قراءة في سيرة المؤيد لدين الله داعي الدعاة هبة الله الشيرازي
إعداد : هدى محمد قزع

هذه سيرة المؤيد لدين الله داعي الدعاة الشيرازي ، وهي سيرة رجل دين وسياسة ، كتبها في القرن الخامس الهجري، نقل خلالها حياة أحد دعاة الفاطميين.
وتتناول السيرة مرحلة تاريخية تزخر بالغموض ، وقراءة سيرة المؤيد في سياقها التاريخي تفصح عن الكثير من الحقائق والأسرار .
والواضح أن المؤيد لم يقصد من كتابة هذه السيرة إلى بعد شخصي أو تاريخي إلى في حدود ضيقة ، فلم يتناول طفولته أو أفراد عائلته أو أصدقاءه أو شيوخه ، ولم تكن نقطة البداية في كتابة سيرته التعبير عن إدراكه لأبعاد الحياة من حوله ، بل شرع فيها سنة 429هـ لكي يشرح العلاقة بينه وبين السلطان كاليجار البويهي في إمارة شيراز ، ومن يومها وهو يسجل الأحداث التي تعرض له ، وتصل إلى نهايتها بعد نجاحه في اقتحام مقر الخلافة العباسية وقد دعا للخليفة الفاطمي على منابر مساجد بغداد .
وتتعرض هذه السيرة إلى الحياة السياسية في مصر ، وما أحاطها من مؤامرات .
وقد حقق هذه السيرة وقدم ها محمد كامل حسين .
نشأ صاحب السيرة هبة الله ابن موسى بن داود في شيراز حوالي سنة 390هـ ، وكان والده أحد دعاة المذهب الفاطمي ، ولم يتناول في سيرته تفاصيل طفولته وصباه ووضعه العائلي والشخصي ، كما جرت عليه السير الذاتية فيما بعد .
ومجمل حياته أنه تدرج في مراتب الدعوة حتى أصبح حجة فارس ، ووصل إلى أعلى مراتب الدعوة ، فأصبح داعي الدعاة وحجة الإمام سنة 450هـ ، ونفاه الوزير عبد الله بن يحيى من مصر ، فرحل إلى القدس ثم عاد إلى مصر مرة أخرى واستضافه في بيته ملك بن مالك قاضي الصليحيين في اليمن مدة خمس سنوات ، تتلمذ خلالها القاضي على يديه وأخذ أسرار الدعوة منه ، وأصبح المؤيد أستاذًا للدعوة في اليمن .
ووصول المؤيد إلى تلك المرتبة التي لم يصل إليها في تاريخ الاسماعيلية سوى عدد قليل من الدعاة ، يزيد من أهمية سيرته ، ويتمتع صاحب السيرة بثقافة واسعة ، ووصفه أبو العلاء المعري الذي كثيرًا ما ناظره :
"لو ناظر أرسطاطاليس لجاز أن يفحكمه ، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه" ، ويصف المؤيد نفسه :
"أنا شيخ هذه الدعوة ويدها ولسانها ، ولا يماثلني أحد فيها " .
وهذا الاعتداد الشديد بالنفس شرط لقوة وتاثير سيرته ، التي تأتي كتجربة إنسانية حية ، وتشخيص وتصوير صادق لعصره ، أفكاره وقيمه وأبطاله ، تتميز بوحدة عمر صاحبها ، وتصيغ حكاية لها بداية ونهاية .
وهي سيرة من نوع خاص فهي لا تزدحم بالأحداث والمغامرات ، ولكنها سيرة عقلية تزدحم بالعمل والحركة ، وتذخر بالمناظرات الفقهية بين صاحبها وخصومه ، يدحض حججهم ، ويكتب الرسائل ردًا عليهم ، ويؤدي المهام الصعبة ، ويتنقل بين شيراز والشام والعراق ومصر والقدس .

أ _قضايا القرن الخامس :
ومسألة بدء شهر رمضان ، هي المسألة التي أدت لمحنته في شيراز ، تلك المحنة التي دفعته لكتابة سيرته ، عندما وقعت أول أزمة بينه وبين السلطان سنة 429هـ ، ويسجلها بقوله :
" زعم البعض أن شهر رمضان يتم تارة وينقص تارة أخرى ، وأن الصيام بني على رؤية الهلال ، ويقول الله سبحانه " أيامًا معدودات " ، والأيام المعدودة هي التي لا تزال معدودة ، فلو كان يحتمل أن يكون شهر رمضان تارة ثلاثين يومًا وتارة تسعة وعشرين يومًا ، لما ذكر أيامًا معدودات قط " .
وهذه المسألة ما زالت مطروحة ومحل خلاف ، وأحسب أنها من اسباب النهضة العلمية في مصر في علوم الرياضيات والفلك .
ويقول :
إن بعض الناس خاضوا في حديث الفورة التي جرت في شيراز ... واتهمت برفض السنة ونشر البدعة ، وأن الكاتب يستعد مع جماعته للهجوم على دار السلطان بالقلع والحرق والقتل " .
ويؤكد في موضع آخر أنه :
"من عمل بالباطن والظاهر معًا فهو منا ، ومن عمل بأحدها دون الآخر فالكلب خير منه وليس منا ".
ويروى أنه رغم خروجه هاربًا من شيراز ، فإنه نجح في التقرب من السلطان وأقنعه بدعوته بعد عدّة مناظرات ، وأصبح السلطان تلميذًا له في أمور الدين " فدعاة الاسماعيلية أقدر الناس حجة وألسنهم فصاحة ، وأكثرهم موهبة في المناظرة ، ويعود ذلك للنظام الدقيق المتبع في إعدادهم وتدريبهم ...وجرت المناظرة مع السلطان مكاتبة لا مشافهة ، لأني تحرجت من المشافهة صونًا للعرض مما يخلط بالمشافهة في المناظرة من سوء الأدب ، وقصدت أن يكون ما يدور بيننا من الكلام يتجسم بالكتابة لتبقى فائدته لمتأمله ، فسكن جأش السلطان واطمأن قلبه ... وقال : إني أسلمت نفسي وديني إليك... واستقر الأمر على أن أجتمع به كل ليلة جمعة ".
ولا تدوم الدنيا على حال ، وسرعان ما تتغير الأحوال ، وينقلب السلطان على المؤيد تحت ضغط الأهالي ومبعوث الخليفة العباسي ويبتعد عنه السلطان ويمنعه من الاتصال بالناس .." ونجح سعي مبعوث الخليفة باقتلاعي من تلك الديار وقصدني بالتشرد منها ... وكنت إلى حين انصرافه لا أعد نفسي في غمار الأحياء خوفًا من تسليمي إليه ، وما بعد ذهابه ، ما كنت آمن المكائد التي لم يزل الخصوم عاكفين عليها بحضرة السلطان ، فكنت إذا أصبحت لأرجو أن أمسى ، وإذا أمسيت أرجو ان أصبح ، لما كنت بصدده ، من قصد العوام ويغتاتهم وكبساتهم في الليالي والأوقات الغامضة ، لا سيما وقد ثبت في نفوسهم أن السلطان خصمي ، وإنما تنكف عوادي العامة عن أمثالي ، وكان يبلغني كل يوم من البلاغات فيما يقع من التظاهر علي ، والإغرار بي ما ترجف الأرض من بعضه ".

ب_ القرامطة والدروز :
وتبين كلماته عن الصراع الذي دار على أرض شيراز ، بين الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية ، وهو صراع عنيف ، رغم أنه كان صراعا سياسيا يلبس لباسًا فقهيًا أحيانًا ومذهبيًا أحيانًا أخرى .
و قبل المضي في سيرته سأحول أن ألم بلمحات عن المذهب الاسماعيلي ، الذي يدعو إليه المؤيد والتعرف على أبعاد هذا الصراع الذي شهده العالم الإسلامي .
بعد جهود ومحاولات كثيرة نجح المذهب الاسماعيلي في إقامة دولة في المغرب وأخرى في مصر وثالثة في اليمن ، بعد ملاحقة الأمويين والعباسيين لفكرة التشيع لأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وينسب الاسماعليون إلى اسماعيل بن جعفر ، ويعرفون بالسبعية تمييزًا لهم عن الإثنى عشرية ، وقامت حركتهم على الاستتار وعلى تنظيم سري محكم وكفء ، فبعد أن أجبر محمد بن اسماعيل على ترك مسقط رأسه في المدينة ، والهجرة إلى خوزستان بأواسط آسيا ، ومنها إلى بلاد الديلم جنوب بحر قزوين .
ويسجل مؤرخو الاسماعيلية أن أسرة محمد بن اسماعيل قدمت إلى الشام ، واستقرت في مدينة السلمية القريبة من حمص في القرن الثالث الهجري ، وقد وصلوها متنكرين خوفًا من بطش أعدائهم ، واستمرت الفترة ما بين سنة 147هـ عند وفاة جعفر الصادق حتى سنة 296هـ السنة التي ظهر فيها عبيد الله المهدي في المغرب غامضة ؛ بسبب ستر الأئمة ، وقد اعطى هذا الستر فرصة لعدد من المؤرخين للتشكيك في نسب أئمة الاسماعيلية .
ويسجل تاريخ الدولة الفاطمية في مصر أن نسبة الأئمة كانت دائمًا محل بحث ، فعندما دخل قادة وعلماء مصر على المعز لدين الله ، سألوه عن نسبه ، فجرد حسامه وقال : هذا نسبي ، ونثر عليهم قطع الذهب ، وقال هذا حسبي .
وصاحب قيام الدولة الفاطمية ، نزعة استكشاف الغيب وإحياء عصر الخوارق ، ودراسة الفلسفة ، وقيام الفرق الدينية السرية ، مع التعلق بالمجهول وتهكم المصريين على ادعاء معرفة الغيب ، ويروى أن العزيز بالله صعد المنبر ذات يوم ، فرأى رقعة كتب عليها :
بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم الغيب
فقل لنا كاتب البطاقة .
ويلاحظ نجاح فقهاء المذهب الاسماعيلي في تقديم تصور متكامل ، لكسب تأييد المستويات المختلفة من الأهالي ، فقدموا لأهل الورع والتقوى دعوة تقوم على تبجيل القرآن الكريم وأحكام الشريعة الإسلامية ، وقدموا لأهل الفكر والتأمل تفسيرًا فلسفيًا للكون ، استمدوه من مصادر القدماء ، وقدموا لأصحاب الأرواح الرقيقة والحس المرهف أفكارًا عاطفية تغذيها العبرة المستمدة من آلام آل البيت ، وقدموا للمظلومين والمقهورين المتطلعين إلى العدل ، حركة معارضة سرية جيدة التنظيم ، تهدف إلى هدم القائم وإقامة مجتمع جديد يقوده الإمام ويملأ الدنيا عدلًا بعد الجور والظلم .
وشهد العالم الإسلامي في هذه المرحلة التاريخية ظاهرتين خطيرتين :
_ ظاهرة قيام تنظيمات سرية تقوم على الستر والكتمان وانتشارها في أرجاء العالم الإسلامي ، وإذا كان للستر والكتمان هدف وهو الخشية على الإمام ، فإن السرية والكتمان لهما آلية خاصة ، ويمكن اختراق التنظيم السري من إحدى حلقاته ، وتوجيهه بعيدًا عن هدفه الأصلي ، وهو ما وقع بالفعل .
_ظاهرة الانقسامات والعنف ، خرج من الكتمان والسرية مذاهب كثيرة ، ويكفي أن نعرف أنه عند لحظة انتصار المعز لدين الله ، خرج عليه القرامطة ، في شرق شبه الجزيرة العربية ، وانقلبوا عليه ، ثم عادوا مرة أخرى بقوة السلاح إلى الولاء الفاطمي ، وفي ذروة عصر الخفاء في أواخر عصر الحاكم بأمر الله ، حاول بعض الدعاة نشر أفكارهم التي تضفي على الحاكم قدسية خاصة ، وثار عليهم المصريون وفتكوا ببعضهم ، وفر الآخرون واستطاعوا أن يقيموا طائفة جديدة هي الدروز ، وزعم بعض الغلاة منهم أن الحاكم قد رفع إلى السماء .
وأعود إلى المؤيد لدين الله وهو يلجأ إلى مصر متخفيًا سنة 438هـ ، ويروي أيام شدته قائلًا :
"رأيت أنني إذا بقيت مكاني ، لم آمن ما يتم على بغيتهم من حيلة ومكيدة...وعملت على تنكير الزي والهيئة ، والدخول في أطمار رثة ، وابتعت غلامين مجهولين ، وسلكت في بعض المجاهل من الطرق ، أكتري من مرحلة إلى مرحلة حمارًا أركبه ، أو جملًا أو ثورًا على حسب ما يتفق ، وأتحمل مشقة المشي وخوض الأدوية والوحول ، والصبر على مضض البرد والنزول على المواضع القذرة ما يكون الموت دائه شافيًا ... وكنت أحل في صوب الطريق بأقوام الريافة وأهل السواد ، فأسمعهم يذكرونني من القبيح بما أعلم أنهم لو شعروا بي لكانوا يتطهرون بدمي ويصلون ... وبعد مقاسات الأهوال التي رأيتها عيانًا ... بلغت بشق النفس الباب الطاهر _باب الإمام مترجحًا بين أمل ويأس ، أما اليأس فمن حيث علمت ان المقصود شمس توارت بالحجاب ن ووجه نهار تبرقع بالسحاب _ ويقصد أن الحكم لم يكن في يد إمامه المستنصر إنما في يد أمة ورجالها " .
ويعكس حديثه مع التستري حالته النفسية وخيبة أمله ... يقول :
" أعلم ، أنه ما مجتنى دياري من فمها إلا تكشفا بخدمة هذه الدولة العلوية ، وتخوفًا من الجهة العباسية ، وتسللا من فتنة كاد شرها يهلكني ، فما الداعي إلى قصدي هذا غير داعي الإيمان ، وما المقصود إلا صاحب القصر الذي هو إمام الزمان ، فإذا كان المقصود_ الخليفة_ يعلم أنني أنا الرجل الذي فيه أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، وهو يأنف من لقائه بلحظه ، ومن خطابه بما يشرح الصدر بلفظه ".
وتكشف كلماته أنه لم يستقبل كما يتوقع ، ووجد الإمام ومن حوله عنه لاهين .
ج_ المؤيد وناصر خسرو :
ونلاحظ أنه وصف لقاءه الأول بكل تبجيل واحترام مع قصر الإمام ، فقال :
" أدخلوني من القاهرة المعزية إلى قصر الخلافة.. ولمحت الثريا ترابًا تحت قدمي ، إذ ترشفت ذاك التراب ، وأجلسوني هنيهة لأفيق من غشية الهيبة التي ملأت جوانحي لما غشيت الحسرة بمشاهدة ذلك المقام قلبي وجوارحي ".
وهو هنا يسيطر على جوانحه الموقف المذهبي ، ولا يقدم لنا وصفًا لقاهرة تلك الأيام ، والتي كانت جليلة شامخة ، والتي يصفها ناصر خسرو في تاريخ قريب سنة 441هـ ، ويذكر عن ذات القصر :
" كان القصر وسط القاهرة، بينه وبين الأبنية المحيطة فضاء ، يحرسه في الليل خمسمائة حارس من الفرسان ، وخمسمائة حارس من الرجالة ، أسواره عالية، لا يستطيع أحد رؤية ما بداخله ، وقيل أن عدد من يقيمون بالقصر 30 ألفًا من بينهم 12 ألف خادم ، وللقصر عشر بوابات فوق الأرض ، وباب يقود إلى ممر تحت الأرض يعبره الخليفة راكبًا ليصل إلى قصره الآخر..."ويوجد بالقاهرة ما لا يقل عن عشرين ألف دكان كلها ملك السلطان وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر ، وفيها من الخانات والحمامات ما لا يمكن حصره ، وهي جميعها ملك للسلطان ، وفي القاهرة والفسطاط عشرون ألف منزل يملكها ويؤجرها السلطان ...وللقاهرة خمسة أبواب ، هي باب النصر ، وباب زويلة ، وباب الفتوح ، وباب القنطرة ، وباب الخليج ، والبيوت مبنية بناء نظيفًا محكمًا ن ومفصولة عن بعضها بالحدائق التي ترويها الآبار ، ويؤخذ ماء الشرب من النيل يحمله السقاءون على جمال يبلغ عددها 52 ألفا ، ويحمل الرجال القرب حيث سيتعذر على الجمال دخولها ، وفي الفسطاط بيوت من أربعة عشر طابقًا ، وبعضها من سبعة طوابق ، وثمة رجل أنشأ حديقة على سطح بيت من سبعة أدوار ...
ويصف في موضع آخر موكب المستنصر بقوله :
"أنه شاب لطيف المحيا ، حليق الذقن يرتدي في بساطة قفطانا أبيض وعمامة ، وعلى رأسه مظلة مرصعة بالجواهر الثمينة ، واللائي يحملها كبير الموظفين ، ويتحدث عما شاهده في مصر من ثروات وأموال ، قائلًا :
" أنه لا يخشى ألا يصدقه أحد من بلاد العجم إذا حاول وصفها" .
وكان لا بدّ أن تبعث القاهرة الرهبة في نفس المؤيد ، وهو يزورها لأول مرة.

د_ الظلمة اليهودية :

ولم يجذبه وصف القاهرة وحياة أهلها ، بل جذبه وهو الداعي الفاطمي الفارق الكبير بين الدولة الحلم التي يحلم بها المضطهدون والمقهورون ، وبين الواقع من حوله الذي يتحكم فيه الهوى والطموح الشخصي .
ويلحظ موقف المصريين من الحكام : " وعاداتهم في الاستخفاف بملوكهم معروفة، أما الوزراء فهم أغنام عندهم للنزع معلوفة ..." ويتكشف له حقيقة ما يدور ، فأم المستنصر كانت جارية مملوكة لأبي سعد التستري التاجر اليهودي ، قبل أن تنتقل للخليفة الظاهر ، وعندما أصبح ابنها خليفة استعانت بسيدها القديم ، واتخذت منه وزيرًا لعله يساعدها على السيطرة على الدولة مع صغر سن وليدها ، كما تولى الوزارة يوسف الفلاحي 436هـ ، وهو أيضًا يهودي أسلم ، يقول عنه المؤيد بعد أول لقاء:
" رأيت شيخًا عليه من الوقار سعة ، ومن الإنسانية سمة ، فأدنى وقرب وأكرم ورحب..."
وسجل التاريخ تولية ثلاثة وزراء من اليهود في العصر الفاطمي ، أشهرهم يعقوب بن كلسي ، وثانيهم صدقة بن يوسف الفلاحي، الذي كان من يهود حلب ،أما الثالث فهو الحسن بن أبي سعد التستري ، الذي لم يستمر في الوزارة أكثر من عشرة أيام ..
وقد عبر المؤيد عند هذه الأحداث فروى :
"قيل أن هنا يهوديًا يكنى أبا سعد التستري ، كان تاجرًا ومولى أم المستنصر ، أصبح هو المتصرف في شؤون البلاد ، وأصبح الوزير الفلاحي يأتمر بأمره ، وهو لأمور المملكة كلها الأساس والمبنى ، توجهت إليه ، فرأيت منه اهتزازًا لرؤيتي ، وخرجت من عنده بثياب ودنانير خرجت لي من خزانة السلطان ... وعندما توجهت إلى الموسوم بالقضاء والدعوة ونحن بالبعد ، والواسطة بيننا وبين مجلس الإمامة ، فرأيته رجلًا يصول بلسان نسبه في الصناعة التي وسم بها دون لسان سببه ، فارغًا مثل فؤاد أم موسى عليه السلام ، وفيه جنون يلوح من حركاته وسكناته ، وموتور منى بما أوحى إليه بعض شياطين الإنس من أنني ربما زاحمته في مكانته ، وتذكرت قوله تعالى :
إني وجدت امرأة تملكهم ، وأوتيت من كل شيء ، ولها عرش عظيم " _يقصد أم المستنصر _ وكان اليهودي _ التستري_ يلقاني بنشر وجهه ، ويخاطبني بكل خير لسانه ، ويعدني أن يصطنعني لسانه ، ويجعلني خدمه ومصاحبه ومكانته ، ويمنعني أن أتعقب باب أحد من المصطنعة والأكابر ، فيكون ذلك وكسًا علي فيما يريدني له ، ويشوقني إليه من المنزلة الجليلة ، فلما استفاض من الذكر من جهته ، وملأ الأسماع من لفظه ، قامت الحسدة من الشياطين المردة ، فدخلوا في عقل اليهودي ، وقالوا : كيف تطوع لك نفسك أن تأخذ بهذا الرجل العجمي الدخيل إلى المقام الذي أنت مخصوص به ومرتب له ، وما يؤمنك أنك إذا أدخلته أخرجك ، وإذا قمته أخرك ، وهو أبسط منك لسانًا ، وأقوى جنانا ، وهو يدلي بعزة الإسلام ، والتخصيص بالدعوة والخدمة ، وفيك من العلامات كلها خمول اليهودية ، ولم يزل الحديث يتوارد على سمعه حتى تشربه قلبه ".
ويصف متاعبه ومعاناته مع بلاط خليفته وإمامه ، يقول:ولا خير في المقام عند باب من يكون محجورًا عليه ، ويكون مقاليد أموره بيدي غيره لا بيديه .
" وعندما سمع اليهودي القول ، وأنني كشفت من الأمور مستورًا ، هاج كما يهيج الجمل نفورًا ، ثم لم يزل دأبي ودأبه المماحكة والمعاركة والإحراق به في مجالسه ومواكبه ، ...حتى اتفق من قتله ... وقالوا إن الفلاحي دسّ من قتله ... وإن بعض الجهات الجليلة التي كان اليهودي مرتسمًا بخدمتها في الظاهر ، وإن كان مستوليًا على المملكة كلها في الباطن ...فلما تجلت الظلمة اليهودية ، مددت باع طلبي لملاقاة السلطان ".
هـ _ لقاء الإمام :
وأخيرًا دخل مجلس الخلافة في آخر يوم من شعبان 429 هـ .
وبعد أن رأى عجز الإمام ، ولمس سيطرة مؤامرات القصور التي كان يذهب ضحيتها ، وشاهد الفارق بين الحلم والواقع ، وسجل كل ذلك بشجاعة المؤرخ لا تحيز صاحب المذهب ، وعند اللقاء يعود ويسيطر عليه الموقف المذهبي ، وينسى عند وصف كل متاعبه ، يقول:
" لم تقع عيني عليه إلا وقد أخذتني الروعة ، وغلبتني العبرة ، واجتهدت عند وقوعي إلى الأرض ساجدًا (!) لولى السجود ومستحقه ، ولما رفعت رأسي من السجود ، وجمعت على أثوابي العقود ، رأيت بنانا يشير إلي بالقيام ، ومكثت بحضرته ساعة لا ينبعث لساني بنطق، ولا يهتدي لقول ... وهو يقول ...دعوه حتى يهدأ ويستأنس ، ثم قمت وأخذت يده الكريمة فترشفتها وتركتها على عيني وصدري وودعت وخرجت".
ويعود المؤيد ويلعب دورًا نشطًا في الدعوة ، ويصبح طرفًا هامًا في صراع جديد بين الخلافتين العباسية والفاطمية ، ويقوم بمهمة دقيقة في شمال الشام والعراق ، مكلفًا بالتأثير على الأمراء الذين استقلوا بإماراتهم في ظل ضعف الخلافة العباسية في بغداد والتهديد السلجوقي ، وبعد دخول طغرلبك التركماني مدينة الري سنة 446هـ ، وتأرجح الأمراء بين القاهرة وبغداد ، ويسافر المؤيد إلى الشام وسلاحه ليس السيف بل القلم ، وأداته الكلمات والعطايا ، ونجحت رسائله في إقامة تحالف ضد الرتكمان في سنجار بين ارسلان التركي المعروف باسم البساسيري وبني مزيد في الحلة ، وبني مرداس في حلب ، وقريش بن بدران صاحب الموصل ، ونجح البساسيري في دخول بغداد يوم الأحد الثامن من ذي القعدة سنة 450هـ ، وهو يحمل الرايات البيض المصرية وعلى رأسها أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم أمير المؤمنين وخطب له في مساجد بغداد ، وضرب السكة الذهب والفضة باسمه ، وأرسل البساسيري إلى الخليفة المستنصر في القاهرة بثياب الخليفة العباسي وعمامته ، فارتجت مصر ، وأقيمت الاحتفالات ، وخطب باسم الخليفة الفاطمي في الموصل والبصرة وواسط ".
وتكشف هذه الأحداث التاريخية ، ان الصراع الداخلي بين أطراف الأمة الواحدة ، ظاهرة قديمة.

و_ الشدة المستنصرية :
ولكي يوضع الصراع الذي شارك فيه المؤيد في سياقه التاريخي ، نتعرف على أبعاده ، ونعود إلى الحكم الفاطمي في القاهرة .
حكم المستنصر بالله فترة تزيد عن ستين عامًا ، ووصلت الدولة الفاطمية في عصره إلى أعلى ذراها ، ثم تهاوت إلى الانحلال السريع ، وقدم لنا المؤيد في سيرته الظروف والحيثيات ، ومؤشرات هذا الانحلال ، بما أطلق عليه "الظلمة اليهودية" وعرض مؤامرات البلاط وعجز السلطان ، وكان من نتائج ذلك ما عرف بالشدة المستنصرية الكبرى 457هـ ، ومن جانب آخر أدت إلى مزيد من تشرذم المذهب الاسماعيلي ، عندما تضافر القحط مع اختلال الأمن ، وتقدم رجال السيف وتراجع رجال القلم..
مما أدى في النهاية إلى انقسامات عميقة تناولت الأسس الفكرية للمذهب الاسماعيلي ، فعقب وفاة المستنصر ، اختار الأفضل بن بدر الجمالي الابن الأصغر للخليفة المستعلي خليفة وإمامًا ، بدلًا من نزار الابن الأكبر الأحق بالإمامة على ما يقتضيه المذهب الاسماعيلي ، وانشق المذهب إلى قسمين.

_البهرة ومسجد الحاكم :
ويمثل أتباع البهرة ما تبقى من القائلين بإمامة المستعلي ، وكان المذهب قد انتقل إلى اليمن يدي ملك بن مالك قاضي الصليحيين ، وهو من تلاميذ المؤيد ، فبعد قضاء صلاح الدين الأيوبي على الخلالفة الفاطمية في مصر ، غادر فلول الاسماعليين البلاد ورحلوا إلى اليمن ثم انتقل المذهب عن طريق التجارة بين اليمن والهند ، وقام المذهب في ولاية جوجرات جنوب بومباي ، وأطلق عليهم لفظ " البهرة" وهي كلمة هندية قديمة تعني التاجر ، وانتقل رأس الدعوة من اليمن إلى الهند في القرن العاشر الهجري.
نعود لنصاحب المؤيد في عودته إلى القاهرة ونتعرف على ما جرى له بعد انتصاره الكبير في العراق والشام .
وندعه يتم قصته يقول:
سرت إلى مدينة صور ، فلما حصلت موضعًا يسمى البواقير ، لقيني صاحب بسجل يؤكد عليّ في النكوص على عقبي إلى حلب فملكني التحير والدهش ، ووجدت الرجوع ممتنعًا ، والوفادة على الباب( الخليفة) بعد تحريمها خطة شديدة ، ورجحت بين الأمرين ، فرأيت أن الاتمام خير من الرجوع ، وأن الذي اقتضى إنشاء ذلك السجل ، هو تلفيق من بعض المفسدين ، أو ظن ظان أنني إذا دخلت تعرضت بوزارة ، أو زاحمت أحدًا في رتبته ، وقلت ياسبحان الله بما يستحق من كان هدفًا لسيوف التركمانية وسهامهم ، وأقام لديهم سنة جرداء يعاين فيها كل ساعة حتفه... أن يكون جزاؤه المنع من العودة إلى الباب ، فرأيت أن أنكب عن الطريق الجادة إلى البرية والمجاهل فما شعروا بي حتى أطلعت رأسي بالجب _ جب عميزة_ عند باب القاهرة .
ودخلت ، دخول المهزوم لا الهازم، والمكسور لا الكاسر".
ثم يتولى منصب داعي الدعاة ، وداعي الدعاة من مفردات الدولة الفاطية منصب يلي قاضي القضاة ، كان يتزيا بزي خاص، وينوب عن القاضي ، ويتناول راتبًا قيمته مائة دينار مثل قاضي القضاة.
وكان عالمًا بجميع مذاهب أهل البيت ، يأخذ العهد على الأتباع ويحضر إليه فقهاء في دار الحكم .

وتطوى صفحة حياة المؤيد سنة 470هـ ، ويلقى أكبر صور التكريم من الخليفة ، ويدفن في دار العلم بالقاهرة ، ويصلي عليه إمامه المستنصر بالله