العنوان في الرسائل العربية
( عصرالمرابطين والموحدين بالمغرب نموذجا)
د.محمد بن العياشي / المملكة المغربية
يعد العنوان من الثوابت([1]) الأساسية فيالرسالة. ويقصد به في اللغة العلامة. وغايته توجيه القارئ إلى معرفة طرفي الكتاب،من خلال تعيين المرسل والمرسل إليه. وصيغته المألوفة ( من فلان إلى فلان )([2])،" فمن "تدل على ابتداء الغاية، و" إلى" تدل على انتهائها . وأصل العنوان ما دل على شيء ([3]). ومن هنا سمي عنوانالأنه يدل على الكتاب ممن هو وإلى من هو. وقد عرف الصولي العنوان بقوله:"عنوان الكتاب وعنونته وهي اللغة الفصيحة، وبعضهم يقول : علونت ... وقد قيل (العلوان ) من العلانية لأنك أعلنت به أمر الكتاب وممن هو وإلى من هو ... والعنوان:العلامة، كأنك علمته حتى عرف بذكر من كتبه ومن كتب إليه ... وقال المأمون لرجل(رآه في موكبه فلم يعرفه – وكان جسيما – ما هذه الجسامة ؟ قال : عنوان نعمة اللهونعمتك يا أمير المؤمنين".فالعنوان إذن هو العلامة أو الإعلان . ومنه نعرفالمرسل والمرسل إليه . ويقدم " التنوخي " مرادفا آخرا للعنوان وهو" الأثر "، حيث يقول : " والعنوان : الأثر الذي يعرف به الشيء.وتقول العرب : ما عنوان بعيرك ؟ أي ما أثره الذي يعرف به " ([4]) .ولكن العنوان عند الكاتب الحاذق لا يقتصر علىمجرد تعيين طرفي الكتاب، بل يتعدى ذلك إلى الإشارة إلى الغرض المقصود والمعنىالمراد([5]).ومن هنا فقد اتسع العنوان ليشمل دلالات أخرىوإيحاءات تفسيرية تعكس العلاقة الجدلية التي أصبحت بين العنوان والنص، وبخاصة منحيث الموضوع والبناء أو القالب الفني، الذي يجب أن تصاغ فيه الرسالة أو الكتاب،وكذا من حيث التقاليد الأدبية أو الرسمية التي يجب أن يتقيد بها الكاتب؛ لأنالرسائل – كما هو معلوم– تختلف موضوعاتها وطرائق بنائها تبعا لاختلاف مراتبالصدارة عنهم.وهكذا يمكننا أن نعتبر العنوان في الرسالةبمثابة مفتاح أفق الانتظار عند القارئ الذي تعود على التمرس بهذه النصوص، حيثيستطيع توقع موضوع الرسالة وقالبها الفني بمجرد الإعلان عن هوية المرسل والمرسلإليه.وبالإضافة إلى ذلك، هناك وظائف ودلالات أخرىللعنوان، غير أنها لا تخرج في الواقع عن معنى العلامة والإعلان، أو الأثر الذييقصد به تعريف الشيء،او الإشارة ([6]) إلى ملخصه وتعزيز فهمه، كما يظهر ذلك من عناوينبعض الكتب والمصنفات . وقد عرف ابن الأصبع العدواني العنوان بهذا المعنى وهو " أن يأخذ المتكلم في غرضله من وصف أو فخر أو مدح أو هجاء أو عتاب أو غير ذلك. ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظتكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة، كقول أبي نواس : يا هاشم بن خديج ليس فخركم بقتل صهر رسول الله بالسدد ([7])فقد أتى أبو نواس بعدة عنوانات في قصيدته، منهاقصة قتل صهر الرسول صلى الله عليه وسلم " محمد بن أبي بكر". وهناكمعان فرعية أخرى للعنوان، ولكنها لا تخرج عن إطار ما سبق كتعريف بطرس البستانيللعنوان بقوله : " وكل ما استدللت بشيء يظهرك على غيره، وما يدلك ظاهره علىباطنه فعنوان له، يقال الظاهر عنوان الباطن ... ومنه نوع عظيم جدا وهو عنوانالعلوم بأن يذكر ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها ... وعنوان الموضوع عندالمنطقيين هو مفهوم الموضوع ،ويسمى وصف الموضوع وصفا عنوانيا "([8]).وبالنظر إلى الأهمية المطلقة للعنوان (أوالتعيين)، فإنه يصعب تصور وجود كتاب أو رسالة بدون عنوان ( أي بدون تعيين طرفيالرسالة )؛ لأنه سيكون أمرا شبيها بقفل بلا مفتاح، قد يحتاج القارئ معه إلى كثيرمن الجهد لمعرفة موضوع النص. لذلك ألح ابن الأثير على " عدم جوار خلو كتاب منالعنوان "([9]).ويتخذ عنوان الرسائل المرتبة الثالثة بعدالبسملة والصلاة على النبي في بناء النص . وقد يتم الاستفتاح به أحيانا دون ربطهبالصيغتين المذكورتين.وأما صيغته المألوفة فهي ( من فلان إلى فلان )،إلا أنها لم تكن الصيغة الوحيدة في الكتابة؛ وذلك بسبب اختلاف الكتاب وأحوالالعصر. يقول الكلاعي : ونظرت – أعزك الله – العنوان فوجدته يختلف باختلاف الأزمان،فكانوا فيما مضى لا يزيدن على قولهم : من فلان. وفي الكتاب العزيز:(إنه
منسليمـن) ([10]) ،ثم زادوا من بعد ذلك: من فلان إلىفلان([11]). وبهذا كان يكتب عن نبينا، ويكتب إليه، ثمتفننوا بعد وتعمقوا "([12]) .وقد بدأ التفنن في تطوير هذه الصيغة (من فلانإلى فلان مع ظهور الدعوة الإسلامية في سياق أجواء الحرب والصراع مع الكفار؛ حيثتدرجت صيغ التخاطب في كتب النبي من صيغتها المألوفة المكتفية بذكر الاسم (من محمدبن عبد الله) إلى صيغة عقدية تؤكد اللقب (من محمد رسول الله إلى فلان)، وذلك تبعالتطور الدعوة نفسها، وانتقال الرسول عليه الصلاة والسلام من حالة المهادنةوالمسالمة إلى حالة الصدام والمواجهة.وقد امتد هذا التطور إلى عنوان رسائل الصحابةالمرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حيث أحس الصحابة –رضوان الله عليهم-بضرورة تعديل الصيغة التقليدية (من فلان إلى فلان) وتحويلها على صيغة (لفلان منفلان)، وإغنائها بذكر لقب الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيما له، وتأدبا معه فيالخطاب، وإثُباتا لنبوته التي كان يدافع عنها ضد الكفار. وهكذا فقد خاطب"خالد بن الوليد" النبي عليه الصلاة والسلام قائلا: "لمحمد النبيرسول الله من خالد بن الوليد" ثم جرى ذلك فيما بعد مجرى التقليد([13]). وقد تطورت هذهالصيغة وغيرها من الصيغ في الفترة المدروسة. وباستقرائنا لرسائلالمرابطين والموحدين، يتبين لنا أنها تنطوي على عدد من العناوين التي تشير إلىتفنن الكتاب في تطوير صيغها، وتغيير بعض رسومها من خلال أساليب الإبداع المتاحةأمامهم؛ كالحذف (حذف "من" و "إلى") وتعويضها بالخطاب المباشرالمستهل بلفظ "كتابنا" في رسائل الأمراء والخلفاء، ولفظ الحضرة في مخاطبةالخلفاء الموحدين. أو الاحتفاظ بـ ("من" دون ذكر إلى)، أو الإضافة؛ كذكراسم المرسل وتعداد ألقابه والقاب أجداده، كما هو الأمر في رسائل الموحدين، أوالتقدم والتأخير، أو من خلال تنويع أساليب الترفيع والتعظيم والتبجيل التي ترد فيالعنوان، وبخاصة في الرسائل المرفوعة إلى الأمراء والخلفاء. ولنبدأ أولا باستعراضبعض النماذج التي تتضمن الصيغ التقليدية المعروفة (من فلان إلى فلان) قبل أن نعالجمظاهر التطور فيها. ونشير بدءا إلى أن تعيين المرسل أولا، ثم المرسل إليه ثانيا،قد تداوله الكتاب بكثرة في الرسائل الصادرة عن ذوي المراتب العليا في الحكم إلى منهم دونهم. أما الصيغة الأخرى (إلى فلان من فلان([14])) فإننا لا نعدموجودها، وبخاصة حين يكون المرسل أقل درجة من المرسل إليه، أو نظيرا له، ولكنهبحاجة ماسة إليه، كما هو الأمر بالنسبة إلى ملوك الطوائف مع يوسف بن تاشفين، أوبعض الولاة الموحدين مع خلفائهم. ومن نماذج الرسائل المرابطية في هذا السياق رسالةيوسف بن تاشفين في الرد على استنجاد المعتمد بن عباد، ومنها قوله:"من أمير المسلمينوناصر الدين([15])،محيي دعوة أمير المؤمنين إلى الأمير الأكرم المؤيد بنصر الله، المعتمد على الله،أبي القاسم بن عباد، أدام الله كرامته بتقواه، ووفقه لما يرضاه"([16]).تتشكل صيغة هذا العنوان–كما يتضح من النص- من حرف الغاية (من) وثلاث ألقاب للمرسل. أما ذكر المرسل إليه،فقد تم من خلال الصفات والألقاب وذكر كنيته والدعاء له. وهو ما يدل على جودةالعلاقة التي كانت تربط بين يوسف بن تاشفين وملوك الطوائف، قبل أن يتكدر صفوهالاحقا. كما أن هذا العنوان (التعيين) يؤشر على مكانة المعتمد بالمقارنة مع الملوكالآخرين؛ مثل المستعين بالله أحمد بن هود الذي لم ينل حظوة المعتمد على الرغم منالعلاقة الطيبة التي كانت تجمعه بالمرابطين. يقول يوسف في رسالة جوابية عنه:"من أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين، إلى المستعين بالله أحمد بنهود، أدام الله تأييده..."([17]).نلاحظ هنا اقتصاداواضحا في الألقاب التي تخص المرسل إليه. والاكتفاء بذكر ألقاب المرسل التي تؤكدشرعيته الجهادية والدينية. وربما كان ذلك بسبب عدم حاجة أمير المسلمين إلى اعترافابن هود على عكس رسالته الأولى التي حرص فيها على تأكيد تمثيله للدعوة المركزيةببغداد.يتضح من هذا أن للعنوانأهميته السياسية والدينية البارزة، وأن صيغه تتأثر بتغير الأشخاص والظروف، كمانلمس ذلك في رسالة يوسف بن تاشفين إلى ملوك الطوائف، وبخاصة بعدما أبدوا تخوفهممنه، حيث رد عليهم مكتفيا بذكر اسمه: "من يوسف بنتاشفين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته([18])" فقد غابتالألقاب، وحضرت الشروط، وبدأت مرحلة الجد "فاستديموا وفائنا بوفائكم،واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم.."([19])وهكذا، فالاكتفاء بذكراسم المرسل وتهميش المرسل إليه هو مؤشر على موقف صاحب الرسالة، وعدم رضاه على سلوكالمرسل إليهم، حيث يطالبهم بالوفاء وتصحيح علاقاتهم بالمرابطين. ويمكننا أن ندرجنموذجا آخر في هذا السياق، وتمثله رسالة الأمير علي بن يوسف إلى جنوده المنهزمينفي بلنسية، حيث اكتفى بتعيين لقبه، وإردافه بلفظ "أما بعد" الذي يصلحلمثل هذا الموقف (أي الخشونة والعتاب). يقول الأمير:"من أمير المسلمينوناصر الدين، أما بعد..."([20]). وفي مقابل تهميش المرسلإليه باعتباره طرفا في العنوان، وجدنا نماذج أخرى من الرسائل المرابطية تعتنيبأسماء المرسل إليهم، من خلال ذكر ألقابهم وكناهم وصفاتهم، كما نقرأ ذلك في رسالةتاشفين بن علي التي استهلها بتعيين طرفي الكتاب قائلا: "من أمير المسلمينوناصر الدين تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين إلى وليه في الله تعالى، الأعزالأكرم الأحظى في ذات الله لديه أبي زكريا يحيى بن علي، والفقيه القاضي أبي محمدبن جحاف، وسائر الفقهاء والوزراء والأخيار والصلحاء، والكافة ببلنسية، حرسها اللهوأدام كرامتهم بتقواه".تعد أهم لقب يمنحه أميرالمسلمين إلى ولاته وأشقائه هو "ولي الله"، وذلك باعتبار أن المرابطينهم أولياء الله، وهو لقب ديني واضح سوف يتخذه الموحدون أيضا بالنسبة إلى ولاتهم.أما الرسائل المرفوعةإلى أمراء المرابطين سواء من ولاتهم أو رعيتهم فهي غالبا ما تستهل بالدعاء للأميربالطليقة (أطال الله بقاء أمير المسلمين). ويمكن اعتبار هذا الدعاء تعيينا للمرسلإليه وتقديما له، تم تأتي بعد ذلك الإشارة إلى المرسل –الذي قد يكون فردا أوجماعة- وذلك من خلال التعبير عن الولاء والإخلاص لأمير المسلمين والإيحاء بالموضوعالمقصود. ونمثل لذلك برسالة أحد المرابطينالموجهة من قرطبة إلى أمير المسلمين علي بن يوسف التي استهلها الكاتب أبو عبد اللهبن أبي الخصال بقوله:"أطال الله بقاءأمير المسلمين وناصر الدين، مؤيدا بجنوده، معانا بتوفيقه وتسديده، ولا يزال عدلهينعش الأمم، وسعده ينهض الهمم، كتبت أدام الله تأييده، من قرطبة حرسها الله."([21]). غير أنه ليس من الضروريأن يستهل الكاتب رسالته بالدعاء إلا حين يتعلق الأمر بالكتابة إلى أمير المسلمينباعتباره زعيما للمرابطين، أما بالنسبة إلى مخاطبة باقي الأمراء المرابطين،فالكاتب غير ملزم بالدعاء، كما أنه غير مضطر إلى الابتداء بتعيين المرسل إليه، كمايظهر من رسالة قاضي سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبي الطاهر تميم بن يوسف بنتاشفين حول موضوع الاستنجاد به، حيث استهلها بذكر اسمه ومن معه، وأعقبها بعد ذلكبالدعاء للأمير قائلا : " من ملتزمي طاعة سلطانه، ومستنجديه على أعداء الله،ثابت بن عبد الله، وجماعة سرقسطة من الجمل فيها من عباد الله :أطال الله بقاء الأميرالأجل، الرفيع القدر والمحل، كرم الإسلام يمنعه، ومن كرب عظيم على المسلمين، يزيحهعنهم ويدفعه "([22]).نستخلص من هذه النماذجالمرابطية حفاظ الكتاب على تداول الصيغ التقليدية في العنوان والتعيين، وتفننهم فيالوقت نفسه في تطويرها حسب المقام ومقتضى الحال. وقد اقتفى الكتاب الموحدون هذاالمسلك ، كما يظهر من رسائلهم. ومن ذلك رسالة الخليفة عبد المؤمن، وهي من إنشاءالكاتب أبي جعفر بن عطية، يخبر فيها الموحدون برجوعه من غزوة. وقد استعمل فيهاصيغة (من فلان إلى فلان) : " من أمير المؤمنين – أيده الله بنصره، وأمدهبمعونته – إلى الطلبة الذين بسبتة، وجميع من فيها من الموحدين خاصة وعامة "([23]).ويقول يوسف بن عبدالمؤمن في رسالة إلى الموحدين، وهي من إنشاء أبي الحسن بن عياش "من الأميريوسف بن أمير المؤمنين – أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته، إلى الطلبة الموحدينوالشيوخ والأعيان والكافة بمدينة قرطبة ..." ([24]) .ويتردد العنوان نفسه فيرسائل الموحدين من الجد إلى الحفيد، ومن أمثلة ذلك رسالة الخليفة يعقوب المنصورالتي يخبر فيها الموحدين بغزوته على الروم في ثغر الأندلس الشمالي، وهي من إنشاءأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن عياش، وقد استهلها بقوله: "من أمير المؤمنينبن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين – أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته – إلىالطلبة والموحدين والأشياخ والكافة بفاس وعملها "([25]).يشمل لقب أمير المؤمنين هناكلا من الجد (عبد المؤمن وابنه يوسف وحفيده يعقوب المنصور).ويتضح من النماذجالمعروضة، التشابه الكلي بين صيغ التعيين في الرسائل الصادرة عن خلفاء الموحدين،وذلك بالرغم من اختلاف الكتاب والأشخاص، إذ الثابت تقديم المرسل من خلال لقب أميرالمؤمنين، والدعاء له بالصيغة المألوفة (أيده الله بنصره، وأمده بمعونته). كما تحرص الرسائل على تعداد أسماء المرسل إليهم،وفي مقدمتهم الطلبة، الذين لا تخلو رسالة واحدة من ذكرهم.أما بالنسبة إلىالرسائل المرفوعة إلى الخلفاء، فإن كتابها –غالبا- ما يستهلونها بمخاطبة الخليفة،دون استعمال حرف "إلى"، وذلك من خلال ديباجة مطولة؛ يخصصها الكاتببترصيف عدد من الصفات والألقاب والجمل الدعائية التي تعكس جنوحه منذ العنوان، نحوالإغراق في أساليب التمجيد والترفيع والتبجيل، مما يفضي إلى اتساع المسافة بينطرفي الكتاب. وربما كان هذا عملا مقصودا من الناحية الفنية، وبخاصة إذا علمنا أنهدف الكاتب من تحليقه هو التأكيد على سمو مرتبة الخليفة بالمقارنة إلى مرتبةالمكتوب عنهم. وذلك على نحو ما نجده في رسالة أهل مراكش إلى المنصور جوابا علىرسالته بالنصر في الأرك، والتي استهلها الكاتب أبو الحسن القلني بقوله: "الحضرة الإماميةالعالية، المعظمة المكرمة المقدسة الطاهرة، حضرة سيدنا ومولانا الخليفة الإمامالمؤيد المنصور الناصر لدين الله أمير المؤمنين بن سيدنا ومولانا الخليفة الإمامأمير المؤمنين، وصل الله لها ما عودها من النصر والتأييد والتمكين، وأيدها وأعلىيدها أنى حلت وحيث وجهت بالفتح المبين والسعد المكين"([26]) . فهذه الديباجة كلهالتعيين المرسل إليه الذي يشار إليه (بالحضرة...). ونلاحظ هنا دقة الكاتب وشدةاحترازه المتمثل هنا في توزيع الصفات والألقاب بطريقة متساوية بين خلفاء الموحدينوذلك حتى لا يقع في المحظور. ولعل هذا ما يفسر تكرار عدد من الألفاظ، التي تسعفهعلى التعبير عن الولاء الكامل للخليفة : (الحضرة) "... العبيد المعتصمون بحبلعصمتها، المذمون بذمامها، المخصوصون من سابغ نعمتها بإكمالها عليهم وإتمامها،الفاخرون بجوارها، الكريم على عراق البسيطة، ويمنها وشامها، الداعون إلى اللهتعالى بنصر ألويتها وظفر اعلامها؛ المبتهلون إليه سبحانه في اعتلاء جدها ومجدهاومقامها: أهل مراكش؛ سلام كريم طيب مبارك عميم..."([27]).لا شك في أن القارئيلاحظ هنا نوعا من التدرج الفني في النزول عبر مراتب القول من الحديث عن المرسلإليه: الحضرة الإمامية العالية، والدعاء له، إلى المرسلين وهم العبيد المعتصمونبحبل هذه الحضرة؛ حيث يقتضي تداعي الكلام الانتقال إلى التعبير عن ولاء أهل مراكشوخضوعهم للسلطة الموحدية ووفائهم لها (العبيد المعتصمون بحبل عصمتها – المذمونبذمائها...).هذا، وقد بلغ الكتابالمرابطون والموحدون درجة عالية من التفنن، وحسن التصرف في عناوين رسائلهم، ومثالذلك ابتكار صيغة مشتقة من لفظ الكتابة للإشارة إلى المرسل، وفي الوقت نفسه الدعاءإلى المرسل إليه؛ كقولهم : كتابنا([28])- كتب الله لكم([29])-، ومعلوم أن لفظ"كتابنا" يوحي بأن المرسل من أهل الأمر والنهي. ومن نماذج الرسائلالمرابطية الدالة على هذا العنوان بصيغة كتابنا، رسالة أمير المسلمين علي بن يوسفإلى القائد العسكري الأمير أبي محمد بن أبي بكر بهزيمة القلعة، التي استهلهابقوله: "كتابنا وفق الله رأيك وحسن هديك، ولا أمال عن الهدى والرشد سعيك، من حضرةمراكش حرسها الله في السابع من شعبان المكرم سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة"([30]).وفي رسالة أخرى له إلىالشعب الأندلسي، يعلمهم بعزمه على الجهاد يقول: "كتابنا أعزكمالله بتقواه، وكنفكم بظل ذراه، ووفر حظوظكم من حسناه، من حضرة مراكش –حرسها الله-يوم الاثنين منتصف شوال من سنة سبع وخمسمائة بين يدي حركتنا يمن الله فاتحتهاوعقباها"([31]).يقول مخاطبنا أهل مراكشبمناسبة جوازه إلى الأندلس برسم الجهاد : "كتابنا أبقاكمالله وأكرمكم، ووافاكم المحاذير وعصمكم، ووصل بموفور مزيده آلاءكم وقسمكم، من حضرةغرناطة حرسها الله."([32]).ونلاحظ هنا أن لفظ(كتابنا) غالبا ما يقترن بالدعاء للمرسل إليه سواء كان فردا أو جماعة.أما الرسائل الموحديةفهي كثيرة في هذا السياق، وسنكتفي منها بذكر ما يفي بالغرض، ومن ذلك رسالة الخليفةعبد المؤمن الموجهة إلى الموحدين في الإخبار بثورة أخوي المهدي بن تومرت. وقد استهلهابقوله: "وهذا كتابنا –كتب الله لكم ملء القلوب من الإضاءة والتنوير وكفاءةالظواهر والغيوب، من التخلص والتطهير، وأعاذكم بعصمته من تقلبات التبديل والتغيير،ونجاكم برحمته من موبقات التفكير والتقدير، من حضرة مراكش حرسها الله..."([33])يكشف النص عن براعةالكاتب في استهلاله، حيث ربط بين العنوان وبين الموضوع المقصود. وهو ملمح مهم منملامح إحكام الكاتب لصنعة الكلام.هذا، ومن مظاهر تفننكتاب الرسالة المرابطية والموحدية في العنوان عدولهم عن لفظ الاسم"كتابنا" إلى لفظ الفعل "كتبنا" كما اتضح ذلك من الأمثلةالسابقة، وسوف نعود إلى هذا الموضوع عند معالجتنا لصيغ الدعاء.هذا ومن الجدير بالذكرهنا أن لفظ "كتبنا" أو "كتب" لا يوظف بالضرورة في عنوانالرسالة للإيحاء بالمرسل، وإنما يستعمل أحيانا في معناه اللغوي، ويأتي وسط الرسالةتقريبا لبدء التخلص من المقدمة إلى المقصد.وإجمالا، فقد تمكنالكتاب المرابطون والموحدون من حسن التصرف في عناوين رسائلهم سواء بمحافظتهم علىبعض الصيغ المألوفة للعنوان، وإحكام صناعته من خلال براعة الاستهلال المتمثلة فيالربط بين العنوان والموضوع بحسب مقتضى الأحوال والظروف والأشخاص، وتنويع أساليبالترفيع والتمجيد، وبخاصة في الرسائل الموحدية، أو من حيث التفنن في تعديل بعضالصيغ واشتقاق أخرى؛ كقولهم : كتبنا إليكم –كتب الله لكم كذا-. وهكذا لم يعد العنوانمجرد تعيين المرسل والمرسل إليه، ولكنه أصبح مساحة فنية لإبداع العناوين الصغرىالتي تفضي إلى المراد من الرسالة، ويتحقق معها حسن الاستهلال والابتداء.


الهوامش:([1]) والثوابت الأخرى:الأسماء والكنى والألقاب . الورق والقلم وما يتعلق بهما المستندات والملخصات وكيفية التعيين الفواتح والخواتم واللواحق . (صبح الأعشى 8/72).
([2]) قيل إن أول من كتب ( منفلان إلى فلان ) رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصار ذلك سنة . انظر الاقتضاب فيشرح أدب الكتاب لابن البطليوسي (ت 521هـ)، تح: مصطفى السقا وحامل عبد المجيدالقاهرة 1981م.
([3])إحكام صنعة الكلام: 5 ، حسن التوسل: 84 ، نهاية الأرب : 7/166 .
([4])انظر أدب الكاتب للصولي: 143-144 ، بعناية محمد بهجت الأثري ، دار الكتب العلمية ،بيروت.
([5])إحكام صنعة الكلام : 67 .
([6]) ويسميه يحيى بن حمزة بنعلي بن إبراهيم العلوي اليميني بالتلميح : 3/170، (انظر الطراز المتضمن لأسرارالبلاغة وعلوم حقائق الإعجاز: 3/170، دار الكتب العلمية، بيروت 1980م).
([7]) تحرير التحبير في صناعةالشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن لابن أبي الأصبع المصري العدواني (ت 654هـ)،تقديم وتحقيق: حنفي محمد شرف، الجمهورية العربية المتحدة، المجلس الأعلى للشؤونالإسلامية.
([8]) محيط المحيط: 640 ،مكتبة لبنان 1987م.
([9]) المفتاح المنشا: 120.
([10])سورة النحل : 30 .
([11]) ذكر أبو هلال العسكري أن أول من كتب من فلان إلى فلان ، قس بن ساعدة" الإيادي ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ، وحتى الملوك فيالجاهلية كانوا يكتبون بها .انظر صبح الأعشى : 1/480 . وقال أبو محمد بنالسيد البطليوسي ( ت 521 هـ ) : " إن أول من كتب من فلان إلى فلان رسول اللهصلى الله عليه وسلم . فصار ذلك سنة " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب : 1/201 .
([12])إحكام صنعة الكلام : 53.
([13])صبح الأعشى: 6/465. وقد ذكر بعض الكتاب أن الابتداء "باللام"يكون لمخاطبة الأعلى والجليل، و"إلى" تكون لمخاطبة الأدنى. فالأجل يكتبله : من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان, والنظراء ومن دونهم يكتبون : لأبي فلان منفلان. وعلق الصولي على هذا بأن حقيقة "اللام" أنها مقامة مقام"إلى" بسبب التقديم (أدب الكاتب: 145).
([14]) لقداختلف العلماء في جواز الابتداء في المكاتبة باسم المكتوب إليه، فمن أجاز احتجبالصحابة. وبعض الملوك كانوا يكتبون إلى النبي كذلك. وقد روى أن النبي قال :"وإذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه، إلا إلى والد أو والدة أو إمام يخافعقوبته" انظر صبح الأعشى : 6/315.
([15]) نشير هنا إلى أن الصيغةالمألوفة في رسائل المرابطين تتكون من لقبين فقط وهما "أمير المسلمين وناصرالدين" وتطلق على يوسف بن تاشفين وابنه وحفيده، وهي بديل عن لقب "أميرالمؤمنين" الذي تلقب به الخلفاء الراشدون، والأمويون، والعباسيون والموحدونالذين لم يترددوا في خلع هذا اللقب على أنفسهم. وسوف نعود إلى هذا الأمر بالتفصيلعند الحديث عن لواحق الرسالة.
([16]) الحلل الموشية : 50.وأما صيغة العنوان في رسالة المعتمد فكانت هي (إلى فلان من فلان) تعظيما ليوسف بن تاشفين.قال المعتمد بعد البسملة والصلاة على النبي : "إلى حضرة الإمام، أميرالمسلمين وناصر الدين، محيي دعوة الخلافة، الإمام أمير المؤمنين، أبي يعقوب يوسفبن تاشفين، من القائم بعظيم إكبارها، الشاكر لإحلالها..." الحلل الموشية: 45.
([17])نفسه: 75.
([18])وفيات الأعيان، 7/115، نفح الطيب: 4/355.
([19])نفسه : 7/115.
([20]) عصرالمرابطين وبداية الدولة الموحدية: 1/545.
([21]) عصرالمرابطين والموحدين : الوثيقة، ص : 1/547.
([22])نفسه : 538 .
([23])رسائل موحدية، الرسالة 1 ، ص : 1 .
([24])المن بالإمامة : 233 .
([25])مجموع رسائل موحدية، الرسالة 35، ص: 228
([26])رسائل موحدية، (مجموعة جديدة): 200.
([27])نفسه ص.ن.
([28]) لعل لفظ"كتابنا" مأخوذ من بعض الكتب السابقة –بخاصة كتب النبي- كرسالته صلىالله عليه وسلم إلى أهل اليمن التي كان عنوانها بعد البسملة هو: "هذا كتاب منمحمد رسول الله إلى اهل اليمن" انظر مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبويوالخلافة الراشدة: 165.
([29]) هذا الدعاء بلفظ (كتبالله لكم) هو من صنع كتاب المغرب، وبه انفردوا عن كتاب المشرق. انظر صبح الأعشى :7/30.
([30]) عصرالمرابطين وبداية الدولة الموحدية: الوثيقة: 4، ص: 541-542.
([31])مقال: وثائق تاريخية جديدة: 168.
([32]) نفسه : 190
([33])مجموع رسائل موحدية، الرسالة : 11، ص : 38.