عرض كتاب الأسلوب والأسلوبية للمسدي
اختيار: هدى محمد قزع

يتألف كتاب الباحث الألسني التونسي عبد السلام المسدي من متن مكون من ستة فصول وثلاثة ملاحق بكشف المصطلحات والألفاظ الأجنبية وتراجم الأعلام ، مع قائمة مفصلة بالمراجع العربية والفرنسية ،عدا ما ضمنّه في تراجم الأعلام من ذكر لمؤلفاتهم .
يستعرض المؤلف في الفصل الأول تاريخ نشوء علم الأسلوب مُشتقاً من ألسنية "دي سوسير" على يدي تلميذه " شارل بالي" ، وتطور هذا العلم إلى ما وصل إليه اليوم عند "سبيتزر" و"جاكبسون" .
فمشكلة علم الأسلوب هي مشكلة كل علم حديث التأسيس في كونه يسعى إلى كسب استقلاله عن العلم الأم الذي هو الألسنية ،وتحديد هذا الاستقلال لا يتم إلا بتحديد نوع الاتصال بين الأصل والفرع "فالأسلوبية اليوم هي من أكثر أفنان الألسنية صرامة" ،كما يقول "ستيفن أولمان" ،وقد تفرع عن الألسنية مع الأسلوبية ،البويطيقا الجديدة أو "الإنشائية" وعلم العلامات "Simiologie" ،وهذا كله يدفع إلى تأصيل مناهج الدراسة الأدبية تأصيلاً نوعياً يقارب مناهج العلوم الطبيعية ،لكن المشكلة في "الإنشائية" أنها تتخذ من نفسها موضوعاً لدرسها ،كما عبر عن ذلك "تودورف" تعبيراً موفقاً بقوله "الإنشائية لا تستطيع الاستغناء عن الأدب لتتفحص مقوماتها الذاتية ،ولكنها في نفس الوقت تعجز عن استبطان نفسها بنفسها ما لم تتجاوز الأثر الأدبي".

وفي الفصل الثاني "العلم وموضوعه" ،يُعرّف المؤلف الأسلوبية بأنها "البحث عن الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب" ، ويتفحص الأبعاد الألسنية والأدبية لظاهرة الأسلوب "طالما أن جوهر الأثر الأدبي لا يمكن النفاذ إليه إلا عبر صياغاته الإبلاغية" ،ولذلك يَقْصُر التفكير الأسلوبي نفسه على النص في حد ذاته بعزل كل ما يتجاوزه من ملابسات تاريخية أو نفسية .
وهدف التفكير الأسلوبي الإجابة عن التساؤل التالي :" ما الذي يجعل الخطاب الأدبي الفني مزدوج الوظيفة والغاية :يؤدي ما يؤديه الكلام عادة ،وهو إبلاغ الرسالة الدلالية ،ويُسَلِطُ مع ذلك على المتقبل تأثيراً ضاغطاً ،به ينفعل للرسالة انفعالاً ما "، فمرمى الأسلوبيين وضع منهج يُمَكِن القارىء من إدراك انتظام خصائص الأسلوب إدراكاً نقدياً مع الوعي بما تحققه تلك الخصائص من غايات وظيفية ،وهذا ما حدا بجاكبسون إلى أن يعرّف الأسلوبية بقوله : "إنها بحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب أولاً وعن سائر أصناف الفنون الإنسانية ثانياً ".
من هذا التعريف نتبين مستويين للكلام :
_الكلام العادي
_والكلام الفني .
أو لغة الخطاب النفعي ولغة الخطاب الأدبي ،والخطاب النفعي الإخباري يسعى إلى مطابقة الواقع ،أما الخطاب الأدبي فيحمل شحنة عاطفية بكثافات متفاوتة قد تكشف صورة الأنا في صفائها الكامل .
الأسلوبيون الجدد أشاحوا عن الخطاب الإخباري وانصرفوا إلى الخطاب الفني ،فصارت الأسلوبية وريثة البلاغة .
فالحدث اللغوي يُبْرِزُ أبعاداً ثلاثة : بعداً دلالياً ،وبعداً تعبيرياً ،وبعداً تأثيرياً ،وتقتصر الأسلوبية على تمحيص البعدين التعبيري والتأثيري ،وتتطابق مع التفكير البلاغي فكلاهما موضوعه "فن الكتابة وفن التركيب، فن الكلام وفن الأدب" حسب غيرو .
غير أن الأسلوبية وليد عاق للبلاغة من حيث إنها تُحِلُ نفسَها بديلاً عن البلاغة على اعتبار أن البلاغة علم معياري يرمي إلى تعليم مادته ، أما الأسلوبية فطريقة تحليلية تتجنب الأحكام التقييمية وتتبع منهج العلوم الوصفية ،والبلاغة ترمي إلى خلق الإبداع بموجب قوانين وأنماط مُسْبَقَة أما الأسلوبية فتسعى إلى تعليل الظاهرة الإبداعية بعد وجودها لذلك تنحو منحى اختيارياً وتعتبر الأثر الفني معبراً عن تجربة معاشة فردياً ،أما البلاغة فتخضع لتصور ماهوي ،أو ما هي ، بموجبه تسبق ماهيات الأشياء وجودَها ، مما يضفي عليها قدسية متعالية ويجعل وظيفتها تطهير اللغة من دنس الاستعمال ،وبذلك تفصل بين الدال والمدلول حسب الحكمة اللاتينية:
" موضوع النحو صناعة الكلام ،وموضوع الجدل صناعة الخطابة ،وموضوع البلاغة حسن البيان".
وهذا يقودنا إلى استقراء العلاقة بين الأسلوبية والنحو: فالنحو يضبط قوانين الكلام بحيث يحدد لنا ما لا نستطيع أن نقول ،ولذلك فالأسلوبية رهينة النحو ،إذ لا أسلوب بلا نحو ،أما الأسلوبية فتقفو ما يسعنا التصرف فيه عند استعمال اللغة بشكل خارج عن المألوف _أي استعمالاً فنياً .
أما العلاقة بين الألسنية والأسلوبية فقد حددها "رينيه ويليك" :" على أساس أن اللغة هي القاطِع المشترك لدائرتين متداخلتين ، فهي للألسنية موضوع العلم ، وهي للأدب المادة الخام شأنها شأن الحجارة للنحات " .
ولجاكبسون رأي أصيل يرى فيه أن للأسلوبية طاقة تجرّ بها الألسنية نحو ممارسات متجددة، وبذلك أثبت للأسلوبية استقلالاً ذاتياً عن الألسنية ،وفي الواقع ،فإن للأساليب البليغة تأثيراً قوياً على طرائق الكلام العادي (أو الخطاب الإبلاغي ،الإخباري ،النفعي) ،فمن يجادل بأن كلام عرب صدر الإسلام لم يختلف عن كلام الجاهليين بفعل القرآن الكريم ؟
خلاصة القول، إن "دي سوسير" فرق بين اللغة والكلام ،وفرق "بالي" بين الكلام المألوف والكلام الفني ،هذا الكلام الفني عبارة عن اضطراب في استعمال اللغة ،وكان سوسير قد " اعتبر الحدث اللغوي جهازًا تنتظم في صلبه عناصر مترابطة عضوياً بحيث لا يتغير عنصر إلا انجر عن تغيره تغير وضع بقية العناصر وبالتالي كل الجهاز ،وما إن يستجيب الكل لتغير الجزء حتى يستعيد الجهاز انتظامه الداخلي " ،وهذا يثبت تأثير الأساليب البليغة على الكلام العادي .




الفصل الثالث : مصادرة المخاطِب ، بعد تحليل الأسلوبية تأتي مصادرة المخاطِب في مجال تحديد الأسلوبية لموضوعها ،وهو الأسلوب ،لذلك يصح البدء بالتساؤل :
كيف يتولد الأسلوب ؟ من البدهي أن يكون لكل دال مدلول واحد في نشأة اللغة ،لكن جدلية الاستعمال تزيح الألفاظ عن مدلولاتها الأولية ،كقولنا "رجل الكرسي" حيث نستعير لفظة " الرِّجل" من الدلالة على عضو مخلوق حي إلى الدلالة عن جزء في شيء .
ثم تأتي بلاغة البلغاء فتتصرف في التعبير تصرفاً مختلف الوجوه ،مما يدفعنا إلى الإقرار بأن أي فكرة من الأفكار يمكن إبلاغها بأشكال وكيفيات متنوعة أي ليس ثمة علاقة واحدة بين الأسس الدلالية والأبنية اللغوية ،بل هناك علاقات متعددة .
تفضي هذه القاعدة البسيطة إلى إقرار آخر مفاده أن الخاصية الأسلوبية يمكن أن تثير انفعالات متعددة ومتميزة تبعاً للسياقات التي ترد فيها _والعكس أيضاً صحيح .
بحيث يمكن تحقيق نفس الإثارة بخاصيات أسلوبية متعددة ومتميزة ، النتيجة التي تنتج عن هذه المقدمات أن شأن الصور الأسلوبية وآثارها الجمالية مطابقٌ لشأن الدَّوال والمدلولات في السياق الألسني ،ويصبح للأسلوبية سننُها وأنماطها مثلما للغة التخاطب قواعدها ونواميسها .

بهذه الطريقة تم إثبات وجود الأسلوب بطريقة عقلية ،لأن الحدس يميز تفرد أسلوب المتنبي عن أسلوب أبي نواس مثلاً .
وتبقى المشكلة في إيجاد منهج عقلي لما يدل عليه الحدس ،أو كما طرحها "دي لوفر": "إن جوهر المشكل يكمن في تجاوز الانطباع الذاتي الحاصل لنا إلى كشف العلل الموضوعية التي يقوم عليها هذا الارتسام ، وهو أمر إذا حققناه غدت قضية "الذاتية" والقضايا المماثلة لها مشاكل زائفة ،أو بتعبير المؤلف :"إرساء قواعد الموضوعية فيما يدرك بغير الموضوعية ".
تدل النظرة الموضوعية على أن للإسلوب ثلاث دعائم :المُخَاطِبُ أو المتكلم وهو الباث الذي يقوم بعملية التركيب ،أي صياغة المفاهيم والمُتَصَوَرات في نسق كلامي محسوس ،والمُخَاطَب أي المتلقي الذي يقوم بعملية تفكيك ،أي يتلقى النسق المحسوس فيرجعه إلى مدلولاته المجردة ،والخطاب أي الكلام الذي ينقل الرسالة.

واهتم التفكير الأسلوبي منذ القدم بالمخاطِب (الباث) ،على اعتبار أن ما يقدمه من خطاب قد انتظم في نفسه قبل أدائه ،وبذلك يكون لدينا أسلوبان :معنوي قائم في نفس الباث ،ومادي منتظم في ألفاظ وبما أن الأسلوبين متطابقان ، فالأسلوب كما يقول أحمد الشايب "صورة خاصة بصاحبه تبين طريقة تفكيره وكيفية نظره إلى الأشياء ،وتفسيره لها ،وطبيعة انفعالاته " ،فالأسلوب هو الرجل كما قال "بيفون" منذ القرن الثامن عشر ،هذه النظرة تطابق الأسلوب مع عبقرية صاحبه ،فهو شرارة نوعية لا ينفذ إليها الفاحص إلا بطريق الحدس ،فيحسه ولا يعبر عنه ،هذا التطابق بين العبقرية والأسلوب يجعله ظاهرة غير واعية ،مما دفع بروست إلى تعريف الأسلوب بأنه "بصمات تحملها صياغة الخطاب فتكون كالشهادة التي لا تمّحي "، ويتوغل الناقد يوسف اليوسف حتى يرى أن "الصورة تتطابق مع الشعور تطابق الهَوِيّة " وينتهي إلى تقرير أن "الصورة كَفَلْذة شعورية تغدو مرآةً تُقتنص فيها الحاجة التي يتمثَّلها الشعور إلى حدّ أنها تُكَوّنُهُ" ،وهذا الرأي في أن الأسلوب مرآة عاكسة لملامح صاحبه عبر التجربة قريب من نظرية "ستاروبنسكي" في تحديده ماهية الأسلوب بكونه اعتدالاً وتوازناً بين ذاتية التجربة ومقتضيات التواصل ،فهو الحل الوسط بين الذات والجماعة .
هذه النظرة التي تطابق الأسلوب مع عبقرية صاحبه تجد نقيضتَها في النظرة إلى الأسلوب على أنه اختيار واعٍ يسلطه المؤلف على ما توفره اللغة من سعة وطاقات ،وهي بذلك تنقض مبدأ العبقرية والإلهام في الظاهرة الإبداعية ف"سبيتزر " يؤكد على أن الأسلوب إنما هو الممارسة العملية المنهجية لأدوات اللغة "وغابيلانتز " يقرر أن الأسلوب ينطوي على تفضيل الإنسان بعض طاقات اللغة على بعضها الآخر في لحظة الاستعمال ،ويرى "كراسو" أن قانون الاختيار ليس وقفاً على الظاهرة الفنية ،بل يسري على اللغة الإخبارية أيضاً ،فهو عقد واعٍ بين الباث والمتلقي في جهاز التخاطب عامة .
ففرضية الاختيار تعتمد على دوافع الاختيار ووظائفه ،فالباث للرسالة يستجيب لمنبهات تحمله إلى إرضائها بالشحن العاطفي لرسالته عن طريق التصريح والتلميح ،وبذلك تحدد فرضية الاختيار ماهية الأسلوب بأنه جسر ثانوي يقام على جسر أصلي من الإبلاغ ،فهو نظام علامي في صلب نظام علامي آخر .
فالأسلوب سابق على التعبير ،وهو تجربة في حيز القوة يسعى الباث إلى وضعها في حيز الفعل "وهو في المنظور الوجودي صراع الحيوان الناطق بين الشعور الصامت وقصور اللغة عن نقل الإحساس المعاش".


الفصل الرابع :مصادرة المخاطَب المتلقي: وفيه أن الباث يكيف خطابه الإبلاغي أو رسالته حسب أصناف الناس الذين يخاطبهم ،فالباث يحمل المتلقي لا على فهم الرسالة ،بل على تقمص مضمونها ،فالأسلوب يمثل ضغطاً على المتلقي بغية إزالة حرية ردود الفعل لديه .
هذه الطاقة الضاغطة التي بها تتحدد ماهية الأسلوب تنحل إلى فكرة التأثير التي تنطوي على الإقناع كشحنة منطقية ،والإمتاع كشحنة عاطفية ،والإثارة كشحنة استفزازية محرضة .
من أشياع هذه الفرضية "ستاندال" الذي يشير إلى أن جوهر الأسلوب هو ما يضفيه على الأفكار من تأثير و يعتبر "غيرو " أن الأسلوب مجموعة ألوان يصطبغ بها الخطاب ليصل بفضلها إلى إقناع القارىء وإمتاعه وشد انتباهه وإثارة خياله .
و"دي لوفر" يلح على أن الأسلوب هو سلطان العبارة إذ تستبد بنا ،وقد بلور "ريفاتير" هذا التيار الذي يحدد الأسلوب اعتماداً على أثر الكلام في المتلقي ،فعرّف الأسلوب بأنه إبراز بعض عناصر سلسلة الكلام وحمل القارىء على الانتباه إليها بحيث إذا غفل عنها شوه النص ،وإذا حللها وجد لها دلالات مميزة ،مما يسمح بتقرير أن الكلام يعبر، والأسلوب يبرز ، ويمضي ريفاتير إلى اعتبار أن البحث الموضوعي يقتضي ألا ينطلق المحلل الأسلوبي من النص وإنما ينطلق من الأحكام التي يبديها القارىء ،فيجمعها المحلل على اعتبارها استجابات نتجت عن منبهات كامنة في صلب النص ،ومن واجب المحلل اكتشافها دون أن يكون ملزماً بتبرير الأحكام من الوجهة الجمالية .
إن اكشاف المنبهات في النص هو اكتشاف طاقة الشحن في الخطاب ،ونجاحها في إصابة مكامن الإحساس المتأثرة لدى المتلقي ،وبذلك يكون الأسلوب توتراً يتذبذب بين لذة التقبل وخيبة الانتظار فهو قمة الخط البياني الذي ترسمه القدرة الفعالة في الخطاب ،حسب "كراسو" وهكذا يتطابق الأسلوب مع نجاعته القصوى في استنفار إحساس المتلقي ،واصطدامه بتتابع جملة الموافقات بجملة المفارقات في نص الخطاب .
فالأسلوب حصيلة ردود فعل القارىء في استجابته لمنبهات النص ،وهذه المنبهات تصدم المتلقي صدمة المفاجأة ،ويعرف "جاكبسون" المفاجأة الأسلوبية بأنها "تولد اللامنتظر من خلال المنتظر"،أما ريفاتير فيستغل المفاجأة ورد الفعل في تعريف الظاهرة الأسلوبية ،فيقرر أن قيمة الخاصية الأسلوبية تتناسب مع حدة المفاجأة تناسباً طردياً ،أما طاقتها التأثيرية فتتناسب تناسباً عكسياً مع تواترها ،لأن التكرار يفقدها شحنتها التأثيرية تدريجياً .
إن إدخال المتلقي ساعد على إظهار أن لا نص بلا قارىء وأن المتلقي هو الذي يخرج النص من حيز الوجود بالقوة إلى الفعل.
الفصل الخامس : مصادرة الخطاب :
الأسلوب في فرضية الخطاب وليد النص ذاته ،ينفصل عن صاحبه لحظة إبداعه ،ويرى "بالي" أن الأسلوب هو استعمال اللغة ،ويحصر مدلول الأسلوب في تفجر الطاقة التعبيرية الكامنة في صميم اللغة بخروجها من عالمها الإفتراضي إلى حيز الموجود اللغوي فكأن اللغة مجموعة شحنات معزولة والأسلوب هو إدخال بعضِها في تفاعل مع البعض الآخر ،ومن هذه العلاقات الناشئة عن تقاطع الدوال بالمدلولات تتكون البنية النوعية للنص ،وهي ذاتها أسلوبه ،وبذلك يتم عزل الطاقة الأسلوبية عن مكونات الخطاب وتنحصر في خصائص انتظام هذه المكونات وقد ولد هذا المفهوم سلسلة من التعريفات للأسلوب.
فهو عند "هيلمسليف" ،"دال يستند إلى نظام إبلاغي في السياق ،ومدلوله هو الانفعالات الجمالية التي تصحب إدراك المتلقي للرسالة :"فمجرد تعبير الإنسان عن فكرة ما شعراً بدل تعبيره عنها نثراً يعد تنبيهاً للمتلقي إلا أن النص _فضلاً عما يحمله من دلالات أولية تكوّن بنية رسالته _قد استحال في صياغته دالاً متصلاً بنظام إبلاغي آخر غير النظام الألسني البسيط، وهذا ما حمل "جاكبسون" على تعريف النص الأدبي بأنه خطاب تغلبت فيه الوظيفة الشعرية للكلام ، فتكون ماهية الأسلوب هي "الوظيفة المركزية المنظمة" مما يجعل النص الأدبي خطاباً تركب في ذاته ولذاته ،ويقترب "ستاروبنسكي" من ذلك حين يُعرّف الأسلوب بأنه مِسْبَارُ القانون المُنَظِّمِ للعالم الدّاخلي في النص الأدبي .
الطريقة يغدو العمل الأسلوبي تفكيكاً لعناصر النص ، وتتبعاً لما يحدث بينها في حالات العزل والضم ،على نحو اختباري محض.
كل ذلك ربط بين الأسلوبية وعلم الدلالات أو السيمة المتفرعة عن الألسنية ،ومن أبرز نظرياتها أن طاقة التعبير _وهي اللغة_مزدوجة ،فمنها جدول تصريحي يستمد قدرته الإخبارية من الدلالات اللغوية ،وجدول إيحائي يستمد قدرته الإخبارية من دلالات السياق التي تحملها اللغة بكثافات متنوعة من التاريخ والمجتمع .
وهذا ما أوحى إلى الأسلوبيين بتعريف للأسلوب يقول: إنه مجموع الطاقات الإيحائية في الخطاب الأدبي مما يقلص التصريح المتوفر في الخطاب العادي .
ولعل ماهية الأسلوب تتحدد بنسيج الروابط بين الطاقتين التعبيريتين في الخطاب الأدبي :طاقة الإخبار وطاقة التضمين ويرى"جاكبسون" أن الحدث الألسُني هو تركيب عمليتين متواليتين في الزمن ومتطابقتين في الوظيفة ،وهما :اختيار الباث لألفاظه ثم تركيبه لها حسب مقتضيات النحو ثم البيان ،وبذلك يتحدد الأسلوب بأنه تطابق لجدول الاختيار على جدول التوزيع ، فيكون تحقيق الأسلوب بين لحظة الإبداع وزمان سبكه .
إن القدرة الإيحائية التي تميز النص الأدبي عن الخطاب العادي ،إنما تتأتى من شحن اللغة بمقدار غير عادي من الانفعالات ،لكن هذا الشحن لا يترك الألفاظ على حالها الأصلي بل يُزيحها عن واقعها الأصلي العادي إلى واقع عرضي مؤقت ،وقد شكلت هذه الفكرة نقطة انطلاق الأسلوبيين في تعليلهم لظاهرة الأسلوب .
ف"فونتانياي" يعزوها إلى عبقرية اللغة ،إذ تسمح بالابتعاد عن الاستعمال المألوف فتوقع الظاهرة في نظام اللغة اضطراباً يصبح هو نفسه انتظاماً جديداً :فيتطابق الأسلوب ومجموع الصور التي يحملها الخطاب بحيث يحدث "الوقع اللذيذ" ويربط "ويليك" مفهوم الأسلوب بالفروق بين نظام التركيب اللغوي للخطاب الأدبي وغيره من الأنظمة ،وهي فروق تنطوي على انحرافات ومجاوزات بها يحصل الانطباع الجمالي ،وقد عرّف "ماروزو" الأسلوب بأنه اختيار الكاتب لما من شأنه أن يخرج بالعبارة عن حيادها ،وينقلها من درجة الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه .
أما"سبيتزر" فيجعل مدى الانزياح مقياساً لتحديد الخاصية الأسلوبية ومسباراً لتقدير كثافة عمقها ودرجة نجاعتها ،ويستمد "تودوروف" إلى مبدأ الانزياح حين يعرف الأسلوب بأنه "لحن مبرر" ثم يحاول حصر مجال هذا الانزياح فيقرر أن الاستعمال يكرّس اللغة في ثلاثة مستويات :المستوى النحوي والمستوى اللانحوي والمستوى المرفوض .
ويمثل المستوى الثاني أريحية اللغة في ما يسع الإنسان أن يتصرف فيه .
ويحدد "ريفاتير" الأسلوب بالانزياح ،ويعرّفه بكونه انزياحاً عن النمط التعبيري المُتواضع عليه .
ويحدد مفهوم الانزياح بأنه يكون خرقاً للقواعد حيناً "فهو من مشمولات علم البلاغة وأحكامها المعيارية" ،وحيناً آخر يكون لجوءاً إلى ما ندر من الصيغ ،فالبحث فيه من مقتضيات الألسنية والأسلوبية .
ولكن كيف لنا أن نقيس الانزياح ؟
لاريب في أنه انزياح عن نمط عادي يحدده الاستعمال ،لكن الاستعمال ليس مقياساً موضوعياً لأنه يختلف من شخص إلى آخر ،"ريفاتير" يُحل محل الاستعمال ما يسميه السياق الأسلوبي ،فيكون مفهوم النمط العادي مرتبطاً بهيكل النص المدروس والانزياح بمثل مقدار الخروج عنه ،وبذلك تقتصر قيمته الوظيفية على عناصر جزئية في الكلام ،مما يحاول الباث إبلاغه ضمن رسالته اللغوية ،فالانزياح ضرب من الاصطلاح يقوم بين الباث والمتلقي ،لكنه اصطلاح لا يطّرد ،فهو تواضع جديد لا يفضي إلى عقد بين المتخاطبين ،فالانزياح احتيال من الإنسان على اللغة وعلى نفسه لسد قصوره وقصورها معاً،لأن الإنسان عاجز عن الإحاطة باللغة وطرائقها مثلما هي عاجزة عن نقل كل ما في نفسه .




الفصل السادس :العلاقة والإجراء :
هل يتسنى للأسلوبية أن تَحُلّ محل النقد الأدبي فتنفرد بسلطان الحكم في مملكة الأدب؟
يقرر "سبيتزر" أن الأسلوبية جسر الألسنية إلى تاريخ الأدب ،ويوافقه "ستاروبنسكي"على أن الأسلوبية هي رفع الحواجز بين اللغة وتاريخ الأدب ،فهي علم شامل للدلالات المكرسة في جهاز الأثر الأدبي ،ويقرر "ويليك" أن الدراسة الألسنية ما أن تكرس نفسها في خدمة الأدب حتى تستحيل أسلوبية أما "غيرو" فيجزم بأن الأسلوبية تصب في النقد قوام وجودها ،أي تستحيل إلى نظرية نقدية.
إن الأسلوبية منهج علمي في طرق الأسلوب الأدبي ،كما أن كل نظرية نقدية تحتكم إلى مقياس الأسلوب باعتباره المظهر الفني للإبداع الأدبي ،والميزة النوعية للأثر الأدبي، لذلك يقرر "غيرو" أن الأسلوب هو الذي يقي عملية الخلق من الإجهاض ويذهب"ستاروبنسكي"إلى أنه المحدد لصيرورة الحدث الألسني نحو الظاهرة الأدبية ،مثلما أنها لا تستوعب إلا من خلال تركيبها الألسني.
من واجب النظرية الأدبية أن تبلور تحديداً للحدث الأدبي في نشأته ،إبان إبداعه ،وفي تشكله كنص فني داخل الأثر الأدبي ،فهل تطبق الأسلوبية إزاء هذا العبء؟
تُعرّف الأسلوبية النص بكونه كياناً عضوياً يحدده انسجام نوعي .
هذا التعريف البنيوي يستند إلى تحليل بالي الذي ضبط هوية النص الأدبي انطلاقاً من علاقة التناسب القائمة بين أجزائه ،ذلك أن كل موجود هو نص ،وكل نص هو موجود ،فالموجود النصاني جملة علائقية إحالية مكتفية بذاتها حتى لتكاد تكون مغلقة.
ومعنى كونها علائقية أنها مجموعة حدود لا قوام لكل منها بذاته وهي مكتفية بذاتها لأنها لا تحتاج إلى غيرها ،فالروابط التي تقيمها مع غيرها تؤلف جملة أخرى وهكذا بلا نهاية .
إن الأثر الأدبي بنية ألسنية تتحاور مع السياق المضموني تحاوراً خاصاً ،معنى ذلك أن النص الأدبي يفرز أنماطه الذاتية وسننه العلامية والدلالية فيكون سياقه الداخلي هو المرجع لقيم دلالاته حتى لكأن النص هو معجم لذاته .
وبذلك فكت الروابط بين النص وما سواه وتكثفت علائق الانتماء بين النص وبنيته الألسنية حتى غدا ذلك المعيار مسباراً لتعبير الخطاب الأدبي عن الوثيقة الموضوعية ،لأن الكلام العادي ينشأ عن مجموعة انعكاسات مكتسبة أما الخطاب الأدبي فصياغة للغة عن وعي وإدراك تستوقفنا لغته لذاتها ،أي أن الكلام العادي شفاف نرى من خلاله معناه ،أما الخطاب الأدبي فكتيم وغير شفاف لأنه يضطرك إلى الوقوف أمام صوره وألوانه ولا يمكنك من اختراقه إلى مرجع آخر وراءه ،فما يميز الخطاب الأدبي هو فقدانه لوظيفته المرجعية لأنه لا يرجعنا إلى شيء ولا يبلغنا أمراً خارجياً ،بل يقتصر بالتبليغ عن ذاته ،فالنص إذن ،يؤخذ في حضوره لذاته وبذاته .
على هذا النحو ،يكون الخطاب الأدبي" خلق لغة من لغة "وبما أن الخلق من عدم مستحيل ، فالخطاب الأدبي تحويل للموجود ،ويتم التحويل بتخليص الكلم من قيود الاستعمال والألفة ،فالإبداع إحياء للكلمة بعد جفافها ، وفي إحياء الكلمة بعث للتجربة المعاشة في الذات والزمن.

إذن فالأسلوبية قادرة على تعليل الإبداع والنص ، فهل تمكنها هذه القدرة من أن تكون بديلاً عن النقد الأدبي ؟
ينفي المؤلف عبد السلام المسدي عن الأسلوبية إمكان أن تحل محل النقد لأنها "تمسك عن الحكم في شأن الأدب من حيث رسالته ،فهي قاصرة عن تخطي حواجز التحليل إلى تقييم الأثر الأدبي بالاحتكام إلى التاريخ ،بينما رسالة النقد كامنة في إماطة اللثام عن رسالة الأدب ،ففي النقد إذن بعض ما في الأسلوبية وزيادة ".
السبب الثاني أن النقد يحيط بالنص ،وبما هو خارجه :قبله وبعده،ولا تكون الأسلوبية إلا معياراً آنياً يغذي النقد برافد موضوعي .
أماالسبب الثالث فيعود إلى طبيعة الحدث اللغوي _نفعياً كان أو إبداعياً _في أنه لا يؤدي وظيفته دون إبلاغ رسالته الدلالية ،فالحدث الأدبي ظاهرة تحس وتدرك في نفس الوقت ،أي يتلقاها العقل وما وراءه في الإنسان ،ولا يمكن الإقرار بأي قيمة جمالية للأثر الأدبي ما لم نشرح مادته اللغوية ،ثم إنه لا أسلوبية بدون غوص في أبعاد الظاهرة اللغوية في حد ذاته.
أخيراً ينهي "المسدي" كتابه ، بتأمل يفضي به إلى القول بأن الحدث الأدبي اليوم في حاجة إلى تعريف جديد لا يعتمد أطراف الجهاز الإبلاغي لأن ذلك يبقى في مستوى الآلانيات ويرى أن "الظاهرة النقدية الأدبية" تجسم تقاطع ظواهر ثلاث : حضور الإنسان _مؤلفاً كان أو مستهلكاً أو ناقداً _ وحضور الكلام ،وحضور الفن ، وتلك هي الظواهر الإنسانية ، وهو يكل الإنسان إلى علوم النفس ، واللغة إلى علم الدلالات ،والجمال إلى علم الجمال والأنثروبولوجيا، فتتحدد الأسلوبية بكونها علماً إنسانياً يعنى بدراسة تعامل تلك الظواهر الثلاث في صلب بوتقة
الحدث الأدبي :"ويومها سيتسنى للأسلوبية أن تجيب عن السؤال الأبدي:هل تكمن نوعية الحدث الأدبي فيما يعبر عنه الأثر أم فيما يوحي به دون أن يعبر ؟ أي هل الأدب كامن فيما يقول أم فيما لا يقول ؟ أفلا يكون الأدب تعبيراً صامتاً ووجوداً مائعاً ؟