دورالقنصليات الأوروبية في تهويد فلسطين(1840-1914م)

الوعري ،نائلة / دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والإستيطان اليهودي في فلسطين 1840-1914.-عمان،رام الله:دار الشروق للنشر والتوزيع،2007.-(403 ص)

مراجعة : د. ماجد توهان عرب الصقر الزبيدي

الكتاب في أصله أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة في التاريخ ،تنبع أهميتة من موضوعه المستمر منذ القرن الثامن عشر،إلى أيامنا الحاضرة،من حيث خطر الأدوار التي تقوم بها السفارات والقنصليات والبعثات الأجنبية في أقطار الوطن العربي ،والتي بدات بضياع الوطن الفلسطيني وتقديمه هدية لشذاذ الآفاق من المهاجرين اليهود والصهيونيين القادمين من شتى بلاد العالم للإستقرار في بلادنا وطرد أهلنا العرب الأصليين وإرتكاب مجازر وحرائم فظيعة ضدهم.

وقد بلغ الدور الخطير لمثل تلك المؤسسات الأجنبية وتدخلاتها السافرة والعدوانية ،أنها سهلت وتآمرت وزورت ومولت عمليات بيع الأرض لليهود ،وسخرت جيوشها لحمايتهم ومساندتهم وأعطت جنسياتها وجوازات سفرها لهم وإستصدرت بالضغط من الدولة العثمانية قرارات وأذونات الإقامة والهجرة والتملك في فلسطين ،الأمر الذي مهد لإقامة مستعمرات ومزارع وأحياء خاصة باليهود ،وإلى درجة أن بعض قناصل بريطانيا في فلسطين تقاعدوا من الوظيفة وإمتهنوا سمسرة وبيع وشراء الأ رض،في حين لجأ بعضهم إلى التسلل ليلا لموانىء حيفا ويافا وعكا والإقامة في السفن الأجنبية التي تحمل قوافل المهاجرين اليهود ،مع مصورين ومئات من جوازات السفر البريطانية ،لتسليمها لليهود القادميين وتغيير أسمائهم ومصادرة جوازاتهم الأصلية،وإعتبارهم رعايا بريطانيين قدموا للحج والزيارة!

وتأتي الأهمية الثانية للكتاب من تركيزه على فترة زمنية متقدمة،أسست للغزوة اليهودية والصهيونية ،التي أسست بدورها لدولة العدو الصهيوني على حسب ارض شعب عربي أصيل ،وبيان التحالفات الأوروبية الرسمية مع تلك الغزوة،في خط مواز لأهمية أخرى تتضح من تواصل دور السفارات الأجنبية في حاضر الدول العربية،وتدخلاتها في كثير من مجالات حياة العرب والأدوار السياسية والإقتصادية التخريبية التي تقوم بها وإشعاالها لبذور الفتن المذهبية والطائفية في غير بلد عربي .

تبين المؤلفة في تمهيدها ان الإستيطان اليهودي قام على خلفية دعم القناصل الأوروبيين للهجرات اليهودية ،بتوجيه ودعم من حكوماتهم والإستفادة من ضعف الدولة العثمانية،مما مكن من موجة الهجرة اليهودية الأولى عام 1882 التي إستمرت حتى العام 1903م تم خلالها إحلال بين عشرين إلى ثلاثين ألف يهودي ،جلهم من يهود روسيا ورومانيا وبولندا،بينما موجة الهجرة الثانية بدأت عام 1904 وإستمرت إلى العام 1914م ،وجلبت بين خمس وثلاثين إلى أربعين ألف مهاجر ،معظمهم من يهود روسيا بسبب خسارتها الحرب مع اليابان وبروز كره وإضطهاد لليهود.

وتتناول المؤلفة في الفصل الأول النظام القنصلي في فلسطين بين عامي 1840 و1914م من خلال مباحث مثل :الدلالة اللغوية والإصطلاحية والدبلوماسية للنظام القنصلي ،ونشوء وتطور النطام القنصلي في فلسطين خلال الفترة إياها ،ودور الإمتيازات العثماني في نشوء النظام القنصلي خلال الفترة ذاتها والعلاقة بينهما ،والتعريف بمصطلح "الإستيطان اليهودي في فلسطين" وعلاقة القناصل المباشرة في عملية التهجير والإستيطان، في حين تعالج المؤلفة في الفصل الثاني (ص81- ص130)،الأطماع الأوروبية في الولايات الشامية للدولة العثمانية وفلسطين في الفترة الزمنية إياها ،من خلال الشرح المركز والموثق للأطماع الفرنسية والبريطانية والألمانية والروسية والنمساوية، إذ تثبت المؤلفة أن فرنسا هي اول دولة اوروبية نجحت محاولاتها في تأسيس وجود لها ،خاصة في مدينة القدس عندما حاولت عام 1621م تعيين قنصل لها في المدينة المقدسة ،هو "جان لامبيروز"الذي ووجه بمعارضة قوية من أهل القدس الفلسطينيين،إضطر على إثرها السلطان العثماني لترحيله، ثم جرى الأمر نفسه مع القنصل الثاني "دارمون" إثر إجتماع الفلسطينيين الغاضب في المسجد الأقصى.،في حين أقامت بريطانيا أول قنصلية لها بالقدس عام 1838م بهدف حماية المصالح الحيوية لليهود ورفع مستوياتهم المعيشية بغرض ترغيبهم بالتحول الى نصارى بروتستنت.


تبحث المؤلفة في الفصل الثالث(ص131-ص178) الدور الذي لعبه قناصل الدول الأوروبية لتسهيل وتشجيع هجرة اليهود الى فلسطين ،خلال فترة الدراسة الممتدة من عام 1840 حتى العام 1914م في سبع وأربعين صفحة ،مبينة أن الدول الأوروبية إستغلت إتفاقية لندن بشأن الدولة العثمانية ومحمد علي باشا ،لتعلن إقامتها وبناءها للبعثات القنصلية في بيروت ودمشق والقدس ،والتي تولت مهام خطيرة في التدخل في شؤون الحياة العامة واليومية وبناء الخطط الكفيلة التي تضمن للقنصليات حضورا مباشرا في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والدينية والتبشيرية في أنحاء الولايات الشامية للدولة العثمانية ،والتي هدفت كلها في سبيل توطين اليهود في فلسطين.
ولو أخذنا دور قناصل بريطانيا في فلسطين كعينة في هذا الصدد، لوجدنا أنهم في المجالين السياسي والعسكري ،أنشأوا قنصلية عامة في القدس ومكاتب تمثيلية قنصلية في حيفا وعكا ويافا وتكليف نواب قناصل أو سكرتير أول من العرب،وذلك بهدف مراقبة الموانىء البحرية التجارية،وإستغلت بريطانيا نفوذها العسكري لتدعيم الطائفة البروتستنتية،وإهتمت قنصليتها العامة في القدس بالإشراف المباشر على حماية اليهود ،والحيلولة دون التصدي لهم أو التدخل في شؤونهم ، وفرضت هذا الأمر على قاضي مدينة القدس بحجة حماية رعاياها اليهود ،وهو ماتميز به القنصل "جيمس فنFinn" .

وفي المجال الإقتصادي والتجاري أشرف كثير من قناصل بريطانيا على زراعة القطن وتصديره للخارج وإنجاز معاملات شراء و بيع الأراضي لليهود ،وإتمام البيوعات بين اليهود أنفسهم عن طريق القنصلية البريطانية مباشرة ،ودلت بعض الوثائق التي إعتمدت عليها المؤلفة على ان قناصل الدول الاجنبية نشطوا في إستملاك الأراضي والعقارات في المدن والقرى الفلسطينيةعبر إقامة علاقات تجارية مع الملاك والتجار العرب ،بل أن بعض القناصل تحولوا إلى تجار وملاكي أراض ،ومقرضين الأموال للأهالي ،كما في حالة نائب القنصل البريطاني "بتروشيلي"،مما ترتب على هذه الأفعال نقل ملكية مساحات كبيرة من الأراضي إلى اليهود والأجانب .

أما الدور الديني والتبشيري لقناصل بريطانيا ،فهو لايقل أهمية عن أدوارهم السياسية والعسكرية والإقتصادية،إذ عمل هؤلاء على نشر المسيحية بين اليهود ،كما دعموا إنشاء الكنيسة البروتسنتية مع زيادة أتباعها في القدس،ودعموا النشاط المسيحي في نابلس ويافا وحيفا وغيرها من مدن فلسطين ،فضلا عن توفير الأموال لإثارة الفتن بين المسلمين والمسيحيين ،ومحاولات القنصل "فن"إيقاف النداء للآذان فجرا لتأثيره المزعوم على حياة المسيحيين في نابلس!!وإقامة الإحتفالات الدينية المثيرة لمشاعر المسلمين،وتدخل القناصل في شؤون وأحوال المحاكم الطائفية اليهودية في القدس وإجراءاتها ،وإقامة"جمعية التنقيب عن الآثار في فلسطين"لمساعدة اليهود في إيجاد أدلة لوجودهم القديم المزعوم في فلسطين.

وسمحت القنصليات البريطانية لليهود الإستفادة من حق الحماية البريطانية وسهلت لهم ضمانات وحصانات قانونية وأن يحاكموا أمام مجكمة قنصلية بريطانية،وليس أمام المحاكم العثمانية في القدس وحيفا ويافا وعكا كما تقضي الأعراف، وأن يعفوا من الضرائب .

وليس الأمر مختلفا بالنسبة لقنصليات فرنسا وروسيا والمانيا في فلسطين من حيث دعم الهجرات اليهودية إلى فلسطين وتمكينها من الأرض وحماييتها وتقديم العون المالي والإقتصادي لها ،إذ على سبيل المثال حرص قناصل ألمانيا على دعم الوجود الكياني اليهودي في فلسطين ،وتعدى دورهم السياسي إلى العسكري والتبشيري ،ومن ثم الدعم الكامل للوجود الصهيوني في فلسطين ،وقاموا ببناء عدد من المستعمرات الإقتصادية الدينية ،كان أولها في حيفا،رغم الرفض العثماني،عندما أصر القنصل الألماني "تسيفوس"على بناء أول مستعمرة شملت مجموعة من البيوت على سفح جبل الكرمل ومدرسة ومكان للعبادة،تلا ذلك إقامة مستعمرات مثل :":سارونا"و"ريفايم"عام 1872م و"فالهالا"بين يافا وتل أبيب عام 1892مو"فيلهلما"1902م ، وأنشاوا في حيفا عام 1912م معهد" التخنيون"للعلوم التطبيقية والذي مايزال للآن ويتمتع بسمعة عالمية!

وتفصل المؤلفة في الفصل الرابع من الكتاب (ص179-234)موقف الدولة العثمانية من النشاط القنصلي والهجرة اليهودية والإستيطان في فلسطين طيلة فترة الدراسة، من خلال إيراد وقراءة وثائق عثمانية جديدة تبين ردود الفعل العثمانية تجاه قناصل الدول الأوروبية ،وموقف الدولة العثمانية والقيود التي فرضتها على الهجرة اليهودية في فلسطين ،والموقف العربي وردود الفعل تجاه النشاط القنصلي والهجرة اليهودية،وردود الفعل الفلسطينية تجاه النشاط القنصلي والهجرة اليهودية،كالإضرابات والعصيان والمظاهرات والإجتماعات والمؤتمرات الجماهيرية والإشتباك مع المستوطنين اليهود وتنبيه الدولة العثمانية لخطر القناصل وإثارة الوعي بين الفلاحين بشأن الخطر اليهودي على أرض فلسطين ومقاومة بيع الأراضي،وولادة جمعيلت وأحزاب ذات توجهات إجتماعية وسياسية وإقتصادية مختلفة، ووقوف الصحافة الفلسطينية موقفا وطنيا في التنبيه لخطر اليهود والإنجليز والصهاينة على حاضر ومستقبل فلسطين،لاسيما صحف الكرمل وفلسطين ،اللتين أخذتا على عاتقهما متابعة ملف تسريب الأراضي إلى اليهود بالأرقام والجداول والحقائق والمعطيات إضافة إلى متابعة التطورات التي شهدتها الحركة الصهيوني وبخاصة زيادة نفوذها لدى العثمانيين بعد عام 1909م ومساعدة الإتحاديين لهم.

ويركز الفصل الخامس الأخير من الكتاب (ص235-287)على النشاط اليهودي في فلسطين والحركة الصهيونية بين أعوام 1840-1914م،من خلال بيان موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين ودور القناصل الأوروبيين في ترسيخها خلال تلك الفترة الزمنية،والآثار السياسية لحركة الهجرة اليهودية والإستيطان في فلسطين ،ومؤتمر" بازل" الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897م وتداعياته على مجمل الواقع الفلسطيني ،ثم المبحث الأخير من الدراسة: التاسيس لإقامة مشروع الدولة اليهودية.

وقد تضمن الكتاب واحدا واربعين ملحقا من وثائق إنجليزية وعثمانية وخرائط وقوائم بأسماء قناصل الدول الأروبية في فلسطين خللال الفترة التي تغطيها الدراسة.

الكتاب جدير بالإقتناء والدراسة والتمعن،إذ يعتبر مصدرا أساسيا لدراسة المرحلة التأسيسية لصراع العرب مع اليهود والصهاينة وحماتهم من الدول الأروبية، ويركز على فترة قليلا ماتناولها مؤرخو وموثقو القضية الفلسطينية والصراع العربي مع الصهاينة،والذين تزاحموا على التأريخ للقضية منذ وعد بلفور الشؤوم ،الذي أعطت بمقتضاه بريطانيا فلسطين وطنا قوميا لشذلذ الافاق الصهاينة،إلى درجة أن الكثير من الدارسين باتوا يعتقدون ان ذلك الوعد هو بداية الصراع!