الحكايات الملافيق
أدب الخيال المتمرد


طارق شفيق حقي
هذه الحكايات جديدة على التراث العربي في طبيعتها ومنطلقها ومنهجها. ليست من المقامات وإن أشبهتها، ولا من المنامات؛ وإن قاربتها، وإنما هي نسيج وحدها، ومن إبداع ابن سودون الذي تمرّد على مجتمعه فأتى معاصريه بما لم يعهدوه، وتمرّد على الأشكال الأدبية، فأتى بما لم يُعد في التراث العربي.
«ولد ابن سودون سنة 810 هـ في المرحلة الثانية من الدولة المملوكية، واسمه أبو الحسن علي بن سودون، العلاء اليشبغاوي القاهري أو هي البشبغاوي، عمل بما حصل من دراسته إماماً وواعظاً في بعض المساجد ثم ظل يتردد على مجالس اللهو حتى تبرأ منه والده فترك القاهرة إلى دمشق، شارك في بعض الغزوات والحروب، ثم توجه للحرفة وتنقل بين الحرف، لكن هذه الحرف لم تفه حقه، وأخفق في كسب قوته، وظل يعاني الفاقة، وهذا ما جعله يتجه إلى السخرية والهزل بعصره ومجتمعه ونفسه جميعاً، وقد اشتهر في حياته بسخريته وهزله وراج أمره فيها جداً، وقال هو عن نفسه: حتى صرت فيه أشهر من علم، وبالجملة فقد كان من أعاجيب الزمان. ويبدو من أخباره وكتابه أنه صاحب نفس قلقة متقلبة يحب اللهو والضحك وقد عانى من شعور طاغ بالاغتراب، ودفعته الفاقة للسخرية والنقم على المجتمع فسخر من الجميع، وجاء أدبه خيالياً متمرداً لا يقيم لمنطق القوم وزناً ولا لنظامهم احتراماً، إن نفس ابن سودون هي نفس المحروم التي تتشوق إلى ملذات الحياة وصفائها مثلما تتوق إلى العدالة والكرامة والحرية، توفي سنة 868هـ»(1).
وفي كتاب نزهة النفوس ومضحك العبوس يظهر جلياً أن الكاتب حصّل ثقافة موسوعية واسعة وحُقَّ أن يُوصف بالأديب الساخر، وهذا ما يُذكرنا ببديع الزمان الهمذاني، حيث كان بديع زمانه. ونحن نختص في هذا الكتاب في باب «في الحكايات الملافيق» وواضح من اسم الباب تلفيقه، وهي مقامات تحمل شكل القصّة وتخترع لكل قصة راوياً، تمتزج هذه القصص بالسريالية والوجودية وتأخذ الغرابة والخيال والإدهاش إطاراً ومدخلاً لها. «وفي هذا الباب أخبار يشتم منها رائحة القصّة، لكنه جعلها على طريق العرب في أخبارهم، وأدار معظمها على الطعام، أو ما يُستحب ويُستكره من الطعام، ويورد فيها معرفته العظيمة لأشياء بسيطة، ويحدث ضجة كبيرة حولها، ويتحامق ويتباله، ويؤكد البدهيات التي عرفها بعد خبرة وتجربة، وبعد تحصيل طويل، وجهد ومشقة، وكأنه يسخر من التعالم الذي عرف به بعض مدعي العلم والمعرفة في عصره»(2).
يخترع ابن سودون لقصصه الرواة فيقول: قال ابن الميرواز أو ابن دبدبة أو دعوشة أو ابن أشعب المنسوتي أو ابن دهدهدة أو هبالة بن واقد. وهذا الاستهلال يسمى الاستهلال التزييني.
ويستهل أحياناً بالشعر )الاستهلال الحقيقي أو الإضافي( كما يختم به مثلما استهل في الحكاية الأولى:

رُح يا خلِّي وخَلّني
ما لَوم مثلي ينفعُ
أبداً أنام لعلّ ما
قد فاتني لي يرجعُ»(3)

وتكون القصّة كلها تبحث عما فات صاحب هذا القول، وهذا الاستهلال هو الاستهلال المحفز، لأنه يحفز المتلقي لمعرفة ما هذا الشيء الذي فاته وجعله ينام أبداً، ونلمح سخرية ابن سودون وأسلوبه في صياغة الحوار، لنلمح ذلك في هذا الرد «فقلت: أما من شطح ونطح وشاهد زينة النخل بالبلح لم يكن رجلاً أبي، لا أدعك أو تخبرني بحالك، وتكشف القناع عن وجه ذلك»(4).
ويظهر لنا الاستهلال التوليدي في قصة حجرمة الهوادفي يقول:«نمت ليلة فحصل عندي قلق منعني من المنام، فقمت لأصلي ما تيسر، فلما أحرمت بالصلاة أقبل عليّ النوم، فرجعت إلى الفراش، فعاد إليّ القلق، فعدت إلى الصلاة، فعاد إليّ النوم. ولم أزل كذلك إلى السحر. فقلت أخرج أصلي الفجر مع الجماعة. فخرجت من المنزل، فإذا أبي عند الباب، قال: يا بني. أنا من نصف الليل في انتظارك. قلت: ولمَ ذلك يا أبت؟، فقال: رأيت الليلة في المنام أنك لا تنام لقلق عرض لك وقد أتيتك بدوائه»(5).
الحكايات الملافيق ، مقامات تحمل شكل القصّة وتخترع لكل قصة راوياً، تمتزج هذه القصص بالسريالية والوجودية وتأخذ الغرابة والخيال والإدهاش إطاراً ومدخلاً لها. وفي هذا الباب أخبار يشتم منها رائحة القصّة، لكنه جعلها على طريق العرب في أخبارهم
ويتابع القصّة في سريالية مدهشة وكانت الأحداث تتولد من الاستهلال.
كما يستهل بعض حكاياته بالمثل، لكن مثله مختلق ساخر، كحكاية ابن شاوم القيرواني يقول:«سألت ابن دبدبة عن قول الناس (لو كان الرز رجلاً لكان حليماً) لمَ قيل فيه هذا؟»(6)، ويتصنع الحكمة في بعضها الآخر، وحكمته كذلك حكمة ساخرة لاذعة، يقول«قال ابن الميرواز: من أكل ليلة من شهر رمضان رطلين من الكنايف، ورطلين من القطايف، وتسحر بخمسة أرطال من الموز المقشر وشراب النيلوفر، ثم أفطر يوم العيد على خمسة وأربعين حبة من الخشتنانك(*) الملبس وتصدق بقشرها على الفقراء من جيرانه، فإنه لا يأكل قلبه ما دام حياً، فإن مات بين المسلمين غسل وصلّي عليه»(7).
وهذه القصّة هي قصة قصيرة جداً، تبدأ بالسخرية وتنتهي بها وتشابه قصة ابن سياج المدائني، بصناعة قلّ نظيرها وحرفة مثيرة للعجب، وفن سبق زمانه.

ويظهر الاستهلال المناقض أو المخادع في قصة هبالة بن واقد الرائعة، يقول:«ولدتني أمي قبل الطهور بمدة، فلما مضى لي من العمر ما لا أعرفه، إلا أنه كان قبل يومنا هذا، قالت يا بني، جرت العادة أن المولود إذا مضت له مدة من الزمان وأراد أهله حلاقة رأسه، صنعوا له وليمة، وقد نسينا أن نفعل بك ذلك، ونحب اليوم أن نفعله، قلت يا أماه دونك وما تحبين»(8).

لكن القصّة تكشف أن الأم تضمر أنهم يريدون طهور الفتى، وتنتهي بعد أن يطهروه بقوله: «وعلمت أنها كانت من أمي حيلة، فحلفت أن لا أكلمها، فأتت إليّ واستعطفت خاطري، فلم ألتفت حتى حلفت لي سبعة عشر يميناً بالطلاق من أبي بعد هذا لا تطهرني أبداً»(9).
ويختم بأروع ما كان من الأدب الرفيع والأسلوب البديع، ولا ننسى أن نشير إلى أنه أشار إشارة بسيطة ضمن الاستهلال بقوله ولدتني أمي قبل الطهور، فالاستهلال كان مخادعاً لكنه يحمل إشارة خفية لماحة للموضوع، وهو استهلالٌ موحٍ، وبهذه العبقرية مزج ابن سودون بين أنواع الاستهلال فكان الاستهلال يحمل أكثر من مستوى، فيتضمن المخادع، ولسريع البديهة الاستهلال الموحي.

ويستهل ابن سودون كذلك بالعجب، ونسمي ذلك الاستهلال العجائبي وهو يختلف عن الغرائبي، فالغرائبي هو أمر غير مألوف لكنه ممكن الحدوث، لكن العجائبي هو أمر غير مألوف غير ممكن الحدوث.
وكان ذلك في قصة وهدان بن عواجد: يقول«ارتقيت يوماً إلى مئذنة، حتى انتهيت إلى دورها الأعلى، ثم مددت يدي إلى الهلال، فما وصلت إليه فتعجبت من ذلك، وقلت: ليت شعري، من وضع هذا ههنا؟ واحد من بني آدم لا يصل إليه، وإن استعان على ذلك بشي من الحيوانات الطويلة كالفيل والزراف مثلا ...»(10).
هكذا تظهر لنا هذه الحكايات جديدة على التراث العربي في طبيعتها ومنطلقها ومنهجها. ليست من المقامات وإن أشبهتها، ولا من المنامات؛ وإن قاربتها، وإنما هي نسيج وحدها، ومن إبداع ابن سودون الذي تمرّد على مجتمعه فأتى معاصريه بما لم يعهدوه، وتمرّد على الأشكال الأدبية، فأتى بما لم يُعد في التراث العربي
وهذه العجائبية تأتي في الاستهلال كما تأتي ضمن قصص ابن سودون الفريدة، وهو يتوسل كذلك عبر الغرائبية، كاستهلال قصة حيران بن جانح، يقول:«دخلت يوماً حتى انتهيت إلى شاطئ البركة، فجلست هناك، وإذا برجل قد جاء حتى جلس إلى جانبي، وجعل ينظر تارة إلى الماء وتارة إلى السماء، ثم أطال نظره في الماء، وصاح: لا تعجلوا، بالله تمهلوا. ثم قام وأسرع في مشيه، ثم رجع ورمى بنفسه في الماء فغرق. . »(11).
«وهكذا تظهر لنا هذه الحكايات جديدة على التراث العربي في طبيعتها ومنطلقها ومنهجها. ليست من المقامات وإن أشبهتها، ولا من المنامات؛ وإن قاربتها، وإنما هي نسيج وحدها، ومن إبداع ابن سودون الذي تمرّد على مجتمعه فأتى معاصريه بما لم يعهدوه، وتمرّد على الأشكال الأدبية، فأتى بما لم يُعد في التراث العربي»(12). وبز الوجودية والسريالية، والأدب الساخر بأساليبه الحديثة، فكان قطعة من الجمال وبصمة في القصّة حري أن نعلي من شأنها ونستفيد منها.
الهوامــش:
(*) الخشتانك: ضرب من الحلوى.
(1) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، انظر ص 77 وما بعدها بتصرف.
(2) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 27.
(3) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 178.
(4) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 178.
(5) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 182.
(6) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 187.
(7) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 187.
(8) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 191.
(9) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 192.
(10) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 180.
(11) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 197.
(12) نزهة النفوس ومضحك العبوس: ابن سودون، ص 28.





مجلة الرافد عدد 19_1-2011
http://www.arrafid.ae/p19_1-2011.html