(1)
تلح هذه الصورة على ذهني تمهيدا وتصويرا للمعنى الذي أريده في هذا الموضوع.
ما هي؟
إنها عملية شراء آلات حياكة من الغرب.
ما فيها؟
فيها أن الغرب يشيع فينا موداته وفلسفته السلوكية، فإذا تشبعنا بها بدأنا نستورد منه آلات الحياكة لنحيك موداته التي أشاعها فينا لا أن نحيك ملابسنا بما يتلاءم وديننا.
ما صلة ذلك بالأدب؟
إنه عين الأدب.
كيف؟
(2)
إذا مررنا مرورا سريعا على نشأة الأدب رأينا الفعل ذاته.
كيف؟
ذهبت البعثات العلمية فانبهرت بالسلوكيات والآداب، وعندما عادت بدأت رحلة الترجمة والنقل عن الغرب ليس في العلوم فقط بل في الأدب وما يتصل بما يسمى العلوم الإنسانية.
وعندما شاع النموذج الأوربي الأدبي المبني على العلمانية التي تجعل الأديب مصدر المعرفة بدأت حركة متابعة الأديب العربي والدارس الأدبي العربي الآداب الغربية واستيراد مفاهيمها، وإبطال ما يقدم منها واتخاذ واعتماد ما يستحدث منها.
كيف؟
(3)
كان موضوع الأدب قديما عند اليونان الطبقة المتميزة في المجتمع حكاما وقادة ونبلاء، ولم يكن لبقية طبقات الشعب نصيب في موضوع الأدب؛ لأنهم أقل من أن يستهدفهم الأديب ويكتب عنهم.
ثم جاءت المدرسة الواقعية التي تناولت هذه الطبقات المنبوذة واختارت نموذج العامل المضطهد كما فعل ديكنز والمرأة الساقطة الغانية كما في غادة الكاميليا ولوليتا وغيرهما.
وصار كل موضوع في الحياة قابلا للوصف والتناول الأدبي مهما كان نوعه؛ فالجنس القذر عماد والقدح في المقدس مُقدَّم، و... إلخ، ونسوا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
وتوالت المدارس الأدبية التي كانت تبدأ خارج الأدب كثيرا في الفن التشكيلي مثلا، ثم تنتقل إلى الأدب وإلى غيره من مجالات الحياة لتصنع رؤية شاملة للحياة؛ لأن الدين لا يصبغ شيئا في هذه الحيوات عندهم.
فظهرت الرومانسية التي تجعل الفرد وداخله هما كل شيء فيحل له الحديث عن أي موضوع بأية صيغة يراها، والرمزية التي يستخدمها الكاتب فيما يخشى من طرحه طرحا مباشرا، والسريالية والعبثية وغيرها.
وجاءت الرواية العربية والقصة العربية متأثرتين بذلك حسب المرحلة الغربية السائدة.
كيف؟
أعقب دور الترجمة دور النقل فيما يسمى التمصير فيما يخص مصر والتعريب فيما يخص غيرها.
كيف؟
تنقل الموضوعات الأدبية الغربية، وتتغير أسماء الشخصيات وأسماء الأماكن بما يتلاءم مع المنقول إليه، مع بقاء المضمون كما هو، على الرغم من أن المضمون هو الذي يحمل تصور الحياة والسلوك.
ظهرت رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل 1914، وأعقبها إنتاج من تأثر بالغرب بها. وفي القصة القصيرة كذلك، ومن يتابع تاريخ الأدب العربي الحديث يرى ذلك رؤية العين.
ولم تكن المتابعة في المنتج الأدبي فقط، بل في التنظير الأدبي أيضا.
كيف؟
(4)
أ- ساد الحديث عن "الفن للفن" أو "الفن للحياة" وكأنهما هما طرفا القضية فقط، وغاب عنا الشعار الصحيح الذي هو شعارنا والذي قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم لشاعر الإسلام حسان بن ثابت في الحديث الذي رواه البخاري وغيره "حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ، وَجِبْرِيلُ مَعَكَ".
فالهجاء غرض شعري، وطلب من المسلم الشاعر أن يمارسه لكن بضوابط الإسلام، أي أن الأديب له أن يمارس أدبه لكن بضوابط الإسلام.
ب- وساد مفهوم أن "الأدب فوق كل شيء"، وأن الأديب مشرع ذاته، وفوقه الأدباء الغربيين أو العالميين ونقادهم فقط؛ لأنهم معلموه وأساتذته؛ فلا دين يؤثر؛ لأن الدين لا سلطة له على الأدب ولا الأديب لحظة إبداعه، ولا المجتمع، ولا ... إلخ.
وكان من نتيجة ذلك أن بات راسخا في الضمير الأدبي للأدباء أن كلا من حقه أن يتكلم في الأدب تنظيرا ونقدا إلا الله تعالى ورسوله ودينه؛ مما يجعل الاستنكار والاستغراب والدهشة العلامة البارزة على مجابهة موقفهم هذا، هذا إن لم يفتحوا أدراجهم ويخرجوا تهم الرجعية والتخلف وغي ذلك من تهم الإفلاس والعجز.
ج- وساد وصف الشخصية الرئيسة في العمل الأدبي بالبطل والبطلة بغض النظر عن طبيعتها الفنية؛ فقد تكون زانية أو راقصة وقد يكون قوادا وعربيدا أو فاسدا.
يحدث هذا مراغمة لما رسخ في حس الناس وفي اللغة العربية التي تبين نصوصها أن البطولة تعني الشجاعة لا ما يشاع مسخا لها.
قال الأزهري "تهذيب اللغة": وقال أبو خَيْرَة: إنّما سُمّيَ البَطَلُ بطلاً؛ لأنه يُبْطل العظائمَ بسيْفه فيُبَهْرِجها. وقال غيره: سُمِّيَ بطلاً؛ لأن الأشداء يَبْطلون عنده. ويقال: الدِّماءُ تَبْطُل عنده فلا يُدرك عنده ثأر. وقال الرازي في "مختار الصحاح": والبَطَلُ الشجاع والمرأة بطلة وقد بَطُل الرجل من باب سهل وظرف أي صار شجاعا.
وهذا هو الراسخ في حس الناس قبل أن يشيع هذا المعنى الفاسد.
د- وساد أن الأديب هو ضمير الأمة، وأن رقي الأمة يقاس باهتمام الناس بأدبها- على الرغم من أن الأدب السائد ليس أدب الأمة إنما هو أدب الغرب يكتبه أناس يعيشون في الأمة الإسلامية.
ه - ...
وغير ذلك مما هو سائد معروف يغني عنه ما ذُكر سابقا.
(5)
وماذا كانت النتيجة؟
كانت ما قاله رسولنا الكريم في سنن أبي داود وصححه الألباني (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ).