بسم الله الرحمن الرحيم

الفراغ الكوني

أخذ الفراغ الكوني تعريفات كثيرة على مرّ التاريخ الإنساني، فقد كان عند ديموقريطس على أنّه ماليس بموجود، وأمّا أرسطو فقد اعتبر أنّ الطبيعة موجودة في كلّ مكان، وأنّ الفضاء ممتلئ بالأثير ( الجوهر الخامس )، وأمّا في عصر النهضة فقد قال باتريزي وتيليسو وغيرهما أن الفراغ موجود، وفي القرن السابع عشر ترك الفراغ عالم الفلسفة، ودخل ميدان العلوم التجريبيّة على يد غاليلوGalilo وتوريشلي Torricelli وباسكال Pascal وغيرهم، واعتبر الفراغ كتعبير عن الدرجات المنخفضة من الضغط، فقام روبرت بويل Robert Boyle بصنع مضخّة هوائيّة، وبيّن في إحدى تجاربه أنّ الصوت لاينتشر في الفضاء، ومع اكتشاف النظريّة الموجيّة للضوء، وبافتراض أنّ الأمواج لا تنتشر إلا بوجود وسط ما، عادت فكرة الأثير من جديد، ولكن لم تفلح أيّة تجربة في البرهان على وجوده، فعاد الفراغ الفارغ من جديد على الأذهان حتّى بدايات القرن العشرين، حيث أخذ الفراغ يتعلّق بحقول وكمومات ممتلئة، وبدأت فكرة الفراغ تأخذ معنى آخر .

ففي الفيزياء الكمّيّة ووفقا لمبدأ هايزينبرغ، فإنّ الجسيم موجود كحقل كمومي، وبالتالي فإنّ الفراغ ممتلئ بجسيمات افتراضيّة من المادّة والمادّة المضادّة، وكلّ شيء من حيث الكموم حقيقي، وفي عشرينيّات القرن الماضي قام بول ديراك Paul Dirac بتعريف الفراغ على أنّه حالة من الطاقة الدنيا لبنية ما، وأمّا الطاقة الدنيا للكون فهي مجموع الطاقات الدنيا للفراغات المحلّيّة .

وقد أوحى ماكس بلانك Max Planck في عام(1912م)، على أنّه وعند درجة الحرارة صفر كلفن، فإنّ كلّ نقطة من الفراغ، تحتوي على إشعاع يسمّى بإشعاع نقطة الصفر، وقد تمّ ربط هذه الفكرة بعد بضعة سنوات بتموّجات الفراغ، وبالتالي فالفراغ الكوانتي يتموّج محلّيّا، ومن هذه الأمواج يمكن أن تتخلق أزواج من الجسيمات والجسيمات المضادّة، أي أنّ الفراغ الكوانتي ممتلئ بحقل كوانتي يسمح للمادّة باكتساب الكتلة عبر التفاعل مع بوزونات هيجز، والفراغ الممتلئ بحقول هيغز وبوزوناته له طاقة أقلّ وأضعف من الفراغ الفارغ .

وفي عام(1947م) بيّن العالم ويلس لامب Willis Lamb، و في حال وجود ذرّة ما في حالة طاقتها الأساسيّة ومعزولة في الفراغ، فإنّها تتفاعل مع تموّجات الفراغ، ويترجم ذلك من خلال تغيّر في تواترات امتصاصها للفوتونات، وفي عام(1948م) بين هندريك كازيميرHendrik Casimir، أنّ تموّجات الفراغ تولّد قوّة كهرومغناطيسيّة جاذبة وضعيفة جدّا ، ووفقا لمبدأ هايزينبرغ فإنّ الحقل الكهربائي للفراغ، لا يمكن أن يكون معدوما في كلّ مكان .

فمفعول كازيمير هو حركة صفيحتين متوازيتين نتيجة تقلّبات الخواء الكموميّة، والصفيحتان متقاربتان لدرجة لا تسمح إلا للتقلّبات الصغيرة، في حين يتم استبعاد المقامات الكبيرة، والتي تؤثّر بقوّة أكبر من تلك التي تنشأ عن المقامات الصغيرة، وهذا يتسبّب في دفع الصفيحتين إحداهما نحو الأخرى.

لقد شوهد مفعول كازيمير من قبل ستيف.لامورو Steve Lamoreaux، والذي استخدم نوّاس فتل في قياساته ( في اليسار)، وسلّط تيّار كهربائي على حزمة من مادة كهرضغطيّة، ويحاول هذا التيار تحريك الصفيحة المدلاة من النوّاس، في حين تقوم الصفيحة المكافئة بضبط النوّاس في مكانه من دون حراك، وفرق الجهد المطلوب لمنع التواء الفتل يشكّل قياسا لمفعول كازيمير.

وقد أثبت أثر كازيمير هذا تجريبيّاً بعد عشر سنوات على يد ماركوس سبارناي M. Sparnay، فقد استطاع أن يثبت تأثير المسافة بين الجدارين أو المرآتين على كثافة قوة الجذب، واستطاع فريق فرنسي في عام(1996م) التنبّؤ بأنّ فجوة في الفراغ، مؤلّفة من مرآتين عاكستين بشكل جزئي، تصدر فوتونات إذا ما تحرّكت جيئة وذهاباً وبتواتر مناسب، كذلك هناك ظواهر أخرى ترتبط بالفراغ الكوانتي، ومنها مثلاً تبخّر الثقوب السوداء الدقيقة التي تدور، فهذه الأجسام التي يقارب حجمها حجم البروتون، تصل كتلتها إلى مليار طن وربّما كانت قد تولّدت خلال الانفجار الكبير، ويمكن أن تشعّ طاقة مثل الثقوب السوداء النجميّة، وفق ما تنبّأ به ستيفن هوكنغ في عام(1974م)، وقد أثبتت هذه الفرضيّة في عام(1976م) بشكل تجريبي.

إنّ قوّة كازيمير مفهومة جيّداً اليوم على الرغم من أنّها كانت للوهلة الأولى منافية للحس السليم، وإحدى الطرق البسيطة لوصف أصولها، هي في اعتبار المسافة بين المرآتين في الفراغ مثل تجويف أو فجوة .

فلكلّ الحقول الكهرمغنطيسيّة طيف مميّز لها يشتمل على تواترات مختلفة، والأمر مماثل بالنسبة لتموّجات الفراغ، فطيف هذه التموّجات يشتمل على كافّة التوترات الممكنة، وهي تكون في الفراغ الحرّ متكافئة كلّها ولا يفضّل أحدها على الآخر، ولكن داخل تجويف ما حيث تنعكس تخلخلات الفراغ بواسطة المرآتين فإنّ الوضع يكون مختلفاً، فالتجويف يشتمل على تواترات تسمّى بالطنينيّة، وبالتالي فإنّ حقل الفراغ يتّسع إذا دخل التجويف بالضبط مضاعف صحيح لطول موجة، وأمّا عند أطوال موجات أخرى فإنّ الحقل يتناقص.

إنّ الفراغ ليس عدماً بالنسبة للفيزيائيين الكوانتيين، فالفضاء الفارغ الخالي من كل مادّة وفي درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق يشتمل على طاقة، وأثر كازيمير قادر على توليد حركة ابتدائية من هذه الطاقة فقط.

لقد تطوّر كثيراً إدراك الفراغ خلال الزمن، ففي الميكانيك الكلاسيكي مفهوم الفضاء الفارغ بسيط، فإنّه ما يبقى عندما يتمّ إفراغ إناء من كلّ الجسيمات فيه مع تخفيض درجات الحرارة إلى الصفر المطلق، وقد قلب ظهور الميكانيك الكمومي في العشرينات من القرن الماضي، هذا التصوّر للفراغ رأساً على عقب، فوفق المقاربة الكموميّة تتموّج أو تترجرج كافّة الحقول، وخاصّة الحقل الكهرمغنطيسي، وهي تنوس في كلّ لحظة حول قيمة متوسّطة ثابتة، وحتّى في الفراغ الكامل عند درجة حرارة قريبة من الصفر المطلق، حيث تظل هناك تخلخلات طاقيّة لا يمكن تخفيضها أو تقليصها، و تعرف باسم تخلخلات الفراغ ، فالفراغ في الجوهر ممتلئ بالتخلخلات.

إنّ كافّة الحقول الكهرمغنطيسية تنتشر في الفضاء وتمارس ضغطاً على السطوح، ويزداد ضغط الإشعاع هذا مع طاقة الحقل الكهرمغنطيسي، فعند حصول تواترات الطنين تتّسع وتزداد تموّجات الفراغ، ويكون ضغط إشعاعها في الداخل أقوى منه في الخارج، وفي هذه الحالة تتباعد المرآتان عن بعضهما بعضاً، و بالمقابل عندما لا يكون هناك حالة طنينيّة، تتقلّص تموّجات الفراغ ويكون ضغط الإشعاع في الداخل أصغر منه في الخارج، ونتيجة لذلك تتقارب المرآتان .

إنّ قوّة كازيمير، هي الفرق بين ضغط إشعاع الفراغ داخل وخارج تجويف ما، ويبدو بشكل عام أنّ المركبات الجاذبة تسود وتسيطر بدرجة طفيفة على المركبات النابذة، وبالنسبة لمرآتين مسطّحتين كاملتين ومتوازيتين، فإنّ قوّة كازيمير هي قوّة جاذبة، وهي تتناسب مع سطح المرآتين وعكساً مع القوّة الرابعة للمسافة بينهما.

تصبح قوّة كازيمير محسوسة بالنسبة لمرآتين لا تفصل بينهما سوى مسافة قصيرة جداً ( من رتبة الميكرومتر )، فعلى سبيل المثال، إذا كانت لدينا مرآتان مساحة كلّ منهما سنتمتر مربّع واحد، ويفصل بينهما ميكرومتر واحد، فإنّهما ستتحسّسان قوّة كازيمير بمقدار عشرة أجزاء من المليون من النيوتن، أي نحو ثقل قطرة ماء قطرها نصف ملّيمتر، ويمكن لهذه القوّة أن تبدو مهملة وغير ذات معنى، لأنّها ذات كثافة ضعيفة جدّاً، و لكنّ الأمر ليس كذلك ، فبالنسبة لمسافات أقل من ميكرومتر واحد تصبح قوّة كازيمير هي القوّة السائدة بين جسمين حياديين كهربائيّاً .

عندما تمّ اكتشاف قوّة كازيمير في عام(1948م)، كان من الصعب جدّاً قياس تأثير هذه القوّة بالوسائل التكنولوجيّة المتاحة، وكاندرجاغين Derjaguin وأبريكوسوفا Abrikosova ولفشيتز Sifshitz في عام(1956م) وماركوس سبارناي Marcus Spaarnay في عام(1958م)، هم أوّل من حاول إثباتها تجريبيّاً، حيث قاس سبارناي قوّة كازيمير بين مرآتين مسطّحتين من الألمنيوم أو من الكلور أو من الفولاذ، وقد حفظت المرايا حياديّة من الناحية الكهربائيّة لكي لا تحجبها القوّة الكهرستاتيكية، كذلك تحقّق سبارناي من كون المرآتين متوازيتين تماماً، لأنّ قوّة كازيمير حسّاسة جدّاً لتغيّرات المسافة، ومن هذه التجربة استطاع سبارناي الاستنتاج بأنّ قياساته لم تكن تتعارض مع التوقّعات النظريّة لكازيمير، وكانت أعماله هذه تعدّ نجاحاً تجريبيّاً مميّزاً في ذلك الوقت، ولكنّ الانزياح بالنسبة للحساب النظري ظلّ كبيراً، ولهذا قامت فرق أخرى بالعمل من أجل تقليص الفارق بين الواقع التجريبي والحساب النظري، غير أن النّجاح لم يحالفها، ممّا أدّى إلى التخلّي عن هذا المجال من الأبحاث لأكثر من أربعين عاماً، وكان لا بدّ من انتظار نهاية التسعينات للحصول على قياسات مرضية.

وكما يحصل دائماً، فقد تبيّن أنّ العلاقة بين النظريّات والتكنولوجيا التجريبيّة كانت حاسمة، فقد سمح القيام بسلسلة جديدة من القياسات، بالتقدم الكبير في مجال تحديد القوى الضعيفة، بالإضافة إلى تطوير المجهر ذي القوّة الذرّيّة، وبدأت هذه القياسات في عام(1997م)، مع ستيف لاموروSteve Lamoreaux، فقد قاس قوّة كازيمير بين عدسة كرويّة ومرآة مسطّحة، واستخدم نوّاساً ذا حبل موضوع ضمن مكان فارغ، وعندما قرّب الجسمين من بعضهما حتّى بضعة ميكرومترات سبّبت قوّة كازيمير فتلاً أو شدّاً للنوّاس أمكن قياسه، ولم يكن الفارق هذه المرّة بين قياساته والتنبّؤات النظريّة أكثر من 5 %.

استخدم فيزيائيّون آخرون بعد ذلك مجاهر ذات قوّة ذرّيّة من أجل قياس قوّة كازيمير، فقام عمر محي الدين وزملاؤه من جامعة كاليفورنيا بربط كرة من البوليستيرين على سبيل المثال، إلى ذراع رافعة في مجهر ذي قوّة ذرّيّة، ثمّ تمّ تقريب الكرة إلى عشر الميكرومتر من مرآة مسطّحة، وتمّ تقدير الجذب الناتج بين الكرة والمرآة بانحراف شعاع ليزر، وأمكن الوصول عبر هذه القياسات إلى توافق شبه تامّ بين التجربة والنظريّة لم يتعدّ الفرق فيه 1 %.

قليلون من المجرّبين تناولوا ودرسوا قوة كازيمير في صيغتها الأصليّة، المؤلّفة من مرآتين مستويتين ومتوازيتين، والسبب في ذلك هو أنّه يجب الحفاظ على المرآتين متوازيتين تماماً خلال التجربة، وهو أمر بالغ الصعوبة لتحقيقه بدقّة كبيرة، فتقريب كرة من مرآة مسطّحة أسهل بكثير، والفصل بين الشيئين يحدّد ببساطة عندها بمسافة الاقتراب الأقصر، غير أنّ الحسابات مع هذا التصوّر ليست بدقّة الحسابات عندما يكون لدينا مرآتان مسطّحتان، وقد حاول جياني كارونيو Gianni Carugno وروبرتو أونوفريو Roberto Onofrio عام(2002م)، بإجراء قياسات التصوّر الأصلي لكازيمير، وقد قاسا القوّة بين صفيحتي سيليسيوم مغطّاتين بالكروم، وتفصل بينهما مسافة 0.5 إلى 3 ميكرومتر، غير أنّ القياسات التي أعطت نسبة توافق 10 % مع النظريّة تعكس أيضاً وجود صعوبات تجريبيّة كبيرة، ومن هنا نفهم سبب تركيز الباحثين اليوم على مسألة الشروط التجريبيّة المناسبة .

هنالك فرق كثيرة آتية من مجالات مختلفة جدّاً مثل نظريّة الحقول الكوانتيّة، والبصريّات الكوانتيّة، وفيزياء الأجسام الصلبة و فيزياء الجسيمات الأوّليّة، يعملون كلّهم على هذه المسألة في جميع أنحاء العالم، فالصعوبة الأولى تكمن بأنّ المرايا البصرية ليست مرايا كاملة كما كان قد اعتبرها هندريك كازيمير في حساباته الأصلية، فطبيعة المادّة تلعب دوراً أساسيّاً، فالمرآة لا تعكس كافّة التواترات بشكل كامل.

إنّ معظم التجارب الحاليّة تستخدم مرايا معدنيّة، غير أنّ هذه المرايا تعكس بشكل كامل بالنسبة لبعض التواترات، بينما تكون مرايا عاكسة سيّئة جدّاً بالنسبة لتواترات الحقل العليا، وهكذا تتشوّه قوّة كازيمير، ولا بدّ بالتالي من أن نأخذ بعين الاعتبار، ارتباط معاملات الانعكاس بالتواتر.

وقد درس أستريد لامبريخت Astrid Lambrecht وزميله سيرج رينو Serge Reynaud منذ سنوات قليلة سلوك المرايا المعدنيّة، آخذين بعين الاعتبار الخصائص الفيزيائيّة للمواد، وكانت إحدى النتائج التي توصلوا إليها، هي أنّه يمكن مماثلة صفيحتين معدنيتين بمرآتين كاملتين فقط، إن كانتا على بعد أكثر من نصف مكيرومتر عن بعضهما بعضاً.

وثمة مسألة أخرى هامّة في حساب قوّة كازيمير، هي حالة سطح المرايا، فمعظم المرايا تصنّع بوضع طبقة رقيقة معدنيّة على حامل أو ركيزة، غير أن تقنيات توضّع هذه الطبقة تنتج خشونات بنحو خمسين نانومتر، وعلى الرغم من صغرها، لكنها تؤثّر على قياس قوّة كازيمير، لأنها حسّاسة جدّاً لتغيّرات المسافة، وقد استخدم عمر محي الدين وفريقه مؤخّراً سطوحاً خشنة حبيبية من أجل إثبات قوّة كازيمير الجانبية، وقد وضعت المرآتان بحيث تقابل ذروة المنحنى الجيبي في إحداهما قاع المنحنى في الأخرى، وفي هذه الحالة تظهر قوّة موازية لسطح المرآتين، وليس قوّة عمودية عليهما ، ويمكن لقوّة كازيمير الجانبية هذه أن تصبح أداة هامة للتحكم بالآلات الدقيقة.

تظلّ أسئلة كثيرة مفتوحة، وخاصّة تلك البسيطة بظاهرها، والمتعلّقة بمعرفة ما هي قوّة كازيمير داخل كرة معدنيّة، وكان هندريك كازيمير نفسه قد عمل على هذه المسألة منذ عام(1953م)، فهل هي قوّة جاذبة، أم نابذة؟، ولا يزال الفيزيائيّون حتّى يومنا هذا لا يعرفون الإجابة ولا يتّفقون عليها، ولا تزال قوّة كازيمير بعد أكثر من خمسين سنة على اكتشافها تحتفظ بأسرار كثيرة.

يرتبط الفراغ ارتباطاً وثيقاً بالكون وزمكانه، طالما أنّه حالة من الحقل الكوانتي للكون، فالكون لا يمكن أن يكون قد ولد من الكون! بالمقابل، وكما اقترح أندريه ليند Andrei Linde في الثمانينات، فإنّ كل فقاعة تولّدها تموّجات الفراغ الكوانتي يمكن أن تولّد كوناً جديداً، وهذا لا يزال سارياً حتى اليوم، فالكون وفق هذا المنظور، هو عبارة عن ميتا كون أبدي ويتضمّن كوننا، الذي انبثق من إحدى تموّجات الفراغ ، منذ نحو 15 مليار سنة.

إنّ هذه الفكرة التي تبدو ميتافيزيائيّة، ربّما لا تتبدّى من علم الكونيّات في شيء للوهلة الأولى، طالما أنّ هذا العلم لا يقارب مسألة لحظة الخلق نفسها، ولكنّ هذه الفكرة تطرح بقوّة في إطار نظريّة كونيّة كوانتيّة، ولكنّ فهمنا للكون يتوقّف عند اللحظة ، أي عند زمن بلانك، بعد الانفجار البدائي وفق نظريّة الانفجار الكبير، وفي هذا الإطار فإنّ طاقة الكون، يجب أن تكون فائقة الكبر والحساء الكوني فائق الانتظام، و الطاقة الدنيا (طاقة الفراغ) كثيفة جدّاً ومتموّجة، ووفق هذا التصوّر تكون فكرة ليند مقبولة، ويقبل اليوم الكثير من العلماء فرضيّة ثابتة كونيّة غير معدومة، تكون هي التعبير عن طاقة الفراغ هذه، وأنّها كانت مشاركة في مصير الكون منذ بداياته، وتسمح فرضيّة حصول مرحلة تضخم للكون عند اللحظة بعد الانفجار الكبير، والذي ضاعف من حجم الكون مرّة، بالسير قدماً في هذا الاتجاه على الرغم من الكثير من الصعوبات الفيزيائيّة، وخاصة مع تقديم انتقادات خلال السنوات القليلة الماضية حول فكرة التضخم نفسها، غير أنّ تموّجات الفراغ يمكن أن تكون هي المسؤولة عن هذا التضخّم ويمكن أن تفسّره بشكل جيّد، وكان آلان غوث Alan Guth قد أعلن هذه النظريّة في عام(1981م)، فكان له الفضل في نقل مسألة نشوء الكون إلى أزمنة يمكن للفيزياء التعامل معها اليوم.

ومن جهة أخرى، كانت التجربة التي قام بها عمر محي الدين وزملاؤه، لقياس قوّة الفراغ على كرة ومرآة، قد قدّمت البرهان من جهة أخرى على أنّ الكون سيظل في توسع إلى مالانهاية، فهذه الكرة التي لا يتعدّى قطرها عشر الميليمتر، تتجه نحو الصفيحة الملساء كاستجابة لتموّجات الفراغ، أو بالأحرى لطاقة غير مرئيّة نعرف أنها موجودة في الكون، وتتراكم البراهين اليوم على أن معظم طاقة كثافة الكون هي على شكل غير معروف، يسمّى الطاقة العاتمة، ممّا يعيدنا بقوّة إلى طاقة الفراغ، فشكل وأصل الطاقة العاتمة مجهولان تماماً تقريباً، ويبدو أنّ هذه الطاقة العاتمة والغريبة، تدفع جاذبيّاً كل شكل للمادّة، وهي تحرض بالتالي توسّع الكون إلى ما لانهاية.

وهكذا، يعود القائلون بالخلق المستدام ex-nihilo بقوّة إلى ساحة الفلسفة الفيزيائيّة، و بالعودة إلى نظريّة إبيقور Epicure ولوقريس Lucrèce التي وفقها لم يخلق شيء، وأنّ كلّ شيء يولد مما هو موجود منذ الأزل، وأنّ لا شيء يأتي من لاشيء، فإن الفيزيائيين يقولون اليوم إنّ هذا العدم ليس سوى تموّج للفراغ، وزبد الزمكان وفق ميشيل كاسي Michel Cassé، وأي كمّيّة يمكن تكميمها والوصول إليها بالتجربة عبر أثري لامب أو كازيمير، وكما كان يقول ديفيد بوم David Bohm، ليس ثمّة على سطح الأعماق السحيقة للاوعي سوى تموّجات الوعي والفكر

موقع عبد الله عبد المجيد للعلوم