المناظرة في التراث العربي سليمة محفوظي

مع انبعاث وتطور الدرس الحجاجي المعاصر في سياق الثورة التواصلية التي طبعت زماننا الراهن، برزت القيمة الاستثنائية التي كانت تمثلها مجالس المناظرة العربية القديمة، والأهمية النوعية للإسهام العربي الإسلامي الفريد في التنظير والتقعيد لطرائق الجدل وأساليب المباحثة. ولقد أصبح الدارسون اليوم يتوجهون بقدر بالغ من العناية إلى دراسة هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ الثقافة العربية، والتي كان لها الدور الحاسم في إنشاء وحفظ وتداول المعارف في مختلف الحقول الفكرية التي أبدعت فيها الثقافة العربية.
والمناظرة كما يعرفها طاش كبرى زاده الذي كان علما في هذا الباب "هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للحق"، وقد رسم ابن خلدون في المقدمة معالم هذا العلم، ومسوغاته وغاياته حين قال"فإنه لما كان باب المناظرة في الرد والقبول متسعا، وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل عنانه في الاحتجاج، ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول، وكيف يكون حال المستدل والمجيب، وحيث يسوغ له أن يكون مستدلا، وكيف يكون مخصوصا منقطعا، ومحل اعتراضه أو معارضته، وأين يجب عليه السكوت ولخصمه الكلام والاستدلال، ولذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود والآداب التي يتوصل بها إلى حفظ رأي أو هدمه..."
ولعل أهم ما تحيل إليه هذه المنهجية التناظرية التي ارتضاها المسلمون سبيلا لإبداع تراثهم، هو ذاك الوعي المبكر لعلماء الإسلام بأن الحق لا سبيل إلى اقتناصه بغير اجتماع العقلاء على طلبه، ومساهمتهم مؤتلفين في بنائه وإنشائه، وهذا الذي أشار إليه الدكتور طه عبد الرحمن بمصطلح المعاقلة التي كانت تسد في الفكر الإسلامي القديم مسد العقل في التراث اليوناني. والمعاقلة حسب الدكتور طه فعل جمعي للعقل (مأخوذا هنا بمعناه الفعلي، أي بما هو إدراك، وليس بمدلوله الجوهري ذي الجذور اليونانية) يشارك فيه الكثيرون ولا ينفرد به الفرد الواحد، إنها حالة "تُكتسب بالتعاون والتشارك على إظهار الصواب وتحقيق الاتفاق"(في أصول الحوار، 2000، ص157). أي أن المناظرة هي الإطار الذي يسمح للجماعة بأن تفكر كجماعة، وتنتج ضمن شروط هذا الوضع الخاص ومقتضياته التي تباين ولاشك صور التفكير الفردي المتوحد، ولا يعني ذلك بأي حال مراكمة الأنظار الفردية ودمجها على أي وجه، وبأي نحو، وإنما يتم ذلك من خلال إبداع طرائق وتقنيات منطقية وخطابية، وتسطير ضوابط مسلكية يتحقق بفضلها تنسيق هذه الأنظار الفردية ونظمها نظما متناغما يزكو به المعقول ويرتقي طورا بعد طور، فـ"كما تنظر بينك وبين نفسك، تنظر بينك وبين خصمك، بشرط الموافقة على الأصول التي تنظر بها، وإلا لم ينضبط الكلام والنظر، وانفتح باب الشغب والعناد" كما أشار ابن البناء المراكشي في ختام رسالته في الجدل، فهذه المهمة هي التي اختص هذا العلم بتحقيق مسائلها وتدقيق مناطاتها.
ولما كانت المعاقلة مفاعلة كما تفيد ذلك صيغتها الصرفية، فإنه ومراعاة للطبيعة الخاصة للأفعال الجمعية التي لا تقوم إلا إذا كانت مسنودة بقواعد تحدد الحقوق والواجبات، وتميز المسموح به من المقدوح فيه، كان سعي علماء المسلمين حثيثا في تأطير المعاقلة بالضمانات الخلقية والسلوكية، باعتبار ذلك يندرج ـ ضمن هذا المنظور الجمعي للفعل العقلي ـ في إطار الشروط التي لا يقوم هذا الفعل إلا بها، ولا تنضبط أركانه إلا باستيفائها، وهذا ما يفسر ـ ولو جزئيا ـ تلك العناية البالغة لعلماء المسلمين في التأكيد على ضرورة وصل العلم بالعمل والنظر بالأخلاق، فقد كان ذلك بغاية الحد من تأثير عيوب العمل على صروف النظر، وحرصا على أن لا تكون الآفات الخلقية سببا يعطل العطاء العلمي ويعوق مسيرة المجتمع في أبواب الكسب المتفرقة. فالناظر في كتب التراث لا شك يعثر على نماذج من الأقوال السائرة بين علماء الإسلام وإشاراتهم وتنبيهاتهم إلى امتناع قيام العلم بمعزل عن العمل، وإلى ضرورة ضبط هذا بذاك، شذرات مضيئة تطالعنا في سائر أبواب المعرفة شرعية كانت أم وضعية. وفضلا عن ذلك فإن نفرا من جهابذة النظر في الإسلام جاوزوا ذلك فأولوا بالغ العناية في تآليف أفردوها لـ "آداب البحث والمناظرة" إلى ذكر الآداب التي ينبغي أن تكون مَرْعية في المحاورات الفكرية، وجعلوا القول فيها من المباحث الأساسية في هذا الباب، تنتظم جنبا إلى جنب مع حديثهم في الجوانب التقعيدية المتصلة بالوظائف الخاصة بكل واحد من المتناظرين، بل عدوا هذه المواثيق الخلقية في المناظرة من الأركان التي لا يستقيم النظر الصحيح إلا إذا تم الوفاء بمقتضياتها، ويصح الكف عن المناظرة إذا تم الإخلال بها. يقول الإمام أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي في "كتاب الجدل" فأما آدابه (يقصد الجدل) التي إذا استعملها الخصم وصل بغيته، وإن لم يستعملها كثر غلطه واضطرب عليه أمره: تحديد السؤال والجواب، وترك المداخلة(أي المقاطعة)، والإمهال إلى أن يأتي الخصم على آخر كلامه، وينتظم آخر معانيه، والإقبال على خصمه والإصغاء إليه دون غيره، وأن لا يخرج من مسألة إلى أخرى حتى يستوفي الكلام في الأولى، واستعمال الحسن الجميل دون التشنيع والتقبيح، وحفظ المقول، لئلا تجري مناكرة لما قيل، أو دعوى ما لم يقل، ولا يغير كلامه بما يحيل المعنى، ولا يلغو في نوبته، لأن ذلك يعمي عين البصيرة ويكسر حدة الخاطر".
فانظر كيف تتداخل في هذا القول القواعد المنهجية بالضوابط الخلقية في تناغم يجعل السعي التناظري جهدا تتسع فيه مساحة الفعل القاصد المنضبط، وتضيق فيه مساحة العبث والمشاغبة والسفسطة بما هي مظاهر معيبة في المناظرة.
وما أحوجنا اليوم حقا للإفادة من هذا الإسهام الزاخر، خصوصا بعدما أصبح العلم اليوم غير مقدور لغير الجماعة التي تتداول النظر فيه، وتتشارك في مدارسة فروعه وأصوله، فقد تفرعت أبوابه وتشعبت مسالكه بوجه أصبح معه من المتعذر على من رام الخوض فيه منفردا، أن يأتي في ذلك بما يبلغ به منزلة تُحمد بين أهله، فضلا عن أن يباري به على الصعد العالمية وفي الملتقيات الأممية. فلا سلطان اليوم إلا للعلم الذي قّلبته العقول الكثيرة، وأبدعت فيه الفهوم العديدة، أما زمان الأفذاذ المتوحدين، والعباقرة المتفردين، فقد ولى ولا مطمع في رجوعه.



نذكرهناعلىوجهالخصوصالمساهماتالنوعيةللمدرسةالحجاجية المغربيةبريادةالعلامةالدكتورطهعبدالرحمنوالأستاذالم حققالدكتورحموالنقارياللذينرسمامعالمواضحةلدرسحجاجيم غربيالنكهة،متفاعلعلىنحوعميقمعالتراثالحجاجيالعربيال قديمالذيلميبلغالوعيبقيمتهالمنطقيةلدىعمومالباحثينال قيمةالمرتبةالمرجوة.