بشكل خاص إلى أن ليلة السابع والعشرين هي أعظم من احتفالهم بسائر الليالي بحيث يتم أيضا ختم القرآن بحيث تكثر فيها قراءة القرآن فضلا عن زيادة كبيرة في الشموع والقناديل.


    تشابه روايات الرحالة مع مرور الزمن
    ويمكننا أن نلاحظ هنا تشابها بين رواية الرحالة ابن جبير الأندلسي ورواية ابن بطوطة المغربي على الرغم من اختلاف زمان أدائهم لفريضة الحج (القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري) حول كيفية استقبال أمير وسكان مكة لرمضان وكيفية التسحير واستخدام القناديل المضاءة لذلك، وكذلك ما يرجى في ختم القرآن في الليالي العشر الأخيرة منه وقيام أبناء كبراء سكان مكة بختم القرآن في تلك الليالي أمام قاضي مكة وفقهائها، ثم قيامهم بالخطبة وقيام آبائهم الميسورين بإقامة ولائم لسكان مكة.


    واحتفالهم الكبير بليلة السابع والعشرين من رمضان ويمكننا أن نفهم مما سبق أن تلك العادات الطيبة استمرت طول قرنين من الزمان كما هي.

    ويصف ابن بطوطة استعداد المكيين لاستقابل عيد الفطر المبارك فيذكر أنهم يقومون بإيقاد الشمع والمشاعل والمصابيح بحيث يضاء سطح الحرم كله ويقضي المؤذنون هذه الليلة في تهليل وتكبير وتسبيح، بينما يأخذ الموجودن في الصلاة والطواف والذكر والدعاء.


    وبعدما يفرغ أهالي مكة من أداء صلاة الصبح يلبسون أحسن ما لديهم من ثياب ويتوجهون لأداء صلاة العيد بالحرم الشريف وبعدها يقبل الناس على السلام والمصافحة ويتوجهون لدخول الكعبة المشرفة، وبعد ذلك يخرجون إلى مقبرة باب المعلى لزيارة قبور الصحابة والسلف الصالح.


    قرع الطبول للصلاة!
    مكث ابن بطوطة في مكة بعد ذلك حتى موعد حجته الأولى 726 هـ فيذكر أنه تم تشمير (رفع) أستار الكعبة أو إحرام الكعبة يوم السابع والعشرين من ذي القعدة صونا لها من الشد والجذب الذي يمكن أن تتعرض له من قبل الحجاج ولهفتهم عليها.


    كما ذكر أنه بمجرد حلول أول أيام شهر ذي الحجة يتم قرع الطبول في أوقات الصلاة حتى يوم الصعود إلى عرفات وفي اليوم السابع من الشهر يلقي الإمام خطبة المسجد الحرام بعد الانتهاء من صلاة الظهر لكي يعلم الناس فيها كيفية أداء مناسك الحج.


    ويصعد الذين حضروا لأداء الفريضة إلى منى في اليوم الثامن برفقة أمراء مصر والشام والعراق وفي اليوم التاسع من ذي الحجة رحل الجميع من منى بعد الصلاة الصبح إلى عرفات.


    وذكر أن وقفة العيد كانت يوم خميس، ولم يفته الإشارة إلى بعض الشخصيات الهامة التي قامت بأداء شعيرة الحج ذلك العام منهم الأمير أرغون الدوادار نائب الملك الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، وزوجته.


    غادر ابن بطوطة والحجاج وعرفات بعد غروب الشمس إلى مزدلفة متأخرين، حيث جمعوا بين صلاة المغرب والعشاء كسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أن صلوا الصبح في مزدلفة توجهوا نحو منى، حيث رمى جمرة العقبة، وقام الحجاج بالذبح والنحر، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء باستثناء النساء والطيب حتى طواف الإفاضة، وأشار ابن بطوطة إلى أن كسوة الكعبة المشرفة وصلت من مصر، وقاموا بتغطية الكعبة بها يوم النحر ووصفها بأنها من الحرير حالكة السواد ومكتوب عليها العديد من الآيات القرآنية.


    ولم يفته أن يشير إلى أن الملك الناصر هو الذي يتولى أمر كسوة الكعبة فضلا عن تكفله بمعاش القاضي، والخطيب، والأئمة، والمؤذنين، والفراشين، وما يحتاج إليه الحرم الشريف من الشمع والزيت كل سنة.


    وبعد الانتهاء من فريضة الحج لأول مرة غادر ابن بطوطة مكة المكرمة باتجاه العراق في العشرين من شهر ذي الحجة 726 هـ.
    ****************************

    د. أبو شامة المغربي
    المصغرات المرفقة المصغرات المرفقة ابن بطوطة.jpg‏  

    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رمضان والحج في كتابات الرحالة المسلمين
    رحلة ابن جبير الأندلسي
    يعد الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي ولد عام 539 هـ= 1145م من أشهر الرحالة المسلمين الذين اهتموا بالكتابة عن رمضان في كتب رحلاتهم، وتلقى منذ صغره تعليما دينيا فدرس القرآن وعلومه حتى إذا بلغ الأربعين من عمره قرر الرحلة إلى الأراضي المباركة في رحلة بحرية من الأندلس إلى شمال أفريقيا ومنها إلى الإسكندرية، ثم تحرك ركبه إلى القاهرة، ومنها استقل سفينته في نهر النيل حتى مدينة قوص في صعيد مصر، ومنها برا إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر ليستقل سفينته حتى ميناء جدة التي هاجم في كتابه استغلال سكانها للحجاج وفرضهم الإتاوة عليهم، ثم وصف عملية تسجيل أسماء الحجاج لدى صاحب جدة قبل انتقالهم إلى مكة المكرمة ليلة الثالث عشر من ربيع الآخر 578هـ.


    ولدى الدخول إلى المدينة المقدسة أخذت "الألسنة تضج بالدعاء وتبتهل إلى الله بالثناء؛ فتارة تشتد بالتلبية وآونة تتضرع بالأدعية" قبل أن يطوف ركب ابن جبير طواف القدوم ثم الصلاة والتعلق بأستار الكعبة والسعي بين الصفا والمروة.


    في المسجد الحرام
    وصف ابن جبير المسجد الحرام، والأماكن المقدسة والمباركة في مكة، وقد قرر أن يبقى بالمدينة حتى أداء الحج، وقام أثناء ذلك بأداء عمرة شهر رجب واصفا زحام المعتمرين أو "مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه"، وكان قد حضر ليلة النصف من شعبان في مكة المكرمة ووصف قراءة القرآن والصلاة بالمسجد الحرام.


    وسجل لنا ابن جبير في رحلته بداية شهر رمضان في الأراضي المباركة؛ إذ ذكر أنه قد وافق يوم أحد، ولم يفته أن يلاحظ أن أهل مكة صاموا ولم يكونوا قد تمكنوا تماما من رؤية الهلال، ولكن أمير مكة أمر بضرب "الدبادب" وهي آلات ذات أصوات عالية من أجل إعلان بدء الصوم؛ لأنه رأى وجوب صيام يوم الشك.


    ولاحظ ابن جبير أنه بمجرد بدء شهر رمضان تم تجديد الحصر الموجودة بالمسجد الحرام والإكثار من إشعال الشموع والقناديل حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياء.


    كما وصف صلاة التراويح بالحرم المكي فذكر اصطفاف العديد من المصلين خلف الأئمة من المذاهب الأربعة، ولأن ابن جبير كان مالكي المذهب فقد احتفى بذكر الأئمة والقراء المالكية وما قدمه التجار المالكية من شموع عالية أمام المحراب.


    قناديل المسجد دليل السحور
    ولم يفت ابن جبير ذكر مسألة السحور في ليالي رمضان في مكة المكرمة، فذكر أن أحد المؤذنين كان يتولى التسحير في الصومعة الموجودة في الركن الشرقي من المسجد الحرام بسبب قربها من دار أمير مكة فيقوم المؤذن وقت السحور داعيا ومذكرا ومحرضا على السحور، ونصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان فوقهما قنديلان كبيران من الزجاج يضيئان طوال فترة السحور، فإذا اقتربت نهاية وقت السحور قام المؤذن بإنزال القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ في الأذان.


    ونتيجة لاتساع مساحة مكة المكرمة وبعد الكثير من منازلها عن المكان الموجود به قنديلا التسحير، يذكر ابن جبير ارتفاع منازل مكة؛ وهو الأمر الذي جعل الذين لم يسمعوا نداء السحور يشاهدون القنديلين يضيئان أعلى الصومعة فإذا لم يبصروهما عرفوا أن وقت السحور قد انتهى.


    وسجل ابن جبير في رحلته وصول الأمير سيف الإسلام بن أيوب أخي صلاح الدين الأيوبي إلى مكة في اليوم التالي من شهر رمضان 578هـ قادما من مصر بعد مروره على المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم زيارة لمكة بعض الوقت وبرفقته وفد من الحجاج المصريين الذين التمسوا الأمن برفقته قبل أن يكمل الطريق باتجاه اليمن لمعالجة إحدى الفتن التي حدثت بها، كما سجل دعاء سكان مكة للأمير سيف الإسلام وأخيه صلاح الدين الأيوبي لاهتمامه بأحوال المدينة المقدسة، ثم طاف سيف الإسلام وأتباعه ببيت الله الحرام، ودمعت أعينهم تبتلا وخشوعا قبل أن يقوم بالسعي بين الصفا والمروة كما تم فتح الكعبة المشرفة له خصيصا.


    ختم القرآن شيم المجاورين

    اهتم ابن جبير بذكر اجتهاد المجاورين للمسجد الحرام في صلاة التراويح وختم القرآن، فذكر أنه كان يجري ختم القرآن في كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، فذكر أنه في ليلة الحادي والعشرين من رمضان قام أحد أبناء مكة بختم القرآن أمام قاضي المدينة وبعض شيوخها، واحتفل والد الصبي بذلك بأن قام بدعوتهم إلى وليمة في منزله.


    كما قام صبي آخر من أبناء مكة عمره 15 عاما بختم القرآن ليلة الثالث والعشرين فقام والده أيضا بالاحتفال بهذه المناسبة؛ ولأنه كان من الأثرياء، فقد لاحظ ابن جبير أنه أحضر ثريا مصنوعة من الشمع، وأنواعا من الفاكهة "الرطبة واليابسة" والعديد من القناديل والمشاعل.


    وفي ليلة الخامس والعشرين قام بختم القرآن ابن الإمام الحنفي للمسجد الحرام؛ الأمر الذي أوجب احتفال والده به أيضا.


    ثم تحدث ابن جبير عن ختم القرآن الكريم بالمسجد الحرام ليلة السابع والعشرين بوصفها ليلة استثنائية ومباركة يقول: "وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم؟ وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم"، وختم ابن جبير حديثه عن ليالي رمضان في مكة، بالدعاء لله أن يبارك صومه إلى جوار الكعبة والبيت الحرام.


    ويصف ليلة عيد الفطر المبارك في مكة المكرمة بوصفها من "الليالي الحفيلة"، حيث جرى إيقاد جميع القناديل والمشاعل والأنوار في الجهات الأربع للحرم، كما تمت إضاءة سطح المسجد الموجود أعلى جبل أبي قبيس، كما أقام المؤذن تلك الليلة أعلى سطح قبلة زمزم مهللا ومكبرا ومسبحا وحامدا، بينما قضى كافة الموجودين في مكة ليلتهم ما بين صلاة وطواف وتهليل وتكبير.


    عيد الفطر في مكة
    بادر السكان بمجرد الانتهاء من أداء صلاة الفجر بلبس أثواب العيد الجديدة، وتوجهوا ثانية لصلاة العيد بالمسجد الحرام، وبعد الاستماع إلى خطبة العيد أقبل الناس على مصافحة بعضهم البعض آخذين في الدعاء مسرورين فرحين بما آتاهم الله من فضله، ثم طافوا بالبيت الحرام، وبعد انتهاء الصلاة والطواف والسلام توجهوا إلى زيارة قبور الصحابة المسلمين في جبانة المعلى، وقاموا بالدعاء لمن فيها من عباد الله الصالحين.


    مكث ابن جبير شهري شوال وذي القعدة في مكة المكرمة انتظارا لأداء فريضة الحج، استعرض خلالهما كيفية أداء المناسك، كما قام بزيارة المنزل الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي تحول إلى مسجد يعرف بمسجد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، كما زار دار السيدة خديجة رضي الله عنها.


    تشمير الكعبة

    كما وصف تشمير أستار الكعبة المقدسة على جوانبها الأربعة، فيما يعرف بإحرام الكعبة، حيث ترفع الأستار يوم السابع والعشرين من ذي القعدة، ولا تفتح الكعبة حين إحرامها إلا بعد الوقفة، ويحكي لنا موقفا طريفا في مكة ليلة التاسع والعشرين من ذي القعدة، حيث انتظار هلال ذي الحجة، فيذكر أن طائفة من الحجاج المغاربة والمصريين كانوا يريدون أن يكون الوقوف على جبل عرفات يوم جمعة، لما لهذا اليوم من بركة واسعة، فادعوا أنهم شاهدوا هلال ذي الحجة في التاسع والعشرين من ذي القعدة، غير أن قاضي مكة ردهم قائلا: "يا للعجب! لو أن أحدهم يشهد برؤيته الشمس تحت الغيم الكثيف لما قبلته، فكيف برؤية هلال هو ابن تسع وعشرين ليلة!


    مكة كالرحم يسع مولوده
    ويرصد ابن جبير توافد أعداد لا تحصى من الحجاج على مكة المكرمة، ويذكر أنه من الآيات البينات أن تسع مدينة مكة الصغيرة جميع هؤلاء الحجاج، وذلك حسب تعبيره، "لو أن المدن العظيمة حلم عليها هذا الجمع لضاقت عنه ويتفق مع العلماء القائلين بأن ذلك ما حدث إلا لأن مكة تتسع لحجاجها اتساع الرحم لمولوده".


    ويلاحظ أنه منذ اليوم الأول لذي الحجة بدأت أصوات "الدبادب" العالية تظهر في كافة أوقات الصلاة وحتى يوم عرفة بتذكير الناس وجمعهم عند الصلاة الجامعة بالمسجد الحرام.


    وصف ابن جبير مناسك الحج وأفاض في وصف الوقوف على جبل عرفات وذكر أنه من السنة المبيت بها، ولكن الحجاج اضطروا إلى مغادرتها بسبب خوفهم من قبيلة بني شعبة المشهورة بالإغارة على الحجاج ونهبهم؛ غير أنه يذكر أنه تمت حماية الحجاج آنذاك بفضل تدخل الأمير عثمان بن علي صاحب عدن، الذي كان قد فر منها بعد وصول الأمير سيف الإسلام أخي صلاح الدين الأيوبي.

    وعلى الرغم من وصف ابن جبير له سابقا بأنه كان ظالما في قومه واختص لنفسه الكثير من الأموال والمتاجر وهو ما دفع الدولة الأيوبية إلى مهاجمته وعزله فإن ابن جبير يحمد له موقفه في حماية الحجاج من هجمات الشعبيين في المضيق الكائن بين مزدلفة وعرفات، ويصف ما فعله الأمير عثمان بأنه "... جهاد يرجى له بالمغفرة لجميع خطاياه".

    ووصف ابن جبير ازدحام الحجاج على جبل عرفات الذي "لا شبيه له إلا الحشر"، وتتبع كل مناسك الحج ورحلة الحجيج ومواقعهم بالتفصيل الدقيق، وذكر أهم الشخصيات التي وصلت للحج هذا العام، وكان أمير العراق الذي وصل في موكب ضخم برفقة أمراء بلاد فارس والعديد من السيدات.
    كما ذكر ما جرى عند عودة الحجاج إلى مكة من المناوشات والاحتكاكات بين أهالي مكة والحجاج العراقيين والأتراك، حيث جرح البعض وانتهبت بعض أمتعة التجار قبل أن تنتهي تلك الفتنة سريعا.

    ولم يفت ابن جبير الإشارة إلى وجود أسواق لتلبية حاجات الحجاج، ومن ذلك سوق منى التي تستمر لثلاثة أيام، وهي من كبرى الأسواق فضلا عن السوق العظيمة المعروفة بسوق المسجد الحرام التي تحتوي سلعا وبضائع لا حصر لها، وحسب تعبيره "كانت سوقا عظيمة يباع فيها من الدقيق إلى العقيق ومن البر إلى الدر".


    ثم غادر ابن جبير مكة في العشرين من ذي الحجة 578هـ بعد أن مكث بها أكثر من ثمانية أشهر، وبعد إتمام الغرض الأساسي من رحلته إلى الشرق وهو الحج إلى بيت الله الحرام.

    د. أبو شامة المغربي
    المصغرات المرفقة المصغرات المرفقة الرحلة.jpg‏  

    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد : أدب الرحـــــــلة ... 
    كاتب مسجل الصورة الرمزية السندباد
    تاريخ التسجيل
    Mar 2006
    المشاركات
    48
    معدل تقييم المستوى
    0

    يقول الإمام الشافعي:

    ســــــافرْ تَجِدْ عِوَضــاً عَمَّنْ تُفَارِقُهُ 1 وَانْصَبْ فإنَّ لَذِيذَ العيشِ في النَّصَبِ
    إنِّــــــــــي رأيتُ وُقُوفَ المــاءِ يُفْسِدُهُ 2 إنْ سَالَ طَابَ وإنْ لم يَجْرِ لـم يَطِبِ
    والشمسُ لَوْ وَقَفَتْ في الْفُلْكِ دائمةً 3 لَمَلَّهَا النــاسُ مِنْ عَجَمٍ ومِن عُــــرْبِ
    (من قراءات السندباد)
    المصغرات المرفقة المصغرات المرفقة ربان السفينة.gif‏  
    رد مع اقتباس  
     

ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •