مكافآت منتجي المعرفة بين العرب والعجم


د.ماجد توهان الزبيدي*

إعتاش مبكرا بعض المؤلفين الأوروبيين من نتاجهم الفكري،مما ساعدهم على الإبداع العلمي والتميز والإستقلالية والموضوعية العلمية،وتفرغوا للكتابة والتأليف والتأمل والنشر ،مما جعلهم يسبقون اقرانهم في الشرق،من ذلك على سبيل المثال – لا الحصر-،حصول الدكتور البريطاني "صموئيل جونسون"(1709-1784)(هو شخصية مثيرة في تاريخ اللغة الإنكليزية، قدم قاموسا عبر فيه عن رؤيته للكلمات كصورة عن اللغة الحية، مما جعله واحدا من اهم الشخصيات في تاريخ اللغة الانكليزية، وخلد حياته تلميذه"بوزويل" في سيرة من مجلدين، وظل قاموسه الوحيد،الذي لايبارى، حتى نشر"قاموس اوكسفورد للغة الانكليزية)،مقدما على( 1575) جنيها بريطانيا ،من خمسة من باعة الكتب مقابل عمله "القاموس" ! وبالمثل أعطى الطابع وبائع الكتب "أندرو ميلر"،الفيلسوف والمؤرخ المعروف "دافيد هيوم"(1711-1776م) مقدما(1400) جنيها للمجلد الثالث من عمله"تاريخ بريطانيا"،وأعطي "وليام روبرتس"(1731-1793م)مقدما (3400)جنيه بريطاني مقابل عمله "تاريخ تشارلز الخامس"كما حصل الشاعر "ألكسندر بوب"(1688-1744م)على مبلغ (5300) جنيه مقابل ترجمته ل"الألياذة"لهوميروس!

وأنت ، إذا انجزت قاموسا ،في أي موضوع علمي ،في أي من دول الغرب ، بقيت غنيا"لولد الولد"- كما يقولون-!..والأمر نفسه في حالة الرواية باللغة الإنكليزية! لأن الناشرين هناك يحترمون العقد الموقع مع المؤلفين ، فلا يطبعون أو ينشرون أكثر من العدد المتفق عليه من النسخ، ويلتزمون بالسعر المباع،ونسبة مكافأة المؤلفين!في حين ان صناعة النشر العلمي في وطننا العربي، في الغالب الأعم،قرصنة ولصوصية وتعد صريح على حقوق المؤلفين مما يضطر هؤلاء للعزوف عن التأليف والبحث ،كي لايتسببوا في ثراء لصوص وقراصنة! وكي يكتفون بخديعة أو إثنتين "وكفى الله المؤمنين شر القتال"!

وحتى الجامعات وعمادات البحث العلمي فيها ،"تعصر روحك" عندما تحكم لك كتابا تمهيدا لنشره،فإذا مانشر بخلوا عليك بمكافأة ولو بمبلغ وضيع في حدود الألف دينار أو دولار!وكل مايفعله معظم تلك المؤسسسات، أنها تنشر لك العمل الفكري ثم "يحملونك" مئات النسخ من مصنفك الفكري ،كي تتحول انت صاحب الفكر، لبائع حقيبة أو حامل كيس بلاستيكي، تتجول على مدراء المكتبات العامة والجامعية،والمؤسسات، وتتسولهم بنسخة أو إثنتين! مما يقلل من كرامة "الدكتور"أو"البروفيسور" وهيبته وإحترامه بين الناس !

تجاوزنا الغرب،أمتنا، بمئات السنين،في نشر ويث المعرفة العلمية ،وإحترام الفكر والمفكرين وحفظ حقوقهم وسن قوانين وتشريعات تحترم منتجات عقول أعلامهم، وتشدد على حمايتها ،سواء أكانت قصيدة او ديوان شعر أو رواية أو قاموس وموسوعة أو برنامج حاسوبي أو براءة إختراع ،أو قاعدة بيانات آلية ،أو حتى إسم موقع آلي على الشبكة العالمية للمعلومات!! ،بعد أن بدانا نحن العرب قبل أمم الأرض ،مكافاة المفكرين بالذهب! ولدرجة أن "حنين بن إسحق ،كان يكتب ترجماته للعربية من السريانية والفارسية وسواهما على "كاغد"(ورق)ثقيل الوزن ، طمعا في وزن أعلى من الذهب والفضة،إلأ أننا في الوقت الذي دخلنا فيه زمن النوم -وما نزال- ،بدأت صحوة الغرب بوتيرة متسارعة وواثقة،إلى درجة أن كبار العلماء والمؤلفين عندهم ،بدأوا منذ منتصف القرن الخامس عشرالميلادي، يتسائلون إذا ماكان الوقت كاف لقراءة كل الكتب ،التي بدأت" الآلات الشيطانية الجديدة"، بطباعتها وبنثرها في البيوت والمدارس والأحياء والمدن والمكتبات! في الوقت عينه، الذي صدرت فيه أحكام الإعدام، على كل من يحاول طباعة القرآن الكريم،أو تأسيس "آلة شيطانية"،في أي من أرجاء مملكة آل عثمان!.

ومع أن علماء أمتنا الأفذاذ ،كانوا قد سبقوا الغرب وعلمائه بمئات السنين، في الحث على التعلم والتدوين وإنشاء المكتبات العامة وتقريب وإحترام العلماء والمؤلفين،إلى صورة غير مسبوقة،وصلت إلى إجازة "تفرغ" الشيخ /المدرس ،وتخصيص خادم ووسيلة نقل ومظلة لحماية دماغه من الحر والمطر ،والتكفل بتزويجه على نفقة المكتبة أو المدرسة أو الجامعة ،في العصر الغباسي ،على سبيل المثال ،وتأسيس دور النسخ والنساخين وحوانيت الوراقة والوارقين ووضع قواعد حماية حقوق الملكية الفكرية للمصنفات العقلية،وتصنيف مؤلفات في السرقات العلمية والأدبية والنحل والمنتحلين، ووضع أسس البحث العلمي ،من خلال منهج "الجرح والتعيل"(بفتح الجيم)،،وتوثيق تسلسل الرواة والناقلين،او ما يمكن تسميته ب "العنعنة"،إذ يدرجون في سياق توثيقي متواتر كل رواة الحديث النبوي ،أو الحدث التاريخي ،إلأ أننا نواجه منذ إنتهاء زمن الدولة العباسية وللآن ،ركودا فكريا ،وتدحرجا سفليا متسارعا في إحترام السلطات الرسمية وغير الرسمسة –على السواء- للعقل العلمي ومنتجاته وأصحابه،مما أخرج أمة العرب من معايير النشر العلمي الرصين ،والتواجد الأممي ،على صعيد الدوريات العلمية المحكمة في العلوم البحتة والتطبيقية ،والقواميس والموسوعات العامة والمتخصصة وقواعد البيانات الآلية، وفي ميادين براءات الإختراع والبرامجيات ، وإرتمت جامعاتاتنا ومؤسسات نشرنا، تتطفل على تخوم القرية العالمية للمعلومات! ووصل وضعنا العلمي المعاصر ،أن كل دول الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي التي يقترب عددها من الستين دولة ،عاجزة عن إنتاج قاعدة بيانات علمية واحدة ،في أي موضوع علمي! أو في مصاف قاعدة بيانات النتاج الفكري الطبي على الخط(ميدلاين)أو قاعدة بيانات الوصول الزراعي المباشر (أقريكولا)، أو قاعدة بيانات علوم الهندسة"إميرالد"،،أو قاعدة بيانات النتاج الإقتصادي "إيكون ليت"،أو قاعدة بيانات مستخلصات العلوم الكيمائية "كيميكال أبستراكتس""، أو قاعدة البيانات الأبرز في العلوم البحتة والتطبيقية "العلوم مباشرة"(سينس دايركت) ، التي تقدم لكل جامعات العالم وباحثيه، النصوص الكاملة للمقالات وابحاث المؤتمرات ، المنشورة في أكثر من ثلاثة آلاف مجلة علمية في عديد من اللغات ،وتصدر عن الناشر العالمي "إلسفير"،الذي يعد أكبر ناشر للنتاج الفكري الطبي والعلمي عالميا .

وكانت جذور الشركة قد بدأت العمل في العام 1580م ،من خلال مؤسسها "فريدريك إلسفير"،الذي بدا حياته المهنية كبائع كتب وناشر في هولندا،ثم تاسست الشركة حديثا في العام 1880م ،وتنشر في حقل المعلومات الصحية والعلمية حوالي ربع مليون مقال وبحث سنويا ،ويقوم المستفيدون المشتركون بقواعد بيانات هذا الناشر بتحميل والإستفادة من مائتي وأربعين مليون مادة وبحث سنويا! ويعمل في أقسام شركة النشر ،تلك، حوالي سبعة آلاف محرر للمجلات وسبعين ألف من أعضاء هيئة التحرير ينتشرون في طول العالم وعرضه ومأئتي ألف مراجع علمي ،في حين تنشر الشركة كل عام أعمالا أصلية في العلوم لأكثر من نصف مليون باحث ومؤلف في ألفي مجلة علمية متخصصة في شتى العلوم والتخصصات ،وسبعة عشر ألف كتاب!!
على صعيد الترجمة من روائع وأمهات المراجع العلمية والأدبية للعربية ،فإن كل ماترجمه العرب ،من عهد حنين بن إسحق وللآن ،لايعادل في عدده ، مانشرته دار نشر أميركية أو بريطانية او فرنسية‘ في حين يصدر مفكرو اليابان وناشروها حوالي أربعين ألف عنوان جديد سنويا !، وينشر في الولايات المتحدة خمس واربعين الف عنوان جديد أيضا!بينما يتواضع العدد في الدول العربية مثلما تتواضع كل إصدارات دور النشر العربية ،مقارنة مع ناشر واحد مثل:"سويتس"أو"لونق مان"أو"زد بوكس"أو"ماكميلان"أو "باوكر"أو "بنجوينج"أو"غيل"أو "أي إس أي" أو "مطبعة جامعة أكسفورد" التي بدات النشر عام 1478م،وتنشر سنويا أربعة آلآف وستمائة كتاب جديد كل عام! وغيرها من آلاف الناشرين باللغة الإنكليزية، الذين منهم أكثر من ألف ناشر بات متخصصا في نشر الكتب الإلكترونية!،في الوقت الذي نشر فيه العرب من باحثين ومؤلفين ومؤسسات عام 1986م ،(126)كتابا في كل العلوم الطبيعية و(203)كتابا في كل العلوم التطبيقية والتكنولوجية و(60)كتابا في كل موضوعات الفنون والترفيه ،و(66)كتابا في علوم الفلسفة وعلم النفس،و(100)كتاب في موضوعات اللعة العربية واللغات الأخرى!!

ولو أخذنا الأردن،كمثال في مجال النشر العلمي ، كدولة عربية متقدمة على صعيد التعليم والنشر مقارنة مع كثير من الأقطار العربية الأخرى ، لوجدنا ان الأردنيين ودور نشرهم ومؤسساتهم الرسمية والخاصة نشرت عام 2007م،- كما يتبين من أحدث إصدار من السجل السنوي للنتاج الفكري الأردني من خلال الببليوغرافيا الوطنية الأردنية-: تسعة عشر كتابا في كل العلوم الكلية والفرعية الطبيعية كالرياضيات ووالفلك والفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض وعلوم الحياة وعلوم النبات والعلوم الحيوانية،وواحد وستين كتابا في كل العلوم التطبيقية كالعلوم الطبية والهندسية والزاعية والإقتصاد المنزلي وإدارة الأعمال والصناعة والتصنيع والمباني والبناء ،وإثني عشر كتابا في كل علوم الفنون والترفيه ،وثماني كتب في علوم الحاسوب ،وتسع كتب في البرمجة والإنترنت وقواعد البيانات ،وثلاثين كتابا في علوم العربية وغيرها من اللغات!!

وبهدف ربط مقدمة المقال بخاتمته ،وصولا لزبدة الأمر،يبقي القول ،أن زميلا بالجامعة ،صرف من عمره ، عشرة أعوام، ينحت في قاموسين،أصدر أولهما عام 2009م،وكانت مكافأته، من ناشر أردني في وسط البلد ، أربعمائة دينار أردني على دفعتين(بعد "طلوع الروح")،وأنجز الثاني عام 2011م ونال سبعمائة دينار أردني فقط، على دفعتين أيضا، بعد توقيع عقد صارم ،تقترب صرامته وحيفه باصحاب العقول، ماتتضمنه بنود عقود الجامعات الأردنية مع "الدكاترة "الأردنيين،من حيف وظلم! في حين نال الفائز الأول في المسابقة السنوية للأغاني المدرسية عشرة آلاف دولار أميركي (الأخصر ابو وجه سمح!) لقاء أقل من عشر دقائق على المسرح!

*أستاذ علوم المكتبات والمعلوملات المساعد بجامعة فيلادلفيا