واقعية المنهج الكلامي ودورها في مواجهة التحديات الفلسفية المعاصرة


الدكتور عبد المجيد النجار


تمهيد :


يوجه النقد شديداً إلى الفكر الكلامي فيما جنح إليه من إيغال في التجريد عند معالجته للقضايا العقدية التي كانت قواماً له ، وما يتصل بها من قضايا طبيعية وفلسفية استخدمت في تلك المعالجة ، وقد عد بهذا التجريد فكراً عقيماً في مواجهة المشكلات الإيديولوجية الفلسفية التي تجابه المسلمين منذ بداية نهضتهم الحديثة ؛ إذ إن هذه المشكلات متأتية من الواقع الجديد الذي طرأ على حياتهم إثر اتصالهم بالحضارة الغربية ، بينما يسبح هذا الفكر في فضاء من مشكلات ماضية لم تكن على صلة وطيدة بواقع المسلمين على عهد نشأتها بلة أن تكون كذلك بالنسبة لواقعهم الراهن. ولهذا السبب اتخذ هذا الفكر الكلامي مهجوراً من قبل أكثر المهتمين بالمشكلات الثقافية الايديولوجية للمسلمين على هذا العهد ، بل اتخذ هزؤا أحياناً ، وذلك باعتبار أنه لا يصلح أداة للدفاع في سبيل النهضة الثقافية الإسلامية .


و الحقيقة أن هذا الموقف من الفكر الكلامي انبني في الحكم عليه من تقويم سطحي اقتصر على الصورة التي انتهى إليها هذا الفكر لما آل إلى الضعف والجمود شأن الفكر الإسلامي عموماً ، وهو الصورة التي آلت إلى إجيال هذا القرن عبر الثقافة الموروثة ‌عن عهد الانحطاط ، تغافلاً في ذلك عن الطور الذي كان فيه الفكر الكلامي حياً فعالاً في مواجهة مشاكل حقيقية ألمت بالمسلمين في حياتهم الثقافية العقدي ، وهو ما فوت على الفكر الإسلامي المعاصر فرصة الاستفادة من الدور المهم الذي قام به الفكر الكلامي في ذلك الطور متمثلاً في صد الغزو الفكري و العقدي الذي تعرضت له العقيدة الإسلامية ابتداء من أواخر القرن الأول ، وتوطيد إيديولوجية إسلامية مكينة ثابتة .


إن الصورة التي وصل عليها علم الكلام إلينا هي صورة مدرسية بدأت في التكون لما توقف هذا العلم عن النمو بعد القرن الرابع ، فحينوذ أخذت القضايا الكلامية بالتقرير والترتيب وفق تصور عقلي لمنطقية مجردة في الترابط بينها ،‌فنسق علم الكلام على الوضع الذي دون به في كتب ما بعد القرن الخامس ،‌وجردت مسائله من ملابسات الواقعية المتمثلة ‌في النوازل والأحداث التي منها كان ظهورها ، وحررت بأسلوب تقريري جاف لا أثر في للسياق الواقعي الذي نشأت فيه .


أما قبل ذلك التاريخ فإن علم الكلام منذ نشأته لم يكن على هذه الصورة ، بل كان حركة نشيطة من الحوار والتدافع بين العقيدة الإسلامية في مصادرها النصية من جهة وبين ما جرى في واقع المسلمين من توترات بين المثال الإسلامي وبين مجريات الأحداث السياسية والاجتماعية ، وما هجوم من مقولات الأديان والثقافات القديمة من جهة أخرى . وقد كان هذا التدافع جدلا حيا يبني فيه الفكر الكلامي الايديولوجيا الإسلامية بحسب ما تقتضيه التحديات واقعية أحداث ومقولات ،‌فيؤسس الرؤية الإسلامية ‌بالحجة العقلية المستندة إلي الوحي ،‌ويصد غازيات الأقاويل بتزييفها بالحجة العقلية أيضا .


ولذل فإنه من المهم أن يقع درس علم الكلام وهي في طوره الأول المتصف بالحيوية والواقعية لتبين المنهجية المجدية التي كان يتبعها لمعالجة ما يطرأ المنهجية في خاصيتها الواقعية مدخل أساسي لتقويم علم الكلام في مدى ما أسهم به في تثبيت ايديولوجية إسلامية حفظت المسار الحضاري العام وفق متطلبات الوحي ، كما أنه مدخل للاستفادة منه في ترشيد الفكر الإسلامي اليوم وهو ينزع إلى صياغة إيديولوجية شاملة متأسسة على عقيدة الإسلام وتراثه ، توجه الحياة الإسلامية إلى صراط الوحي ضمن واقع عالمي متداخل . وهذا ما سنحاول بيانه ن خلال العناصر التالية .


i - واقعية المنهج الكلامي قبل القرن الخامس :


نقصد بالواقعية في منهجية الفكر الكلامي ما كان لهذا الفكر في بنيته وموضوعه و أساليبه من صلة بالمشاكل الطارئة في حياة المسلمين فكرياً وسلوكياً ، وبهذا المعنى فإن الفكر الكلامي ظل طيلة أربعة قرون بعد نشأته في أوائل القرن الثاني فكراً واقعياً‌ شديد الواقعية ؛ إذ تعتبر قضاياه كما سنبينه بعد حين ناشئة من أحداث ونوازل طرأت على المجتمع الإسلامي بسبب ثقافي أو سياسي أو اجتماعي ، وأحدثت به توتراً على نحو أو على آخر، باعتبار ما اتخذ هذا المجتمع لنفسه من مرجعة شاملة‌ وهي مرجعية ‌الوحي الديني ، فنشأت القضايا الكلامية تعالج ذلك التوتر في حياة المسلمين ، وتهدف إلى توجيه ‌الحياة‌ بحسب ما يلائم مرجعية الوحي .


وقبل أن نفصل مظاهر هذه الواقعية ، من المهم أن نشير إلى أصلين يتعلقان بطبيعة الدين الإسلامي كان لهما أثر بين في صفة الواقعية التي اتصف بها الفكر الكلامي من حيث إنه فكر استحدث للحفاظ على أصول هذا الدين وهي الأصول العقدية التي تتفرع عنها سائر فروع الأحكام و التعاليم الأخرى .


الأول هو الترابط الشامل في الدين الإسلامي بين حقيقة العقدية وبين جميع مظاهر السلوك الفردي و الاجتماعي ، وهو ترابط يجعل هذه المظاهر لا تعدو أن تكون وجهاً علمياً لحقيقة‌ العقيدة‌، حتى إن كثيراً من المسلمين اعتبروا تعطيل السلوك متمثلاً فيما عرف بارتكاب الكبائر ناقضاً لأصل الإيمان بالعقيدة ، مخرجاً من الدين أساساً . وهذه الطبيعة للصلة بين العقيدة وبين السلوك تجعل النظر لمعالجة السلوك من حيث انحرافه عن تعاليم الوحي يمتد إلى النظر في أصله العقدي ،‌وهو ما يؤدي بل قد أدى بالفعل إلى أن كثيراً من القضايا العقدية التي عالجها الفكر الكلامي كان منطلقها واقع السلوك في المجتمع الإسلامي كما سنبينه بعد حين مما كان به مدخل كبير في اتصاف هذا الفكر بالواقعية .


والثاني وضوح العقيدة الإسلامية وبساطتها مما لم يستلزم قيام فكر عقدي شرحي مثلما هو الأمر بالنسبة لعلم اللاهوت المسيحي الذي انطبع بطابع شرحي في سبيل تبرير تعقيدات العقيدة المسيحية وغموضها [1] ، وإنما قام علم الكلام الإسلامي لغاية دفاعية‌ إثباتاً للعقيدة الإسلامية ورد الشبه الواردة‌ عليها كما يعكس ذلك التعريف الذي تناقله العلماء ‌لهذا العلم من أنه « علم بأمور يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامه إياها بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها » [2] . وهذه الغاية الدفاعية استلزمت أن يكون الفكر الكلامي مترصدا لما يفرزه الواقع الثقافي مما فيه مجانبة‌ للعقيدة الإسلامية فيكون مدافعا له ، وهو ما يجعله فكرا متصلا بالواقع الجاري ، فانطبع بصفة‌ الواقعية في مناهضة التحديات الخارجية ،‌كما انطبع بالواقعية في معالجة المنحرف عن الدين ،‌الناجم في المجتمع الإسلامي كما ذكرناه آنفا . وإنه ليمكن تبين واقعية ‌الفكر الكلامي في المظاهر التالية على وجه الخصوص .


1- واقعية النشأة والتطور :


ظهر الفكر الكلامي كلون متميز متقوم بالاحتجاج للعقيدة أوائل القرن الثاني على يد المعتزلة ، وإن كان المطارحة العقلية في مسائل ذات صبغة عقدية‌ ظهرت قبل ذلك بنصف قرن ، حينما وقع التداول في « مرتكب الكبيرة » ، وفي « القدر » مما يمكن أن يعتبر إرهاصا مبكرا للفكر الكلامي .


ولم تكن هذه النشأة دلا استجابة لضرورات واقعية ملحة تمثلت في مشكلات سياسية واجتماعية نجمت في حياة المسلمين ، وباتت تهدد باستفحالها المطرد البناء‌ الديني الذي قام عليه المجتمع الإسلامي ،‌كما تمثل تفي تحديات دينية وفلسفية من أهل الأديان والفلسفات القديمة باتت تروج بين المسلمين وتهدد بنية العقيدة الإسلامية . فهذه المشكلات والتحديات دفعت الفكر الإسلامي في سبيل الدفاع عن مرجعيته العقدية إلي أن يتجه إلي معالجتها معالجة كلامية ، فكانت نشأة علم الكلام على يد المعتزلة بمنزلة ‌الاستجابة لتحديات ناجمة م صميم واقع المسلمين .


وإذا كنا سنتعرض بعد حين إلي شرح أمثلة للتناسب بين القضايا الكلامية وبين منابتها الواقعية ، فإننا في هذا الموطن نود أن ندعم واقعية النشأة‌ بحادثة‌ لها دلالة عميقة في هذا الشأن ، وهي الحادثة التي تناقلتها كتب الفرق الإسلامية على أنها تمثل المنطلق الأول لنشأة فرقة المعتزلة . وإذا كنا نعتبر أن الجذور الأساسية لنشأة‌ هذه الفرقة ‌تضرب بأسبابها إلى ما هو أعمق من هذه الحادثة [3] ، إلا أنه يمكن حسبانها النقطة الأخيرة التي لخصت تلك الأسباب الماضية ، و أفاضت الكأس ، فأفرزت تياراً فكرياً متميزاً هو التيار الاعتزالي الذي يمثل نشأة‌ علم الكلام . ومن ثمة اعتبرناها ذات دلالة ‌عميقة في هذه النشأة من حيث صلتها بالواقع .


وهذه الحادثة كما رواها الشهرستاني هي أنه : « دخل واحد على الحسن البصري فقال له : يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة‌، وهم و عيدية الخوارج . وجماعة يرجئوهن أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضرم الإيمان …. وهم مرجئة الأمة . فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً ؟ فتفكير الحسن في ذلك ،‌وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة‌ مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ،‌لا مؤمن ولا كافر . ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن . فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسمي هو وأصحابه معتزلة » [4] .


ويبدو من هذه الادث‌ أن نشوء المعتزل وهو نفسه نشوء الفكر الكلامي كان بسبب حل مشكلة ‌عملية تتعلق بتحديد حقيقة الإيمان ، وتعيين منزلة ‌مرتكب الكبيرة‌ منه ،‌ وقد كان هذا الأمر منشأ لفتنة كبيرة في المجتمع الإسلامي اتخذت لها وجهين : التذرع بالإرجاء في إتيان الآثام والمعاضي حيث لا تضرما الإيمان معصية ، والتذرع بتكفير المذنبين وإعمال القبل فيهم كما فعل الأزارقة ‌من الخوارج . وقد ربط البغدادي بين هذا الواقع و بين خروج و اصل بن عطاء بقوله بالمنزلة بين المنزلتين ربطاً‌ سببياً حيث يقول : « فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة ‌و الأهواز و اختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجون الخمسة ‌التي ذكرناها خرج و اصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر ، وجعل مالفسق منزلة بينمنزلتي الكفر و الإيمان » [5] . وبذلك يتأكد أن ظهور علم الكلام متمثلاً في الاعتزال كان معالجة تنظيرية عقدية ‌لمشاكل واقعية سياسية‌ و اجتماعية [6] .


وكما كان الفكر الكلامي واقعياً‌ في نشأته كان أيضاً واقعياً في تطوره .


فقد كان تناميه في الموضوع وفي المنهج محكوماً بمقتضيات الأحوال الاجتماعية و الثقافية‌ ، كما كان ترتيب مسائلة في الظهور بحسب ذلك أيضاً ،‌وهو ما تعكسه الكتب العقدية الأولى التي وصلتنا رغم أنها تعود إلى القرن الثالث مثل مؤلفات الأشعري و الماتريدي ،‌ فقد كانت المسائل تعرض فيها عرضا أقرب إلى نسقها التاريخي ، وليس الترتيب الذي نجده في الكتب المتأخرة بعد القرن الخامس إلا صنعة عقلية منطقية لنظم المحصول الكلامي في سياق مدرسي .


وإذا أردنا التمثيل لذلك فإننا نجد أول المسائل الكلامية ظهوراً‌ هي تلك المسائل ذات الصلة الوطيدة بالواقع الاجتماعي . وعلى رأس هذه المسائل مسألتا الفعل الإنساني و مرتكب الكبيرة ، فقد كانت لهما جذور في أحداث الفتنة منتصف القرن الأول ، ثم ال البحث فيهما إلى‌ التنظير العقدي أواخر القرن من قبل القدرية و المرجئة و الخوارج لتصبحا النواة الأولى في الفكر الكلامي لدى المعتزلة .


و مسألة الألوهية‌ المتقومة بما عرف بقضية « الذات و الصفات‌‌ » لم ينشأ البحث فيها إلا في القرن الثاني حينما طرحها واصل بن عطاء ‌طرحاً غير نضيج كما وصفه الشهرستاني ، وإنما أصبحت مسألة مهمة في المداولة مع أواخر القرن الثاني مع إبراهيم النظام وأبي الهذيل العلاف المعتزليين . وكان نشوؤها متأخراً نسبياً‌ بسب أن القرن الأول لم يظهر فيه التحدي لعقيدة الألوهية في المنظور الإسلامي مثلما ظهر في القرن الثاني متمثلاً في عمل اليهود على نشر تجسيمهم ، والنصاري على إشاعة تثليثهم ، والمجوس على تسريب ثنائيتهم .


وقد كانت قضية النبوة أكثر تأخرا في ظهورها قضية كلامية‌؛ وذلك لأن التحدي الوارد فيها إنما جاء من أصحاب ديانات الهند في الأكثر ،‌وخاصة السمنية والبراهمية . ولم يكن لهذه الأديان رواج ظاهر بالبلاد الإسلامية إلا أواخر القرن الثاني ؛ إذ إن « يحيى بن خالد البرمكي { ت 190 هـ } بعث برجل إلي الهند ليأتيه بعقاقير موجودة ببلادهم ، وأن يكتب له أديانهم في كتاب ، فكتب له هذا الكتاب » [7] ، ولذلك فإن القرن الثالث شهد البحث المستفيض في قضية النبوة من قبل المتكلمين دفعا لما روجه منكر والنبوة وخاصة منهم ابن الروندي ( ت 298 هـ ) وأبو بكر الرازي ( 311 هـ ) .


والمسائل الطبيعية التي أصبحت جزءا من الفكر الكلامي لم ينشأ البحث فيها إلا حينما تفشت الفلسفة اليونانية في المجال الثقافي الإسلامي من قبل الفلاسفة الإسلاميين وخاصة منهم الفارابي ( ت 339 هـ ) ، فحينئذ أصبح علماء العقيدة يبحثون المسائل الطبيعية لاستخدامها مقدمات في إثبات العقيدة ردا على المقولات الفلسفية اليونانية ‌المخالفة للعقيدة الإسلامية . وهكذا يبدو أن الفكر الكلامي كان ينمو ويتطور بالمعالجة المستجدة لما يطرأ من مشكلات واقعية بتنظير عقدي .ولم يكن متولدا من فكر فلسفي مجرد .


2- واقعية الموضوع :‌


نعني بها أن الموضوعات التي بحثها الفكر الكلامي كانت موضوعات ذات صلة متينة بما يجري في واقع الحياة الإسلامية . وليس شأنها في ذلك شأن الموضوعات الفلسفية التي كانت تطرح على المنهج اليوناني ،‌فليس من مسألة من المسائل الكلامية إلا تمثل رد فعل دفاعيا على حادثة ناشبة في الحياة الاجتماعية تخل بأغراض الدين فيها ، أو مقولة طارئة من أهل المذاهب والأديان تنال بصفة مباشرة من العقيدة الإسلامية‌، ولا يند عن ذلك ما يبدو لنا اليوم من مسائل موغلة‌ في التجريد لا تمت إلي الواقع بصلة .


ول أردنا تأييد ذلك ببعض الشواهد من المسائل الكلامية التي تبدو أكثر تجريدا من غيرها على سبيل المثال أن قضية الفعل الإنساني بين الحرية والجبرية قد أصبحت قضية كلامية‌ لما تفشى في المجتمع الإسلامي أواخر القرن الأول التعلل بالقدر المقدور في إتيان المعاصي واقتراف الآثام من قبل كثير من المتحللين من قيود الشريعة ، وهو ما جاء يشكوه أحد المخلصين من المسلمين لعبد الله بن مر قائلا : « ظهر في زماننا رجال يزنون ، ويسرقون ، ويشربون لخمر التي حرم الله ، ثم يحتجون علينا ويقولون : كان ذلك في علم الله » [8] . وكذلك لما أصبح بعض حكام بني أمية يتعللون بالقدر في تبرير ظلمهم وبغيهم على الناس ، مثلما ذكر من أنه لما قتل عمرو بن سعيد بن العاص على عهد عبد الملك بن مروان طرحت رأسه من أعلى القصر بين يدي جمع من أصحابه كانوا يترقبونه ، وقال الذي طرحها للمترقبين : إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ [9] لمجعالجتها مسألة « الفعل الإنساني » متمثلة في القول بحرية الإنسان في فعله ومسؤوليته عليه ، وهو ما ابتدأه القدرية‌ الأوائل : معبد الجهني ،‌وغيلان الدمشقي ،‌ثم طوره المعتزلة فأصبح أصلا من أصولهم الخمسة سموه بأصل العدل .


ولو انتقلنا إلي قضيتي الذات والصفات ،‌وخلق القرآن ، لوجدنا أنهما على ما يبدو في الظاهر من افتقادهما للمبرر الواقعي قد كان البحث فيهما ردا على محاولات مسيحية ومجوسية كانت غايتها التشويش على التوحيد الإسلامي الخالص ، وجره إلي ضرب من التعددية التي قد تؤول به بمرور الزمن إلي عقيدة تعدد الآلهة‌ .


فقد كان المسيحيون يثبتون لله الأقانيم الثلاثة ، وهي صفات الوجود والحياة والعلم ،‌التي تجسدت فأصبحت آلهة‌ ثلاثة : الأب والابن والروح القدس . وكانوا يجادلون بهذه المقولة في المجتمع الإسلامي ،‌يرومون منها تحريف التوحيد إلي تثليت بتجسيد الصفات الإلهية ، وهو ما حدا بالمعتزلة خوفا من هذا الخطر إلي القول بأن صفات الله هي عين ذاته وليست زائدة‌ عنها ، قطعا في ذلك لإمكانية أن تتجسد آلهة كما يريد المسيحيون ،‌ومن ثمة كان مبحث الذات والصفات .


وفي نفس هذا السياق أيضا كان المسيحيون يشجعون القول بقدم القرآن كلام الله لغاية الميل بعقيدة التوحيد إلي نوع من تجسد كلام الله في مظهر مادي كما تجسدت كلمة الله في المسيح . وقد ذكر ابن النديم في هذا أن العباس البغوي قال :‌« دخلنا على قثيون النصراني ،‌وكان في دار الروم بالجانب الغربي ،‌فجرى الحديث إلي أن سألته عن ابن كلاب ، فقال : رحم الله عبد الله ،‌كان يجيئني فيجلس إلي تلك الزاوية ، وعني أخذ هذا القول { إن كلام الله هو الله } ،‌ولو عاش لنصرنا المسلمين » [10] . وبسبب خوف المعتزلة من أن يؤول القرآن إلي إله بصفة القدم طرحوا بشدة لا تخلو من المبالغة القول بخلق القرآن باعتبار أن ذلك القول يعصم من كل تعدد في هذا المجال . وقد كان المأمون وهو المعتزلي يكتب إلي عماله منبها إلي هذا الأمر حيث جاء في إحدى رسائله التي حررها وزيره أحمد بن أبي دؤاد :‌« ومما بينه أمير المؤمنين بوريته ،‌وطالعه بفكره ، فتبين عظيم خطره ، ما ينال المسلمون من القول في القرآن … واشتباهه على كثير منهم حتى حسن عندهم وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقا … وضاهوا به قول النصارى في ادعائهم في عيسى ابن مريم أنه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله » [11] .


وهكذا يبدو أن موضوعات الفكر الكلامي مهما بدت في ظاهرها عقلية مجردة فإنها في حقيقة نشأتها ، وفي سيرورتها طيلة قرون ثلاثة على الأقل كانت تعالج واقعية حية تروم حلها على أساس عقدي يقطع النظر عما حف بتلك المعالجة من ملابسات ،‌وعما شابها أحيانا من مغالاة وشطط .


3- واقعية المنهج :


كما كان الفكر الكلامي واقعيا في نشأته وتطوره وموضوعه ،‌كان أيضا واقعيا في منهجه ، فقد كان يستعمل الأساليب الاستدلالية التي تناسب التحديات المطروحة ، ويطور من تلك الأساليب بحسب تطور التحديات .


و قد كان الاستدلال النقلي أو الأساليب التي استعملت في الفكر الكلامي حيث يتخذ من نصوص القرآن و الحديث شواهد على الآراء العقدية في الحوار الدائر بين الفرق الإسلامية ، تأصيلاً لهذه الآراء في أصول الوحي بطريق التأويل ، أو رد الشواهد المخالفة لها بطريق النقد لما هو ضعيف منها أو منحول . وقد ظل هذا الاستدلال النقلي مواكباً للفكر الكلامي طيلة مسيرته في الحوار الداخلي بين المسلمين [12] .


ولما نجمت تحديات أهل الأديان و المذاهب في القرن الثاني نشأ لدى المتكلمين الأسلوب العقلي في الاحتجاج ؛ ذلك أن هذه التحديات كان أهلها من النصاري و المجوس متمرسين بالفلسفة اليونانية ومنطقها الصوري ،‌فاستخدموا آليات هذه الفلسة للاحتجاج نصرةً لمعتقداتهم و نقداً للعقيدة الإسلامية ، ولذلك بادر المعتزلة باستعمال الحجة العقلية في مقابلة هذا التحدي ،وأصبح هذا الأسلوب هو الأسلوب الغالب على‌ الفكر الكلامي .


ولما استفحلت الفلسفة‌ اليونانية في الساحة الإسلامية في القرن الثالث و انتشرت مقولاتها مختلطاً فيها المسائل الميتافيزيقية بالمسائل الطبيعية في تفاعل تناصري بين النوعين ، طور الفكر الكلامي من منهجه فأدخل في دائرة اهتمامه المسائل الفلسفية‌ و الطبيعية‌مثل قضايا العلة‌و المعلول و الجوهر و العرض و الجوهر الفرد و أمثالها ، واستخدمها مقدمات في الاستدلال على‌ العقيدة الإسلامية ورد الشبه الواردة عليها ، وأصبح ذلك سنة ماضية‌في هذا الفكر منذ أبي الهذيل العلاف ( ت 235 هـ ) كما يبدو في مدونات علم الكلام بعد القرن الثالث [13] .


لقد ظلت هذه الواقعية‌ الحية‌ صفة للفكر الكلامي يعالج من خلالها حادثات المشاكل الاجتماعية و الثقافية ‌في المجتمع الإسلامي . ويحقق في ذلك نتائج هامة في المحافظة على‌ المرجعية ‌العقدية للحياة الإسلامية ، حتى إنه لولا هذا الفكر بواقعيته لكان مصير العقيدة الإسلامية عرضة لانحرافات جمة ، نظراً إلى شدة الهجمة التي تعرضت لها جهرة وخفاء من قبل الأديان و الثقافات القديمة .


ولكن الانحدار العام الذي أصاب الفكر الإسلامي أصاب أيضاً الفكر الكلامي ، فأصبح ينزع منزع التجريد الذي ينشغل به عن مجريات الوقائع المتعلقة بالأصول العقدي بصفة مباشرة‌ أو غير مباشرة بمجادلات نظري ‌في المسائل القديمة ،‌واحتجاجات تتعلق بتحديات ماضية ، وميل إلى التأليف و الترتيب للآراء و المقولات السابقة في نسق منطقي مدرسي ، حتى إنه ليمكن القول إن الصلة كادت تفقد بين هذا الفكر و بين واقع المسلمين الذي لم يخل في أي عصر من تحديات داخلية و خارجية تهدد مرجعيته العقدية ‌على خلاف ما توهمه ابن خلدون في نقده للفكر الكلامي حينما قال : « علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على‌ طالب العلم ؛ إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا ، و الأيمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا ، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا . وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته و إطلاقه »‌ [14] .


وإنه لمن العجيب من ابن خلدون وهو المؤرخ للعلوم في مقدمته أن يحكم على دور الفكر الكلامي بالانتهاء من خلال ما آل إليه من وضع الجمود ، دون ن يتنبه إلى أن الواقع الجاري يستلزم إحياء ذلك الفكر ليستأنف المراجعة الحقيقية بالمناهج الملائمة‌ لمستجدات التحديات ،‌ولم يكن العصر الذي عاش فيه خلواً منها ، بل كان المد المسيحي مستفحلاً بالأندلس ، و المد الصوفي الباطني مستفحلاً‌ بالمشرق ،‌إضافة إلى الأمراض الداخلية التي كانت تعاني منها الأمة الإسلامية ، التي تمت بصلة قوية لأصول العقيدة . مثل التواكل و بعض مظاهر الشرك و أمثالها من الأمراض .


i i- نحو بعث للواقعية‌ الكلامية :


إن السيرة التي عرضناها آنفاً للفكر الكلامي في واقعيته الفاعلة في حل المشكلات المسلمين يمكن الاستفادة منها أيما استفادة في بعث واقعية جديدة في هذا الفكر يستأنف بها دوره الحيوي في علاج مشكلات المسلمين الراهنة ذات الصلة بالمرجعية العقدية . و الحقيقة أن محاولات جادة في هذا الخصوص ظهرت بوادرها منذ عهد الإمام محمد عبده حينما كتب في العقيدة رسالته الصغيرة « رسالة التوحيد » بمنهج جديد فيه بداية تخلص من منهج الجمود في عهود الانحطاط ، ثم توالت بعد ذلك لمحاولات في هذ الشأن كما تبدو و في كتابات الإمام حسن البنا ، وأبي الأعلى المودودي ، ومحمد المبارك ، ومالك بن نبي ، ومحمد باقر الصدر ، ووحيد الدين خان ، حتى توفرت بكتابات هؤلاء و أمثالهم جملة ‌صالحة تنير السبيل لمنهج كلامي جديد يتصف بالواقعية ، إلا أن الأمر يحتاج مع هذه البوادر العملية‌ إلى رسم ملامح لخطة نظرية لبعث واقعية الفكر الكلامي تستهدي بها الجهود العملية المبذولة من قبل المفكرين الإسلاميين في هذا المجال .


ومن البين بذاته أن رسم خطة منهجية عملية للفكر الكلامي لمعالجة مشكلات المسلمين الراهنة يستلزم أول ما يستلزم الوعي الدقيق بالمشكلات الراهنة التي يراد من الفكر الكلامي معالجتها، والوعي الدقيق بطبيعة العقلية السائدة لمعرف مداخلها التي يمكن منها التأثير للاصلاح والتقويم .وعلى أساس هذا الوعي بالواقع تقترح خطة منهجية للفكر الكلامي تكون مواتية تكون مواتية ‌لذلك الواقع مؤثرة‌ فيه . وهو ما سنحاول القيام به تالياً‌ :


1- المشاكل العقدية في الواقع الإسلامي :


المطلوب من الفكر العقدي أن يعالج المشاكل التي تحدث في الأمة متعلقة بالأسس العقدية العامة دون الفروع الجزئية من التطبيقات السلوكية التي تهتم بها ألوان أخرى من الفكر ، ومن ثمة تكون مهمته ذات طابع أصولي كلي . وذلك هو المبرر الذي يدرج به ضمن الفكر الفلسفي بالمعنى‌ العام. و المتأمل في الوضع العقدي الراهن للمسلمين يجد أن المشاكل التي تنتابه ترجع في معرض تعددها و تنوعها إلى مشكلتين رئيسيتين تولدتا من عهد الانحطاط الذي تجمد فيه الفكر الإسلامي و انفصل عن مجريات الواقع ، ومن التحدي الثقافي و الحضاري الغربي الذي واجه الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمن . أما المشكلة ‌الأولى فهي الانفصال أو شبه الانفصال الذي وقع بين المرجعية العقدية وبين المظاهر التطبيقية ‌في مختلف وجوه الحياة‌ . فالدين الإسلامي هو عقيدة تتفرع عنها شريعة تشمل كل أوجه التصرف الإنساني بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك متفرعاً من أصل من أصول العقيدة التي تستجمعها حقائق أساسية ثلاث : الألوهية ، و النبوة ، و البعث ،‌ بحيث يكون كل منشط من مناشط المسلم ، وكل اجتهاد من اجتهاداته في شؤون الحياة‌ مستمداً‌ من أصول العقيدة ، جارياً بحسب مقتضياتها .


ولكن مجريات الواقع الإسلامي خلال عهد التراجع الحضاري أفضت إلى تراخ في الصلة بين أصول العقيدة و بين مناشط الحياة‌ المختلفة ،‌قلم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في تلقائية ووضوح في مرجعيتها العقدية‌. وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية غايتها في ذاتها ، و ضعف الشعور بغايتها السلوكية . وقد أدى‌ هذا الوضع إلى ما يشبه الانفصال بين الاجتهادات الفرعية و بين مرجعيتها العقدية‌. وخذ إليك مثلاً‌ في ذلك حقيقة‌ التوحيد التي كانت في عهود الازدهار الإسلامي تطبع حياة المسلمين كلها تشريعاً وآداباً وفنوناً و عمارة‌، ثم أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين إلى بعد واحد تجريدي هو وحدانية الذات الإلهية ، وتقلص أثرها في مناحي الحياة‌ العملية .


وقد استفحل هذا الوضع لما انفتح المسلمون على الحضارة‌ الغربية بمنجزاتها الباهرة ، وجعلوا يقتبسون منها و يقلدون فيها خبط عشواء على غير هدى من مرجعية ‌عقدية‌ ترشد ذلك الاقتباس ، و تجعله في إطار من الدين . وقد ظهر ذلك فيما اقتبس المسلمون من آداب و فنون و علوم إنسانية و طرز عمرانية‌ ،‌حتى‌ إنه ليمكن القول إن الواقع الإسلامي اليوم يجري على غير هدى عقدي ، و يصدر على غير قاعدة إيديولوجية إسلامية واضحة .


وأما المشكلة‌ الثانية فهي الغزو الايديولوجي الغربي الذي استهدف منذ زمن العقيدة الإسلامية أساساً ، ومظاهرها السلوكية في مختلف مظاهر الحياة . وقد كان هذا الغزو الايدويولوجي شبيهاً‌ بالغزو الايديولوجي الذي حدث في القرن الثاني من قبل أهل المذاهب و الأديان إلا أنه صادف من المسلمين ضعفاً حضارياً و فكرياً ، واستعدى عليهم بمنجزات العلم ،‌وقوة الحضارة فإذا به غزو شامل للمنظومة الإسلامية كلها ، تسخر فيه الفلسفة و العلم والإعلام جميعاً ، بل و التكنولوجيا المادية‌ أيضا .


و قد أحدث هذا الغزو الايديولوجي أثره البين في حياة‌ المسلمين ليس على مستوى السلوك فحسب ، ولكن على مستوى الاعتقاد أيضاً ، وهو ما يبدو في المذهبية‌ المادية التي تسربت إلى الشباب الإسلامي ، وفي العلماني التي أصبحت مذهباً‌ لكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي ، وهي التي تسيطر على الحظوظ التربوية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية للأمة ، فانطبعت هذه المظاهر كلها بطابع الايديولوجيا الغربية إن قليلاً أو كثيراً .


و بين هاتين المشكلتين تضافر وتآزر بحيث يهيّى ء ضعف الرابطة بين الحياة العملية للمسلمين و بين مرجعيتهم العقدية للتأثير الايديولوجي الغربي ، كما أن هذا التأثير الايديولوجي يوسع الشقة بين تلك الحياة و مرجعيتها العقدية ‌سواء على المستوى الفكري الثقافي أو على المستوى السلوكي العام ،فإذا بواقع المسلمين يجري على غير ايديولوجية إسلامية بينة ، بل إن تلك الايديولوجية ‌في صياغتها الفلسفية ‌التي تستطيع بها أن تواجه التحدي ، و تهدي الحياة تكاد تكون غائبة .


إما البنية‌ الفكرية الثقافية السائدة اليوم بين الناس فقد تغيرت كثيراً بالنسبة لتلك التي كانت سائدة في عهود ماضية ، حيث أحدثت الثورة العلمية الصناعية ‌انقلاباً ثقافياً يكاد يكون عالمياً ؛ ذلك أن العقلية الصورية التي كانت سائدة قديماً حلت محلها منذ عهد ديكارت عقليه علمية تخضع في الفهم و الاقتناع للبرهان المبني على معطيات العلوم الثابتة رياضية و طبيعية . كما اكتسبت العقلية‌ أيضاً صفة العملية‌، فأصبحت تنفتح في الفهم و القبول للخطاب الذي ينطلق من معالجة المشاكل العملية اليومية‌ أكثر من انفتاحها للخطاب الفلسفي المجرد . لقد أصبحت هذه الخصائص سائدة في العالم الغربي ، وهي في طريق السيادة في العالم الإسلامي الذي كانت له خصائص في عهد ازدهاره الفكري في القرون الأولى بتكوين من القرآن الكريم الذي يجعل النظر في الكون مدخلاً للاقتناع العقلي .


و إنما أبرزنا هذه الخصائص في بنية‌ العقلية الحديثة إشارة‌ إلى أن المنهج الذي استخدمه الفكر الكلامي بعد القرن الخامس أصبح منهجاً لا يلائم عقلية اليوم ، إذ هو منهج مبني على المنطق الصوري في أساسه ، وهو منطق لا يهتم بالواقع ،‌و إنما ترتبط الحقيقة فيه بتناسق المعطيات المجردة فيما بينها و إن خالفت الواقع . وما زالت آثار هذا المنهج باقية‌ عند شق من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي إما بصفته الأصلية أو بصفة‌ جديدة‌ حافظ فيها على الطابع التجريدي العام ،‌و يكاد يكون الخطاب الفكري الإسلامي اليوم محكوماً بهذه التجريدية ‌في الخطاب .


2 – الأسس الواقعية للفكر العقدي الحديث :


إن المشاكل الايديولوجية للأمة الإسلامي ‌التي ألمحنا إليها آنفاً بصورة موجزة تتطلب لمعالجتها فكراً عقدياً ذا خصائص واقعية تتناسب معها استهداء في ذلك بالفكر الكلامي في طور نضجه وحيويته حينما كان يجابه الواقع العقدي الثقافي بما يناسبه من الأساليب . ويمكن أن تكون الخصائص المطلوبة لمعالجة واقع اليوم متركزة في محورين أساسين يستقطب كل منهما جملة من الفروع المتعلقة بالفكر العقدي .وهما :‌واقعية الموضوع ،‌وواقعية المنهج .


( أ ) واقعية‌ الموضوع :


نعني بها أن يكون الفكر العقدي الحديث يطرح القضايا و الموضوعات التي تمثل مشاكل حقيقية تعيشها الأمة على المستوى الايديولوجي ، و أن يكون ترتيبها في الطرح من حيث الأهمية ‌بحسب أهميتها الواقعية من حيث حجمها في الاشكال وإلحاحها فيه .


إن البنية‌ المأثورة‌ في الفكر الكلامي تشتمل على مقدمات و ثلاثة محاور أساسية . أما المقدمات فهي مسائل فلسفية و طبيعية ، تستخدم في الاستدلال على المسائل العقدية‌ . و أما المحاور الثلاثة فهي الألوهية و النبوة و البعث ،‌و تحت كل واحد منها فروع تتعلق به . و في بعض مدونات علم الكلام تقسم هذه المواضيع إلى محورين : إلهيات وسمعيات ، إضافة إلى المقدمات الفلسفية و الطبيعية .


وقد ألمعنا سابقاً إلى أن هذه البنية‌ لعلم الكلام تشكلت موضوعاتها بحسب الواقع القديم الذي يعود إلى ما قبل القرن الخامل و أن ترتيبها أفرزته عقلية مدرسية لا عقلية واقعية ، وهي لذلك لا تتلاءم بالتأكيد مع متطلبات الواقع الراهن لا من حيث طبيعة المسائل ولا من حيث ترتيبها .


فمن حيث القضايا و المسائل ثمة ثابت لا يقوم الفكر العقدي بدونها ،‌وهي أساسيات العقيدة الإسلامية فيما تقوم عليه من إيمان بالله ورسله و كتبه و اليوم الآخر و القدر الإلهي خيره وشره . فهذه ستظل باقية ركناً ثابتاً في الفكر العقدي على مر العصور ؛ لأنها من جهة تمثل ركائز الإيديولوجية الإسلامية ‌التي تتفرع منها كل وجوه المنظومة‌ الفكرية و السلوكية ، وهي من جهة ثانية ‌عرضة‌ للتحدي الايديولوجي في كل زمان مما يجعل الدفاع عنها أمراً سارياً بسريان ذلك التحدي .


إلا أن المنظومة المأثورة‌ في الفكر العقدي اشتملت على العديد من المسائل و القضايا ذات الصلة بالعقيدة الإسلامي‌ أفرزتها ظروف واقعية انقرضت بانقضاء زمنها ، فلم يبق اليوم مبرر لبحثها في الفكر العقدي الحديث ، إلا أن يكون ذلك باعتبارها جزء‌ من تاريخ الفكر الإسلامي ، فقيمة البحث فيها قيمة تاريخية و ليست قيمة واقعية تسهم في حل المشاكل الراهنة . ومن الأمثلة التي يمكن أن نذكرها في هذا الصدد قضية الذات الإلهية في علاقتها بالصفات ، وقضي خلق القرآن ، وتأويل الصفات الخبرية ، والمفاضلة بين الأنبياء و بين الملائكة ،والمعاد هل هو جسماني أو روحاني ،‌ و أشباهها من المسائل التي لا تمثل اليوم إشكالات عقدية و لا عملية في حياة‌ المسلمين ،ولكنك تجد بعض الطوائف الإسلامية ما زالت تتشبث ببعضها متخذه منها محوراً للجدل ومنشطاً للفكر العقدي يلهي عن المشاكل الحقيقة التي ترهق الواقع الإسلامي .


و في مقابل هذه القضايا التي يقتضي التي يقتضي الواقع الجديد أن يطرح من مجال الاهتمام الآني فإن قضايا كثيرة لم تكن مطروحة من قبل في الفكر العقدي الموروث ، ويفرض الوضع الراهن أن تطرح مجدداً ضمن دائرة المنظومة العقدية الإسلامية فيتناولها الفكر العقدي بالبحث ، وذلك يقتضي توسعة في مجال العقيدة بالنسبة لما استقر عليه الفهم في علم الكلام في عهوده الأخيرة .


إن المفهوم الذي أصبح سائداً في موضوع العقيدة هو أن هذا الموضوع يشمل القضايا الصورية التي جاء بها الإسلام من حيث إن المسلم ملزم بأن يتحملها بالتصديق القلبي بها . أما ما يتحمله المسلم بالسلوك فإنه غير داخل في اهتمام الفكر العقدي ، وقد خلت منه مدونات علم الكلام في صورتها الأخيرة بصفة كلية‌ تقريباً . وهذا معناه أن القضايا العملية‌ للمسلمين غير داخلة في مجال البحث العقدي الذي تمحض للقضايا النظرية .


ولكن رغم هذا الفهم الذي ساد في الفكر العقدي المأثور فإننا نجد أيضاً في مفهوم بعض القدامى من المفكرين الإسلاميين من ذوي الصلة بهذا المجال نطاقاً لمواضيع علم العقيدة أرحب بكثير من النطاق الضيق الذي ساد ، بل إننا نجد منهم من وسع بحوثه العملية‌في العقيدة بما شمل القضايا ذات الخصوصية النظرية وقضايا أخرى ذات خصوصية عملية و أدرجها كلها في صعيد البحث العقدي و أجرى عليها نفس المقياس .


ومما يلفت الانتباه في هذا الصدد تعريف لعلم الكلام لم يورده أحد المتكلمين ، ولكن أحد الفلاسفة الإسلاميين وهو أبو نصر الفارابي ( ت339هـ)‌ في كتابه إحصاء العلوم إذ قال : « صناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان علي نصرة ‌الآراء و الأفعال المحدودة ‌التي صرح بها واضع الملة‌ و تزييف كل ما خالفها بالأقاويل » [15] . وهو يقصد بالآراء مسائل العقيدة النظرية ، ويقصد بالأفعال مسائل الشريعة العملية ، فالفكر الكلامي يشمل عند الفارابي النصرة الاستدلالية لكل من القضايا التي جاء بها الوحي نظرية أو عملية ، في حين اقتصر الفهم السائد على القضايا النظرية .


و عندما نعود دلى بواكير ما وصلنا من مدونات علم الكلام و مقالات الفرق فإننا نجد في بعضها مصداقاً لهذا التعميم في موضوع علم الكلام كما حدده الفارابي ، حيث نجد بحوثاً في العديد من المسائل الشرعية العملية إلى جانب المسائل العقدية النظرية لا من وجه فقهي فرعي ، ولكن من وجه أصولي عقدي ، وخد إليك في ذلك مثلاً كتاب « مقالات الاسلاميين » للإمام الأشعري في الجزء‌ الذي رتبه على المقالات خاصة ، فقد بحث فيه بنظر أصولي كما هائلاً من القضايا النظرية و العملية .


ومن هذه السابقة في توسيع موضوع الفكر العقدي يمكن أن نتخذ مستأنساً لتوسيعه اليوم حتى يغطي الحاجة الايديولوجية للمسلمين ،فيصبح من مهام العقدي الاستدلال على قضايا تشريعية عملية كالانتصار لمعرفة الربا ببيان ما يؤدي إليه من الدمار الاقتصادي ، و لحرمة الخمر و الزنا ببيان ما ينجر عنهما من الدمار الصحي و الاجتماعي ، و كالانتصار لحلية التعدد في الزواج ومقدرات الشريعة ‌في الحدود ببيان الفوائد التي تعود بها على الفرد و المجتمع ، و كذلك الأمر في كل القضايا التشريعية الأساسية من حيث نصرتها و الاستدلال عليها لا من حيث تفاصيلها الفقهية . و يستطيع الفكر العقدي الحديث بهذا الاهتمام أن يطاول فلسفة القانون الوضعي التي تعتبر رابطة بين القوانين الوضعية في فصولها التطبيقية و بين خلفياتها الايديولوجية ، و تبريراً‌ لها على‌ أساس تلك الخلفيات ، فهو يشبه أن يكون فلسفة تشريعية تؤصل القانون الشرعي في منطلقة العقدي.


ويتصل بهذا الاهتمام لنصرة التشريعات العملية الاهتمام بأصول الاجتهاد لصياغة الحلول الشرعية لمشاكل الحياة المستجدة ، فإن هذا الاجتهاد يحتاج إلى أن يؤصل على فقه بالواقع من جهة ، وعلى أساس من الالتزام بقواعد العقيدة الإسلامية من جهة أخرى تحرياً في ذلك كله‌ لما يحقق المصلحة للأمة ، وهو ما يتوقف على نظر استدلالي هدفه الجمع بين الأصول العقدية الإسلامية و بين كل الحلول التشريعية الاجتهادية‌ المتعلقة بالحياة العملية ، ضماناً في ذلك للالتزام بالمرجعية‌ العليا في كل تطور تنقلب فيه حياة‌ المسلين . و بهذا الاعتبار فإن مواضيع كانت تدريج سابقاً ضمن علم أصول الفقه قد تصبح من مشمولات الفكر العقدي الحديث .


ومن المواضيع المهمة التي يمكن أن تدرج في نطاق الفكر العقدي الحديث موضوع الإنسان من منظور كلي عام ،‌وهو الموضوع الذي يتناول بالبحث : مبدأ الإنسان ، وقيمته الذاتية ،‌ومنزلته في الكون ،‌وغاية‌ وجوده ، ومصيره . فهذه المسائل لم تنل الاهتمام في الفكر الكلامي الموروث إلا أن تكون جزئيات متفرقة في ثنايا موضوعات أخرى [16] . وهي الموروث إلا أن تكون أساسيا في التأصيل العقدي ؛ وذلك بالنظر إلي ما يشكوه العالم الإسلامي من مظاهر عديدة ‌لامتهان الإنسان ، وإهانة كرامته ،‌وإهدار قيمته ، وبالنظر إلي ما تنقلب فيه حياة المسلمين على غير وعي بالمهمة التي من أجلها خلق الإنسان ، وعليه أن يسعى في تحقيقها ، وذلك إما غفلة عن التعاليم الإسلامية التي جاءت في ذلك ، أو انسياقا بفعل التأثير الفلسفي الغربي في هذا الخصوص .


ولا يخفي أن تأصيل إيدييولوجية واضحة في قضية الإنسان على أسس عقدية‌ إسلامية أمر بالغ الأهمية ، باعتبار أن كل التشريعات التي تصرف شؤون الحياة تتوقف في روحها وفي صياغها على مقتضيات تلك الايديولوجية ،‌فإذا لم تكن مؤصلة على أساس عقدي سليم جرت التشريعات على غير هدي من الدين ، وهذا ما دعا إلي أن أصبح مبحث الإنسان في الفلسفة الحديثة مبحثا مستقلا وأساسيا من بين مباحثها ، وعلى أساسه تنبني كل المنظومات المذهبية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وهو ما يؤكد ضرورة نشوء عقدي إسلامي في الإنسان يطاول مبحث الإنسان في الفلسفة ، وتتأسس عليه التشاريع العملية .


وإذا كانت القضايا العقدية النظرية : الألوهية والنبوة والبعث لا تفقد أهميتها في منظومة المواضيع العقدية الموسعة ، فإن المواضيع التي ذكرنا آنفا ينبغي أن تحتل موقعا متميزا في اهتمام الفكر العقدي الحديث ؛ وذلك لأنها تقوم بالدور المهم في حل المشكلة الايديولوجية بالنسبة للمسلمين ، كما تقوم بالدور المهم في الإقناع بالإسلام بالنسبة لغير المسلمين وللمتشككين من المسلمين .


أما دورها في حل المشكلة الايديولوجية فهو يتمثل كما أشرنا إليه في أنها تصل بين السلوك وبين العقيدة ، وتجعل الاجتهادات في تطوير حياة المسلمين مستندة إلي سند متين من أصول الدين ، فلا تتفرق بها السبل ، وإنما تكون صادرة في شتى مظاهرها عن وحدة إيديولوجية متقومة بعقيدة التوحيد الشاملة فتصبغ الحياة كلها بصبغتها ، ذلك ما تحققه فلسفة الشريعة التي تنصر التشريعات الإسلامية عقديا ، وتضمنه أصول الاجتهاد على الوجه الذي بيناه ، وتفضي إليه قضية الإنسان في بعدها القيمي والغائي والكوني ، إذ يقع في إطارها تأصيل العديد من القضايا المطروحة على الساحة الإسلامية والإنسانية عامة‌ تأصيلا عقديا ، مثل قضية مستقبل الإنسانية ، والسلام العالمي ،‌والتلوث البيئي وغيرها . وبصفة جملية فإن هذه المواضيع الجديدة في الفكر العقدي من شأنها أن توطد مرجعية عقدية ثابتة تصدر عنها كل تصرفات المسلمين ، وتحل في ضوئها كل مشاكلهم .


أما دورها في إقناع غير المسلمين بالإسلام ، وتبديد شبه المترددين من المسلمين فهو دور طبيعة البنية العقلية الحديثة المتصفة بالعلمية والعملية . فهذه العقلية لا تقتنع باستدلالات نظرية على وجود الله وصدق النبوة وحقانية البعث بقدر ما تقتنع باستدلالات علمية‌ وعملية واقعية على حرمة‌ الربا والخمر والخنزير وحقانية التشريع الأسري والجنائي الإسلامي ،‌فإذا كانت الاستدلالات على هذه القضايا مبنية على معطيات العلم الكوني والإحصائي والاجتماعي ، ومنطلقة من واقع المعاناة الإنسانية‌ في غياب هذه التشريعات بها باعتبارها تصلح حلولا للمعاناة الواقعية المتأتية‌ من النظام الربوي ،‌للإيمان بمصدر هذه التشريعات من نبوة وألوهية وما يقتضيانه من عقيدة البعث ، فيتحقق إذا بالاستدلال على القضايا العملية ما يعجز الاستدلال التجريدي عن تحقيقه من إيمان بأصول العقيدة . وإن المد الإسلامي الحديث في أوساط المثقفين من أهل الغرب تأتي في أكثره من هذا الباب الاستدلال النظري المجرد .


( ب ) واقعية المنهج :


نعني بها أن تكون الطريقة‌ التي تقدم بها الموضوعات العقدية المستصحبة و المستجدة طريقة مبينة على المعطيات الواقعية لعقليات المخاطبين ضماناً في ذلك ليكون الخطاب نافذاً إليهم ، مقنعاً ِلهم ، لا على أساس من أن الغاية‌ شأن المنهج الخطابي في المنطق اليوناني القديم ،‌ولكن على أساس أن الغاية هي الإقناع بالحق .


وقد أكرنا آنفا أن العقلية التي أصبحت سائدة هي العقلية‌ العلمية العملية ، أي العقلية التي تقتنع بالأسلوب الذي يستخدم معطيات العلم التجريبي ، والذي يستخدم أيضا معطيات الواقع الإنساني فيما يزخر به من تجارب نفسية واجتماعية‌،‌وفيما تنجم فيه من مشاغل ومشكلات ، وفيما يثمره التاريخ من العبر والعظات . فالواقع الكوني والواقع الإنساني هما المادة الصالحة لأن تتخذ منهما مقدمات استدلالية مقنعة للعقلية الراهنة .


وليس هذا المنهج بدعا في الثقافة الإسلامية ، بل هو منهج قديم فيها ، فالقرآن الكريم بني خطابه الإقناعي على أصول الواقع الكوني والإنساني . وهو ما يبدو في استخدام الآيات الكونية مقدمات في الاستدلال على حقائق العقيدة‌ ، واستخدام العبر التاريخية باعتبارها وقائع إنسانية‌ في الإقناع بما يبشر به من تعاليم بمصير الإنسان وغاية وجوده ،‌ والانطلاق من المصلحة العملية‌ للإنسان في حمله على التسليم بأسس العقيدة الإسلامية . [17] .


ويمكن أن نعتبر مما يندرج في هذا المنهج من جانبه العلمي ما أدخل في علم الكلام من مسائل طبيعية تمثل في الزمن القديم معطيات علمية ،‌حيث استخدمت هذه المعطيات في الاستدلال على مسائل العقيدة ، وذلك مثل مسائل الخلاء والملاء ،‌والجوهر الفرد ، والحركة ،‌والجوهر والعرض وما شابهها ،‌وإن يكن البحث فيها في ذلك الزمن يكتسي صبغة إيديولوجية إلا أن أصل استخدامها كمسائل طبيعية يشير إلي منهج علمي في الاستدلال على العقيدة يمكن استثماره في بعث المنهج الجديد .


ويقتضي هذا المنهج الواقعي في جانبه العلمي رصد نتائج العلم التجريبي في دائرته الكونية‌ ودائرته الإنسانية ،‌واستخلاص تلك الحقائق التي تنطوي على دلالة واضحة على مسائل العقيدة‌، ثم بناء أدلة عقلية منها على تلك المسائل ، ومن البين أن الحقائق العلمية بلغت من الثراء في العلم الحديث ما تكون به مصدرا لا ينفذ للاستدلال على حقائق العقيدة ، وهو مصدر متجدد بنمو الاكتشافات لقوانين العلوم ،‌ففي كل قانون جديد دليل جديد على تلك الحقائق ،‌وتبقى صياغته المنطقية للاستدلال والإقناع من مهمة الفكر العقدي . وهذا القول يصدق في حق المسائل العقدية النظرية ، كما يصدق في حق المسائل التشريعية العملية من جهة إثبات حقانيتها كما بيناه آنفا . وربما قيل إن قوانين العلم ليست قطعية كلها ، بل بعضها قابل للتعديل بين الحين والآخر ،‌فكيف تتخذ منها أدلة على حقائق ثابتة ؟ والجواب أن الاستدلال بما قد يثبت خطؤه لا ضير فيه بحسب قاعدة أن بطلان الدليل لا يؤذن المدلول ، وإنما يستأنف الاستدلال عليه بما هو أقوى وأثبت من حقائق العلم .


كما يقتضي هذا المنهج في جانبه الواقعي رصد مجريات الأحداث في واقع الإنسان من حيث ما يعانيه من الإحباط النفسي والاجتماعي والاقتصادي ، وما هو سائر إليه من مصائر مظلمة بسبب مناهج يتبعها في حياته ناشزة عن الهدي الديني في توجيه السلوك البشري ،‌و كذلك بيان الوجه المعاكس لها متمثلاً في المغانم الروحية و المادية ‌التي يثمرها ذلك الهدي ، و إبراز ذلك كله في استطلاعات ميدانية إحصائية‌، ثم صياغتها في استدلالات عقلية على حقانية‌ القانون الإسلامي و بطلان مناقضاته من القوانين الوضعية بما يبرز أن حلول المشاكل التي يعاني منها إنسان اليوم في المجال النفسي و الاجتماعي و الاقتصادي تمر عبر التشريع الإسلامي في أسسه الأصلية الثابتة .


و ليس من شأن هذا المنهج الواقعي الاقتصار على هذه الاستدلالات ذات الطابع الجزئي في استخدام حقائق العلم الكوني و مجريات الأوضاع الإنسانية ، بل من شأنه أيضاً أن يؤسس فلسفة توقيع لحقائق الدين المجردة ، على معنى أن يقوم الفكر العقدي الحديث بتأصيل قواعد تساعد في صياغة الحقائق الدينية المجردة صياغة تتقوم بمعطيات الواقع الجاري في حياة المسلمين حتى يتسنى بها تنزيل الدين تنزيلاً‌ زمنياً زمنياً‌ على هذا الواقع فيما يشبه العمل الذي يقوم به المهندسون المعماريون حينما يرسمون أمثلة عمرانية يصوغون فيها من مطلوبات الناس ما يقوم على أساس من القانون الرياضي و الفيزيائي في علم العمران ، وما يستجيب في نفس الآن لطبيعة الأرض التي يراد أن يقام عليها العمران .


إن حقائق الدين حقائق مجردة‌ و ثابتة ، وظروف الحياة‌ الواقعية منقلبة متغيرة‌، وهي في كل منقلباتها ينبغي أن تكون محققة لأغراض الدين المجردة ، ولا يكون تحقيق هذه الأغراض إلا بصياغة مشاريع عملية‌ من تلك الحقائق المجردة تتوجه بها الحياة‌ الواقعية وجهة دينية ، فيحقق الدين أغراضة في توجيه الحياة ، و الأدب المنهجي الذي تتم به تلك الصياغة هو مهمة الفكر العقدي ،‌ وهي مهمة لا يمكن أن تتم بغير الإلمام الوافي بواقع الإنسان في طبيعته و خفاياه و العوامل المؤثرة فيه ، و لذلك عددناها عنصراً من المنهجية‌ الواقعية المطلوبة من هذا الفكر في الزمن الراهن .


على أن المنهجية الواقعية التي نتحدث عنها لا تنفي أن يبقى‌ الفكر العقدي على صلة بالمنهجية الفلسفية العقلية المجردة‌؛ ذلك أن هذه المنهجية‌ لئن تراجعت اليوم لفائدة المنهجية الواقعية فإنها لم تنقطع ، وهو ما يبرر استعمالها في المجالات و الأحيان التي تكون فيها مفيدة ، و تصل فيها إلى تحقيق الغرض . و كذلك الأمر بالنسبة للأسلوب العاطفي الروحي فقد يفيد مع بعض الناس و في بعض الأحيان ، فلا ينبغي إهماله فيما قد يفيد فيه ، ولكن تبقى الصبغة العامة‌ للمنهجية‌ العقدية منهجية ‌علمية عملية‌ فإنها أنفذ في واقع اليوم إلى العقول ، وأدعى إلى الإقناع ، وأصلح في تسديد الواقع الإنساني بالهدى الديني .


إن الفكر العقدي الحديث إذا ما اقتبس من التراث الكلامي السابق في عهد حيويته و نضجه تجربته في التعامل الواقعي مع المشكلات التي واجهت المسلمين إيديولوجياً ، و تمثل تلك التجربة ‌في أصولها الفلسطينية دون جزئياتها الفرعية ، فإنه يمكن أن يقوم اليوم بدور مهم في البناء الايديولوجي للمسلمين ،‌فيؤسس مرجعية مذهبية تقوم على العقيدة الإسلامية ، تندرج تحت سلطانها كل مشاريع الحياة‌ السلوكية في مختلف المجالات ، فتستعيد حياة المسلمين وحدتها و انسجامها وقد تمزقت اليوم شر تمزق بين أنموذج الانحطاط و أنموذج الحياة‌ الغربية ، فنبتت فيها المشاكل المعيقة عن تحقيق الخلافة غاية‌ الوجود الإنساني .






--------------------------------------------------------------------------------


[1] - راجع : لويس غردي ، ج . قنواتي – الفكر الديني …. 3 /39 ( ط . دار العلم للملايين بيروت 1967 ) .
[2] - الإيجي والجرجاني – المواقف وشرحه : 1/14 ( ط . بولاق ، القاهرة 1913 .
[3] - راجع كتابنا ( بالاشتراك ) : المعتزلة بين الفكر و العمل : 18 وما بعدها . ( ط . الشركة التونسية للتوزيع / تونس 1986 ) .
[4] - الشهرستاني – الملل و النحل : 1/47 – 48 ( ط . ط صبيح ، القاهرة 1964 ) .
[5] - البغدادي – الفرق بين الفرق : 97 – 98 ( ط . دار الآفاق ، بيروت 1973 ) .
[6] - راجع :‌ الفونسونلينو – المعتزلة‌ ( ضمن « التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية » ترجمة عبد الرحمن بدوي : 191 ) . وراجع أيضاً : فؤاد السيد : مقدمة‌ تحقيق طبقات المعتزلة : 25 المرجع الأول ( ط . دار النهضة‌ العربية‌، القاهرة 1965 ) و الثاني ( ط . الدار التونسية‌ للنشر ، تونس 1974 ) .
[7] - ابن النديم – الفهرست : 180 ( نشرة جوهانس رودجر 1871 ) .
[8] - طاش كبرى زادة – مفتاح السعادة : 2/162 (‌ط . دار الكتب الحديثة ، القاهرة ) .
[9] - ابن قتيبة – الإمامة‌ والسياسة : 22 ( ط . الحلبي ) .
[10] - ابن النديم – الفهرست : 180 .
[11] - عن أحمد محمود صبحي – في علم الكلام : 1/129 . ( ط . دار الكتب الجامعية ، الاسكندرية 1974 ) .
[12] - يظهر هذا الأسلوب جلياً في كتاب « الرد على الجهمية‌ » للدارمي ، وكتاب « خلق أفعال العباد » للبخاري ( نشرا ً‌ضمن كتاب « عقائد السلف » تحقيق : على النشار و عمار الطالبي ) .
[13] - راجع بحثنا « دور الفكر الكلامي في نصرة العقيدة » . ص :‌142 وما بعدها . ( مجلة‌ الكلية الزيتونية / تونس عدد :‌4 ) .
[14] - ابن خلدون – المقدمة‌ : 431 ( ط . دار الشعب ، القاهرة ) .
[15] - الفارابي – إحصاء العلوم : 131 (‌ ط . الانجلو المصرية ، القاهرة 1968 ) .
[16] - راجع بحثنا في هذا الموضوع وأهميته العقدية‌،‌ومقترحا بمفرداته في مقدمة‌ تحقيقنا لكتاب « تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين » للراغب الأصبهاني .
[17] - نذكر في ذلك على سبيل المثال قوله تعالي : ( ألفم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيهما من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيت ) ( ق / 6-8 ) وقوله تعالي : (‌قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( آل عمران / 137 ) وقوله تعالي : ( قل أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) ( الأنبياء / 66 ) .