كلمة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في مدرج جامعة دمشق
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم ألهمنا رشدنا وأكرمنا بما أكرمت به عبادك الصالحين من الإخلاص لوجهك والإخلاص لأمتك، وبعد:
فيبدو أيها السادة أن حديثي أنا الآخر سيكون محصوراً في الدين، ولكني أريد أن ألفت النظر إلى العلاقة السامية بين الدين والسياسة، الدين له ميزانه الواحد الحق أما السياسة فذات مرونة تتجه آن ذات اليمين وآن ذات اليسار بحثاً عن الحكمة، ومن ثم فإن السياسة ينبغي أن تظل هي القابعة تحت جناح الدين وليس العكس، إذاً حديثي حديث ديني لكن لمن أتوجه بهذا الحديث؟ أنا لا أحب أن يكون موقفي كموقف الذي يقف أمام المرآة يحدث نفسه، أعتقد أننا جميعاً طرف واحد وأن ما سأقوله في هذا الصدد أعزف على وتر كلنا يعزف عليه، ولذلك فحديثي أعتقد أنه موجه إلى الأخوة البعيدين عن هذا المكان نسبياً، لكن ترى هل أتوجه بحديثي إلى أولئك الذين يقفون موقف الملقن للممثلين على المسرح، الذين يخططون من بعيد بعيد، أم أتوجه بخطابي إلى المنفذين من إخواننا وأبناء جلدتنا؟ أعتقد أن حديثي إن اتجه إلى أولئك الذين فعلاً فعلاً يقفون من الذين يتحركون على مسرح هذه الأحداث موقف الملقن للممثلين أعتقد أن حديثي لن يجديهم شيئاً، ذلك لأنني لا أجد جسراً واصلاً بيني وبينهم، ترى ماذا عسى أن يفيد حديثي إن توجه إلى برنارد ليفي مثلاً؟! وهو لا أقول واحد من أولئك الملقنين هو في الواقع رئيس الملقنين، هو الذي يزعم بأنه يمسك بملف مستقبل سوريا، ومن ثم فإن حديثي معه لا يجدي كذلك حديثي للذين يحيطون به ويجلسون إليه ويجلس هو إليهم كذلك لا يجدي وأنتم تعلمون ربما أن لقاءات تتم غالباً في باريس بينه وبين المخططين من علمانيين من يساريين من دعاة إلى المجتمع المدني إلى ما هنالك. ترى إن تحدثت إليهم عن نصوص الدين وموازينه لأولئك المخططين هل يجدي؟ أعتقد أن التخطيط متغلب على التوجيه. إذاً فليكن حديثي موجهاً إلى أبناء جلدتنا إلى إخواننا الذين شاؤوا أن ينفذوا تلك الخطط التي تصنّع هناك ثم يتم تنفيذها هنا، هذا ما ينبغي أن أتوجه إليه. وأنا أحب أيها الأخوة جهد الاستطاعة أن أنمنم الحديث وأن لا أطيل.
أخواننا هؤلاء الذين أريد الآن أن أتوجه بالحديث إليهم وهم إخواننا وإنني والله لأشفق عليهم أكثر مما أنتقدهم. إخواننا هؤلاء بدؤوا ظهورهم على مسرح الأحداث الداخلية يطالبون بالإصلاح كما نعلم جميعاً، فلما تجلت لهم بوادر الاستجابة انتقلوا إلى المطالبة بالحرية فلما لاحت أمامهم بوادر السعي إلى تحقيقها راحوا يصرحون بمطالبة إسقاط النظام. إذاً المسألة تتمثل في التوجه إلى هدف واحد لكنه ذو مراحل. وقد يرى البعض منا أن هذه الانزلاقات مظهر جلي للنفاق، ولكني أنا أبرئ هؤلاء الإخوة فلا أتهمهم هم على الرغم من هذه الانزلاقات التي رأيناها بالنفاق وإنما أجرد ولا أقول أتهم أجرد المخططين هناك وعلى رأسهم ليفي بالنفاق. أعود فأقول إذاً هي مطالبة بشيء واحد لكنه ذو مرحلتين مطالبة بشيء واحد ذو مرحلتين:
المرحلة الأولى مطالبة الأمة والدولة بالإصلاح.
المرحلة الثانية مطالبة الحاكمين بالرحيل.
سؤالي الذي سأبدأ وليس موجه إليكم في الحقيقة نحن قلنا نحن طرف واحد ولله الحمد، أتوجه به إلى إخواننا وأرجو أن يصلهم كلامي، ماذا يقول الإسلام عن مطالبة الأمة قادتها بنبذ الفساد والتطور إلى الأفضل عن طريق السعي في سبل الإصلاح؟ كل من قرأ كلام الله عز وجل يعلم الجواب على ذلك، كلام الله أيها الإخوة مليء بالتحذير من الفساد، وأنتم تعلمون ذلك، ومليء بالدعوة من خلال الوجه الآخر إلى الإصلاح، لاحظوا مثلاً قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } لاحظوا قوله عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} ربط البيان الإلهي استخلاف الأمة في الأرض وترسيخ وجودها بالأوطان ربطها بالعمل على الإصلاح ونبذ الفساد وأسباب الفساد، ولا أريد أن أفيض وأزيد في هذا الأمر الواضح المعروف لكن دعونا ننتقل إلى نقطة أخرى، لابد لكي نسعى إلى المطالبة بالإصلاح ولكي نتوجه إلى الدولة إلى الأمة إلى القائمين على الأمر بالإصلاح لا بد من ملاحظة بعض الضوابط وألخصها في ضابطين اثنين:
الضابط الأول أو الشرط الأول: أن ينبثق هذا العمل التوجه إلى الإصلاح مطالبة الدولة بالإصلاح أن ينبثق من داخل الأمة وأن ينبثق من شعورها الاستقلالي وأن لا تكون هذه المطالبة صدد لدعوة خارجية تتسرب إلينا عبر سبلها وأقنيتها المعروفة، هذا الكلام لا أقوله من منطلق سياسي أبداً وإنما يقوله ربنا عز وجل بأسلوب عجيب أيها الأخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} لا تتخذوا بطانة من دونكم أي عندما تريدون أن تبنوا أوطانكم أن تنشئوا مستقبلاً صالحاً نيراً متألقاً أن تعتمدوا في ذلك على أنفسكم وأن تنطلقوا من استقلالية الحكم في داخل مجتمعاتكم وإياكم أن تخضعوا - إن صح التعبير - تخضعوا لبطانة لا تنتمي إليكم، ولو أردت أن أتحدث عن أبعاد هذه الآية والتي بعدها لطال بنا الوقت، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن لا يبتغى هذا الإصلاح في الشوارع وإنما نبتغي الإصلاح من سبله الحضارية المعروفة، لماذا؟ لأننا لو فرضنا أننا خرجنا ونحن مئة شخص إلى الشارع نعلن عن ضرورة قيام الدولة بإصلاح ما لمرفق من المرافق هل نضمن ونحن نسير في الشارع المفتوح من أطرافه أن نظل نحن الذين نهتف ونحن الذين نطالب؟ تجربتنا البعيدة البعيدة دلّت على أننا لا نكاد نمشي مئة خطوة إلا ونجد أن فئات أخرى قد احتوشتنا وانتسبت إلينا وبعد قليل سنجد أن هتافاتنا قد خبت وأن هتافات أخرى ارتفعت وطوي وجودنا لينتشر وجود آخر لم يكن مبرمجاً قط، هذا معروف. فكيف إذا الأمر لم يقف عند هذا الحد بل استدرجت الجماعة لمنزلقات منزلقات ومن ثم فوجدنا أن هذه المنزلقات أودت بنا إلى فتن أودت بنا إلى تخريب أودت بنا إلى قتل، هذا شيء. شيء آخر أن الإسلام فيما قرأته بدقة من بيانات الله العجيبة يحذرنا من أن نبحث عن الإصلاح ضمن سبل التخريب، قد يقول قائل أنا من أجل أن أصل إلى قمة الإصلاح ينبغي أن أسير في المنعرجات وإن كانت هذه المنعرجات فيها شيء من التقييد؟ لا هذا غير جائز، لا يمكن أن يتحقق الإصلاح من خلال تخريب بشكل من الأشكال. لذلك أنا أؤكد ما قاله السيد الدكتور وزير الأوقاف من أن الخروج إلى الشوارع ولو بنية طيبة ولو بوجود هتافات مشروعة محرم. والله أنا لست من الناس الجرئاء على الفتوى بل أنا كنت ولا أزال شديد الجبن عندما أفتي لكن هذا الموضوع جليٌّ بدهيٌّ معروفٌ دلائل الشريعة فيه لا تحتمل النقاش، هذا ذريعة للفساد وسد الذريعة الموصلة إلى فساد واجب ولو كان الأمر الذي نمارسه في الأصل جائز.
أنتقل إلى الأمر الثاني قلت هؤلاء إذاً يطالبون بشيئين هو شيء واحد لكن على مرحلتين، المرحلة الأولى التظاهر بطلب الإصلاح نحن نؤكده ونؤيده ونطالب به لكن بطرقه المشروعة، ما حكم الشرع بالنسبة للخروج على رئيس الدولة؟ لمطالبة رئيس الدولة بالرحيل؟ بهتافات الإسقاط؟ باختصار وقد سمعتم الآن طرفاً ومختصراً من الجواب لكن سأتحدث عن جانب آخر وسأتحدث عن أدلة وبراهين، يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كان الحاكم جائراً فاسقاً منحرفاً يجب السمع والطاعة ولا يجوز الخروج عليه إلا إذا رأينا كفراً بواحاً، يقول لاحظوا معي في حديث طويل (( سيكون من بعدي ولاة قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس لا يهتدون بهدايتي ولا يستنون بسنتي، فسأله حذيفة: ماذا نصنع إذا وجدنا أنفسنا أمام هؤلاء الولاة؟ فقال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك تسمع وتطيع إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله سلطان )) هذا كلام رسول الله وهنالك أحاديث كثيرة من هذا القبيل، هل هذا الذي قاله رسول الله يعني أن علينا أن نصمت إذا رأينا ولي الأمر ارتكب معصية؟ لا نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلط الله عليكم شراركم ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لهم )) هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، نأمره بالطاعة وننهاه عن المعصية وإذا أمرنا بما لا معصية فيه يجب أن نستجيب أما إذا أمرنا بالمحرم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهنا أضعكم أمام نموذج عملي تم البارحة يوضح موقف الإسلام وهو موقفنا الذي ينبغي أن نطئطئ الرأس له، رأينا ولعلكم رأيتم صورة للسيد الرئيس بسطت على الأرض – صورة كبيرة جداً جداً - ودعي شباب من الأطراف وننظر فنجد أنهم سُجد فوق هذه الصورة، هذا منكر ولا شكّ أن الذين فعلوا هذا تلبسوا بالكفر البواح المؤكد، غدوت بمعية السيد الوزير رأساً إلى السيد الرئيس وأنا أحمل هذه الصورة، قلت له: تأمل سيادة الرئيس - أنا أحلل تحليل ظن - هؤلاء الذين فعلوا هذا الأمر هم في الظاهر من مؤيديك ولكنهم في الباطن والله ممن يشنؤنك، قال: أنا لا أشك في هذا ونظر، قلت: الآن الهدف من وراء هذا أن يشيع في المجتمع هذا الأمر وأن تزداد مشاعر الثورة الهائجة ضد، ومن ثمّ يوجد من يقول لعل السيد الرئيس هو الذي أوحى بهذا أو هو راضٍ إذاً أنتم تقولون الكفر البواح ها هو ذا الكفر البواح موجود، لم أشهد أن السيد الرئيس غضب غضبة كالغضبة التي - كنت مع السيد الوزير - تجلت في شكله وكلامه بالأمس، قال: أنا أسجد لله أنا أعبد الله فكيف أرضى أن يسجد لي الناس وأنا الذي أعبد الله وأسجد له؟!! قلت للسيد الرئيس: هذا لا يكفي، لا بد من كلمة يسمعها الشعب من فمك، قال: سأتكلم ولكن ما دامت هناك ندوة غداً فقل بلساني ما تعلمه من عقيدتي التي أقول، وأنا أقول لكم أولاً من فعل هذا فقد تلبس بالكفر البواح، سجد لغير الله عز وجل، ثانياً الذين دبروا هذا الأمر تظاهروا بعظيم المحبة له ولكنهم جعلوا من ذلك منزلقاً له لتهتاج الأمة أكثر فأكثر، ولعل لسان حال السيد الرئيس يقول لأولئك الناس الذين فعلوا هذا الأمر أنا دون ما فعلتم لكني فوق ما في نفوسكم، إذاً لا يقولن قائل ما دام الكفر البواح لم يوجد لا يجوز الخروج عن الحاكم إذاً نسكت عن المنكر؟! لا، نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لما رأى السيد الوزير هذه الصورة التي تستفز المشاعر الإنسانية فضلاً عن الدينية رأساً غدونا إلى السيد الرئيس، وأقول هنا الباب مفتوح ولا يقولن قائل "وكيف السبيل للوصول إلى المسؤولين؟" والله من أراد أن يتحرق لإقامة الحق وللدفاع عنه ليجدن الأبواب مفتحة ولا يمكن أن تكون الأبواب مفتحة أمام إنسان مثلي وتكون مغلقة أمام آخرين يبتغون الحق ويخلصون لله عز وجل، لكن هنالك كما قال السيد الرئيس أناس قسموا أنفسهم بين الدين والدنيا فآناً يخدمون الدين وآناً آخر يمزجون خدمتهم للدين بكثير أو قليل من الدنيا.
بقي أن أقول شيئاً أيها السادة والسيدات: الخروج عن الحاكم إذا لم نجد كفراً بواحاً بل وجدنا مظاهر الدين والإيمان في خلاف، هنالك أناس في بعض الأقنية يخيلون إلينا أن المسألة ذات أبعاد مختلفة، لا والله ليست مسألة خلافية، أجمعت الأمة على هذا وأنا أنقل لكم كلام إمام من أئمة كثيرين ينقلون الإجماع، الإمام النووي معروف، الإمام النووي يقول وأما الخروج عليهم - على أئمة المسلمين - وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فاسقين ظالمين وقد تظاهرت الأحاديث الكثيرة في بيان ذلك. هذا كلام الأئمة وليس كلام الإمام النووي فقط، إذاً أنهي كلامي الذي ذكرته لكم بحصيلة أرجو أن لا ننساها وكما قلت لكم نحن طرف واحد ولله الحمد ولكني أرجو أن يبلغ كلامي هؤلاء الأخوة، يا إخواننا أنتم مؤمنون كما أننا مؤمنون بالله وأنتم تحترمون دينكم كما نحترمه وأنتم أيضاً تعلنون عن اتباعكم له كم نتبعه، رسول الله وصف هذه الفتنة، عجيب، وصف هذه الفتنة وصفاً دقيقاً ثم قال في النهاية (( عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ))، وطبعاً لم يقول هذا لواحد لكل فرد فرد من أفراد الأمة، قال أيضاً في مثل هذه الفتنة: (( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك ))، قال أيضاً في وصف مثل هذه الفتنة وذكر السيد الوزير طرفاً من ذلك (( دع كل تلك الفئات واعمد على حجر فدق حد سيفك به ودع تلك الجماعات ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك ))،أشكركم وأرجو أن لا أكون قد أطلت والسلام عليكم.