ابن أبي إسحاق الحضرمي
وأما ابن أبي إسحاق، فهو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وكان قيماً بالعربية والقراءة، إماماً فيهما؛ وكان شديد التجريد للقياس. ويقال: إنه كان أشد تجريداً للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها.
ويروى أن بلال بن أبي بردة جمع بينهما، قال يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز، فنظرت فيه بعد ذلك. ويقال إنه أول من علل النحو.
وقال محمد بن سلام: سمعت رجلاً يسأل يونس عن عبد الله بن أبي إسحاق وعلمه، فقال: هو والبحر سواء، أي هو الغاية.



وقال يونس: كان أبو عمرو أشد الناس تسليماً للعرب، وكان عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان على العرب، وكان موالي ابن أبي إسحاق الحضرمي موالياً، وهم بني عبد شمس بن عبد مناف، وكان يردّ كثيراً على الفرزدق ويتكلم في شعره، فقال فيه الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى موالـياً
فقال له ابن أبي إسحاق: ولقد لحنت أيضاً في قولك: "مولى مواليا" وكان ينبغي أن تقول: "مولى موال" والحليف عند العرب مولى، ومنه قول الأخطل:
أتشتم قوماً أثبتوكم بنهشـل
ولولاهم كنتم لعكلٍ مواليا
وروى أبو عمرو أن ابن أبي إسحاق سمع الفرزدق ينشد:
وعض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفُ
فقال له ابن أبي إسحاق: على أي شيء ترفع "أو مجلف"؟ فقال: على ما يسوءك وينوءك؛ قال أبو عمرو: فقلت للفرزدق: أصبت! وهو جائز على المعنى، أي لم يبق سواه.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي على يحيى بن يعمر؛ وقرأ أيضاً هو وأبو عمرو بن العلاء على نصر بن عاصم، وكانا رفيقين.
وكان هو وأبو عمرو وعيسى بن عمر في وقت واحد، وتوفيَ قبلهما بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك.
عيسى بن عمر الثقفي
وأما عيسى بن عمر الثقفي، فكنيته أبو سليمان - ويقال: أبو عمر - وكان ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة، وقراءته مشهورة.
وكان فصيحاً يتقعر في كلامه، ويعدل عن سهل الألفاظ إلى الوحشي والغريب؛ فمن ذلك أنه لما ضربه يوسف بن عمر بن هبيرة في سبب ثياب استودعها؛ قال: إن كانت إلا أثياباً في أسيفاط، قبضها عشاروك. وذلك أن بعض أصحاب خالد بن عبد الله القسري أودعه وديعة، فلما نزع خالد بن عبد الله عن إمارته بالعراق، وتقلد مكانه يوسف بن عمر، كتب إلى واليه بالبصرة أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا به وبالحداد، وأمره بتقييده، وقال: لا بأس عليك، إنما أراد الأمير أن يؤدب ولده، قال: فما بال القيد إذن! فبقيت مثلاً بالبصرة، فلما أتى به يوسف بن عمر، سأله عن الوديعة فأنكرها، فأمر به فضرب بالسياط، فلما أخذه السوط جذع، فقال: أيها الأمير، والله إنما كانت أثياباً في أسيفاط، قبضها عشاروك؛ فرفع السوط عنه، وكل به حتى أخذ الوديعة منه.
وقال علي بن محمد بن سليمان: رأيت عيسى بن عمر طول دهره يحمل في كمه خرقة يحمل فيها سكر العشر والأجاص اليابس، وريما رأيته واقفاً عندي أو سائراً، أو عند ولاة أهل البصرة، فتصيبه نهكة على فؤاده، فيخفق عليه حتى يكاد يغلب، فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيهما في فمه، ثم يمتصهما فإذا ازدرد من ذلك شيئاً سكن عليه؛ فسألته عن ذلك، فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف بن عمر، فعالجته بكل شيء، فلم أجد له أصلح من هذا.
وصنف كتابين في النحو، يسمى أحدهما الجامع، والآخر الإكمال. وفيهما يقول الخليل بن أحمد - وكان الخليل قد أخذ عنه:
ذهب النحو جمـيعـاً كـلـه غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمـال وهـذا جـامـعٌ فهما للناس شمـس وقـمـر
وهذان الكتابان لم نرهما ولم نرَ أحداً رآهما.
وقال يحيى بن المبارك اليزيدي:
يا طالب النحو ألا فابـكـه بعد أبي عمرو وحـمـاد
وابن أبي إسحاق في علمـه والزبن في المشهد والنادي
عيسى وأشباهٌ لعيسى وهـل يأتي لهم دهـر بـأنـداد
ويونس النحوي لا تنـسـه ولا خليلا حـية الـوادي
وتوفي سنة تسع وأربعين ومائة.
ويشهد لهذا ما روي عن الأصمعي أنه قال: توفي عيسى بن عمر قبل أبي عمرو بهمس سنين، وكان ذلك في خلافة أبي جعفر المنصور، وكان أبو عمرو قد توفي سنة أربع وخمسين ومائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى