صيغة الاستهلال بالبسملة
في معمار الرسائل العربية
(عصرالمرابطين والموحّدين نموذجا) د. محمد بن العياشي وجدة/ المملكة المغربية
تتميزالرسائل بعامة ورسائل المرابطين والموحدين بخاصة بتوافرها على عدد من العناصرالمنظمة التي تتشكل منها بنية النص؛ كالبداية والوسط والنهاية. وهي خاصية مشتركةبينها وبين باقي أجناس الكلام المنظوم، كالخطب([1])والشعر([2]). ويتضح ذلك من تحديدابن سينا (ت 428هـ) للعناصر البنائية للخطابة بقوله:"وللأقاويلالخطابية صدر واقتصاص وخاتمة"([3]).وتكتسي البداية أهمية كبيرة في الكتابة، إذ تعد أول مظهر بارز من مظاهر إحكامالكاتب صنعة الكلام، سواء أكان شعرا أم نثرا : "وليس الصدر مما قد يقدمهالخطباء فقط، بل والشعراء المجيدون"([4]).وهكذافالابتداء هو اللبنة الأولى في بناء الرسالة، وتأتي أهميته من كونه يحمل دلالةالإفضاء إلى ما بعده، أي أن وظيفته هي أن يخدم ما يليه بتضمنه الموجز له أو إيحائهبه([5]).وتشترطالجودة فيه، حيث قال أحدهم مخاطبا الكاتب: "أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءاتفإنهن دلائل البيان"([6]).واعتبر ابن الأثير"المبادئ والافتتاحات من أركان الكتابة"([7])،وأن الكاتب : هو من أجاد المطلع والمقطع"([8]).وكان كتابالرسالة المرابطية أو الموحدية يجيدون هذه الصنعة الفنية، كما يتضح ذلك من الرسومأو العناصر المكونة للنص التي يمكننا تقديمها مجملة على النحو الآتي : البسملة (أوالحمد)الصلاة علىالنبي.العنوان(التعيين).السلام (أوالتحية)الما بعد(صيغة التخلص). وباستقرائنالمقدمات الرسائل المرابطية والموحدية نجدها تنطوي على معظم هذه العناصر، وإن اختلفكتابها –أحيانا- في نوع صيغها وعددها وتراتيبها. وسوف نقتصر في مقالنا هذا على إبراز أهميةالاستهلال بالبسملة أو الحمد على أن نعود إلى معالجة باقي العناصر في مقالات أخرىإن شاء الله. وبخصوص صيغ البسملة التي انتهت إلى عصرالمرابطين والموحدين نجدها على صورتها المعروفة الآتية: "بسم([9])الله الرحمن الرحيم". وكان تقديم هذه الصيغة في الكتابة يعني التبركبالابتداء بها، والتيمن بذكرها. اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بخبر "كل أمرذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع"([10])، أي ناقص غير تام. وقيل إن أول من كتب في أول الكتب بسمالله الرحمن الرحيم، سليمان عليه السلام، حين كتب لبلقيس كما أخبر تعالى عنهبقوله: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)(*). ثم كتبها النبي عليه الصلاةوالسلام لما نزلت([11]).وتعد صيغةالبسملة([12]) أول العناصر وأهمها في بناء الرسالة العربية عموما،والرسالة المرابطية والموحدية على وجه الخصوص، وذلك بالنظر إلى دلالتها التاريخيةوالدينية العميقة، المستمدة من تصدرها لسور القرآن الكريم، وكتب النبي عليه الصلاةوالسلام، ودورها المؤثر في الرسائل الموجهة إلى الكفار. إلا أن هذا لا يعني وجوباطرادها في كل الرسائل؛ وذلك لأسباب فنية ودينية؛ حيث كان المقام أو مقتضى الحاليدفع الكاتب إلى الاكتفاء بالحمدلة، باعتبارها تقوم مقام البسملة، أو يتحفظ علىذكرها؛ كما كان الأمر جاريا في بعض رسائل السلف؛ إما خـوفا على العبث بها، وإمالأن الموضوع لا يقتضي أي استفتاح أو تمهيد([13])، (كمخاطبة العابثين أو المشركين).ومن المفيدهنا أن نشير إلى أن هذه العبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" قد مرت بعـدةتطـورات([14]) قبل أن تستوى على هذه الصورة ، وذلك انطلاقا من صيغتهاالجاهلية: "باسمك اللهم"([15])، مرورا بصيغها القرآنية " بسم الله "،و" بسم الله ما شاء الله "، و" بسم الرحمن" ثم أخيرا "بسم الله الرحمن الرحيم ". وقد عارضبعض كفار قريش هذه الصيغة الإسلامية.هذا،وبالنظر إلى هذه الصيغة وارتباطها بالقرآن وكتب النبي، فقد أصبح استعمالها معالزمن امتيازا مرهونا بمقام صاحبها، حيث أصبحت مقصورة على الكتب الصادرة فقط منالأعلى إلى الأدنى، أو من ذوي المرتبة أو المنزلة الواحدة. أما إذا كانت الكتبصادرة من الأدنى إلى الأعلى فإن الكاتب مطالب بإخلائها من البسملة([16])، وينطبق هذا – بشكل ملحوظ – على رسائل المرابطينوالموحدين.وإلى جانبالتطور([17]) الذي عرفته صيغة البسملة، نشير أيضا إلى ما حظيت بهألفاظها (باسم الله – الرحمن–الرحيم)، من شروح لغوية وفقهية([18])؛من حيث إعرابها واشتقاقها ودلالتها وخلفيتها العقدية والسياسية المرتبطة بالصراعالذي كان قائما بين الإسلام والشرك. ويهمنا هنا أن نستعرض بعض النماذجالتي تبرز لنا مدى عناية المغاربة باستعمال هذه الصيغ الدينية التي ظلت مألوفة فيرسائلهم على نحو ما نجده في رسائل المرابطين؛ ومن ذلك الرسالة الجوابية ليوسف بنتاشفين إلى ملوك الطوائف وزعيمهم المعتمد بن عباد، التي استهلها بالبسملة هكذا"بسم الله الرحمن الرحيم. من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة اللهوبركاته..."([19]).وقد استمرت عناية المرابطين باستهلال الرسائل بالبسملة حتى عهد الحفيد تاشفين بنعلي بن يوسف بن تاشفين الذي استهل بالبسملةإحدى رسائله الموجهة إلى الأمير أبي زكريا يحي بن علي والي بلنسية وقاضيها ابنجحاف، قائلا:"بسم الله الرحمن الرحيم. صلىالله على محمد وآله وسلما تسليما. من أمير المسلمين وناصر الدين تاشفين بنعلي..."([20])ويظهر أن الافتتاح بالبسملة يقتصرعلى الرسائل الصادرة عن الأمراء المرابطين، في حين إن الرسائل المرفوعة إليهم كانتنفتتح –عادة- بالدعاء بالطليقة أوالحمد، أو بالتعيين والدعاء([21])،وسوف نتطرق لدراسة هذه العناصر في المواضع التي يغلب ورودها فيها.هذا، وقد تواصل استهلال الرسائلبالبسملة في عهد الموحدين، وبخاصة في الرسائل الصادرة عن الخلفاء أو الولاة إلى منهم دونهم درجة. ومن نماذج ذلك رسالة الخليفة عبد المؤمن إلى ولده (والي اشبيلية)، حيثاستهلها بقوله : "بسم الله الرحمن الرحيم صلىالله على محمد وآله وسلم، والحمد لله وحده، أعزكم الله وجعلنا وإياكم من الشاكرينلنعماه"([22])والاستهلال نفسه يطرد في رسالةالخليفة يوسف بن عبد المؤمن إلى أخيه السيد أبي سعيد وأصحابه الطلبة بقرطبة،ومطلعها : "بسم الله الرحمن الرحيم، صلىالله على محمد وآله وسلم، والحمد لله وحده، من الأمير يوسف بن أميرالمؤمنين..."([23]) ونلاحظ هنا اقتران البسملة بالحمدلة،وهو أسلوب من أساليب استهلال الرسائل الإسلامية التي تقرن بين الصيغتين أحيانا.ويعد ذلك مظهرا من مظاهر حسن الافتتاح الذي يجمع بين ذكر الله والثناء عليه.أما الرسائل المرفوعة إلى الخلفاءالموحدين فهي تخلو من البسملة أيضا، إلا أنه يتم تعويضها بديباجة طويلة من الدعاءللموحدين وتمجيدهم وتعظيمهم على عكس مقدمات الرسائل المرابطية التي تميل في الغالبإلى عدم الاحتفال بالديباجات المسهبة، وذلك انسجاما مع تواضع الأمراء المرابطين.والذي نستنتجه هنا هو أن الحفاظ علىتوظيف صيغة البسملة ما هو في الواقع سوى سمة من سمات الطابع الإسلامي لرسائلالمرابطين والموحدين كما يتضح ذلك من مختلف عناصر التقديم والتمهيد.


الهوامش:
(
[1]) يشير العسكري إلى تشاكل الرسائل والخطب، حيث يقول : "وكذلك فواصلالخطب، مثل فواصل الرسائل، ولا فرق بينهما، إلا أن الخطبة يشافه بها، والرسالةيكتب بها؛ والرسالة تجعل خطبة، والخطبة تجعل رسالة". كتاب الصناعتين لأبيهلال العسكري (ت 390هـ): 136، تح: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم،بيروت 1986م.
([2]) ويعرف هذا النظام فيالشعر بالمبدأ والخروج والنهاية. انظر: العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيقالقيرواني (ت 456هـ) 1/217، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1987م. 1/217، الصناعتين: 431.
([3])انظر الخطابة من كتاب الشفا: 236، تح: محمد سليم سالم، المطبعة الأميرية، القاهرة1954م.
([4]) نفسه: 238.
([5])وللخاتمة دلالة تضمن ما قبلها، فهي تجمع ما ثبت وتذكيره دفعة واحدة على سبيلالتوديع للقول.(نفسه: 237).
([6])كتاب الصناعتين: 431.
([7]) المثل السائر في أدبالكاتب والشاعر لابن الأثير (ت 637هـ): 1/96، قدمه وحققه وعلق عليه: أحمد الحوفيوبدون طبانة، دار نهضة مصر، الفجالة، القاهرة. وقد بالغ المتنبي في العنايةبأشعاره حتى عقد أوائلها لشدة ثقته بنفسه (انظر العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابنرشيق القيرواني (ت 456هـ) : 1/239، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيلبيروت، ط 5، 1981م).
([8]) نفسه : 1/96
([9]) لا تكتب بألف وصل هكذا (باسم)، وقد استغل أحد الشعراء وضعية هذا اللفظ منخلال أبيات ظريفة شبه فيها حرمانه من الأعطية دون رفاقه بوضعية (بسم الله) حيث قال: أفي الحق أن يعطى ثلاثونشاعرا ويخرج ما دون الرضى شاعر مثليكمـا تسامحـوا عمرا بواوزيادة وضويق "بسمالله" في ألف الوصـلانظر: إحكام صنعة الكلام للكلاعي (ت 543هـ):55، تح: محمد رضوان الداية، دار الثقافة، بيروت.
([10]) صبحالأعشى: 6/314.
(* ) سورة النمل : 30.
([11]) صبحالأعشى : 6/314.
([12]) جعل الكلاعي منها ميزة فارقة حيث اعتبر "الاستفتاح ب : (بسم اللهالرحمن الرحيم) دليلا على فضل الكتابة على الشعر" إحكام صنعة الكلام : 39.
([13]) لابد من الإشارة هناإلى أن بعض الرسائل قد وردت خالية من المقدمات،والسبب فيما أرجح لا يرتبط بالمقام، وإنما يعزى إلى كتاب المصادر الذين كانوايحذفون مداخل الرسالة رغبة منهم في الاختصار. والطريف في هذا السياق أن أحدالأدباء يرى أن المقدمات تنفع أولائك الذين لا يعرفون كيف يسلكون إلى مراسيلهمطريق القلب الواضحة : "فتكلف ما يستغنى عنه عي، لا سيما إذا خوطب ذكيألمعي". انظر الذخيرة : 3/1/466.
([14])انظر: إحكام صنعة الكلام: 55.
([15])يقال أول من كتبها أمية بن أبي الصلت ، صبح الأعشى: 1/480 .
([16]) انظر كتاب المفتاح المنشا لحديقة الإنشا، لضياء الدين بن الأثير: 118، تح:عبد الواحد حسن الشيخ ، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، ط 1، 1990م.
([17]) انظر في تطور هذهالصيغة كتاب : الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام لأبي زيد عبد الرحمانالسهيلي (ت 581هـ): 1/271، ط دار الفكر، بيروت.
([18]) تعددت الآراء الفقهيةفي شأن البسملة؛ فهناك من قال بأنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة في القرآن .وهناك من اعترض على ذلك . كما اختلف العلماء حول قراءتها في الصلاة . (انظر عنذلك: شرح بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي الحفيد (ت 595هـ) 65، تح: عبد الله العبادي، القاهرة، ط1، 1995م).وذكر الكلاعي أنه خص البسملة بدراسة موسعة فيكتاب له بعنوان " حلية الفقهاء " انظر إحكام صنعة الكلام: 56.
([19])وفيات الأعيان: 4/15.
([20]) انظر مقال "نصوص سياسية: 10، رسائل أندلسية : 55، عصر المرابطينوبداية الدولة الموحدية: /548.
([21]) لابد من الإشارة هناإلى أن الدعاء ليس قسما من أقسام الرسالة، ولكنه غالبا –ما يأتي بكثرة في الخاتمةوالاعتراض.
([22])المن بلإمامة: 78.
([23]) عصرالمرابطين وبداية الدولة الموحدية، الرسالة 1، ص : 728.