ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏(‏ الروم‏:41)
هذا النص القراني الكريم جاء في بدايه الثلث الاخير من سوره‏'‏ الروم‏'‏ وهي سوره مكيه واياتها ستون‏(60)‏ بعد البسمله وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بخبر انتصار الروم علي الفرس قبل وقوعه بتسع سنوات وذلك بعد هزيمتهم المنكره امام الجيوش الفارسيه قبل نزول هذه السوره المباركه بعده سنوات ويدور المحور الرئيس لسوره‏'‏ الروم‏'‏ حول عدد من ركائز العقيده الاسلاميه شانها في ذلك شان كل السور المكيه‏.‏

وتبدا سوره الروم بقول ربنا تبارك وتعالي ‏:‏

الم‏(1)‏ غلبت الروم‏(2)‏ في ادني الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏(3)‏ في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المومنون‏(4)‏ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم‏(5).‏ (‏ الروم‏:1‏ ‏5).‏

والحروف المقطعه الثلاثه التي استهلت بها هذه السوره المباركه‏(‏ الم‏)‏ تكررت في مطلع ست من سور القران الكريم هي‏:(‏ البقره ال عمران العنكبوت الروم لقمان السجده‏).‏ والحروف المقطعه بصفه عامه جاءت في مطلع تسع وعشرين سوره من سور القران الكريم وان كان عدد من الدارسين لا يعتبر كلا من‏(‏ طه‏)‏ و‏(‏ يس‏)‏ من المقطعات وذلك لتوجيه الخطاب بعد كل منهما مباشره الي رسول الله صلي الله عليه وسلم مما يوحي بانهما من اسمائه الشريفه‏.‏

و‏'‏المقطعات‏'‏ تعتبر من اسرار القران الكريم التي اوكلها اغلب المفسرين الي علم الله سبحانه وتعالي وحاول البعض الاجتهاد في تفسيرها بما عرضناه في عدد من المقالات السابقه‏.‏ وقد اشارت الايات في مطلع هذه السوره المباركه الي هزيمه الروم في‏(‏ ادني الارض‏)‏ وهي المنطقه الممتده من حوض وادي عربه جنوبا الي بحيره طبريه شمالا مرورا بكل من حوضي البحر الميت ووادي الاردن‏.‏ وقد اثبتت الدراسات الميدانيه ان هذه المنطقه هي اكثر اجزاء اليابسه انخفاضا عن مستوي سطح البحر وهي في نفس الوقت اقرب الاراضي الي شبه الجزيره العربيه بل هي جزء من تكوينها‏;‏ ولفظه‏(‏ ادني‏)‏ في اللغه العربيه تحتمل المعنيين‏:‏ الاخفض والاقرب‏.‏

واكدت السوره الكريمه علي ان الروم سوف يغلبون من بعد غلبهم هذا في بضع سنين والبضع في اللغه بين الثلاثه والتسعه وقد تحقق نصر الروم علي الفرس بالفعل بعد تسع سنوات‏.‏

وهذه الايات الكريمه التي جاءت في مطلع سوره‏'‏ الروم‏'‏ توكد ان الامر لله تعالي من قبل ومن بعد وان النصر بيده يهبه لمن يشاء من عباده‏:(‏ وهو العزيز الرحيم‏)‏ كما اكدت فرح المسلمين يومئذ لسببين واضحين‏:‏

اولهما‏:‏ بشري انتصارهم في معركه‏(‏ بدر الكبري‏)‏ علي كفار ومشركي قريش‏.‏

ثانيهما‏:‏ بشري انتصار جيوش الروم وكانوا من بقايا اهل الكتاب علي جيوش الفرس وكانوا من عبده الاوثان‏.‏ وقد تحققت البشارتان بامر الله تعالي ‏.‏

ثم تتابع الايات بالتاكيد علي ان وعد الله سبحانه وتعالي لا يخلف‏,‏ وباستنكار غفله اغلب الناس عن الاخره وضرورتها وحتميه وقوعها‏,‏ وعدم اعتبارهم بابداع الخلق في انفسهم وفي الكون من حواليهم وباستنكار كفرهم بلقاء ربهم وعدم استفادتهم بما حدث للامم من قبلهم جزاء تكذيبهم واستهزائهم بايات الله ورسله وفي ذلك تقول الايات‏:‏

وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن اكثر الناس لا يعلمون‏*‏ يعلمون ظاهرا من الحياه الدنيا وهم عن الاخره هم غافلون‏*‏ اولم يتفكروا في انفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق واجل مسمي وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏*‏ اولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبه الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوه واثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون‏*‏ ثم كان عاقبه الذين اساءوا السواي ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزئون‏*‏‏(‏ الروم‏:6‏ ‏10).‏

وتستمر الايات في التاكيد علي ان الله تعالي هو الذي يبدا الخلق ثم يعيده وان الخلق جميعهم اليه راجعون وان المجرمين سوف يصلون الي حد الياس من فرط الحزن علي مصيرهم الاسود يوم تقوم الساعه ويوم يتخلي عنهم شركاوهم الذين اشركوهم في عباده الله فيكفرون بهم ويتفرق الخلق الي الذين امنوا وعملوا الصالحات وجزاوهم الجنه ينعمون فيها في فرح وسرور والذين كفروا وكذبوا بايات الله ولقائه او اشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ففي النار يصطلون وفي ذلك تقول الايات‏:‏ الله يبدا الخلق ثم يعيده ثم اليه ترجعون‏*‏ ويوم تقوم الساعه يبلس المجرمون‏*‏ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين‏*‏ ويوم تقوم الساعه يومئذ يتفرقون‏*‏ فاما الذين امنوا وعملوا الصالحات فهم في روضه يحبرون‏*‏ واما الذين كفروا وكذبوا باياتنا ولقاء الاخره فاولئك في العذاب محضرون‏*‏ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏*‏ وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون‏*‏ ‏(‏ الروم‏:11‏ ‏18).‏

وفي هذه الايات امر بذكر الله وتسبيحه وحمده في المساء والصباح وفي العشيه والظهيره وذلك بالصلاه وبالدعاء وبالتنزيه عن الشبيه والشريك والمنازع والصاحبه والولد‏,‏ وعن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ وامر بتمجيده سبحانه وتعالي بذكره باسمائه الحسني وصفاته العليا باللسان والقلب في هذه الاوقات المحدده لما فيها من بركات خاصه مما شجع بعض المفسرين علي اعتبارها اوقات الصلوات الخمس التي حددها لنا ربنا تبارك وتعالي او هي تعبير علي اطلاق العباده والذكر والتسبيح علي طول الزمن انسجاما مع ما يقوم به كل ما بالكون من الجمادات والاحياء ومن الخلق المكلف وغير المكلف‏.‏

ثم تستعرض السوره الكريمه في الايات‏(19‏ ‏27)‏ عددا من ايات الله في الكون مما يشهد له سبحانه وتعالي بطلاقه القدره وبديع الصنعه واتقان الخلق وتضرب للناس مثلا من انفسهم وتسالهم بطريقه الاستفهام الانكاري التقريعي التوبيخي فتقول لهم‏:‏ هل لكم من مواليكم شركاء فيما مكناكم من حطام هذه الدنيا فلا تستطيعون التصرف في شيء منه الا باذنهم فان كنتم لا ترضون ذلك لانفسكم ولا تفعلونه وهم امثالكم في البشريه والعبوديه لله تعالي فكيف ترضونه لله الخالق وكيف تشركون في عبادته بعض مخلوقاته او بعض مصنوع مخلوقاته تصنعونه بايديكم ثم تعبدونه من دون الله او تشركونه في عبادته؟ وبمثل هذا التفصيل تبين الايات لاصحاب العقول المستنيره كلا من الحق والباطل‏,‏ وتوكد ان الذين كفروا يتبعون اهواءهم دون علم بعواقب كفرهم او شركهم ولعلم الله تعالي بكبرهم وعنادهم يضلهم ومن يضلل الله فلا هادي ولا ناصر له‏.‏

وبعد ذلك تامر الايات خاتم الانبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم ومن بعده كل مومن برسالته بان يقيم وجهه للاسلام الحنيف اي يقبل عليه بكليته وبجماع قلبه وعقله لانه هو الدين الوحيد الذي يرتضيه ربنا تبارك وتعالي من عباده‏,‏ ولا يرتضي منهم دينا سواه لانه دين الفطره التي فطر عباده عليها‏,‏ والتي لا تبديل لها‏,‏ وان كان اكثر الناس لا يعلمون ذلك اما لجهلهم او لاستكبارهم علي الحق او لانغماسهم في معاصي الله‏.‏ كذلك تامر الايات بالانابه الي الله تعالي وتقواه كما تامر باقامه الصلاه وتحذر مره اخري من الوقوع في دنس الشرك بالله وفي ذلك تقول‏:'‏ فاقم وجهك للدين حنيفا فطره الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون‏*‏ منيبين اليه واتقوه واقيموا الصلاه ولا تكونوا من المشركين‏*‏ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون‏*(‏ الروم‏:30-32).‏

وفي الاشاره الي شيء من طبائع النفس الانسانيه تذكر الايات ان الناس اذا اصابهم الضر التجاوا الي الله تعالي متضرعين كشفه عنهم فاذا استجاب الله لتضرعهم سارع فريق منهم الي الشرك به فتكون عاقبه امرهم الكفر بانعم الله تعالي وتنذرهم الايات من شر تلك العاقبه موكده ان من الناس من اذا اذاقهم ربهم نعمه ورحمه منه فرحوا بها الي حد البطر واذا اصابهم بشده بسبب ما اقترفوا من ذنوب يئسوا الي حد القنوط ونسوا ان الله تعالي هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفي ذلك تقول‏:‏

واذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين اليه ثم اذا اذاقهم منه رحمه اذا فريق منهم بربهم يشركون‏*‏ ليكفروا بما اتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون‏*‏ ام انزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون‏*‏ واذا اذق