نظرة في الثوراتالعربية
أحمد الحاج عبد الرحمن - الصومال
قد هلل الكثير للثورات الشعبية العربية كما يقال، واعتبروها فتحاً مبيناًوأمَّلوا من ورائها خيراً عميماً، ظانين أن الاستبداد والطغيان ولّى زمنه وحلّ محلهسماع صوت الشعب وانتشار الحريات والانفتاح السياسي وعودة الكرامة، وأن زمن التبعيةوالهوان في طريقه إلي الأفول. ويتوقعون أن تتاح فرصة العمل للعاطلين، وأن يوزعالناتج القومي توزيعاً عادلاً بدل استئثار فئة قليلة بمقدرات الأمة، وأن يكون القرارالسياسي نابعاً من مصلحة الشعب بدل الإملاءات الخارجية. أليست هذه المطالب مشروعة؟ألم يحن وقت تحقيقها بفضل هذه الثورات؟ ألم يعد للأمة إحساسها بكرامتها وثقتهابنفسها وأمل تعافيها؟. وهل يسع أحداً لم تتلوث يداه بدماء وأموال هذه الأمة إلاّتأييد هذه الثورات متفائلاً بما سوف يتحقق من ورائها من خير وازدهار وتقدم؟ ألميتغن بمآثرها جميع الفئات والطبقات حتى رجالات الدول التي أسقطت والمحسوبين عليها؟ألم يدبج الخطباء والبلغاء عبارات الثناء وقصائد المديح بالكرامات التي تحققتوالمعجزات المنتظرة؟ ألم يركب الجميع الموجة معدداً إسهاماته مدعياً أنه مؤسسها وأبوعذرتها؟. وهل يُقبل في هذا الوقت المبكر أن يتجرأ أحد ويبدي بعض الملاحظات مبدياًتخوفاته وخشيته من أن لا تكون الأماني كالواقع الذي أمامنا أو أن يجابه الجماهيربما يعكر صفو الجو الاحتفالي؟ وهل من اللائق قراءة آيات الطلاق في حفل النكاح؟ ومعهذا فالنصيحة للأمة تقتضي أن تكشف الحقائق وأن يصارح المريض بأخذ العلاج ولو كانمراً تعافه النفوس، ومن لم يفعل ذلك خائفاً من قالةالسوء ومؤثراً للسلامة الشخصية فقد خالف نص الحديث الصحيح: "ألا لا يمنعنّ أحدكمهيبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو سمعه"، وتنكب سبيل النصيحة، وغش أمته. وإذا كنانعيب على الأنظمة السابقة بالدكتاتورية وتكميم الأفواه، فهل من اللائق أن تنشأديكتاتورية الثورة وطغيان الميديا؟ فمن تكلم أو استفسر أو أبدى ملاحظة حكم على أنهعميل للأنظمة السابقة حتى ولو كان مغموراً لا يدرى أين هو في أرض الله؟. وأول تلكالأسئلة، هل هذه الثورات عفوية نشأت بحكم القهر والجبروت والاستطالة على الناس، فهبالجميع لرفع الظلم وقاموا بما عجز عنه أهل الرأي والحنكة السياسية وأهل الفكروالتنظير؟ أم أن الثورات مدبرة وأن الأنظمة السابقة سقطت لانتهاء صلاحياتهاواستنفاد الغرض منها؟ ولماذا قامت الثورات في الدول العربية فقط ولم تمتد إلى الدولالافريقية والآسيوية المماثلة لها؟ ولماذا نجحت في بعض الدول ولم تنجح في غيرها؟ولماذا يستعمل الغرب معايير مزدوجة فيبارك بل ويتدخل في بعضها ويسكت عن بعضها؟ وهليمكن اعتبار ما يجري ديكتاتورية العولمة وتأثير الإعلام المرئي الذي يقيم الدولويسقطها؟ وهل هذه الثورات دليل على نضج الشعوب وإبداء الرأي على مصيرها بدلالاستسلام والتبعية؟ أم هي مسرحية جديدة مبتكرة لإلهاء الشعوب وإدخال البلادوالعباد في فوضى عارمة؟ وما هذا السلطان والتأثير الهائل لبعض الفضائيات، ولماذالا يطال النقد لبعض الأنظمة وتبدو هذه الفضائيات في بعض الأحيان وكأنها الناطق باسمالثورة والإذاعة الرسمية لها، ومن العجب تغافلها عن مساوئ الأنظمة التي تعيش فيكنفها وعدم تفطنها للمعايب التي عندهم مع تضخيمهم للمساوئ التي عند الآخرين، ولماذا تنبهت لهذه المعايب في هذا الوقت وتجاهلتها في السابق وقد كان موجوداً؟. وهل الاقتصاديات وأنظمة التعليم التي كانت متواضعة أصلاً تستطيع الصمود في ظل الوضعالحالي؟ ألم تدخل بعض الدول في حرب أهلية كليبيا مثلاً وتكاد تنزلق اليمن إليه إنلم تدركها العناية الإلهية؟، وهل مجرد التغيير مطلوب أصلاً؟ وهل يكون أفضل من سابقهفي كل الأحيان؟ ألم يتغير نظام الحكم في الصومال وحلّ محله الفوضى والحروب الأهلية؟ألم يتغير نظام الحكم في العراق وذاق أهله الدمار والخراب والاقتتال الطائفي بعده؟وهل تتحقق الشعارات مهما كانت مقبولة في كل حين؟ ألم يكن الشاعر العربي موفقاً فيقوله: رب يوم بكيت فيه وانقضى فصرت في غيره فبكيت عليه ؟. قد يقول قائل في نسف هذاالتساؤلات المشروعة: إنك تؤمن بنظرية المؤامرة، ويحسب أنه قد هزم خصمه وحجّه بهذاالجواب الجاهز، وأقول: متى كنا في مأمن من المؤامرة، أو ليس ما يجري في عالمنا منأكبر المؤامرات؟. نعم من المعيب أن يكون الاتكاء على المؤامرات نوعاً من الهروب منالمسؤوليات وضرباً من الجبرية.
أولاً: لا يستطيع أحد أن يدافع عن الدكتاتوريةالعربية التي أذلت الجميع وأهانت الكل وأوصلت مجتمعاتها إلي الحضيض في كل شيء، ومعهذا فلا يستطيع أحد أن يجزم بأن الثورات العربية ستؤدي إلي ما يؤمله الناس ويشتاقونإليه من عز وكرامة وعدالة وتقدم نظراً إلي ما يحيط بهذه الثورات من عقبات وعراقيل. ومع أن التعاطف بهذه الثورات مقبول من الناحية الإنسانية لنشدان الجميع تغييراًأفضل وتحولاً أحسن، وصدق الشاعر العربي في قوله: منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنىوإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغدا، لكن على النخب المثقفة أن لا تغتر بالشعارات ولاتقنع بالأجواء الاحتفالية ولا الهدير الجارف المهيب، فلا أظن أن تكون لدى الثوارخطط مفصلة ولا أجندات محددة، غير حبها للتغيير ومعارضة الأنظمة السابقة والدليل علىمحدودية نظر الثوار انشغالهم بالثأر من الأنظمة السابقة وتركيزهم علي الماضي بدلالاهتمام بالمستقبل، ومما يحدد تأثير الثوار عدم استلامهم مقاليد الأمور بعد، بل إنبقايا النظام البائد هو المتنفذ حالياً وفي المدى المنظور، ولا يُجمع الثوار غيرمعارضة الأنظمة السابقة، وإن أعطي لهم دور فسيواجهون تركة ثقيلة، وسيتضح للجميعسهولة المعارضة وصعوبة تحقيق الشعارات، ولا ننسى الدور الأجنبي في رسم السياساتالاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، كل هذا وأشباهه يضعف الأماني العريضة التييعلقها البعض على اضطلاع الثوار بدور مفصلي في تحول عريض وتغيير شامل. لا تعني تلكالنظرة المتحفظة تقليل ما قام به الثوار في هذه المرحلة من إطلاق سراح سجناء سياسةورأي، أو عودة كثير ممن اغتربوا عن أوطانهم بغير إرادتهم، أو السماح للبعض بممارسةحقهم السياسي والإعلامي، أو الشعور بالأمل، هذه الأمور وغيرها تحققت بفضل هذاالتحول، ويجب أن يحسب للثورات هذا الإنجاز، ومع هذا فلا ينبغي التغاضي عن الأخطارالحقيقية والقدرة المحدودة ونقاط الضعف الظاهرة، لأن تغافل هذا الأشياء في ظل الفرحالعارم قد يؤدي إلي إحباط شديد ونكسة خطيرة، فالتفطن لنقاط الضعف في وقت مبكر قديسهل تفادي بعض الأخطاء أو يقلل من الانتكاسة الارتدادية.
ثانياً: هل هي ضربة لازبأن يكون تعافي المجتمعات العربية والإسلامية وفق أطر مستوردة ونماذج غربية؟، وهلالديمقراطية الغربية هي الكلمة السحرية والبلسم الشافي لكل أدوائنا وعللنا؟ أليستقيمنا وظروفنا تختلف عن تلك الموجودة في الغرب؟ إن اختزال جميع أدوائنا بترديد هذاالمصطلح والتغني بهذا الشعار دون النظر إلي أمور كثيرة استخفاف بالعقول وتقليد أعمىيؤدي إلي تخدير الشعوب وإلهائها عن البحث عن مواطن ضعفها الحقيقي، وفقدان أكبر مفجرللطاقات وملهم لنهضة حقيقية، أعني تفرد هذه الأمة بقيم وتميزها بخصائص دون أن يؤديذلك إلى عزلتها وعدم الإفادة من تجارب غيرها. والظاهر من صنيع الغرب أنهم جعلواالديمقراطية الإنجيل الجديد فالقبول والرضا منوط بأن تحذو حذوهم وتسلك سبيلهموتحاكيهم في أمهات المسائل، فهل هذه طريقة ديمقراطية أصلاً (على طريق الإلزام)؟فلماذا لا يقبلون قيم غيرهم إن لم تكن الديمقراطية نمطية أو مسيسة؟ ولماذا يرفضونبعض الأحزاب التي فازت وفق هذه اللعبة كحماس والإنقاذ الجزائرية؟ ولماذا أيدوا بعضالديكتاتوريات وأمدوهم بأسباب البقاء ثم انقلبوا عليهم بعد استنفاد الغرض منها؟ وماهذا التباكي الآن على الحريات المفقودة والأموال المنهوبة في عصر فلان وعلان وكأنهماكتشفوها الآن؟ ألم يأخذوا النصيب الأوفى والسهم الأعظم في كل ما حدث من انتهاكللحريات والتستر على كل الجرائم ونهب الأموال وإيداعها في بنوكهم؟ ما هذا النفاقوما هذا الاستخفاف بعقول الشعوب؟ وكيف يستنجد بهم البعض وقد اتضح دورهم المشين لكلذي عينين؟.
ثالثاً: إن المدح المفرط للثورات من قبل بعض الدعاة والعلماء وتصويرهاكأنها فتح جديد وخالد آخر تسرع غير مناسب لحملة الشرع، فقد ظن البعض أنها فتوىشرعية وليست رأياً شخصياً، وتكلَف البعض فحاول تكييف هذا الحدث واجتهد في سوقالأدلة على مشروعيته وأطلق على المنتحر اسم الشهيد، وقد كان من الحكمة التأني فيإصدار الأحكام في أمر حادث لم تكتمل صورته بعد وتشوبه بعض الشوائب في ميزان الشرع،لأن من الثابت شرعاً حرمة الفوضى أو ما يؤدي إليها، وما اكتنف تلك المظاهرات منازهاق للأرواح وإتلاف للمال وتعطيل للمصالح، وكذلك إطلاق بعض المصطلحات المجملةالتي لا تقبل بإجمال. ولم تكن هنالك ضرورة شرعية ملحة في التعجل في إصدار الأحكاممدحاً أو ذماً، وقد تعجل بعض الدعاة سابقاً في دبج المدائح للثورة الإيرانيةإبان نشأتها، وقبل ذلك مدحوا أتاتورك، بل بارك البعض إسقاط الخلافة العثمانية غيرمعتبر لقاعدة اعتبار المآلات، أو إبداء التحفظ على الأقل. وقد يقول قائل: هلالسلبية موقف؟ وهل من الحكمة السكوت في ظل هيجان الشعوب على الظلمة ومصاصي الدماء؟ألا يبدو الدعاة في لامبالاتهم تلك وكأنهم أعوان للظلمة وسند للطغاة؟ والجواب: منالحصافة أن يتصف الدعاة بالأناة والاتزان في أقوالهم وأفعالهم، لأن العامة تخلطكثيراً بين الاجتهاد الشخصي الصادر من الداعية القابل للصواب والخطأ وبين الموقفالذي يعبر عن الشرع المعصوم، وعليه فلا يتسامحون مع الدعاة إذا ارتكبوا خطأً كمايتسامحون مع الساسة، فكان من الخير لهم انتقاء ألفاظهم ووزن عباراتهم، والكلام علىما ينبغي فعله في هذا الظرف العصيب، وتوجيه الشعوب إلى ما يصلحهم، والابتعاد عنإبداء ضغينة شخصية أو تصفية حسابات مع نظام أو تيار حتى ولو لقوا منه الظلم والعنت. والحل الأنجع في خروج الأمة من أزمتها هو التحاور والتصالح وعدم إقصاء طرف، لأنمسلك الإقصاء أدى في السابق إلى الاحتقان الحالي، ولن يؤدي إلى حل دائم وإلى نهضةمعتبرة في اللاحق. والمطلوب من الأمة أيضاً: النظر إلي الأمام في الخروج من أزمتهابتحديد الألويات ووضع الاستراتيجيات القريبة والبعيدة والتعامل مع الواقع بحنكةودراية والتفريق بين المأمول والمتاح، والتفطن للعقبات والعراقيل الموجودة،والاستفادة من جميع طاقات الأمة، وتغليب مبدأ المصالحة علي مبدأ الانتقام وتصفيةالحسابات.
وفق الله الأمة لما يصلحها ويسددها.