تيه الإنسان
"الدوران حول الذات"
محمد قاسم ابن الجزيرة
m.qibnjezire@hotmail.com




"لقرون كثيرة كان الاعتقاد السائد ان الأرض منبسطة، وتمتد في الاتجاهات الأربعة إلى ما لا نهاية.
ولكن الإنسان ما لبث أن اكتشف بأن الأرض كروية ، بعد رحلة ماجلان.وتأكد ذلك من نتائج الأقمار الصناعية.. والدراسات التلسكوبية التي قربت البعيد ، وأظهرت الكثير مما كان خافيا.
وكنتيجة: تغيرت مفاهيم كثيرة في سياق المعرفة البشرية، والعلوم المختلفة، خاصة ما يتعلق بالجغرافيا الطبيعية وكل ما يتعلق بها.. باكتشاف حقائق جديدة،باستمرار.!
كما حصلت اكتشافات على مستوى العلوم المختلفة الأخرى، كالفيزياء والكيمياء وعلوم الميكانيكا والرياضيات والفلك..و..الخ.
وقد أدى ذلك إلى ما نراه اليوم من التطور التقني المذهل، والذي لم يعد الإنسان يستطيع أن يلاحقه ويستوعبه، إضافة الى البحث في الماورائيات التي تشكل ميدانا لدراسات منطقية استنتاجيه لا تخضع للتجريب؛ بدأت قديما ولا تزال مستمرة.
مع معرفة كل هذا، لا زال الغموض يكتنف الكثير من أسرار الإنسان –كإنسان- في حياته: وجودا، كينونة، وصيرورة، ومآلا..!
ولعل هذا ما أدى بالطبيب الباحث المعروف (ألكسي كاريل) ان يعنون نتائج أبحاثه التي عرضها في كتاب، اسماه"الإنسان ذلك المجهول".
فعلى مستوى معرفة أمراض الإنسان وأدويتها-على الرغم من كل التقدم الحاصل- لا زلنا في منتصف الطريق ربما –او اقل-.
وعلى مستوى فهم حقيقة الروح، وآليات التفكير، ودورها في السلوك، والعلاقة بين القوى النفسية المختلفة، الفاعلة منها ايجابيا، والفاعلة سلبيا –أو القابلة للفعل السلبي- لا زلنا نردد مع الشاعر الإنكليزي بيرون قوله على لسان قابيل عندما قتل أخاه هابيل:
أخي ما دهاك وكنت صباحا= قوي الفؤاد قوي البدن
على العشب ملقى فماذا عراك= أنوم ؟ وما الوقت وقت الوسن..
سكنت وامسك منك اللسان =وهل مات حي إذا ما سكن؟
فهو – هنا- لا يعرف الموت شكلا ونتيجة.
ولا زلنا نردد معه أيضا:
وهيهات لا نفنى جميعا وإنما= لديك من الأسرار باق مخلد
والحالتان حيرة وشعور بنوع من العجز.
وربما بعض هذا ما كان يعنيه القول المنسوب إلى الإمام علي بن أبي طالب:
وتحسب انك جرم صغير = وفيك انطوى العالم الأكبر
لذا فكل ما في حياة البشر من الخفايا لا يزال سرا او نصف سر.. منها فهم الآلية المثلى في عيش حياة اجتماعية والتي لا تزال مجرد مستويات،تختلف من شعب لآخر ومنها مثلا:
كيفية الإدارة، وأنواع النظم الصالحة، وأسباب الانزياحات السياسية والاجتماعية والأخلاقية..التي لا تنضبط لما يحقق الأمن والأمان والشعور بالطمأنينة.
فالخلاف-ان لم نقل الصراع- قائم بحدة بين الأيديولوجيات، والنظريات، والمفاهيم المختلفة ، حتى تلك التي يُظن أنها أصبحت مفهومة، كالديمقراطيةـ ومعنى السياسة وحدودها، ومنظومتها العلمية. وهي ما يسمى في علم السياسة بالرموز-تبدو كأنها واضحة وعند البحث فيها نجد ما فيها من الغموض أكثر-وهذا مربك للفهم- ومن ثم السلوك بناء على فهم ناقص. .
ولا زالت المبادئ والقيم والمفروضات والوقائع والأحداث...حالات ومظاهر موضع اختلافات شديدة، تصل إلى درجة ممارسة العنف اللفظي والعنف المادي... والإعلام والحروب اكبر شاهد.
باختصار...الحياة لا تزال تحمل أسرارا كثيرة...لم يكتشفها البشر بعد..او اكتشفها ولم يتمثلها تطبيقيا في التفكير والسلوك-الأداء عموما-.
لذا فإن السُّفسطائيين-كفريق باحث وفلاسفة- لم يكونوا يمزحون او يدجّلون... بل كانوا يعبرون عن رؤية فلسفية –بغض النظر عن توافقنا معها أم لا-. ولقد استمرت هذه الرؤية في سياق الحياة الاجتماعية مذ ذاك ولا تزال.بل اتخذت مظاهر مختلفة عن الأصل.
وفي المقابل فإن الإنسان قد تطور كثيرا قياسا إلى ما كان..في مختلف الميادين المادية والمعنوية (وربما هذا ما يقوّض -نسبيا - نظرية السُّفسطائيين، عندما أنكروا وجود حقائق ثابتة يمكن فهمها..أو تنفيذها في حالة الفهم..)
فالكشف عن أسرار كثيرة كان نتيجة للإيمان بمبادئ ثابتة- كحقائق- والانطلاق منها في الخطوات اللاحقة.وهذا أدى إلى الانتقال من المعرفة النظرية وفقا للمنطق الصوري-ألاستنتاجي- فحسب؛ إلى معرفة تؤكد التجارب حقيقتها.
فكانت العلوم الطبيعية التي تتالت اكتشافا وتطورا ...
إضافة إلى تطورات في العلوم الإنسانية التي تناولت "الإنسان" موضوعا لبحثها ، في قضاياه الخاصة المتعلقة بذاته العاقلة والاجتماعية.
لكنها لم تبلغ –كما يبدو- مرحلة تبث الطمأنينة في حياة البشر عبر سلم اجتماعي شامل، ووعي للمشتركات التي لا ينبغي التقصير في التعامل معها او خرقها، وعبر إيمان بالحقائق التي انتهى إليها إيمانا راسخا يجنب الازدواجية في الفهم والتعبير واتخاذ المواقف ومن ثم السلوك.والتعامل بمرونة مع المشكلات والإشكالات...!
باختصار :تحقيق الانسجام بين القوى المختلفة في الإنسان ليعيش حياة سعيدة مفترضة.."