قراءة في مقدمة كتاب مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية



تأليف:ناصر الدين الأسد


إعداد: هدى محمد إبراهيم قزع

لقد تجلى لي من خلال قراءة مقدمة كتاب " مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية أن صلةَ الباحثِ في موضوع الشعر الجاهلي وليدةُ ماض تليد ، إذ كانت أيام الدرس هي الخيط الأول الذي وصله بهذا الشعر ، حيث راقت له المعلقاتُ دون غيرها من المحفوظات الشعرية ، ثم امتد هذا الإعجاب ليطال الشعرَ الجاهلي، وقد رد الباحث إعجابه إلى ذوق ذاتي غير معلل.
ويمكن القولُ إن الشرارة الأولى التي أوقدت في نفس الباحث الدرسَ، هي صلتُه المباشرة بما كتبه أستاذُه طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" ، إذ استفز هذا الكتابُ ذهنَ الباحث ودفعه للتساؤل عن قيمة الشعر الجاهلي من ناحية ، وعن صحته من ناحية أخرى .
ولم يكن الأمر يسيرًا إذ كان لا بد من شق طريق وعرة المسالك وممتدة ، للإجابة عن هذين السؤالين الأساسين وما ينبثق عنهما من الأسئلة .
وقد أشار الباحث إلى خطورة الشعر الجاهلي وقيمتِه في دراسة الأدب العربي في عصوره الإسلامية، وتظهر قيمته جلية على الصعيد الزمني، فهو أبو الشعرِ العربي وتاريخِه الذي لا يمكن أن ننفك عنه إن أردنا التعرف على قومنا في مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم.
ولا ينفصل الزمن عن الفن فقيمة الشعرِ الجاهلي الفنية غيرُ محدودة ، فهو الذي :
_"أرسى عمود الشعر".
_ "وثبت نظام القصيدة".
_ "وصاغ المعجمَ الشعري العربي عامة".
وحقا لا يمكن الإقرار بالتطور والتجديد في الشعر الإسلامي إلا إذا قمنا بوضعه بموازاة الشعر الجاهلي ، والتساؤل عن زمن التطور ومكانه وكيفيته .
وللباحث رأي خاص أحسب أنه مُسَوغ؛ لأنه نتاج خبرة وصلة في هذا الأدب والشعر ، والذي يقول فيه:
"إن في هذا الشعر الجاهلي وفرة من القيم الفنية الأصيلة لم يحظ بها كثير من الشعر العربي بعده: ففيه من خصب الشعور، ودقةِ الحس، وصدق الفن، وصفاء التعبير، وأصالة الطبع، وقوة الحياة، ما يجعله أصفى تعبير عن نفس العربي، وأصدقَ مصدر لدراسة حياتِه وحياة قومه من حوله.
لكن رغم محدودية قراءتي بالموازاة أرى أن هذا الرأي يحتاج لإثبات يقوم على الموازنة بين الشعر الجاهلي وغيره وهذا ما لم أجده في هذه الدراسة ، وأنا أوافق الباحث على أن هذه القيم تتمثل في الشعر الجاهلي ، وأنه يمكننا أن نعدّه أصدقَ وثيقة معبرة عن الأقوام الجاهلية وحياتِهم .
وأخالفه بقوله إن هذا الشعرَ يحتوي على قيم فنية لم يحظ بها كثير من الشعر العربي بعده.
ولعل هذا الخلافَ لا يمنع من الإقرار بأهمية هذا الحُكْم ، لا سيما أن هذه الدراسة لم تكن المحاولة الجادة الأولى للباحث في درس الشعر الجاهلي ، إذ سبقتها مرحلة إعداد الرسالة الجامعية الأولى "القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي".
وقد أتاحت هذه المرحلة للباحث فرصة الاطلاع على ما كتبه القدماء والمحدثون عن هذا الموضوع في الشعر الجاهلي خاصة ، وعن العصر الجاهلي عامة.
وقد سَلّم الباحث بقيمة النتائج التي حققها في المرحلة الأولى ، ولكن سعيه للوصول إلى الحقيقة التي لا ينتابها شك ، دفعه إلى مواصلة ما بدأ به إذ عاد أدراجه ثانية إلى الشعر الجاهلي ، برؤية جديدة كشف عنها حين قال:" إن بحث الشعر الجاهلي بحثًا مجديًا لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولًا، تعنَى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث روايةَ هذه المصادرِ وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتتبع المصادرَ الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسِه".
هذه نقطة جوهرية وأحسب أنها تغنينا عن زيف ووهم الذين وهنوا طريقة نقل الشعر الجاهلي وروايته ، ومنهم طه حسين، الذي تجاوز في بحثه الخطوة الأولى من الدرس (وهي الدراسة الخارجية) .
وإن كان من سنن الأشياء أنها تحمل غايةً تبين عنها الوسائلُ، فإن غاية الباحث كغيره من الباحثين هي توخي النهج العلمي والخالص ، وشتان بين الوسيلة التي توخاها الباحث في سبيل الوصول إلى هذه الغاية وما اتخذه غيرُه .
فقد كان موضوع البحث هو الباعث والحافز الأول ، ولا يُجتَثُ هذا عن ألفة الباحث وشاعريته الخاصة تجاه هذا الشعرِ ، والسعي على حد تعبيره إلى الوصول إلى يقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معًا.
ومن حق الباحث أن يصف المشقة التي كابدها ليصل إلى الجوهر ، فهو بدأ بقراءة الموضوع ، بالرغم مما يكتنفه من الغموض ، وكانت الحيرة هي سمة الباحث وهو يشق رحلته الصعبة .
وأحسب أن حيرته لا تلتقي مع شك طه حسين بشيء، فالشك يسبق النص ، والحيرة تتبعه ، بمعنى أن الحيرة تنبع من قراءة وثائق وأحيانًا حقائق نحتار في ترجيح رواياتها ، أما الشك فينبع من فكر مسبق ومتعسف ومقصود ،و غالبًا ما يعبر عن خلل في العلاقة .
فمثلًا الذي يشك بالله ثمة بينه وبين الدلائل المبرهنة عليه بعد وجفاء ، إما لجحود أو خلل في العقل، ومع فارق المثال فإن الذي يشك في الشعر الجاهليثمة بينه وبين البراهين المدعمة لوجوده ،عزلة مقصودة ، إما لإنكار ، وإما لعدم فهم و تثبت يقوم على الأدلة .
ولعل حرص الباحث على التثبت والوصول إلى الحقيقة وسط ما لقيه من انبهار بالمنهج العلمي الغربي ودُعاته هو الذي دفعه لاختيار هذا الموضوع ، والمكوث فيه قرابة أربع سنوات ، وقد سجل الباحث خطوات يمكن عدّها مفاتيح لمن يرنو للمنهج العلمي القويم الذي ينبثق من النص ، وأظن أنها من قبيل الموجز الدال .


إذ يقول فيها:
"لم أبدأ الكتابة إلا بعد أن جمعت من النصوص ما أتاح لي تمثل الموضوع تمثلًا كاملًا أو مقاربًا، ثم عدت إلى النصوص: أستكمل جمعها وتقييدها، وأرتبها في مجموعات، ينتظم كل َّمجموعة منها موضوع ٌواحد، وتلتقي الموضوعات في فصول، والفصول في أبواب.
ثم مضيت أفحص هذه النصوص، وأدرسها دراسة دقيقة: تقوم على استقراء النص واستنطاقه، واستشفاف دلالاته، في حدود ألفاظه ومراميه، من غير تحميل له فوق ما يحتمل، ولا توجيهه وجهة بعينها لا تتضمنها ألفاظُه.
ولم أكن أكتفي بوجه واحد من الأمر حين يكون له وجهان أو وجوه، وإنما كنت أعرض كلَ وجه، وأقلبه على جوانبه، وأستوفي أدلتَه وشواهدَه، ثم أقابل بين هذه الوجوه المختلفة وأناقشها، وأنتهي إلى ترجيح واحد منها حين يتيسر الترجيح".
إذن جمع النصوص الكافية لتمثل الموضوع ، وترتيبُ جذاذات البحث في فصول وأبواب يجمعها سلك ناظم ، ومراجعة النصوص مرارًا وتكرارًا لاستنطاقها وتوثيقها وتأويلها هو أظهر معالم منهج الباحث في درس الشعر الجاهلي .
وقد كان الباحث على دراية بأنه يخوض غمار تجربة أدبية ، وهي إن كانت تقوم على المنهج العلمي فإنها لا تساوي التجربة العلمية لا في غايتها ولا في نتائجها .
فالتجربة العلمية تهدف إلى الوصول إلى اليقين ونتائجها قطعية وقد تنسخ الحقيقة الجديدة ما قبلها من الحقائق والقوانين، على خلاف التجربة الأدبية التي تتغيى الحقيقة الظنية الراجحة ، وليس بالضرورة أن تنسخ ما قبلها من الحقائق الظنية إلى غير ذلك من الفروقات .
ويصف الباحث تجربته الأدبية ، فمادتها هي الروايات والأخبار والنصوص، ونتائجها : ظنية ترجيحية.
وخطواتها : جمع الروايات والأخبار والنصوص، واستقصائها، ودراستها دراسة قوامها: "مقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، ونقد إسنادها ومتنها، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفضيل خبر على سائر الأخبار".
ومن الطريف إشارة الباحث إلى نوعين من الحماسة تقوم الأولى منها على البصيرة بالرأي بعد فحص وتمحيص ،والأخرى على التعصب الأهوج للفكرة التي يدخل المرء بها في بحثه ابتداءً.
ويظهر لي أن هذين النوعين من الحماسة على التوالي يوازيان معادلة الحيرة والشك .
والباحث في العصر الجاهلي أحوج ما يكون للحماسة المتبصرة في ظل هذا العناء الكبير الذي يلاقيه وهو يواجه مصادر بحثه.
ويطلعنا الباحث بعد التمحص والفحص في المصادر العربية على حقيقة مريرة وهي" أن الحديث عن الجاهلية -في المصادر العربية- لم يكن يُقصد لذاته...وإنما كان يقصد لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كان المؤلفون يكتبون فيها".
وفي ضوء هذه الحقيقة فإن الجهد والعناء الذي يتكبله الباحث في هذا العصر كبير ، إذ ينبغي عليه أن يَلمَُ الشتات المنثور المتباعد في هذه المصادر ، من خلال القراءة العميقة الناقدة ، لا المتسرعة التي تكتفي بالتبويب والفهارس لهذه المصادر متناسية النص .
ومن أجل ذلك سعى الباحث إلى سبر أغوار القرون الثلاثة الأولى للهجرة ، والرجوع إلى مصادرها، وقراءتها قراءة دقيقة، بالإضافة إلى دراسة الجاهلية نفسها.
وقد شفع بحثه بلحق انطوى على أسماء المؤلفين مرتبةً على حروف المعجم، وسنوات الوفاة، وأسماء كتبهم وطبعاتها التي رجع إليها .
وأخيرًا يحسب للباحث اعترافه بفضل أساتذته ، وعدم ادعائه الكمال ، وفتحه لمعالم هادية تعين من ينوي إتمام البحث في هذا المجال.