الثنائية الفكرية والاتجاه المناقض
د. تيسير الناشف
تنحو النزعة الفكرية على تفاوت لدى البشر ألى التقسيم الفكري الثنائيالنقيضي أو المتطرف، أو إلى التفكير ذي التشعب الثنائي النقيضي، في شتى المسائل. تدلتلك الثنائية الفكرية النقيضية على نقص المعرفة البشرية، وهي تشكل عاملا هاما فيعرقلة تحقيق المعرفة الأتم للظواهر الطبيعية والاجتماعية. (من الضروري القول إنالتحليل التالي لا يقصد به أنه ينطبق على المدركات غير العقلية وغير الحسية، ولايقصد به أنه يتعلق بالطروح الإيمانية والعقدية الغيبية). وفي عالم المدركات الحسية لا يوجد شيء يتسمبصفة مطلقة. وإطلاق صفة على شيء معناه النقص في معرفة ذلك الشيء. على سبيل المثال،إطلاق صفة الحُسن على شيء يعد من الفكر المطلَق لأنه أطلق صفة الحُسن على ذلكالشيء. وهذه الفكرة مناقضة أو معاكسة، لأنه بإطلاق الحُسن على شيء أهملت صفة القبحفيه.والفكرالنسبي فكر شامل لمختلف العوامل والمراعي لها؛ إنه فكر تعددي التوجه فيما يتعلقبمسألة من المسائل. ولا يتفق هذا الفكر مع الفكر المطلق. وحتى يكون الفكر تعدديالتوجه يجب أن يكون نسبيا. وإحدى سمات المجتمع المتطور هي أنه في سلوك أفرادهللإقرار بالفكر التعددي التوجه وجود وأثر في سلوك أفراد المجتمع وفي كيفية التناولالبشري للمسائل. الفكر البشري مَلَكَة فكرية ذاتية. إنه يتأثربتأثيرات بيولوجية وثقافية وتاريخية. إنه ظاهرة ثقافية بمعنى أنه يتأثر بطريقة تناول القضايا الاجتماعية والنفسية. ومن هنافإن الفكر يأتي على صور تكون نتيجة عن التركيب البيولوجي والثقافي والنفسيوالتاريخي للعقل. والفكرالثنائي النقيضي جامد، لأن الفكر بكونه أسيرا لخط فكري واحد فقط يكون منغلقا علىذلك الخط الفكري، وبذلك يصبح غير منفتح وحبيسَ بنيته الانغلاقية وبالتالي لا يتحركأو ينساب إلى ما يتجاوز تلك البنية. والموقف الفكري الثنائيهو الموقف القائم على تصور بديلين فكريين اثنين متطرفين أو نقيضين، مستبعدا بذلكتصور بدائل أخرى عديدة واقعة بين هذين البديلين. ومن هنا فإن حشر الفكر في صورتين – متعاكستين- فقط يعني أنه فكر غير مراع لتعدد التوجهات الفكرية وأنه، بالتالي، قمعي وتعسفي.بين الشقين النقيضين أو المتطرفين، مثلا الخير والشر والطيب والسيء، درجات أو ظلالقد لا تحصى واقعة بينهما. وعلى ضوء المذكور أعلاه فإن من الصحيح عدم تسمية برنامج"الاتجاه المعاكس" بذلك الاسم وتسميته بـ "الاتجاه المختلف". فاسم "الاتجاهالمعاكس" يوحي بأنه يوجد موقفان متعاكسان، ويوحي بأن الموقف أو الاتجاه يقععلى شق من شقين نقيضين، بينما يمكن في الحقيقة أن توجد حيال القضايا المطروحةاتجاهات مختلفة ولكن ليست بالضرورة اتجاهات أو مواقف يعاكس بعضها بعضا. واسم "الاتجاهالمعاكس" يشجع أيضا المشاركين في البرنامج على اتخاذ الموقف المعاكس، علىالرغم من أن القضايا المطروحة قد يكون من الممكن أن يُتخذ حيالها موقف ثالث أو غيرمعاكس أو غير مختلف. حلقات "الاتجاه المعاكس" شاملة لمواضيع مختلفةكثيرة، وقد يكون من الخطأ الاعتقاد أو الافتراض بأن اتجاهات المشاركين حيال هذهالقضايا كلها اتجاهات متناقضة أو متعاكسة. ذلك يعني أن هذه التسمية،"الاتجاه المعاكس"، تحث وتحرض على اتخاذ المشاركين لاتجاهات متطرفة أولاتجاهات لا ترجحها حقيقة القضايا المتناولة. إن طرح قضايا على المشاركَين باعتبارأن موقفيهما متناقضان يعني حشر موقفي المشاركين في تصورين فكريين متناقضين. إن مثلهذا الطرح ينتشر على تفاوت في الحقيقة أيضا لدى أناس في العلاقات الاجتماعيةالعامة والخاصة على المستوى العالمي. وتمكن إزالة أثر التفكير الثنائي النقيضي أو،على الأقل، الحد منه عن طريق جعل عدد المشاركين في البرنامج ثلاثة، ويكون المشاركالثالث مصوّبا موضوعيا بقدر الإمكان للبيانات التي يدلي بها المشاركان الاثنانالأولان اللذان هما على شقي النقيضين الفكريين، وذلك دون المساس بالدور الذي يؤديهمضيف البرنامج الذي أثبت ذكاءه وسعة اطلاعه.وبغير اتخاذ الاتجاه الموضوعي أو الواقعييفوت هذا البرنامج على نفسه فرصة الفهم الأكبر للقضايا المطروحة، نظرا إلى أنالقضايا المطروحة قد تُفسر، كما أسلفنا، بعوامل غير متطرفة ويعرب عنها بلغة الطرحالواقعي غير المتطرف. إن فهم قضية من القضايا بتفسيرها بعامل واحد متطرف من عاملينمتعاكسين نهج يحرم الإنسان من إدخال عوامل أخرى في الفهم تقع بين هذين العاملينالنقيضين. وذلك النهج عبارة عن فرض الموقف الذاتي غير الموضوعي بطبيعته على الواقعالذي يمكن أن يُتناول وأن يُفهم بعدة عوامل تقع بين العاملين المتناقضين. وتتمثلهذه الثنائية الفكرية التناقضية أو المعاكسة في دعوة قسم من دعاة التحديث إلى رفضالتراث وفي دعوة قسم من مناصري التراث إلى إقامة مستقبلنا على طروح التراث فقطوكأن التراث يخلو تماما من عناصر التحديث أو كأن التحديث يخلو تماما من عناصرالتراث. ومن الخطأ أيضا القول إنه يوجد تناقض تام بين الثقافة العربية والثقافةالغربية، لأن هذا القول يعني إطلاق الصفة، ما يعني إنكار الفكر التعددي التوجهواتباع الثنائية الفكرية النقيضية. ومن الخطأ أيضا وصف تجربة الحداثة العربيةبأنها فشل تام. وهي ليست نجاحا تاما. ومن نفس منطلق خطأ اعتمادالثنائية الفكرية النقيضية لا يصح القول إن التيارات الفكرية من قبيل الليبراليةوالقومية والقطرية والعلمانية والعقدية والنقدية يستبعد الواحد منها الآخراستبعادا تاما أو يقبل الواحد منها الآخر قبولا تاما. بعض طروح هذه التياراتمتماثل. تتفق هذه التيارات مثلا على مفهوم التحرر ومفهوم الحاجة إلى المحافظة علىالبقاء. ومن قبيل الثنائية الفكرية نسبة الديمقراطية التامة إلى النظام المدعوبالنظام الديمقراطي. من منطلق نسبية صفات الأشياء ومن منطلق عدم جواز الإطلاق وعدمصحة الثنائية الفكرية لا يوجد نظام ديمقراطي كامل مئة بالمئة، ولا توجد موضوعيةمئة بالمئة ولا توجد حيدة علمية مئة بالمئة. والثنائية الفكرية النقيضيةأو الإطلاق الفكري معناه تضييق هامش الحرية الفكرية والانغلاق على التغيراتالفكرية المستجدة المستمرة الناشئة عن التفاعل المستمر بين الإنسان والظروفالاجتماعية والثقافية والنفسية المتغيرة، وبالتالي عدم مراعاة الآثار المترتبة علىتلك التغيرات. يكمن في هذا الفكر الثنائي خطر يتمثل في حرمان الناس من المرونةوالواقعية الفكريتين اللتين قد تتطلبهماحالتهم الاجتماعية والثقافية. وتندرج التعميمات في صفةالثنائية الفكرية، وذلك لأن التعميم هو الأخذ بطرف فكري نقيض، وهو بالتالي سلوكفكري مقيِّد ومقيَّد.
وبالنظر إلى خطأ ثنائيةالتفكير وإلى خطأ الإطلاق الفكري وإلى نسبية الصفات والعلاقات فمن السليم أن يتجنبالمرء ما أمكنه استعمال عبارات الفكر الثنائي في الحالات التي تستوجب عدماستعمالها، من قبيل كلمة "إلا" و "سوى". على سبيل المثال،"لا ينهض بهذا الشعب إلا رجل" و"لا يوجد على وجه المعمورة سوىالرذيلة".
ومن نفس المنطلق من السليم استعمال العباراتالتي لا تشجع على الثنائية الفكرية والتي تشجع على الانفتاح الفكري والنسبيةالفكرية والتعددية الفكرية. ومن هذه العبارات عبارات من قبيل "من هذه العواملعوامل ..." و"قد لا أجانب الحقيقة إن قلت ...". ومن الدلائل على شيوعالثنائية الفكرية وانعدام النسبية الفكرية الأخذ ببعض النظريات الكلية أو الشاملة.النظرية أداة للتفسير وتفسير بعض النظريات سليم، والبعض الآخر غير سليم. وبعضالنظريات الكلية أو الشاملة تنتحل لنفسها صفة شمول التفسير التي قد لا تتصف بها. هذه الصياغات الفكريةالثنائية في مجالات اجتماعية كثيرة أدت وما تزال تؤدي إلى تحجيم الفكر لدى مختلفشعوب العالم. ولن تنعم الشعوب بالحصول علىوسائل الدفاع عن نفسها إلا بالتخلص من الثنائية الفكرية. وإحدى الوسائل الهامةالتي من شأنها أن تضعف النزوع إلى الثنائية الفكرية هي توفير عوامل متزامنة وهيمكافحة الأمية ورفع المستوى الثقافي وإشاعة قدر أكبر من الديمقراطية –والديمقراطية التامة مستحيلة – ورفع مستوى المعيشة واعتماد مفهوم المواطنة وتحقيقالأمن للمواطنين. وإحدى هذه الوسائل أيضا الأخذ بمفهوم نشاط (دينامية) المفاهيمالاجتماعية والطبيعية. وبالنظر إلى اصطباغ النشاط بهذه المفاهيم فهي مفاهيم نسبية،أي مفاهيم ذات نسبة إلى قوة حضور شتى المكونات المتشابكة المتفاعلة لظاهرة منالظواهر وقوة حضور مختلف الظواهر المتفاعلة.