باب العقل والحمق
أما العقل فقد أوردت في معناه واشتقاقه والدّلالة عليه ، وما جاء في ذلك من النثر والنّظم كتاباً كافياً ، ونوردها هنا من صفات العاقل والأحمق ما تحسن به المذاكرة ، ويجعل إيراده في المجالسة إن شاء اللّه تعالى.
ومن حديث ابن عمر ، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم : لا يعجبنكم إيمان الرجل حتى تعلموا ما عقدة عقله " وروى عن النبي عليه وسلّم ، أنه قال : " حقٌ على العاقل أن يكون له أربع ساعات ، ساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ، ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجعل ، فإن هذه الساعة عونٌ له على هذه الساعات ، وإجمام للقلوب.
وحقٌ على العاقل ألا يظعن إلا في إحدى ثلاث : زادٌ لمعاده ، ومرمّة لمعاشه ، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ، مالكاً للسانه ، مقبلاً على شانه " .
أوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السّلام : أتدرى لم رزقت الأحمق ? قال : لا قال : ليعلم العاقل أن الرزق ليس باحتيال.
قال النبي صلى اللّه عليه وسلّم : " ثلاثٌ من حرمهنّ فقد حرم خير الدنيا والآخرة : عقلٌ يداري به الناس ، وحلمٌ يردّ به السفيه ، وورعٌ يحجزه عن المحارم " .
افتخر رجلان عند عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه ، فقال : أتفتخران بأجساد بالية ، وأرواح في النار ?! إن يكن لكما عقلٌ فلكما أصل ، وإن لم يكن لكما خلق فلكما شرف ، وإن يكن لكما تقوى فلكما كرم ، وإلاّ فالحمار خير منكما ، ولستما خيراً من أحد.
وقال عليّ بن أبي طالب رضى اللّه عنه : العاقل من لم يحرمه نصيبه من الدنيا حظّه من الآخرة.
قال عليّ بن أبي طالب في وصيته لابنه : لا مال أعوذ من العقل ، ولا قفر أشدّ من الجهل ، ولا وحده أوحش من العجب ، ولا مظاهرة كالمشاورة ، ولا حسب كحسن الخلق.
كان يقال :إذا كان علم الرجل أكثر من عقله ،كان قميناً أن يضرّه علمه.
قال عمرو بن العاص :ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر ،ولكنه الذي يعرف خير الشرين.
قال العتبيّ :العقل نوعان ،فأحدهما ما تفرد الله بصنعته ،والآخر ما يستفيده المرء بأدبه وتجربته ،ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلاّ بصحة العقل المركب ،فإنهما إذا اجتمعنا قوّى كلٌّ منهما صاحبه ،كما أن النار في الظلمة نور للبصر ،وأنشد :

إذا لم يكن للمرء عـقـلٌ يزينـه

مع النّاس لم يجعل له مشفقٌ عقلا
وقال آخر :
ولا خير في حسن الجسوم وطولها

إذا لم يزن حسن الجسومعقـول
وقال أردشير بن بابك :نموّ العقل بالعلم.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضى اللّه عنه ، إلى بعض عماله : أمّا بعد ، فإنّ العقل المفرد لا يقوى به على أمر العامّة ،ولا يكتفي به في أمر الخاصّة ،فأحي عقلك بعلم العلماء والأشراف من أهل التّجارب والمروءات ،والسّلام.
قال أيوب بن القرّيّة :الناس ثلاثة :عاقلٌ ،وأحمق ،وفاجرٌ ،فالعاقل :الدّين شريعته ،والحلم طبيعته ،والرأى الحسن سجيتّه ،إن نطق أصاب ،وإن سمع وعى ،وإن كلّم أجاب.والأحمق :إن تكلّم مجل ،وإن حدّث وهل ،وإن استنزل عن رأيه نزل.وأما الفاجر :فإن ائتمنته خانك ،وإن صحبنه شانك.
قال مطرّف بن الشّخّير :عقول كلّ قوم على قدر زمانهم.
كان يقال :ستّ خصال تعرف في الجاهل :الغضب في غير شئ ،والكلام في غير نفع ،والعطيّة في غير موضعها ،وإفشاء السّر ،والثقة بكلّ أحد ،ولا يعرف صديقه من عدوه.
قيل لابن شبرمة :ما حدّ الحمق ?قال :لا جدّ له.
سئل بعض الحكماء عن العقل ،فقال :الإصابة بالظّنون ،ومعرفة ما لم يكن بما قد كان.
كان يحيى بن خالد ،يقول :ثلاثة أشياء تدلّ على عقول أربالها :الكتاب على مقدار عقل كاتبه ،والرسول على مقدار عقل مرسله ،والهديّة على مقدار عقل مهديها.
قال ابن الأعرابي :سمّى الرجل أحمق ،لأنه لا يميز كلامه من رعونته قال :والحمق أيضاً الكساد ،يقال :انحمقت السّوق إذا كسدت ،ومنه الرجل الأحمق لأنه كاسد العقل لا ينتفع برأيه ولا بعزمه.
والحمق أيضاً :الغرور ،يقال :سرنا في ليالٍ محمّقات ،إذا كان القمر فيهن يستتر بغيم أبيض رقيق ،فيغتّر الناس بذلك يظنون أن قد أصبحوا فيسيرون حتّى يملوا.
قال :ومنه أخذ اسم الأحمق لأنه يغرّك في أوّل مجلسه بتعاقله ،فإذا انتهى إلى آخر كلامه تبيّن حمقه.
وقيل للرّجلة البقلة الحمقاء ، لأنّها تنبت في مسيل الماء ،وفي طريق الإبل ،فهي أبداً مدوسة.
وفي الخبر المرفوع : " للعاقل خصال يعرف بها :يحلم عّمق ظلمه ،ويتواضع لمن هو مثله ،ويسابق بالبّر من هو فوقه ،وإذا رأى باب فرصة انتهزها ،لا يفارقه الخوف ،ولا يصحبه العنف ،يتدبرّ ثم يتكلم غنم ،وإن سكت سلم ، وإن عرضت له فتنة ،اعتصم بالله ثم تنكّبها ،وللجاهل خصالٌ يعرف بها :يظلم من خالطه ، ويتكلم بغير تدبّر فيندم ، فإن تكلّم أثم ، وإن سكت سها ، وإن عرضت له فتنةٌ أردته ، وإن رأى باب فضيلةٍ أعرض عنها.
ذكر المغيرة بن شعبة يوماً عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ، فقال : كان واللّه أفضل من أن يخدع ، وأعقل من أن يخدع.
في كتاب " كليلة ودمنة " : رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع.
قال الحجاج يوماً : العاقل من يعرف عيب نفسه ، قال عبد الملك : فما عيبك ? قال : أنا حسودٌ حقود ، قال عبد الملك : ما في إبليس شرٌ من هاتين.
قال الحسن البصرى : صلة العاقل إقامةٌ لدين اللّه ، وهجران الأحمق قربة إلى اللّه ، وإكرام المؤمن خدمةٌ للّه وتواضعٌ له.
قال عبد بن الحسن : حمق الرجل يفسد دينه ، ولا دين لمن لا عقل له. وكان لا يجيز شهادة الأحمق العفيف ، فكلّم في ذلك ، فقال : سأريكم. ودعا بحاجبه فقال : يا ممدود ، انظر لي ما الرّيح ? فخرج ثم رجع ، فقال : هي شمالٌ يشوبها شئٌ من الجنوب.فقال : أترون أن أجيز شهادة مثل هذا ?! فقال أردشير : رضاء المرء عن نفسه دليل على عقله.
قال أنو شروان : ثقة الرجل برأيه ، وإقراره بتوفير عقله ، دليل على عقله ، قيل : هل ينتهي من أول الزّجر أحمق كان يقال : إذا تمّ العقل نقص الكلام.
قال على بن أبي طالب : لا تؤاخ الأحمق ، ولا الفاجر ، أمّا الأحمق فمدخله ومخرجه شين عليك ، وأما الفاجر : فيزيّن لك فعله ، ويود أنك مثله.
المصدر
بهجة المجالس