التكرار في الدّراسات الحجاجيّة سليمة محفوظي
يستدعي التأكيد والتذكير تكرار الألفاظ التي تخدم الموضوع وفي هذا المجال قال ابن الأثير: "اعلم أن في القرآن مكرّرا لا فائدة في تكّريره، فإن رأيت شيئا منه تكرّر من حيث الظّاهر، فأنعم نظرك فيه، فأنظر على سوابقه ولواحقه لتنكشف لك الفائدة منه" ( )
تحظى دراسة التّكرار( ) باهتمام كبير في الدّراسات اللّسانيّة النّصيّة الحاليّة، حيث يقوم بوصفه ظاهرة بيانيّة بوظيفة الرّبط على مستوى البّنية الظّاهرة للنّص المؤدّية إلى الانسجام (الداخلي) فهو ليس مجرد إعادة لألفاظ وعبارات داخل النّص وقد أوضح صبحي إبراهيم الفقيّ العلاقة بين مفاهيم التّكرار -لغويا- وظائفها داخل النّص -نصيا- والتّكرار في النّص يشتمل على إحالة قبليّة أو سابقة(...) ومن معانيه الكرّ وهو ما ضمّ ظلفتيّ الرّحل وجمع بينهما وفي هذا تحقيق للتّماسك بين هاتيّن الظلفتيّن... ( ) والتّكرار ظاهرة من ظواهر التّماسك النّصي اهتم به الأقدمون كثيرا، فها هو الجاحظ يسميّه التّرداد ويرى أنّه مشروط وليس بجائز في كلّ ظرف يقول: "وجعل ابن السّماك يوما يتكلّم، وجارية له تسمع كلامه، فلمّا انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت:"ما أحسنه لولا أنّك تكثر ترداده، قال: أردّده حتّى يفهمه من لم يفهمه، قالت :"إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه" ويقول: "وجملة القول في التّرداد أنّه ليس فيه حدّ ينتهي إليه ولا يؤّتي على وصفه، وإنّما ذلك على قدر المستمعين، ومن يحضره من العوام والخواص ... " ( )
القول الثّاّني يشرح الأول حيث أنّ التّكرار يرتبط بالسّامع الملتقّي وقدره (قد يكون ضروريّا مملاّ) كما أنّ كلام الجاحظ فيه إشارة إلى اللّغة الشّفاهيّة ولكن يمكن سحب الحكم على اللّغة المكتوبة كما تبدو وظيفة التّكرار ممثّلة في الإفهام والتّوضيح والشّرح وهنا نجد ابن الأثير يضيف إلى ما سبق “توكيد الكلام وتشيّيده، وتقريرا لمعنى وإثباته ( ) والتّكرار قسمان "أحدهما يوجد في اللّفظ والمعني والآخر في المعنى دون اللّفظ ( ) أسالت دراسة التّكرار في النّصوص العربيّة حبر كثير من المستشرقين نذكر منهم بربرا جنستون كوتش" التّي ترى أن الخطاب الحجاجي العربي يعتمد في الإقناع على الغرض اللّغوي للدّعاوي الحجاجيّة، بتكّريرها وصياغتها، صياغة موازية وإلباسها إيقاعات نغميّة متكرّرة ( ) وهذا أمر يمكن نفيّه بالتأّكيد، فالعرب لم يعتمدوا هذه الوسيلة فحسب بل أخذوا بكلّ وسائل الإقناع والحجاج التّي ضبطها العلماء حديثا في ضوء النّظريات الحجاجيّة وإن لم تضبط قديما ضبطّا دقيقا تنظيريّا فهذا لا يعني غيابها.
حتّى وإن كانت ظاهرة التّكرار لغويّة، فهذا لا ينفي عنها البعد العقلي والمنطقي في التّأثير لتتّأكد أهميّة علاقة اللّغة والحجاج فها هو أبو هلال العسكري(394ھ) يؤكد على أهميّة التّكرار ويقرنه بتأكيد الحجّة، ويجعله مدّا للقول، ومن ثمّ يربط بين مدّ القول، وبلوغه الشّفاء والإقناع ( ) وتجدر الإشارة أنّه ليس أي تكّرار يهدف دائما إلى الإقناع وهنا نخصّ تكّرار "الشّكل" فقد يكون في حالات يطول فيها الفصل في الكلام حتّى يفتقر أولّه إلى تمام لا يفهم إلّا به، كما قال ابن الأثّير، أو لأنّ السّبك والتّركيب يقتضيان ذلك.
ويقسّم العلماء -حاليّا- ببغية الّتفصيل التّكرار إلى أنواع عدّة، بعضها يهتّم بالشّكل والآخر بالمضمون ونأخذ بالتّقسيم الذّي أورده محمد العبد في عمله المذكور.
1. تكرار الشّكل: وفيه أنواع ثلاثة
أ- تكرار المكرّر بذاته.
ب- تكرار في هيئة عنصريّن من مادة واحدة.
ج- تكرار بتغييّر التّركيب .
2. تكرار المضمون :
أ- تكرار مفردتيّن متواليتيّن أو أكثر في جملة أو فقرة أو نص .
ب- تكرار المضمون المبني على مفردتيّن في جملتيّن .
ج- تكرار مفردتيّن في ثنائيّة .
د- تكرار المضمون على مستوى الجمل والعبارات
الهوامش
1 أبن الأثير : المثل السائر ، ج3، ص 27 .
2- جاء في لسان العرب عن مادة كرر " الكرّ الرجوع... وكرّر الشيء و كرّره، أعاده مرة بعد أخرى وكرّرت عليه الحديث: رددته عليه... والكرّ : الرجوع على الشيء ، ومنه التّكرار و الكرّة : البعث و تجديد الخلق بعد الفناء ، و الكرّ بالحبل الغليظ : المجلد 05 ، ص 135 ، 136 .
3- الفقي: علم اللغة النصي بين النظرية و التطبيق، ج2 ، ص 135 / 136
4- الجاح- ابن الأثير : المثل السائر ، ج 2 ، ص 146 .
5- محمد العيد: النص الحجاجي العربي ، دراسة في وسائل الإقناع ، ص 192 .
6- أبو هلال العسكري: كتاب الصناعتين تحقيق على محمد بجاوي ،ومحمد أبي الفضل إبراهيم ص 156
7-الجاحظ: البيان و التبيين ، ج 1 ، ص 104 ، 105 .
8- الفقي : علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق ، ص 19 .