تجربة الحياة والموت عند أبي العلاء المعري قراءة في ضوء اللزوميات:
إعداد / هدى محمد قزع
أ_ فرضيات التجربة :
ارتاد المعري تجربته الأدبية بفرضيات مختزنة باللاوعي،وقد عبر عنها بكلمات حملت هذا المخزون اللاشعوري وفجرته لنا، لنتلمس بعضاً من خيوطه .
ولعل الفرضيات التي جالت في خاطرالمعري توازي في نفسي الماهية ؛ لأنني أجد أننا نفترض عادة ، ما يتماهى في شعورنا،وليس من الضرورة أن يكون هذا الافتراض صحيحاً أو أن يلاقي قبولاً لدىالآخر.
1_ماهية الموت:
افترض المعري عدداً من الافتراضاتحول ماهية الموت،إذرأى أنهنومطويل، وفي الوقت نفسه ماثله بالنوم الإنساني مع الإبانة عن الفرق ، فالنوم موتقصير وسينقضي على عكس الموت .
قال:
وَالمَوتُنَومٌ طَويلٌ مالَهُ أَمَدٌ
وَالنَومُ مَوتٌ قَصيرٌ فَهو مُنجابُ(1)
وقد أراد بقوله هذا تعميقالغياب والتلاشي بالموت ، مقابل الانكشاف والبعث في النوم المؤقت ، وقد تكونمقاربته تلك من قبيل أنهما سبيل للراحة ، وأحسب أنه متأثر بالثقافة الإسلامية فيهذه المقاربة .
إذ نجد الْقُرْطُبِيّفِي " الْمُفْهِم " يقول : " النَّوْم وَالْمَوْت يَجْمَعهُمَا اِنْقِطَاع تَعَلُّقالرُّوح بِالْبَدَنِ " وَذَلِكَ قَدْ يَكُون ظَاهِرًا وَهُوَ النَّوْم وَلِذَاقِيلَ النَّوْم أَخُو الْمَوْت ، وَبَاطِنًا وَهُوَ الْمَوْت ، فَإِطْلَاق الْمَوْتعَلَى النَّوْم يَكُون مَجَازًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اِنْقِطَاع تَعَلُّق الرُّوحبِالْبَدَنِ" (2).
ويلفت المعري من وجهةأخرى إلى عجب الإنسان بالحياة ،وما يحرزه من فضل ، ويعد ذلك منه ضرباً من العبث، إذما القيمة التي سيجنيها من فضله لحظة مطالبة الموت به؟ .
فهو يحل بالبشر على مرأى منا ، وقد يصيب أقرب الناس إليناكالآباء مثلاً ، وفي النهاية لا بد أن يطالنا ؛ وما ذلك إلا
لأن طبيعته تشبهالداء المعديالذي ينتقل من إنسانلآخر.
______________________________
(1) أبو العلاء المعري، لزوم مالا يلزم ، شرح نديم عدي، دار طلاس ، دمشق، ط1، 1986، ل1،ص99.
(2) ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري، تحقيق عبد العزيز بن عبدالله بن باز ومحب الدين الخطيب، دار الفكر ، بيروت، ( مصور عن الطبعة السلفية )،ج11، ص115.
وفي هذا قالالمعري:
لايُعْجَبَنَّ الفَتى بِفَضلٍ
والِدُهُ خَصَّهُ بِعَدوى
فَإِنَّهُ مُقتَضى بِوَعدِ
مِنمَوتِهِ وَالحِمامُ يُعدي
(ل1، ص505)
ولكن من المعروف أن الوالد هو أقرب إنسان لابنه فكيف يخصهبالموت ؟
قد يكون في ذلك إشارة إلى فضلالموت ، ويخص الأب ولده به لأنه يحبه ، وإما أن يكون مؤشراً على حتمية الفناء ، أودليلاً على خطأ الآباء في إيجاد الأبناء بالإنجاب مع علمهم أن المصير هو الفناء .
واعتبار المعري للموت بأنه داء نجد لهجذوراً في التراث الإسلامي (1) ، والمعروف أن الموت في الحقيقة ليس داءً ، وإنما هوعدم وفناء ، وقد يكون اعتباره بأنه داء من قبيل المبالغة ، فهو أشد من المرض ؛ لأنالمرض داء يُضْعِفُ والموت يُعْدِمُ ، أو قد يقصد بالداء هنا المرض الذي عند الموتوفراغ الأجل لأنه لا ينفع فيه الدواء.
ويرى المعري من زاوية أخرى أنهحظوسعادة للإنسان، أما الحياة فهي لا تجلب إلا التعاسة والشقاء له ؛ وذلك لأنها تزيده من ذنوبه التيتسجل في صحائفه طالما هو حي، وفي هذا قال :
المَوتُ حَظٌّلِمَن iiتَأَمَّلَهُ
لا سِيَّما لِلَّذي يُخَطُّ عَلَيهِال
وَلَيسَ فيالعَيشِ أَن تُؤَمِّلَ حَظ
وِزرُ إِن قالَ أَو رَناوَلَحَظ
(ل2،ص1011)
وكأني بالمعري يرضى بالحياة التييخلو المرء فيها من الذنوب ، وهذا أمر مستحيل ، ونظرة مثالية لن نجد لها تحققاً فيالواقع ، لذلك رأى الموت حظاً ، وهذه الرؤية دليل على اعتقاده بالجبرية لابالاختيار وهذا ما دفعه للإيمان بالحظ.


______________________________
(1) إذ ورد في الحديث "( عليكم بالسنا ) بفتح السين ممدود أو مقصوراً معروف بأن يدق ويخلط بعسل وسمنويلعق ( والسنوت ) الشبث أو العسل أو رغوة السمن أو حب كالكمون أو الكمون الكرمانيأو الرازيابج أو التمر أو العسل الذي في زقاق السمن ( فإن فيهما شفاء من كل داء إلاالسام ) بالمهملة من غير همز ( وهو الموت ) ". وفيه أن الموت من جملة الأدواء .
المناوي،الحافظ زين الدين عبد الرؤوف ، التيسير بشرح الجامع الصغير،مكتبة الإمام الشافعي ،الرياض، 1988م، ط3، ج2، ص275.
وتبعاًلاعتقاده بالجبرية ، سنجده يعدهفرضاً، إذ يقول :
تَبارَكتَإِنَّ المَوتَ فَرضٌ عَلى الفَتى
وَهَوَّنَ مانَلقى مِنَ البُؤسِأَنَّنا
وَلَوأَنَّهُ بَعضُ النُجومِ الَّتي تَسري
بَنو سَفَرٍ أَو عابِرونَ عَلىجِسرِ
(ل2،ص700)
وفي وجهة أخرى يجعلهغايةقريبة من نفسه ، ومن نفوس البشرية جمعاء إذ يقول:
وَأَعلَمُأَنَّ غايَتي المَنايا
فَصَبراً تِلكَ غايَةُ كُلِّقَومِ
(ل3،ص1488)
ولكن لماذا كان الموت غاية؟
يجيبنا المعري فيقول:
وَسامَتنيإِهانَتَها اللَيالي
وَأَيّامُ الحَياةِ ظِلالُ عِترٍ
أَعومُ اللُجَّوَالحيتانُ حَولي
لَعَلَّ العَيشَ تَسهيدٌ وَنَصبٌ




وَمَن لي أَن تُخَلّينيوَسَومي
وَمَن لي أَن يَكونَ ظِلالَ دَومِ
وَما أَنا مُحسِنٌ في ذاكَعَومي
وَراحَتي الحِمامُ أَتى بِنَومِ
(ل3،ص 1488)
إذنلقد حمله الزمن الإهانة وكلفه بها ، وأماالحياة فهي كظلال وهمي لنبات قصير ، وبما أن الظل مؤقت ، كان لا بد له من أن يتساءلعن وجود ظل دائم فيها،وقد كان حاله وهو يستغرق في أمور الحياة ، ويحاول التخلص منشرورها وإهانتها ، يماثل من يسقطفي لجّ بحر ، فهو يعومليتخلص منه ، وبما أنه لا يحسن العوم ، يوشك أن يهلك ، إن لم يتداركه من يستنقذه ،والحياة تُشَبَّهُ بالبحر وأهلها بالراكبين في السفينة.
ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : "يا هادي الطريقجُرْتَ إِنما الفَجْر أَو البحر يقول ان انتظرت حتى يضيء لك الفجرُ أَبْصَرْتَ قصدكوإِن خَبَطت الظلماء وركبت العَشْواء هجما بك على المكروه " (1).
و قد ضرب الفَجْر والبحر هنامثلاً لغمرات الحياة التي شبهت بالبحر لتحير أهلها بها.
______________________________
(1) ابن منظور محمد بنمكرم المصري ، لسان العرب ،دار صادر ، بيروت ،ط1، مادة ( فجر ) ، ج5 ،ص45.
ولانعدام الديمومة التي كان يبحثعنها ، اعتبر الحياة تسهيداً ودواء وبلاء وشراً ، ولن يجد راحته من عناها إلابالموت ، الذي يوازي النوم الطويل.
ويرىمن ناحية أخرى أن الموتمزيل النعم، إذ يقول:
أَلافَاِنعَموا وَاِحذَروا في الحَياةِ
مُلِمّاً يُسَمّى مُزيلَالنِّعَم
(ل3،ص1520)
يُظهر هذا البيت أن المعري لمينقطع تماماً عن الحياة لذلك طلب من البشر أن ينعموا فيها ، ولكنه يحذرنا أن نسرففي تنعمنا ، لأنه سيزورنا الموت ويزيل كل النعم .
وقد افترض المعري الطبيعة المنفرة للموت ، بمعنى أنه أسبغعليه أوصافاً تظهر مدى وحشيته ، إذ تارة يعده أسداً مفترساً فيقول:
وَالمَناياكَالأُسدِ تَفتَرِسُ الأَح
ياءَ جَمعاًوَلا تَعافُ الكليبا
(ل1، ص151)
وتارة أخرى يعده محارباً ثائراً يعادي بني البشر ويقتلهمفيقول :
وَالحَتفُكَالثائِرِ العادي يُصَرِّعُنا
وَالأَرضُتَأكُلُ هَلّا تَكتَفي الضَبُعُ
(ل2، ص1025)
ولم يقتصر المعري في حديثه حول الماهية على الموت العضوي، وإنما أشار إلى أنالفقر موتلصاحبه ، والغنى هو الحياة؛ لأنه يبعث الشهرةلصاحبه ، وفي هذا قال:
وَالفَقرُمَوتٌ غَيرَ أَنَّ حَليفَهُ
يُرجى لَهُ بِتَمَوُّلٍإِنشارُ
(ل2،ص607)
2_ماهية الحياة :
كان في نفس المعري عدد من التصوراتالمختلفة للحياة ، إذ تصورالحياة مصباحا، يبدأ متقداً ثم ينقص ضوؤه حتىينطفىء، وفي هذا قال:
رَأَيتُالفَتى شَبَّ حَتّى اِنتَهى
كَمِصباحِ لَيلٍ بَدايَستَنيرُ



وَما زالَ يَفنى إِلى أَن هَمَد
ثُمَّ تَناقَصَ حَتّى iiخَمَد
(ل1، ص533)
وهذا التصور يؤكد الغياب والزوال وتلاشي الماهية،فالإنسان يبدأ حياته بفترة الطفولة ثم يشب حتى يكتمل ، و في فترات عمره يفني جسمهإلى حين موته .
وقد نظر المعري إلىالحياة بأنهاعارية، أعارنا إياها رب الوجود ، ومن المعروف أن المعيرسيسترد ما أعار ، وأن المعير لا يهب المعير العارية فلو وهبه إياها لما أخذها وفيذلك قال:
أَعارَكَاللَهُ ما أَعطاكَ مَوهِبَةً
لَو كانَ ما نِلتَ مَوهوباً لِماأُخِذا
(ل1،ص537)
ويتمنى المعري لو أنه لم يُعَرْها، ويجد أن لا أسف على اندثارها إذ يقول :
تَمضيالحَياةُ وَما لي إِثرَها أَسَفٌ
وَدِدْتُ أَنَّ مُعِيرَ العَيشِ لَميُعِرِ
(ل2،ص734)
ولم يكن المعري ليحرص عليها ، فهيالتي حرمته من العيش كغيره من البشر ، بمعنى أنه لم يجد فيها لا قريبا مسناً يخافعليه ، ولا طفلاً ليرعاه ، ففيما إذن حياته إذا كان الجميع بمنأى عنه ؟يقول:
إِذا لَميَكُن خَلفي كَبيرٌ يُضيعُهُ
حِمامي وَلا طِفلٌ فَفيمَحَياتي؟
(ل1 ،ص273)
وكأني به يخلي مسؤوليته تجاه البشروالحياة عامة ويعمق غربته ، من هنا نظر إليها بأنهاداءلا يشفيه إلا الموتإذ يقول :
وَماالعَيشُ إِلّا عِلَّةٌبُرؤُها الرَدى
فَخَلّي سَبيلي أَنصَرِفلِطِياتي(1)
(ل1 ،ص273)
فهو يتمنى الموت ؛ وذلك لأنهسيشفيه من داء الحياة، وقوله خلي سبيلي يشير إلى القيود التي تحيط به فيها، وتوقهإلى الانفكاك منها.
ويرى المعري أن حياةالرجل الضال هي خسار ؛ لأنه مطوق بأسرها وشرورها ، لذلك يسأل الرب أن يخلصه من هذاالإسار ، فيقول:
يا رَبِّعيشَةُ ذي الضَلالِ خَسارُ
أَطلِق أَسيرَكَفَالحَياةُإِسارُ
(ل2،ص605)
وما يخفف عنا ما نلقاه من شرورها،علمنا أننا مسافرون ، والسفر مشقة لأننا لا بدّ أن نعبر على الجسر الواصل بينالحياة والموت قال:
وَهَوَّنَمانَلقى مِنَ البُؤسِ أَنَّنا
بَنو سَفَرٍ أَو عابِرونَ عَلىجِسرِ
(ل2،ص700)
ويخبرنا المعري أنه عندما يلقىأهله بعد الموت ،وهذا أمر مستحيل واقعاً، سيخبرهم أنه تخلص من أسرها بعد موته ،فالموت منحه الحرية، وفك قيوده :
مَتّى أَلقَمِن بَعدِ المَنيَّةِ أُسرَتي
أُخَبِّرهُمُ أَنّي خَلصتُ مِنَالأَسرِ
(ل2،ص700)
______________________________
(1) يماثل هذا المعنى،قوله: تَحَمَّل عَنِ الأَرضِ المَريضَةِغادِياًوَلا تَرضَ لِلداءِ العَياءِ سِوىالحَسمِ
(ل3، ص1452)
وينظر المعري إليها على أنها جسر يصل بين موتين ، وافتقادالشخص يكون بعبوره ذلك الجسر ، إذ يقول:
حَياةٌكَجِسرٍبَينَمَوتَينِ iiأَوَّلٍ
وَثانٍ وَفَقدُ الشَخصِ أَن يُعبَرَالجِسرُ
(ل2،ص554)
وأحسب أنه عنى بالموت الأول الحياة، وبالموت الثاني الفناء.
ويعدهاسفراًطويلأ ، بدأ به منذ الولادة وما زال مستمراً ، يقول :
غَدَوتُ مَعَالأَحياءِ مُذ حانَ مَولِدي
إِلى اليَومِ ما نَنفَكُّ في دَأَبٍسَفرا
(ل2،ص654)
وفي حين آخر يعدهاسراباً،إذ يقول:
هَياماً يَصيرُالجِسمُ في هامِدِ الثَرى
فَما بالُكُمبِالآلِ يَخدَعُ هُيّاما
(ل3 ، ص1430)
وكأني به يقول: ما لكم تغترون بالحياة وأحوالها و التي هيبمنزلة السراب الذي "يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْيَجِدْهُ شَيْئًا " سورة النور الآية 39 ، وأنتم متيقنون أن آخر أموركم العدموالبلى ، وأن تلحقوا بهامد الثرى .
ويطلبالمعري منا التمهل لنفيد من تجربته وتجربة البشر بالحياة ، والتي خلصوا منها إلى أنالإنسان فيها يتلهى ، وكأنالحياة تعاليللا تستحق أن يعطيها الواحد مناوقتاً جاداً ، يقول:
مَهلاً تَعالَلِتَحظى مِن تَجارِبِنا
إِنَّ الحَياةَ عَلِمناهاتَعاليلا

(ل3، ص 1263)

ويقر المعري أنالحياةنحسيطال جميع الأحياء دون استثناء ، وما يزيد الأمر تردياً ونحساً سوء البشرعلى الأرض ولؤمهم ، وفي هذا يقول :
نَحْسُالحَياةِ عَلى الأَحياءِ مُشتَمِلٌ
وَساكِنو الأَرضِ مِن لُؤمٍ بِلاكَرَمِ
(ل3،ص1466)
وهذا النحس دفعه للدعاء عليهابالزوال ، لأنها أوصلته إلى الضعف ، وقد وقع في حيرة من أمره ، أفيدعو على الشبيبةالتي قادته إلى الهرم ؟ أم على الحياة التي ستوصله للموت؟ قال:
فَالبُعدُللعَيشِ أَدّاني إِلى تَلَفٍ
وَلِلشَبيبَةِ قادَتني إِلىالهَرَمِ
(ل3،ص1466)
وأرى أن إيمان المعري بالنحس دليلعلى تمسكه بفكرة الجبرية .
ويصفها منناحية أخرى بأنهاسلك أو عقد من الأذىيطوق كل الناس على وجه الأرض بالسوءوالشر؛
و ذلك لأنها مخادعة وماكرة و تلهجبحبها لنا كذباً ووهماً ، وفي ذلك يقول:
وَأَرىالحَياةَ وَإِنّ لَهَجَت بِحُبِّها
كَالسِلكِ طَوَّقَكَ الأَذاةَنِظامُها
(ل3،ص1418)
وقريب من هذا الوصف اعتبارهإياهامصيدةتقع نفوسنا في شباكها ، ونحن لم نعلق بها رغبة واختياراً ،وإنما خدعتنا ومكرت بنا فدخلنا في شباكها دونما قدرة على الفكاك .
قال:
حَياةٌكَالحِبالَةِ ذاتُ مَكرٍ
وَنَفسُ المَرءِ صَيدٌأَعلَقَتهُ
(ل3،ص1660)

و تمثله إياها بأنها غول ،بعكس الآخرين الذين تمثلوها بأنها عروس بقوله:
ظَنَّالحَياةَ عَروساً خَلقُها حَسَنُ
وَإِنَّما هِيَ غولٌ خُلقُهاشَرِسُ
(ل2،ص876)
وكل ذلك يعمق وحشية وضراوة الحياةعلى النفوس البشرية.

ب _ أدواتالتجربة :
لكل تجربة أدواتهاالتي يستعين بها المجرب لإتمام تجربته ، وإذا أردنا الحديث حول أدوات التجربةالأدبية
فإن حديثنا سيطول ؛ وذلك لأنطبيعتها معقدة ، وهي كثيرة أذكر منها : العاطفة ، والخيال ، والصورة .
من هنا آثرت الاقتصار بالحديث حولهاعلى العاطفة .

1_ عاطفته تجاهالموت:
عبر المعري عن عدد من العواطفمنهاعاطفة الحب جبراً، لأمر يستبعد ظاهرياً أن يكون محببا لدى البشر وهوالموت ، إذ إن الطبائع تنفر منه ، ولكن ماذا يجدينا الفرار أمام حتميته ؟ فهوسيلاحقنا في كل زمان ومكان ليسقينا من كأسه، قال:
نَفِرُّ مِنشُربِ كَأسٍ وَهيَ تَتبَعُنا
كَأَنَّنا لِمَناياناأَحِبّاءُ
(ل1،ص40)
وقوله كأننا لمنايانا أحباء يشيبجبرية الموت ، إذ إننا نضطر أمام هذه السلطة القهرية بأن نسلم لها وكأننا محبون لاكارهون لأن كرهنا لن يجدي شيئاً .


وسنجد المعري يقر بحبه للموت إذ قال :
إِن يَقرُبُالمَوتُ مِنّي
وَذاكَ أَمنَعُ حِصنٍ
مَن يَلقَهُ لا يُراقَب
كَأَنَّنيرَبُّ إِبلٍ
أَو ناشِطٌ يَتَبَغّى





فَلَستُ أَكَرَهُ قُربَه
يُصَيِّرُالقَبرَ دَربَه
خَطباً وَلا يَخشَ كُربَه
أَضحى يُمارِسُ جُربَه
فيمُقفَرِ الأَرضِ عِربَه
(ل1، ص152)
فهولا يكرهه، بل على العكس يتمنى قربه ؛ وذلك لأنه رأى فيه حصناً قوياً يحمي المرء،ويخلصه من الخطوب والكروب التي كانت تصيبه في الحياة .
ويرسم المعري صورة لمعاناته بالحياة إذ يرى بالراعي الذييداوي الإبل الجربى ، وبثور الوحش الذي يفتش في الصحراء عن يابس النبت ليأكل منه ،صورة فوتوغرافية لنفسه ، بمعنى أنه ألف الخطوب ، وما له من مخلص منها سوى الموت .
ولكن هل أحب المعري الموت حباً حقيقياًأم أن سلطته هي التي فرضت عليه هذا الحب؟
قال :
وَالنَزعُفَوقَ iiفِراشٍ
أَشَقُّ مِن أَلفَ ضَربَه
(ل1، ص153)
يُظهر هذا البيت الفزع والخوف الذي كان يسكن قلب المعريمن الموت ، فهو رأى أن أصعب الأشياء من مثل القتل بالسيف والإصابة بألف ضربة أهونمن النزاع والموت على الفراش .
ويتعمقهذا الفزع عندما يستدعي مخاطَباً غائباً جسداً وروحاً عن الحياة وهو ساكن اللحد ،ليعرفه ما الموت وحاجته؟
قال:
يا ساكِنَاللَحدِ عَرّف
نِيَ الحِمامَ وَإِربَه
(ل1، ص153)
فهويعرف حتماً أن لن يجيبه ، ولكن جاء هذا الطلب ليدلل على انقطاع خبر الميت لحظةقراره في اللحد ، وعلى رغبة المعري بمعرفة المجهول ، أو لنقل ليدلل على قلقه إزاءما يجهل .
وسيبقى يسير في خط واحدبعاطفته وهو جبرية حبه للموت إذ قال :
قَديماًكَرِهتُ المَوتَ وَاللَهُ شاهِدٌ
وَقَد عِشتُ حَتّى أَسمَحَت ليقُرونَتي
(ل1،ص272)
فكرهه للموت منذ القدم ، وإتخاذهالشهادة الربانية ليؤكده ، يومىء بأن هذا الحب ليس عفويا ، ولعل من أبرز الأسبابالتي قادته إلى الانقياد خلف هذا الحب المصطنع للموت : امتداد العمر به والعجز .
ولكن ماذا لو حلّ الموت به فهل سيرحببه ؟
لقد تخيل المعري هذه اللحظةفقال:
وأَحسَبُهُلَو جاءَني لَأَبَيتُهُ
وَمِن عِندِ رَبّي نُصرَتيوَمَعونَتي
و (ل1،ص272)
إذن هو يرفض الموت لو كان الأمربيديه ،ولكن الأمر كله لله فما له إلا طلب المعونة والنصرة منالرب.
ولكن لماذا طلب العون والنصرةتحديداً ، ولم يطلب دفع الموت وله أن يسأل الرب ما يشاء؟
لقد كان المعري على يقين بأن الموت لن يدفع وهو لن يسألما لم يسأله أحد من قبله ، ولعل النصرة والمعونة أرادهما لتخطي حواجز الحياةومتاعبها، لا للنصرة والمعونة على الموت .
وسنجده يعبر عن أمنيته بالحياة دون موت أو الموت دوننشر:
فَيا لَيتَناعِشنا حَياةً بِلا رَدىً
يَدَ الدَهرِ أَو مُتنا مَماتاً بِلانَشرِ
(ل2،ص707)
وهذه الأمنية تشير إلى رهبته منالموت ، وما ذلك إلا لأنه سيتبعه الجزاء والحساب ، وأحسب أن خوفه مما بعد الموتأظهر من خوفه من الفناء كحدث سيحل به.
والدليل أننا سنجده بعد إبائه للموت يرحب به ، وما ذلكإلا لأنه عايش الحياة وظلماتها ، وطاق إلى الخلاص منها ، ولم يجد سوى الموت ليحققله هذه الغاية ، وفي هذا قال:
مَرحَباًبِالمَوتِ وَالعَيشُ دَجَا
وَحِمامُ المَرءِ كَالفَجرِسَطَع
(ل2،ص1051)
فهو يرى الموت فجراً منيراً ،وتلك رؤية مفارقة للمألوف إذ تكون الحياة بالموت.
وفي أبيات أخرى يشير المعري إلى خشية الناس من الموت ؛لقلقهم من الحساب وما قد يلاقونه من العذاب إذ يقول:
وَنَخشىعَذاباً في المَماتِ وَإِنَّنا
لَأَهلُ عَذابٍ في الحَياةِأَليمِ
(ل3،ص1460)
وهذه الأبيات تقرر أن المتأمل فيالحياة يجد أننا نحيا بعذاب دائم ، بمعنى أن العذاب أصبح عادة لا حدثا مؤقتا أوعارضاً.
2_ عاطفته تجاه الحياة:
لم تكن عاطفة المعري تجاه الحياةجلية ، وإنما ظهرت بحلية ملبسة ، وكانت عامة أكثر منها خاصة ، فمثلاً في تعبيره عنعاطفة حبها وعشقها ، يقول:
كَأَنَّالمُهَيمِنَ أَوصى النُفوسَ
إِذا دَفَنَت في الثَرى هالِكاً
أَلَبَّت عَلىغَيرِ نَفعٍ لَها



بِعِشقِ الحَياةِ وَإِحبابِها
تَناسَت عُهوداًلِأَحبابِها
وَذاكَ لِقِلَّةِ iiأَلبابِها
(ل1، ص213)
تظهر هذه الأبيات بأن البشرية تسلم بهواها للحياة ظانةأنها تقوم بتنفيذ وصية ربانية ، فتغرق النفوس في هذا الهوى ،وخير دليل على ذلك أنهمحالما يدفنون ميتهم ينسونه ؛وما ذلك إلا لأن النفوس مقيمة في الحياة ، والخلق عطّلعقله واستسلم للهوى دون أي اكتراث أو اعتبار من الموت .
ولا يغفل الناظر في هذه الأبيات اهتمام المعري بالعقلوحثه للإنسان على ضرورة توظيفه حتى لا ينجرف في سيل العشق الزائفللحياة.
وقد حاول أن يبعد عشق الحياةوحبها من النفوس ، فقال:
وَحُبُّالعَيشِ أَعبَدَ كُلَّ حُرٍّ
وَعَلَّمَساغِباً أَكلَ المُرارِ
(ل2، ص757)
لقدعلم المعري أن أشد ما قد يعانيه المرء هو الإذلال والعبودية بعد العزة والحرية ،لذلك قرن بين حب الحياة والإذلال ، وجعل هذا الحب سبباً رئيساً له .
ويشير إلى أن جوعنا لن يرمقه المرارالذي تذيقه إيانا الحياة مقابل حبنا لها .
ويَرُدُّ المعري حب النفوس للحياة إلى كرهها للموت ، وفيالنهاية هذا المهرب الوجداني سيزيدنا شقاءً بدلاً من أن يخفف عنا قلق الموت وفزعهقال:
نُحِبُّالعَيشَ بُغضاً لِلمَنايا
وَنَحنُ بِماهَوينا الأَشقِياءُ
(ل1، ص45)
وهويظهر عاطفة الإنسان في الأمل بطول العمر ، وهذا الأمل بنظره ينبغي أن يحد منه ؛ لأنسؤال الإنسان لطول البقاء يعني طلبه الإرادي من الدهر بأن يفجعه بمزيد من المصائبوالأهوال .
قال:
يُؤَمِّلُكُلٌّ أَن يَعيشَ وَإِنَّما
تُمارِسُ أَهوالَ الزَمانِ إِذاعِشتا
(ل1،ص260)
وسنجد عاطفة الحب للحياة تتبدى فيصورة أخرى حينما يقول :
وَإِذا الفَتىكَرِهَ الغَواني وَاِتَّقى
فَقَدِ اِنطَوَت عَنهُ الحَياةُوَكاذِبٌ
مَرَضاً يَعودُ وَضَرَّهُ ما يَطْعَمُ
مَن قالَ عَنهُيَبيتُ وَهوَ مُنَعَّمُ
(ل3، ص1414)
فقد ربط المعري هنا بين حب الحياة وحب المرأة ، فالفتىالذي يدعي كره الغواني ستنطوي عنه الحياة ، ولن يذوق طعم السعادة ولا النعيم ،بمعنىأصبحت المرأة هي الموازي للحياة .
ج_ أهداف التجربة :
1_ البحث عن فضائل الموت :
لم يكن للمعري أمام سلطة الموت من خيار سوى التنقيب عنمسوغات حبه للموت ؛ لذلك قال :
يَدُلُّ عَلىفَضلِ المَماتِ وَكَونِهِ
إِذا اِفتَرَقَت أَجزاؤُنا حُطَّثُقلُنا
إِراحَةَ جِسمٍ أَنَّ مَسلَكَهُ صَعبُ
وَنَحمِلُعِبئاً حينَ يَلتَئِمُ الشَعبُ
(ل1، ص85)
فاللموت فضل عظيم على الإنسان فهو يريح الجسم ، ومايؤكدذلك أن الوصول إليه صعب ، بمعنى أننا لا نختار زمانه ولا مكانه، ومن فضائله أنهعندما تتفرق أجزاء الجسم ستذهب عنه جميع الأعباء على خلاف الحال عندما تكون أجزاؤناملتئمة.
وأحسب أن هذه رؤية فلسفية بحتة ،رمى المعري من خلالها إلى بيان أن التئام الجسم مدعاة إلى كثرة الأعباء وكلما انحلالجسم تخفف عنه الأعباء ، فكل عضو يحمل عبئاً ، وقد يجد المعري في ذلك مواساة لنفسه، إذ إن عماه كفاه من حمل أعباء البصر .
وقال المعري في أبيات أخرى دلل فيها على فضل الممات :
مَن لِيَ أَنأُقيمَ في iiبَلَدٍ
يُظَنُّ بِيَ اليُسرُ وَالدِيانَةُوَالعِل
كُلُّ شُهوري عَلَيَّ iiواحِدَةٌ
أَقرَرتُ بِالجَهلِ وَاِدَّعىفَهَمي
وَالحَقُّ أَنّي وَأَنَّهُم هَدرٌ
وَالحالُ ضاقَت عَن ضَمِّهاجَسَدي
ما أَوسَعَ المَوتَ يَستَريحُ بِهِ الجِس







أُذكَرُ فيهِ بِغَيرِ ما يَجِبُ
مُوَبَيني وَبَينَها حُجُبُ
لا صَفَرٌ يُتَّقى وَلا iiرَجَبُ
قَومٌ فَأَمري وَأَمرُهُمعَجَبُ
لَستُ نَجيباً وَلا هُمُ نُجُبُ
فَكَيفَ لي أَن يَضُمَّهُ iiالشَجَبُ
مُ المُعَنّى وَيَخفُتُ iiاللَجَبُ

(ل1، ص118).
يطلب المعري في هذه الأبيات مُعيناً على الرحيل إلى بلدلا يمدح فيه المرء كذباً ، فالناس كانوا يصفونه بعلمه وغناه ودينه بهتاناً وزوراً ؛ذلك أنه في واقع الحال كان يقوم بإيذاء الناس دوماً حتى في شهر تحريم القتال وهورجب، فالشهور لديه كانت تتتساوى .
ومنالغريب أن يصرح المعري بإيذائه للناس ، والأغرب إقراره بالجهل وأنه لا يفهم ، وفيالحقيقة كان حكمه على نفسه يوازي حكمه على الآخرين ، فهو وهم هدر وسقط لا قيمة له .
من هنا سيكون من الطبيعي أن يضيق جسدهمن احتمال مثل هذه الحال ، وأن يتمنى موته ليخلص من هذا السوء والعبثية التي عبرعنها بقوله (أني وأنهم هدر) .
فالجسمسيسكن ويستريح بموته ، ويصبح الموت هنا مخلصاً من شرور الحياة.
ومن فضائل الموت أنه يقينا من شرور الدهر ، وفي هذا يقول :
وَلَيسَيَأمَنُ قَومٌ شَرَّ دَهرِهِمُ
حَتّى يحُلّوا بِبَطنِ الأَرضِأَجداثا
(ل1،ص306).
وبما أن للموت هذه الفضائل ،فإننا لن نستغرب تعامله مع متعلقات الموت بكل عفوية ورضى ، ولن نرد هذا إلى تشاؤمويأس ، وإنما إلى انسجام في الشعور.
قالالمعري:
لَمّا ثَوَتفي الأَرضِ وَهيَ لَطيفَةٌ
لَم يَستَريحوا مِن شُرورِدِيارِهِم
قُدَماؤُنا أَمِنَت مِنَ الأَحداثِ
إِلّا بِرِحلَتِهِمإِلى الأَجداثِ
(ل1،ص310).
فالقبر هو آمن منزل ، وكل منسيحله سيجد فيه اللطف والرحمة والراحة ، وسيستريح من مصائب وشرور البلاد التي حلّبها في حياته ، والمعري يريد بهذا أن يشعرنا بما يفتقده في حياته من هذه الأمور ،وأن يرسم في مخيلته واقعاً مختلفاً لحياة جديدة يبث فيها كل الأمل والأمنيات .

ويبدو المعري ساخراً حينما ينهىالآخر(المخاطَبْ) عن العيش لمدة طويلة ، مع علمه بأن هذا الأمر مقدر من عند اللهوحده، وفي هذا يقول:
خَمسونَ قَدعِشتُها فَلا تَعِشِ
وَالنَعشُ لَفظٌ مِن قَولِكَاِنتَعِشِ
(ل2،ص951)
وما يؤكد سخريته قوله: " وَالنَعشُلَفظٌ مِن قَولِكَ اِنتَعِشِ" ، وتبعاً لذلك رأى أن الموت خير له من امتداد العمروالضعف بعد القوة ، والذي عبر عنه ب (جري اللعاب ، الارتعاش ، وضعف البصر) قال:
وَالمَوتُخَيرٌ لِمَن iiتَأَمَّلَهُ
لا يَقرَأُ السَطرَ بِالنَهارِوَقَد
مِنعُمرِ جاري اللُعابِ مُرتَعِشِ
كانَ يُجَلّي كَالصَقرِ ثُمَّعَشي
(ل2،ص951)
ومن بليغ قوله على راحة الجسم عندالموت :
وَمازالَ هَذاالجِسمُ مُذ فارَقَ الثَرى
عَلى تَعَبٍ حَتّى أُعيدَ إِلىالرَمسِ
(ل2،ص897)
فمنذ أن صار التراب إنساناً لقيالعناء والتعب واستمرت مشقته إلا أن عاد تراباً.
وليس من العجب أن يتخذ المعري من محاورته لطفل فارقالحياة عِبْرَةً لكل متشبث بأغصان الحياة التي لا بد أن تنكسر وتودي بنا إلى هوةسحيقة :
قال:
أَيا طِفلَالشَفيقَةِ إِنَّ رَبّي
تَكَلَّمُ بَعدَ مَوتِكَبِاِعتِبارٍ
عَلى ما شاءَ مِن أَمرٍ مُقيتُ
وَقَد أَودى بِكَالنَبأُ المَقيتُ
(ل1،ص249)

ويجيبه الطفلقائلاً:
تَرَكتُالدارَ خالِيَةً لِغَيري
نَقَيتُ فَما دَنِستُ وَلَو تَمادَت
وَما يُدريكِباكِيَتي عَساني



وَلَو طالَ المَقامُ بِها شَقيتُ
حَياةٌ بي دَنِستُفَما نَقيتُ
لِسُكنى الفَوزِ في الأُخرى اِنتُقيتُ
(ل1، ص249)
فالعِبَر التي نطق بها هي أن موته مبكراً كان راحة له منالعناء ، ونقاء من الدنس ، ونجاة من النار ، من هنا طلب من أمه ألا تبكيه لأنه فازبسكنى دار أخرى أفضل من هذه الحياة .
لعلنا نلمح في هذه المحاورة بعضاً من مأساة المعريالنفسية التي ترتد إلى مرحلة الطفولة لحظة فقده البصر ، فهذا الطفل الميت الذييستدعيه هو صوت آخر له ، بمعنى أنه كان يتمنى لو أنه فقد حياته قبل أن يصيبه العمى، لأن العمى يساوي الموت ، والحياة هي التي أماتته لمّا أفقدتهإياه.
و يصور المعري الطفل الذي يموتمبكرا بالوحش الذي ينجو من شبكة الصياد بقفزة ، وغريب منه أن يجمع بين الطفل الوديعوالوحش المخيف إذ قال:
كَأَنَّوَليداً ماتَ قَبلَ سُقوطِهِ
عَلى الأَرضِ ناجٍ مِن حِبالَتِهِطَفرا
(ل2،ص653)
ومن فضائل الموت أنه يريح الجسد منالعناء قال المعري في ذلك:
التُربُ جَدّيوَساعاتي رَكائِبُ لي
وَالعَيشُ سَيري وَمَوتي راحَةُالجَسَدِ
(ل1،ص491)
فمن أكبر حظوظ الإنسان رجوعه لأصله (التراب) ، ونحن نعيش في رحلة مع الزمن وإلى الزمن ، بمعنى أننا نتخذ من الساعاتدواباً لنركبها ، ونحيا طالما كانت الدواب تسير بنا ، ولما تحط بنا هذه الدواب إلىنهاية الرحلة وننزل عنها سنفارق الحياة ، وننتهي إلى زمن جديد هو الموت ، الذيسيسكن الجسم به ويرتاح.


ولم يكنللمعري أن يغفل فضل الموت في مساواته بين الخلائق إذ قال:
وَاجبُن أَواشجَع فَطُرُقُ المَوتِ واحِدَةٌ
وَذاتُ عِقدٍ تُلاقي مِن أَذاًوَقَذىً
وَالظَبيُّ فيهِنَّ مِثلُ السَيِّدِ وَالأَسَدِ
كَماتُلاقيهِ ذاتُ الحَطبِ وَالمَسَدِ
(ل1، ص491)
فالمصير واحد مهما اختلفت الكائنات بطبيعتها ، وفيهتتساوى الخلائق ، إذ سيموت الإنسان والحيوان ، والشجاع والجبان ، والغني والفقير .
ويوظف المعري التناص الديني ليعبر عنالشقاء والعذاب والأذى الذي تعانيه المرأة الكادحة في الحياة ، حينما قال :كَماتُلاقيهِ ذاتُ الحَطبِ وَالمَسَدِ.
فهويتناص مع قوله تعالى " وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌمِنْ مَسَدٍ *) سورة المسد (الآيات 4_5).

ويمتد حديث المعري عن فضائل الموت إلى الحديث عن فضائلمتعلقاتهكالقبر مثلاً ، الذي رأى فيه أنه أفضل المنازل وأكثرها راحة إذقال:
أَعفىالمَنازِلِ قَبرٌ يُستَراحُ بِهِ
وَأَفضَلُ اللُبسِ فيما أَعلَمُالكَفَنُ
(ل3، 1533)
وأحسب أن راحة القبر تكمن في أنهمنزل دائم يعفينا من النفقة عليه وترميمه وإصلاحه بعكس منازلالحياة.
ولأن المعري يجد أن في القبرراحة ،سنراه يوجه عتاباً إلى الذين يضعون ميتهم في تابوت من الخشب ، لأنهم بفعلهمهذا يحرمونه من الصاحب المؤنس وهو التراب ، وفي هذا يقول:
قَد يَسَّروالِدَفينٍ حانَ مَصرَعُهُ
يا هَؤُلاءِ اِترُكوهُ وَالثَرى iiفَلَهُ
بَيتاً مِنَ الخُشبِ لَم يُرفَع وَلارَحُبا
أُنسٌ بِهِ وَهوَ أَولى صاحِبٍ صُحِبا
(ل1، ص135)
وأظن أنه في هذه الأبيات ينتقد عادة المسيحيين في الدفن ،ويرجح عليها الطريقة الإسلامية لأنها تعيد الإنسان إلى أصله.
وقد أشار المعري إلى طبائع بعض الشعوب في تعاملهم معالميت إذ قال:
يُحَرِّقُنَفسَهُ الهِندِيُّ خَوفاً
وَما فَعلَتْهُ عُبّادُالنَصارى
وَيَقصُرُ دونَ ما صَنَعَ الجِهادُ
وَلا شَرعِيَّةٌصَبَأوا iiوَهادوا
(ل1، ص440)
فهويخبرنا بعادة أهل الهند في حرقهم لأجسادهم ، خوفاً من أن يحرقوا بنار الآخرة ،فيظنون أنهم لو حرقوا أنفسهم سينجون من العذاب لأن أجسادهم تفنى بالحرق ولا تعود .
ونجده يقف مذهولاً أمام هذا الفعل ،ويرى أنه يتنافى مع جميع العقائد الدينية لأن ضرب من الانتحار ، بل ضرب من الجهلبحقيقة الموت وما بعده من الجزاء .
فهميظنون أنهم عندما يحرقون ميتهم سيريحونه من الدفن بالقبر وما يتبع ذلك من سؤال منكرونكير ، يقول في ذلك :
حَرَقَالهِندُ مَن يَموتُ فَما زا
وَاِستَراحوا مِن ضَغطَةِ القَبرِميتاً
روهُ فيرَوحَةٍ وَلا تَبكيرِ
وَسُؤالٍ لِمَنكَرٍ iiوَنَكيرِ
(ل2، ص807)
إذنذكر المعري فضائل الموت ، وكان على درية بأنه يفارق المألوف بترحيبه بالموت حينماقال:
أَهلاًبِغائِلَةِ الرَدى وَإِيابِها
كَيما تُسَتِّرُني بِفَضلِثِيابِها
(ل1،ص202)
ولأنه توقع أن ترحيبه بالموت لايجري على السنن سوغه بأن الكفن سيستره حينما يلفه .
ولكن ما الذي سيستره الموت؟
أحسب أن من أظهر الإجابات على هذا السؤال ،أن الموت يسترعيوب المرء التي فعلها بحياته فلا يطلع عليها الآخرون من الأحياء ، وذلك لانقطاعالميت عنهم .
أما تفضيل المعري لثوبالردى فقد يكون مرده إلى اللون الذي لم يشاهده وهو الأبيض ، فلطالما كان لون العمىأسوداً .
د_ أسئلة التجربة :
لقد طرح المعري عدداً من الأسئلةالوجودية العميقة ، التي لم يكن يتوجه فيها إلى معين ، وإنما كانت تلامس الهمالإنساني ، وتظهر قلقه الوجودي .
وغالباً ما يتعمق خوف المرء مما يجهل ، ولذلك عدّ المعريالموت سرًا قديمًا غامضاً لا تدرك خفاياه ، إذ قال:
سِرٌّ قَديمٌ وَأَمرٌ غَيرُمُتَّضِحٍ
فَهَل عَلى كَشفِنا لِلحَقِّإِسعادُ
(ل1،ص432)
لقد دفع الغموض والخفاء الذي يلتفحول سر الموت ، وجهل المعري بفك لغزه إلى أن يسأل : هل يوجد أحد يساعدنا على كشفهذا السر ومعرفة الحقيقة؟
وحتما لن يتمكنأحد من إجابته على هذا السؤال ، ولا أظن أنه ينتظر جواباً على سؤاله وإنما أراد أنيؤكد بؤس البشر ونفي السعادة الحقيقية عنهم ؛ وما ذلك إلا للجهل والخفاء الذي يدوربخاطر كل منا أمام الأمور الغيبية وما يتبع هذا من قلق واضطرابحيالها.
وتتوالى أسئلة المعري فيقول :
نَسومُ عَلىوَجهِ البَسيطَةِ مُرَّةً
فَأَيَّ مُرادٍ في الحَياةِنَسومُ؟
(ل3،ص1390)
في هذه الأبيات يضرب المعري لنامثلاً ليقرب مبتغاه من السؤال ، فيقول: إن كنا نرعى نبات الهندباء مع أنه فيه مرارةوغرضنا في ذلك أن نأكله ، بمعنى من المعاني إن أفعالنا ترتبط بغاية .
فإن سلمنا بهذا نسأل ما مرادنا منالحياة ؟ نجد أن لا جواب يتحدد ، ولكن نلحظ أن اختياره لنبات الهندباء مقصود لمافيه من مرارة ، سنجد مثيلاً لها في الحياة ، ولكن يبقى الفرق أن هذا النبت ارتبطبغاية محددة على عكس الحياة.
و ينظرالمعري إلى الحياة بأنها سجن يقيده أينما حلّ ، ولأن تقييدها له أرهقه بطوله كان لابدّ من التساؤل :
إِلامَ أَجرُّقُيودَ iiالحَياةِ
وَلا بُدَّ مِن فَكِّ هَذاالإِسار؟
(ل2،ص808)
وهذا السؤال يظهر مدى إحساس المعريبقيود الحياة وثقلها ، وهو يبدو مستنكراً من حاله التي تكلفه ما لا لزوم له ، خاصةوأنه يعلم أن هذه القيود لا بدّ لها من الفكاك عند الممات .
وأيضاً يظهر هذا السؤال سأم المعري من طول العناء فيالحياة.
ومن أسئلته الوجوديةقوله:
لَنا أَرَبٌلَم نَقضِهِ مِنكَ فَاِدَّكِر
لَكَ الخَيرُ هَل بَعدَ الحِمامِتَلاقِ؟
(ل2،ص1140)
وأحسب أن المعري في هذا السؤاليلمح إلى خلاف النفوس البشرية في الحياة حتى لو بدت متآلفة ، ويتساءل هل يمكن أنتتلاقى تلك النفوس بعد الموت ؟
بمعنى هلسيجمع الموت بين النفوس المختلفة؟ .
ومنها أيضاً قوله:
أَتَرغَبُ فيالصيتِ بَينَ الأَنامِ
وَحَسبُ الفَتى أَنَّهُ مائِتٌ
وَكَم خَمَلَ النابِهُالصَيِّتُ
وَهَل يَعرِفُ الشَرَفَ المَيِّتُ
(ل1، ص260)
إنهذا السؤال موجه إلى كل إنسان يسعى إلى الشهرة بين الأنام ، إذ سأله المعريمستنكراً "أترغب في الصيت بين الأنام"؟ فإن كان جوابه بالإيجاب سينبهه أن الموتسيحل به وأن هذا الصيت سيخمد مهما كان صاحبه على درجة من النباهة وذيوع الصيت .
وحسب الإنسان العلم بأنه سيفنى ، ليحيدعن رغبته في ذيوع صيته ، وسؤال المعري (وَهَل يَعرِفُ الشَرَفَ المَيِّتُ؟) يفيدالنفي .
ومنها كذلك قوله:
أَتَأسىالنَفسُ لِلجُثمانِ يَبلى
وَهَل أَسِيَ الحَيا لِفِراقِدَجنِ؟
(ل3،ص1617)
يدعو المعري في هذا السؤال إلىعدم الحزن على الجسد المتداعي إلى السقوط ، وليحسب المرء نفسه كالمطر الساقط منالسماء ، الذي لايأسى على فراق السحاب .
ومن أسئلته التي اتخذت طابع النفي قوله :
هَليَشعُرَنَّ المَيتُ إِن
ظَهرُ الثَرى بِالحَيِّزُلزِل؟
(ل3، 1357)
فهو ينفي في هذا السؤال أن يشعرالميت بمجريات الحياة بعد موته ، حتى وإن زلزل المكان الذي دفن فيه ؛ لأنه مغيب عنالوجود وروحه في السماء .
ومن أسئلةالمعري ما يأتي رداً على بعض المذاهب من مثل قوله :
مَنونَ رِجالٌخَبِّرونا عَنِ البِلى
وَعادواإِلَينا بَعدَ رَيبِ مَنونِ

فهو يتساءل مَنْ الرجال الذين عادوا إلينا بعد موتهمفخبرونا عن البلى ، وما يلقاه المرء بعد الردى ؟ وكأني به يرد على القائلين بالرجعة (1) .
ومن أسئلته :
فَما لي وَقَدأَدرَكتُ خَمسَةَ أَعقُدٍ
أَبَيني وَبَينَ الحادِثاتِعُقودُ
(ل1،ص408)
والمعري بسؤاله هذا يُظهر تعجبه منحاله بعدما بلغ الخمسين من عمره ، فيقول: ما لي لا أتأهب الموت بعد هذا العمر؟ وهلبيني وبين الحوادث اتفاق ألا تصيبني ؟
______________________________
(1) الرجعة :مذهبقوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم ،ومذهب طائفة من فِرَق المسلمين من أَوليالبِدَع والأَهْواء ،يقولون إِن الميت يَرْجِعُ إِلى الدنيا ويكون فيها حيّاً كماكان ومن جملتهم طائفة من الرَّافضة ،يقولون :إِنَّ عليّا بن أَبي طالب كرم اللهوجهه مُسْتتِر في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادِيَ مُنادٍ من السماءاخرج مع فلان.
ابن منظور، مصدر سابق، ج8 ،ص114، مادة رجع .
وفي سياق إشارته إلىصيرورة الزمان وتحولاته ،في مقابل ثبات المكان ، يتعجب المعري من حال المرء الضالالذي يدخل في مبارزة مع الزمن ظاناً بأنه سيقهره ، فيتساءل تبت يداه بماذاسيقهره؟
قال :
أَمّاالمَكانُ فَثابِتٌ لا يَنطَوي
قالَ الغَوِيُّ لَقَد كَبَتُّمُعانِدي
لَكِنزَمانُكَ ذاهِبٌ لا يَثبُتُ
خَسِرَت يَداهُ بِأَيِّ أَمرٍيَكبِتُ
(ل1،ص251)
وتساءل المعري إن كانت نهاية الطفلالتراب فلماذا تسهر أمه عليه وتربيه ؟ قال:
وَإِذا الفَتىكانَ التُرابُ مَآلَهُ
فَعَلامَ تَسهَرُ أُمُّهُوَتُرَبِّتُ
(ل1،ص251)

ه_إجراءات التجربة :
1_المقارنةوالموازنة:
*بين الحياة والموت :
يوزان المعري بين الحياة والموتفيرجح الموت ضمنياً على الحياة، وذلك لأنه رأى أن حبه للحياة ليس مجدياً ، إذ إنهالا تبادله بحبه إلا كل غرور وخداع وكذب فكيف يستمر بحبها؟ يقول:
وَصَدَقتُهَذا العَيشَ في حُبّي لَهُ
وَجَذَبتُ مِن مَرَسِ الحَياةِمُغارَهُ
وَاِغتَرَّني بِخِداعِهِ وَكِذابِهِ
فَالآنَ أَخشىالبَتُّ عِندَ جِذابِهِ
(ل1، ص196)
وتظهر الأبيات محاولته المتكررةفي التعلق بحبل الحياة وخشيته من انقطاعه إذا جذبه بشدة ، بمعنى أنه بذّل جميعطاقته لبلوغ سبل العيش، ولم تعد له قوة كافية لتحمل جفاء الحياة له وقطعها لحبلوصاله .
لذلك قال:
وَلَأَشرَبَنَّ مِنَ الحِمامِ كُؤوسَهُ
عَذبٌيُعَذِّبُني البَقاءُ وَلِلرَدى
ما بَينَ جامِدِهِ وَبَينَ مُذابِهِ
يَومٌ يُخَلِّصُمِن فُنونِ عَذابِهِ
(ل1،ص196)
إذن لن يخلصه من أذى الحياةوعذابها سوى كأس الموت العذب ، الذي مهما اختلفت هيأته فمفعوله يبقى واحداً وهوالفناء عن هذه الحياة ، التي طالما جرعته كأس مرارتها وقذاها .
فالحياة تسقينا بمرارتها وتودعنا بشرب كأسها عندما ينتكثمنا الفتل ، وينتقض حبلنا بها وفي هذا قال :
تُوَدِّعُناالحَياةُ بِمُرِّ كَأسٍ
إِذا اِنتَفَضَت مِنَ الحَيِّالمَريرَه
(ل2،ص686)
ونجد في أبيات أخرى تفضيل الموتعلى الحياة إذ يقول:
حَياةٌ عَناءٌوَمَوتٌ عَنا
فَلَيتَ بَعيدَ حِمامٍ دَنا
(ل1، ص80)
فالحياة تعب والموت عاجلاً أم آجلاً سيقهر الخلق ،ويأخذهم عنوة ، لذلك من الأفضل أن يجعل المرء الموت إحدى الأمنيات ويتمنى قربه ،فإن خسر الحياة فإنه سيكسب في المقابل الراحة من عنائها.
وفي وجهة أخرى يساوي المعري بين الحياة والموت بالجبرية ،بمعنى أننا أتينا إلى هذه الحياة مجبرين ، وسنفارقها رغماً عنّا ، وفي هذاقال:
قَدِمناإِلَيها عَلى رَغمِنا
وَنَخرُجُ مِن ضَنكِهابِاِقتِسارِ
(ل2،ص808)

أما من جهة الحاجة لكل منالحياة أو الموت ، فقد عبر المعري عن ذلك حينما قال:
طالَ صَوميوَلَستُ أَرفَعُ سَوْمي
وَوُفودي عَلى المَنِيَّةِفِطرُ
(ل2،ص640)
لقد جعل الحياة صوماً في مقابلاعتبار الموت فطراً ، فالإنسان في الحياة يشتهي الطعام ، ولا يكف من مطالبه ومايكلفها به من حاجاته ؛ وما ذلك إلا لنهمه بإشباع رغباته قبل الموت ، الذي يمثلمرحلة الفطر لأن الحاجات تنقضي بعده ولا يعد للمرء رغبة في شيء.
ويخاطب المعري الإنسان فيطلب منه التمتع بالحياة وأن يفطرويصوم ، بشرط أن يبقي مخافة الله في نفسه ؛ لأن الصوم بعد الموت ماله إفطار ، إذليس بعده طعام أو شراب ، قال:
أَفطِر وَصُمأو صُمْ وأفطر خائِفاً
صَومُ المَنِيَّةِ لَهُإِفطارُ
(ل2،ص609).
ويعبر عن حنينه إلى أصله وهوالتراب ، وعدم خوفه من الموت ، ويشير لخوفه من الأصدقاء وأقرب الناس إليه لأنهميمثلون الخطر الحقيقي بقربهم منه ، فيقول:
وَأُراعُ مِنتِربي وَلا أَرتاعُ مِن
مَن كَالصَعيدِ الحُرِّ مِنأَبنائِهِ
تُربي وَفي قُربِ الأَنيسِ خِطارُ
زَهرُ الرَبيعِوَرَوضُهُ المِعطارُ
(ل2،ص609)
إذن في نظر المعري لاشيء يماثلالتراب الطاهر والنقي فمن أبنائه الأزهار والرياض العطرة.

ويوازن المعري بين الأحياء والأموات إذ قال:
إِنَّالَّذينَ عَلى وَجهِ الثَرى وُطِئوا
يُشابِهونَ أُناساً تَحتَهُدُفِنوا
(ل3، ص1533)
فالذل الذي يلاقيه الإنسان عند موتهودفنه يوازي الذل الذي يعانيه البشر وهم أحياء على ظهر البسيطة.
في الحقيقة إن المعري في لزومياته كثيراً ما كان يجمع بينالحديث عن الحياة وذكر الموت ، مظهراً أوجه الائتلاف والاختلاف بينهما ، حتى يمكنالقول بأنه من الملامح المائزة.
وقدذكرت بعض هذه المواطن وسأشير سريعاً لغيرها ، فمن تلك الموازنات أن الحياة موت ،والموت بعث حيث قال:
ثِيابِيَأَكفاني وَرَمسِيَ مَنزِلي
وَعَيشي حِماميوَالمَنِيَّةُ لِيَ بَعثُ
(ل1، ص304)
يريدأنهاعتزلالناسولزممنزله،فكأنهمقبوروإنكانحياً،ول ذلككانيسمينفسهرهينالمحبسين،و ردالبطليوسيقولالمعري"والمنيةليبعث" إلىقولالنبيصلىاللهعليهوسلم : "الناسنيامفاذاماتواانتبهوا"(1)،وعندمادققتالنظرفينسبتهوجدتهقولاًلعليبنأبيطالكرمال لهوجهه(2) .
ومنها أن الحياة لجة والموت شطّان، إذقال:
وَما العَيشُإِلّا لُجَّةٌ ذاتُ غَمرَةٍ
لَها مَولِدُالإِنسانِ وَالمَوتُ شَطّانِ
(ل3، ص1584)
فعمر الإنسان كغمرة الماء ، وطرفا عمره كالشطين اللذينيدخل من أحدها بالولادة ويخرج من الآخر بالموت ، وقد أشار البطليوسي أن معنى هذاالبيت مأخوذ من قول الحكماء " إن الجسم للنفس كالسفينة للراكب ، ربما عطبت فأهلكته، وربما استقامت به فأنجته"(3) .

______________________________
(1) انظر: البطليوسي،أبومحمدعبداللهبنمحمدبنالسيد (521هـ) ،شرحالمختارمنلزومياتأبيالعلاءالمعري،تحقيقحامدعبدال مجيد،دارالكتبالمصرية،القاهرة، 1998،ج1 ،ص112 .
(2) انظر: عليبنسلطانالهرويالقاري،المصنوعفيمعرفةالحديثالموضوع ،تحقيق: عبدالفتاحأبوغدة،مكتبالمطبوعاتالإسلامية،ص199.
وانظر: إسماعيلبنمحمدالجراحيالعجلوني،كشفالخفاءومزيلالالباس عمااشتهرمنالأحاديثعلىألسنةالناس،ج2 ،ص 388 .
(3) البطليوسي، مصدر سابق، ج2 ، ص319.
ومنهااعتباره أنالحياة حرب، والموت سلم، حيث قال:
وَالعَيشُحَربٌ لَم يَضَع أَوزارَها
إِلّا الحِمامُوَكُلُّنا iiأَوزارُ
(ل2، ص622)
والحياة شجر، والموت ثمر، حيث قال:
لا عِلمَ ليبِمَ يُختَمُ العُمرُ
شَجَرُالحَياةِ لَهُ الرَدى ثُمرُ
(ل2، ص633)
والحياة فقر ، والموت غنى،حيث قال:
أَمّا الحَياةُفَفَقرٌ لا غِنى مَعَهُ
وَالمَوتُيُغني فَسُبحانَ الَّذي قَدَرا
(ل2،ص675)
والحياة سهاد، والموت نوم طويل جداً:
وَمَوتُالمَرءِ نَومٌ طالَ جِدّاً
عَلَيهِوَكُلُّ عيشَتِهِ سُهادُ
(ل1، ص440)
*بين القبر والقصر:
وازن المعري بين منزله في الممات وهو القبر، وبين أفضلمنزل ممكن أن يعيش فيه المرء بالحياة وهو القصر، فوجد أن القبر خير من القصر ؛ وماذلك إلا لأن الراحة من الألم والناس يقترنان باللحد.
وفي ذلك قال:
جَدَثٌ أُريحُوَأَستَريحُ بِلَحدِهِ
خَيرٌ مِنَ القَصرِ الَّذي آذىبِهِ
(ل1،ص196)
*بين الميتوالملك:
يفاضل المعري بين الميتوالملك فيقر بالفضل للميت ؛لأنه بموته التقى بأعز صديق وهو القبر ، والدليل على أنهالأعز ، خضوع الجميع بما فيهم (الملك) لسلطته على خلاف سلطة الملك .
قال:
لَكَونُخِلِّكَ في رَمسٍ أَعَزُّ لَهُ
مِن أَن يَكونَ مَليكاً عاقِدَالتاجِ
(ل1،ص336)
وإن كان الملك يحتاج إلى الحشموالخدم والمناصرين ، فإن الميت غني عن جميع الخلق لانقطاع صلته بهم بعد الموت ، قالفي هذا المعنى:
المَلكُيَحتاجُ آلافاً لِتُنصِرَهُ
وَالمَيتُ لَيسَ إِلى خَلقٍبِمُحتاجِ
(ل1، ص336)

و_ نتائج التجربة :
1_ الحقائق الأدبية حولالموت:
خلص المعري في تجربته الشعرية إلى عدد من الحقائق الأدبيةحول الموت يمكن إجمالها كالتالي:
* لابد ّ من الموت :
فالموت حتمي وهويشبه الداء المعدي الذي ينتقل من شخص إلى شخص إلى أن تنتهي البشرية ، وهو لا يقتصرعلى مكان واحد، وفي هذا قال:
ما خَصَّمِصراً وَبَأٌ وَحدَها
بَل كائِنٌ في كُلِّ أَرضٍوَبَأ
(ل1،ص65)
وأمام هذه الحتمية سيصرح المعري عنصراع يعتمل في داخله بين العقل والشعور ، إذ إن العقل يبث رسائله بحتمية الموت ،والشعور ينتابه الفزع من صحتها ، ويحاول منع استقبالها من العقل ، ولا يوكل المهمةلذاته وحسب فهي صعبة ؛ لذلك نجده يستغيث غيره من دون أي جدوى ، قال:
أَنبَأَنااللُبُّ بِلُقيا iiالرَدى
فَالغَوثُ مِن صِحَّةِ ذاكَالنَبَأ
( ل1،ص65)
والموت كالوادي ، وكل الناس سيدفعونإلى جرفه وفي هذا قال :
وادٍ مِنَالمَوتِ الزُؤامِ وَكُلُّنا
أَشفى لِيُدفَعَ فَوقَ جُرفِالوادي
(ل1،ص524)
وأما اختياره للجرف ليدفع البشر منفوقه، فإنه يقوم على أن الجرف هو حرف الوادي الذي لا يثبت عليه أي شيء لرخاوته ،وهذا هو حالنا أمام وادي الموت ، إذ يستحيل أن نتخطاه ، ولا بد أن نسقط من علو إلىسفل ،وقد يكون المعري تأثر ببعض من معاني الآية القرآنية (أَسَّسَ بُنْيَانَهُعَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ ) من الآية 109من سورةالتوبة.
ويشخص المعري الموت فيجعل منهرحالة يطوف في كل الأفق ، والزمن والأيام هي وسائل التنقل وسرعتها فائقة تفوق أسرعالخيول والإبل أو أي وسيلة تنقل أخرى ، يقول :
رَأَيتُالحَتفَ طَوَّفَ كُلَّ أُفقٍ
وَجابَ الأَرضَمِن مِصرٍ وَكَفرِ
(ل2، ص748)
ويخبرنا المعري عن جبرية الموت ، وسلطة الزمن ، فهو لميختر موته ، أو مغادرة الحياة والمكان إلى الضيق والعتمة ، وإنما أفناه تعاقب الليلوالنهار ، وسحب رغماً عنه بحبلهما ، باستسلام وخضوع ، قال:
وَلَم أَرِدِالمَنِيَّةَ بِاِختِياري
وَلَو خُيِّرتُ لَم أَترُك iiمَحَلّي
وَلَكِن أَوشَكَ الفَتَيانَ iiسَحبي
فَأَسكُنَ في مَضيقٍ بَعدَرَحبِ
(ل1، ص192 )
ولو كان بيد المعري الخيار لظل متشبثاًبرحب المكان ، لا الحياة ، فما يرفضه المعري شعوريا هو الإذلال (1) الذي عبر عنهبقوله(سحبي) .
وما يخشاه هو سوء العاقبةوالضيق في القبر ، ذلك لأنه على علم بأن المؤمن قبره جنة ، والكافر قبره حفرة منحفر النار(2) .
لذلك ربط المعري فضلالممات بالمصير الذي يؤول إليه المرء فإن حسن فضل الممات ، وإن ساء قبح الموت ، وفيهذا المعنى قال:
عاقِبَةُالمَيِّتِ مَحمودَةٌ
إِذا كَفى اللَهُ أَليمَالعِقاب
(ل1،ص223)
وأمام جهل المصير الذي سيلاقيه عندموته ، سنرى أن قلقه وخوفه سيمتد إلى ما بعد الموت ، إذ يقول :
ما لي بِمابَعدَ الرَدى مَخْبُرَهْ
قَد أَدمَتِ الآنُفَ هَذيالبُرَه
(ل2،ص693)
وهو يريد بهذا أن الخوف مما بعدالموت يدمي ، ونحن ننقاد بهذا الخوف ، كالبعير التي تقاد بالبرة ، وهي حلقة توضع فيثقب بأنف البعير ليسهل قياده .
ولكن لميكن هذا القلق والخوف خاصاً بالمعري ، فهو هم إنساني ، وقد عبر المعري عن هذاالمعنى حينما قال:
كَم رامَسَبرَ الأَمرِ مَن قَبلَنا
فَنادَتِ القُدرَةُ لَن iiتَسبُرَه
(ل2، ص693)
______________________________
(1) نجده يعبر عن ذاتالمعنى في قوله :
وَالمَوتُ يَسْلُبُ ما فيالأَنفِ مِن شَمَمٍ تَحتَ التُرابِ وَما في الخَدِّ مِن صَعَرِ (ل2،ص734)

(2) جاء في الحديث "حَدَّثَنَامُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُسَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ فَتَّانِي الْقَبْرِ فَقَالَ سَمِعْتُالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَتُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا أُدْخِلَ الْمُؤْمِنُ قَبْرَهُ وَتَوَلَّى عَنْهُأَصْحَابُهُ جَاءَ مَلَكٌ شَدِيدُ الِانْتِهَارِ فَيَقُولُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُفِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ أَقُولُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِوَعَبْدُهُ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ الَّذِي كَانَ فِيالنَّارِ قَدْ أَنْجَاكَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَبْدَلَكَ بِمَقْعَدِكَ الَّذِي تَرَىمِنْ النَّارِ مَقْعَدَكَ الَّذِي تَرَى مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا كِلَاهُمَافَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ دَعُونِي أُبَشِّرْ أَهْلِي فَيُقَالُ لَهُ اسْكُنْ وَأَمَّاالْمُنَافِقُ فَيُقْعَدُ إِذَا تَوَلَّى عَنْهُ أَهْلُهُ فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَتَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُفَيُقَالُ لَهُ لَا دَرَيْتَ هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي كَانَ لَكَ مِنْ الْجَنَّةِقَدْ أُبْدِلْتَ مَكَانَهُ مَقْعَدَكَ مِنْ النَّارِ قَالَ جَابِرٌ فَسَمِعْتُالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ فِيالْقَبْرِ عَلَى مَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ عَلَى إِيمَانِهِ وَالْمُنَافِقُ عَلَىنِفَاقِهِ"
أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمدبن حنبل، تحقيق :شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2، 1999،رقم الحديث 14722، ج23،ص65.
فالبشرية جمعاء تحاول فهم كنهالحياة والموت وما بعده ، وكل هذه المحاولات عبثية ،لأن رب الوجود ستر حقائقها عنا، ولما أراد البشر أن يسبروا هذه الحقائق لم يستطيعوا .
ونحن في الحياة نسير نحو الآخرة ، ولكن أمامنا جسر لا بدأن نتخطاه حتى نصلها ألا وهو جسر الموت ، وهو محفوف بالمتاعب وصعب العبور لذلكيخبرنا المعري بأنه ينبغي أن نشمر ثيابنا لنعبره، والتشمير هنا كناية عن الجد فيالأمر وهول الأمر .
قال:
عِشنا وَجِسرُالمَوتِ قُدّامَنا
فَشَمِّرِ الآنَ لِكَي iiتَعبُرَه
(ل2، ص693)
إنحتمية الموت دعت المعري إلى الإشارة إلى بعض الأمور منها:
_نفي المفاضلة على أساس العرق والجنس :
قال:
وَالناسُجِنسٌ ما تَمَيَّزَ واحِدٌ
كُلُّ الجُسومِ إِلى التُرابِتَنَسَّبُ
(ل1،ص112)
فإن كان المصير الذي يلقاه الإنسانواحداً فلماذا يتعصب بني البشر لعرقهم وجنسهم ؟
ونلمح هنا نقداً ضمنياً من قبل المعري لكل متعصب لجنسه ،وأيضاً تصريحاً بأن الموت يساوي بين الأجناس على خلافها بالانتساب إلى أصل واحد هوالتراب ، على عكس الواقع الذي نجده في الحياة .
_ضرورة قناعة الفقير بفقره:
قال :
يا تَرِبَالحالَةِ كُلٌّ إِلى التُر
بِ فَجَنِّب حَسَدَالمُترِبِ
(ل1،ص205)
فإن كان المآل واحدًا ، فلا ضرورةلأن يمد الفقير عينيه إلى ما متع الله به غيره من المال ؛ لأن المال وصاحبه سيفنى ،وتحت التراب لن يكون هناك فرق بين فقير وغني ، وهذه فضيلة من فضائلالموت.
فالموت يريحنا من مكابدة الغنىوالفقر وفي هذا قال:
كَأسُالمَنيَّةِ أَولى بي وَأَروَحُ لي
مِن أَن أُكابِدَ إِثراءًوَإِحواجا
(ل1،ص333)
*لكل ميت بديل :
البشرية في تناوب أمام صيرورةالوجود ، وقد عبر المعري عن ذلك حينما قال:
لا يَكادُالفَتى يُجَهَّزُ إِلّا
عَن بَديلٍ مَكانَهُمُستَنابِ
(ل1، ص209)
فالناس قبل أن يجهزوا الميت لدفنه ،يكونوا قد جهزوا غيره .
*لا راد للموت :
يشير المعري إلى أن الموت لا يدفعهأي شيء ؛ لذلك لا داعي أن يلبس المحارب الدروع للوقاية من الضربات أثناء الحرب ،فهي لن تقيه الموت إن قدر عليه ، يقول:
لِلمَوتِحَدٌّ لا يُقَرَّبُ حينُهُ
بِصُدورِ بيضٍ أَو صُدورِمَداعِسِ
(ل2، ص931)
وللمنية كأس سيشرب الجميع منها ، ولنينفع شرب الدواء ولا وصف الطبيب ، من الحيلولة دون تجرعها أو وقف مفعولها السحريبمعنى أننا لسنا مخيرين بشربها ، وإنما تحل بنفوسنا رغماً عنا وفي هذايقول:
بَكَرَالطَبيبُ عَلى الدَواءِ وَلِلرِدى
كَأسٌ تَعُمُّ صِحاحَهاوَمِراضَها
(ل2،ص971)
وكذلك الأمر بالنسبة للرجل العاليالمقام في الحياة ، فإنه لو ارتفع بمنزلته إلى النجوم ، واتخذ أبراج السماء حصوناًله ، لما استطاع دفع الموت ، الذي سيحل به ، وينزله إلى القبر ويبدله بقصوره حفرةيدفن فيها .
قال:
ولا رَيبَ فيمَهوى الرَفيعِ إِلى الثَرى
وَلَو أَنَّ أَبراجَ السَماءِبُروجُه
وَلَواِنَّهُ جارى السَمّاكينِ وَالغَفْرا(1)
لَبُدِّلَ مِنها غَيرَ مُمتَنِعٍحَفْرا
(ل2،ص655)
ونجد في هذه الأبيات تناصاً دينياً، مع قول الله عز وجل:" أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْكُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ" سورة النساء، الآية رقم 78.
*لارجعة للأموات:
يتعجب المعري من ضحك الإنسان في الحياة ، بل ويعده سفاهةمنه ،لأن من يدرك كنه الحياة وطبيعتها المتبدلة حُقّ عليه البكاء لا الضحك ، ويقولفي هذا المعنى:
ضَحِكناوَكانَ الضّحكُ مِنّا سَفاهَةً
يُحَطِّمُنا رَيبُ الزَمانِ iiكَأَنَّنا
وَحُقَّ لِسُكّانِ البَسيطَةِ أَنيَبكوا
زُجاجٌ وَلَكِن لا يُعادُ لَهُ iiسَبكُ
(ل3، ص1154)
وكيف يضحك وهو يعلم أن الزمان سيحطمه كما يتحطم الزجاج ،مع المفارقة بأن الزجاج لا يعاد له سبك ، أما أجسادنا
______________________________
(1) السماكانوالغفر: نجوم هي السماك الأعزل والرامح وثلاثة من الميزان صغيرة هيالغفر.
ونجد في أبيات أخرى ذات المعنى منها :
لا تَدَرَّع مِنَ القَضاءِ فَما سَي فُالمَنايا عَنِ الدُروعِ بِنابِ
(ل1،ص209)
أَمّا الحُسامُ فَما أَدناكَ مِنأَجَلٍ وَلا يَرُدُّ الحِمامَ الدِرعُ وَالتُرُسُ
(ل2 ،ص872)
فسيعاد سبكها ،وقد يكون تفسيري هذا رداً على من رأى أنهذه الأبيات ينكر المعري فيها البعث على اعتبار أنه قصد إلى أن الإنسان لن يعادسبكه (1) .
وأظن أن المعري إن قصد إلى أنالإنسان لا يعاد سبكه فإن هذا القصد مرتبط بالحياة الدنيا لا بالموت ومابعده ،بمعنى عندما يفنى جسد الإنسان لن يعاد له سبك من جديد على أرض الواقعالمعيش.
ويظهر أن المعري يتناص في معنىالبيت الأول مع حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه " والذي نفسي بيدهلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ثم انصرف وأبكى القوم وأوحى الله عزو جل إليه يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه و سلم فقال أبشرواوسددوا وقاربوا"(2) .
2_الحقائق الأدبية حول الحياة:
*لا خير فيصحبة الحياة :
يرى المعري أن صحبةالحياة تجلب المعاناة والتعب لذلك لا خير فيها ، وهو يصور نفسه كفرس جامح لا يكسرجموحه إلا الدهر ، الذي يروض كل البشرية ، وما لنا من سبيل سوى الخضوع والانقيادوالاستسلام ، يقول:
صَحِبتُالحَياةَ فَطالَ العَناءُ
وَقَد كُنتُ فيما مَضى جامِحاً
وَلا خَيرَ في العَيشِمُستَصحَبا
وَمَن راضَهُ دَهرُهُ أَصحَبا
(ل1، ص157)
ويشير إلى أن حبو الطفل يفارق حبو الكبير ، فإن كان الأوليطمح للنهوض ، فإن الثاني لايطمع في القيام قال:
حَبا الشَيخُلا طامِعاً في النُهوضِ
نَقيضَ الصَبِيِّ إِذا ماحَبا
(ل1،ص157)

______________________________
(1) انظر تفصيل القضية: حماد حسنأبو شاويش ، النقد الأدبي الحديث حول شعر أبي العلاء المعري ، دار إحياء العلوم،بيروت ،ط1، 1989 ، ص185 وما بعدها.
(2) البخاري،محمد بن إسماعيل أبو عبدالله الجعفي ، الأدب المفرد ، تحقيق : محمد فؤادعبدالباقي،دار البشائر الإسلامية ، بيروت، ط3، 1989، ص98 .
وهذا الشيخ الذي يتحدث عنه المعري أظنه هو قناع لذاته ،إذ يبدو أن هذه الأبيات قيلت في مرحلة زمنية متأخرة ، كان قد طال عمره فيها و ملّالحياة وتمنى الفراق.
وماكان له بعد أنتقدم به العمر إلا النصيحة ، فبماذا نصح؟
لقد نصحنا بأن نعمل في هذه الحياة ونخلص في أعمالنا لوجهالله ، وأن لا نهاب الموت بل نرحب به ، وفي هذا قال:
نَصَحتُكَفَاِعمَل لَهُ دائِماً
وَإِن جاءَ مَوتٌ فَقُلمَرحَبا
(ل1،ص157)
وهنا لايبدو المعري محباً للموتبقدر ما هو مسلم له لعجزه وتقدم سنه.
وترحيبه بالموت لا يتناقض مع دعوته من جهة أخرى إلىالارتواء من الحياة والشرب منها لكي تموت النفس ريّا ، وفي هذا قال:
فَتَرَوَّ مِنهَذي iiالحَيا
ةِ لِكَي تَموتَ النَفسُرَيّا
(ل3،ص1724)
ولكن ماذا قصد المعري بطلبه منالشرب بالحياة حتى الارتواء ؟
هل إلىالتمتع بالملذات والتمسك بالحياة ؟ أم إلى التزود في الحياة بما ينفع المرء عندموته وانتقاله إلى الدار الآخرة؟ أجدني إلى التفسير الثاني أقرب .
فالحياة بحر ، ونحن نبحر فيه ، ولكن أمواجه غدّارة ، فماتكاد تبحر سفينة إلا وتغرق ، وما يحاول سباح الوصول إلى الشط إلا تاه في لجج البحروانقطع به الطريق ، قال في هذا:
وَنَحنُ فيالبَحرِ ما نَجَّت سَفائِنُهُ
وَكَم تُقَطِّعَ دونَ العِبَر iiسُبّاحُ
(ل1، ص363)
وفيهذا إشارة إلى مشقة رحلة الحياة ، ومغامرة الإنسان فيها ، وتقطع السبل أمامه فيالبقاء .

فالإنسان قريب من الموت ،فهو كراكب البحر ، ليس بينه وبين الردى إلا قدر بسيط ، ومهما طال عيشه فإن المناياستأخذ بثأرها منه وفي هذا المعنى قال :
وَالفَتى وَالرَدى كَراكِبِلُجٍّ
إِن تَطُل عيشَةٌ فَإِنَّ iiالمَنايا
إِنَّما نَفسُهُ مِنَ المَوتِ iiفِترُ
سَوفَيُقضى لَها بِمَن عاشَ وِترُ
(ل2،ص642)
*لا اختياربالحياة:
يرى المعري أن الإنسان أتىهذه الحياة مجبراً ، وهو يدعو الرب أن يعجل موته وفناءه، وأن يخلصه من الحفرة التيوقع فيها وهي الحياة، قال :
وَقَعنا فيالحَياةِ بِلا اختِيارٍ
وَخالِقُنا يُعَجِّلُبِالخَلاصِ
(ل2،ص963)
ويرى نفسه بأنه بالحياة كميت لأنهيداري الزمان وينقاد له جبراً ، وإن كان لا بدّ فهو ميت كحي :
أَلَم تَرَأَنَّني حَيٌّ كَمَيتٍ
أُداري الوَقتَ أَو مَيتٌكَحَيِّ
(ل3،1731)
*الحياة تعب :
الحياة كلها عناء وتعب ، وسيظلالشقاء قرينا لنا إلا أن يحل بنا الموت فيبددنا ويبدده ،قال:
المُلكُلِلَّهِ لا نَنفَكُّ في تَعَبٍ
حَتّى تَزايَلَ أَرواحٌوَأَجسادُ
(ل1،ص434)


*السوء في الحياة منعمل الإنسان :
ضرب المعري مثلاً ،يدلل من خلاله على أن أصل الشر والسوء في الحياة هو الإنسان لا الحياة ذاتها إذ قال :
شَرُّالحَياةِ بَسيطَةٌ مَذمومَةٌ
عَمَدَت لَها بِالسوءِ كَفُّالغالِثِ
(ل1،ص309)
فهو يصور بهذا المثل أرضاً منبسطة،قليلة الماء ، يأتي الإنسان فيفسدها ؛وذلك من خلال مزجه التراب بمائها حتى يخفيهويعدمه .