د.ماجد توهان الزبيدي
كنتُ قد ودعته عام 1981م،عام تخرجي في الجامعة في تلك العاصمة العربية الأثرى على مستوى العالم!ولم أره منذ ذلك الحين حتى الشهر الماضي، عندما جمعتنا مناسبة إجتماعية عامة في بيت أحد أبناء عمومته! كان صديقي يعمل في تلك العاصمة،بعد أن تخرج متخصصا بالأدب واللغة الإنجليزية،وكنت أنا طالبا في السنة الأولى في إحدى جامعات تلك العاصمة على نفقة وزارة التربية والتعليم الأردنية! وقد كنا على معرفة من أيام طفولتنا المشتركة على الرغم من فارق السن بيننا ،بسبب تواجد أسرتينا على مقربة ولإنتمائنا لقبيلة واحدة من دون أية قرابة بيننا!إلى أن إنتقلت أسرته مُبكرا للعودة ثانية للعيش في منطقة زراعية بسبب ضآلة فرص الرزق في منطقتنا التي يغلب عليها مساعدات غذائية بائسة من وكالة الغوث الدولية!!مضى أكثر من ثلاثة عقود ونيف لم أر صديقي العزيز!الذي لم يغب طيفه عن خاطري لما كان يتمتع به من فرادة في الصفات من مثل:الهدوء والطيبة والبساطة والتفوق في العمل والتخصص!!لكنني كنتُ أتابع اليسير من أخباره من الأصدقاء والأقرباء القادمين من تلك الديار إلى أن علمت أنه يعمل مع الأسرة الحاكمة الأغنى والأبرز على مستوى العالم من حيث المال وعقود الحكم وأسلوبه! وإستقر به الحال مُلازما لواحد من أولاد ذلك الحاكم ممن يتميز عن أشقائه الذين يزيدون عن الثلاثين ،وعن أبناء عمومته الذين يزيدون عن عشرات المئات!(نعم: الأمر كذلك)! كان صديقي العزيز شاب حنطي اللون مُمتلىء الجسم،يشع وجهه صحة وإنتفاخا،ذو عضلات بارزة !كأنه لاعب حديد أو رفع أثقال! فجاة،أثناء تواجدي في تلك المناسبة،وبينما صوتي يهدر _كعادته وعادة من أُبتلي بمهنة التدريس- مُعلقا على المؤامرة الكونية الجارية ضد سوريا:شعبا ودولة ووطنا!،إقترب مني شاب ضئيل الجسد تكاد عظام "حنكيه"تبرز للخارج!وعينيه غائرتين في مقلتيه!وترتجف يديه!يتوكأ على ساقين كساقي طائر اللقلق أو الطائر المهاجر أو الطائر الذي يسميه ربعنا:"أبو سعد" ..فجأة يقترب مني ذلك الشاب ويسلم علي سلاما حارا ويعانقني! لم أتذكر أنني رأيت ذلك الشاب في حياتي!وهو في شكله يشبه شكل صديق آخر لي يستقر في عاصمة إسكندنافية لم يترك مهنة إلا وجربها إلى أن إستقرت وظيفته الحالية في تحرير صحيفة سياسية في ستوكهولم، لم ينج أحد من النظم السياسية من تعليقاته وشقاوته! لكنه ليس هو بالتأكيد!شد صديقي يديه على يدي ووضع عينيه في عيني قائلا:-ألا تعرفني يارجل؟أنا عرفتك من صوتك الهادر!وانني قبل مدة حضرت لك مقابلة تلفزيونية سياسية على إحدى الفضائيات العربية أثناء تواجدي في فلوريدا! رددتُ:لا..لا أعرفك!-قال:أنا فلان!-رددتُ بسرعة:لا..لايمكن أن تكون فلان؟!- رد ببطء:معك حق!لقد أكلني السكري والضغط!وأجزم أنني لو لم أر برفقته أحد أبناء عمومته من معارفي لما صدقت ماتراه عيناي!!قلت له:آخر أخبارك عندي أنك تعيش في قصر في إحدى مدن البحر الأحمر ،مع العائلة الحاكمة هناك!رد قائلا:أنا في أميركا منذ أكثر من أحد عشر عاما ،مُلازما لصاحب السمو الملكي......مساعدا له في التحضير لدراسة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة "جون هوبكنز"! رددتُ:إنها واحدة من أرقى جامعات العالم أسسها رجل مصرفي ثري هو "جون هوبكنز"عام 1876م!!وأردفتُ:وأنت هل أنهيت الدكتورة في تخصصك؟ رد بتثاقل:"درست معظم مواد الماجستير ولم يبق سوى مادتين ثم توقفت! مضيفا:"الفرصة الآن للأولاد!! حزنتُ كثيرا على المآل والحال التى إستقر عليها صديقي الثري ،المُلازم لولد أغنى حاكم على مستوى العالم ومايزال!وقد أثبتت هذه الحادثة جملة من الحقائق من أبرزها أن المال لم يكن يوما –وفق قناعتي وقناعة كثيرين غيري- العامل الحاسم او الرئيس في بلوغ المجد !بل كثيرا ماكتبتُ وصرحتُ أن وفرة المال قد تكون العامل الرئيس في التعاسة والجهل والضياع والهبل والتياسة أيضا! كما هو مُشاهد في أجزاء واسعة من وطننا العربي وخاصة منها المُغطاة بالسواد والزفت والقطران!! وقد أكدت حالة صديقي الثري البرهان على صدق فرضياتي المُعلنة والمنشورة في غير موقع ،أن الفقر قد يكون درب الصحة!!وأن تعدد الوان الطعام قد يكون الدرب الأقصر للتهلكة المُبكرة! و:"إذ تعشيت فتعشى عشاء فقير"! من جهة أُخرى، كان في إستطاعة صديقي أن يحصل على الدكتوراة دون أن يدفع مليما واحدا في حين قد تُكلف الدراسة في أي من الجامعات الراقية الأميركية اكثر من ربع مليون دولار أميركي! بل كان بإمكانه أن يحصل على ذلك من ميزانيته الشخصية قبل سفره لتلك الديار العجيبة الغريبة! التي يباع فيها صندوق الموز الصومالي بأقل مما يُباع فيه كيلو غرام البندورة أو البطاطا في الأردن هذه الأيام! ذلك ان صديقي النحيل المُتهالك كان يتقن الإنجليزية قبل ولادة صاحب السمو الملكي الذي أتقن الروسية والإنكليزية بطلاقة،والذي أاظن أنه سيكون وزير الخارجية القادم في واحدة من أهم دول المنطقة! ويبدو أن تفسير تخلف صديقي عن إكمال دراسته ليست سوى عادات أو "جينات "ابناء القبائل والقرى! ذلك إن إبن القرية قد يصبح رئيس وزراء لكنه لايستطيع نزع سلوكيات قريته السيئة من عقله!وأن إبن القبيلة أو العشيرة قد يبقى مُلازما للسذاجة والبساطة التي تصل حدود الهبل أحيانا او في معظم الأحايين! وإن كان هناك من أبناء البادية من تفوق على أبناء العواصم لكن ذلك يبقى يراوح حالة الشواذ ، ولكل قاعدة شواذ، والشواذ لايقاس عليه يارعاك الله!!فأنت ياصاح وأنا مايزال كل أسرة من أُُسرنا تعيش على مساحة من اليابسة لا تزيد عن ثمان وتسعين مترا مربعا ،هي مساحة غرفة نوم واحدة عند كثير من الأسر العربية!من دون أن يكون بين يدينا سند تسجيل أو ملكية للأرض التي نتربع عليها! في حين كان بإمكان معظمنا أن يشتري من الأرض مايكفيه حتى أوائل العام 2000م،لكن معظمنا لم يشتر مترا مربعا واحدا وأنفقنا أموالنا على شهوات بطوننا ومظاهر إسراف تافهة ذهبت مع مواسير الصرف الصحي ناحية منطقة "الأكيدر" !فتدبر يارعاك المولى! ولعل التفسير الأوحد للحال التي عليها صديقي العزيز القادم من بلاد العم سام ،هو أن المذكور عاش منذ ربع قرن ومايزال مع أُناس رسمميم جدا!كل حرف يقال في حضرتهم عليه أكثر من رقيب وجهاز تسجيل وتفسير ،وأن حال المسكين تشبه حال مواطن عربي بائس لاناقة له في سوق السياسة ولابعير،كتب فيه أحد الواشين الرُخص من الأوباش تقريرا لدائرة العسس والمباحث في دولة من دول العالم الثالث الشمولية ،فأستدعاه مدير تلك الدائرة وحبسه يحقق معه ،مما جعل من الساعة الزمنية الواحدة المؤلفة من ستين دقيقة أكثر شقاءا على روحه وجسده ، من ستين شهرا من العمل في الباطون أو فلاحة الأرض المملوءة بالصوان!! الأمر الذي سبب لصديقي العزيز السكري والضغط والتآكل التدريجي!وهنا في خاتمة القول أقول أمرين ،أولاهما: أنني أنصح صديقي العزيز بالإستقالة من العمل مع اولئك القوم والرحيل لبيت في أعالي قرى عجلون للتنعم بالنسيم والهواء العليل لعل صحته تعود له،وعكس ذلك سيؤدي به للتبخر في اجل قريب لا قدر الله! والثاني انني تذكرت الدرس الأول في كتاب اللغة الإنكليزية في الصف الأول الثانوي للعام الدراسي 1974/1975م والذي كان بعنوان:"لا تجلس قرب السلطان"!Dont sit near the sultanوكان يُدرسنا إبانها الأستاذ القدير غازي طاشمان ابا مروان الذي هو صديقي وجاري في منطقة السكن حاليا ،وكان وقتها يحمل درجة الدبلوم من معهد حوارة لكنه أكثر قوة في التخصص من دكاترة اللغة الإنكليزية هذه الأيام!!