لحظة فراغ ....................محمد محضار

كنت أسير على إفريز الشارع،وكان الناس يسيرون ، كنت تائها شاردا، وكانو هم مختلفي الأحوال لكل حسب ظروفه .. كانت أكتافهم تتقاذفني من حين لآخر كلما صادفت زحاما .. وكنت أحس نظرات بعضهم تحاول جاهدة اقتحام عالمي .. لكنني لم أكن أعيرها انتباها.
أمسكت يدي فجأة حسناء تضع مكياجا خفيفا، تساءلت ما أمرها؟ وماذا تريد مني أنا الذي انتهى بالنسبة له عهدُ الحسناوات ؟؟
تبادلت معها النظرات برهة قبل أن تتمتم:
- حسام.. ما هذا؟ أتراك نسيتني ؟أنا نوال.. أين أنت الآن؟ ..لماذا أنت ذابل هكذا؟
ومع توالي أسئلتها حاولت أن أتذكر شيئا عنها، وتذكرت بعد جهد جهيد أنني كنت قد تعرفت عليها بأحد المحلات العمومية بشكل صدفوي غريب، ومنذ ذلك الحين ظلت تحاول اِقتحام عالمي ،وقد نجحت جزئيا في شَدّي إليها بعض الوقت لكن لا شيء دام واستمر، فقد تراجعت أنا إلى الخلف واختفيت تماما عن الأضواء، وهي غابت عني ولم اعد أراها.
أجبتها بشيء من التلعثم حاولت إخفاءه بابتسامة تكلفت كثيرا في أظهارها قبل أن تُرسم على وجهي:
- أنا يا عزيزتي في الدنيا الفسيحة الشاسعة.
- ولكنك غبت تماما عن أوساط أصدقائك، ولم تعد من رواد النادي .. وحتى كتاباتك التي كانت مثار نقاش حادّ اختفت من الصحف والمجلات .
- لست أدري بما قد أجيبك، فأنا أحس بنفسي غريبا عن ذاتي .. ولم تعد لي القدرة على العطاء وانعدمت لدي الرغبة في مجالسة أصدقاء الوسط الأدبي.
ضحكت الفتاة وقالت:
- ولم كل هذا التشاؤم ؟ الحياة جميلة ويجب أن نعيش كل لحظاتها بمرارتها وحلاوتها، ألست القائل: " أنا أحب الحياة وأتشبث بها حتى الرمق الأخير ولا أريد أن تضيع مني لحظة دون متعة.."
- نعم قلت هذا مرارا .. لكني مثل كل الناس عبد للظروف والأقدار.
- أنا لا أصدق أن كل هذا يمكن أن يقع لشخص إسمه حسام صالح، ظلت الأيدي تصفق لكل كلمة يقولها، والأقلام تمتدح كل عبارة يخطّها، وقلوب الحسنوات ترتعش لكل خاطرة يكتبها .
اغرورقت عيناي بالدمع وأنا أستمع لكلماتها .. وبكيت أمامها كطفل صغير، اِندهشت لأمري وأمسكت بيدي وقالت:
- ما الذي يبكيك يا حسام؟
- لست أدري .. فقد وجدتني في حاجة إلى البكاء، فبكيت
- اتمنى أن يكون في دموعك راحة نفسية لك
- وهذا ما أحسه اللحظة، فأنا ارتحت بعض الشيء .. وأحس برغبة قوية في الكتابة
- ليكن .. لكن لما لا تأتي معي فنحن اليوم على موعد مع جلسة أدبية تتضمن قراءة نصوص شعرية لبعض الشعراء.
- لا أستطيع
- بل تستطيع فأنت حسام صالح
- أنا أرفض العودة إلى حياتي السابقة
- لا تنسى أنك كنت تعطي من خلال حياتك السابقة الناس الكثير .
- لكنها تافهة لا معنى لها
- لا تقل هذا، فلا شيء تافه في هذه الدنيا
اِستسلمت في الأخير لرغبتها و رافقتها إلى النادي حيث اعتدت قضاء جزء من وقتي في السابق بين الأصدقاء والصديقات خاصة منهم أهل الأدب والفن، وعند وصولنا كانت الجلسة الأدبية المقررة قد بدأت، والقاعة المخصصة لذلك قد اكتظت بجمهور كبير من رواد النادي وبعض المهتمين، اِستطعنا أن نحصل على مقعدين في الصف الخلفي وسألتني الفتاة:
- ألا تعرف أحد من أولئك الذين يجلسون في المنصة؟
- ابتسمت في مضض وقلت:
- بل أعرفهم كلهم إ ن جلّهم أصدقائي وكان في تلك اللحظة قد اِنتهى احد الشعراء الشباب من إلقاء قصيدة صفق لها الجمهور الحاضر طويلا، وتناول مدير الجلسة الكلمة فقال:"تستمر جلستنا بكل ما فيها من معاني الجمال والعطاء .. وتتفضل الآن الأدبية الشابة منى عبد النور لقراءة إحدى قصائد صديق الجميع الغائب عنا "حسام صالح" ضجت القاعة بالتصفيق ونظرت إلي الحسناء وقالت:" ألم تلاحظ كم تسعد كتاباتك الناس".
اِرتقت الأدبية منى منصة الإلقاء، وانساب صوتها عذبا ترافقه أنغام موسيقية – لموزار ، كانت القصيدة الملقاة واحدة من قصائدي التي أتغنى فيها بالحياة وجمالها، وانتهت قراءة القصيدة تحت وابل من التصفيق، وتناول مدير الجلسة الكلمة من جديد وقال : " سمعت همسا بين الصفوف القريبة بأن حسام صالح موجود بيننا هنا في القاعة فرجاؤنا أن يتقدم إلى المنصة فقد اِشتقنا إلى سماع صوته..."
وضجت القاعة من جديد بالتصفيق وضغطت الحسناء على يدي وقالت «هيا يا أستاذ حسام، ماذا تنتظر؟ " ترددت برهة ثم قمت متجها إلى منصة الإلقاء وما لبثُ أن اِستويت ورفعت وجهي لتلتقي نظراتي بعشرات الوجوه .. كان الكل ينظر إلي، أتراهم يتساءلون، كيف تغير حسام صالح بهذا الشكل؟؟ وما باله ذابلا شاردا؟؟
اجتزت كل هذا بسرعة ورسمت على وجهي ابتسامة رقيقة ثم قلت:
- "مساء الخير وليلتكم سعيدة، أشكركم على مشاعركم الصادقة وأحاسيسكم النبيلة نحو شخصي الضعيف، واعدكم بالعودة اليكم .. وإلى الكتابة ".. وشَخصت بأنظاري إلى المقاعد الخلفية، فلاحت لي صديقتي قابعة في محلها فاشرت إليها متابعا القول:" واني لأدين لتلك الفتاةِ بحضوري بينكم"، والتفتت العيون إلى حيث اشرت، فقامت الحسناء، وانحنت إحتراما للجمهور الذي قابلها بتصفيق حار.
وبعد نهاية الجلسة الأدبية كنت أضع يدي في يدها، وقد اخترتها شريكة لحياتي حتى أضع حدا للفراغ القاتل المعشش في أعماقي، واَستأصل جذور الوحدة الرهيبة، التي كانت تخنقني..فالحياة لا تطاق دون وليف


محمد محضار خريبكة : 26 أبريل 1986

نشر هذا النص سنة 1986 بمجلة الاسبوع المغربي