النجاح الذي لم ينجح وإضرابات النخب في المغرب
بقلم: ذ خالد التوزاني
عندما دخلت مركز تكوين المعلمين سنة 2000، كنت شديد التفاؤل، خاصة وأن تلك السنة عرفت بداية تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبداية عشرية إصلاح التعليم في المغرب. كان ذلك الميثاق طموحا ومعبرا عن إرادة ملكية قوية في التغيير.. حيث أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارات جريئة؛ كإحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وإقرار التكوين المستمر لأطر الوزارة، والزيادة في الأجور، وتغيير المقررات والمناهج الدراسية...، ورفعت التقارير المتفائلة إلى جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
مع اقتراب عشرية الإصلاح من نهايتها، ظهرت تقارير من جهات خارجية حول حصيلة التعليم في المغرب، أقرت فشل المدرسة المغربية وتدني مستوى التلاميذ.. فأعطى جلالة الملك محمد السادس نصره الله تعليماته السامية للبحث في أسباب فشل عشرية إصلاح التعليم، وإعداد خطة وطنية لإنقاذ الإصلاح وتسريع وتيرته.. فظهر المخطط الاستعجالي، حيث أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارت انصبت جميعها على جعل المدرسة المغربية "مدرسة نجاح"، فأمرت بتأسيس جمعيات دعم مدرسة النجاح بعدد يساوي عدد مدارس المغرب، بمعنى: جمعية لكل مدرسة، ونجاح لكل تلميذ، فلا رسوب ولا تكرار ولا انقطاع لأي تلميذ بعد الآن .. حيث ألزمت الأساتذة أن يكونوا أعضاء فاعلين في هذه الجمعيات الشكلية، وصرفت الميزانيات وأنتجت الدلائل والكراسات والروائز .. كل ذلك من أجل إقناع المغاربة بأن مدرستهم لم تفشل.. وطبعا رفعت التقارير المتفائلة مرة ثانية..
تفاءل الأساتذة قبل باقي الشعب أن النجاح قادم.. ومع أن الواقع العملي لم يتغير؛ حيث بقيت نسبة التلاميذ الذين يصلون إلى الباكالوريا متدنية، والمؤسسات ليست جميلة، ولا تضم المرافق الصحية الضرورية ولا التجهيزات التربوية المطلوبة..فهي حاضرة في المذكرات الوزارية فقط وضمن التقارير التي تُرفع للجهات العليا.. مع كل هذا، فأساتذة المغرب متفائلون دائما.. خاصة الأساتذة الشباب الذين لم تفلح ظروف عملهم القاهرة في إخماد وهج حب المهنة لديهم، ولم تقف إكراهات المناطق النائية أمام طموحاتهم الكبيرة.. فكانت لهم أياد بيضاء في مقرات عملهم؛ بعضهم حول مدرسته إلى فضاء جذاب ومحبب للتلميذ والزائر، وآخرون نقلوا تجارب تربوية عالمية إلى مدارسهم، فحولوا فصولهم الدراسية إلى أوراش للإبداع والتعليم الفعال.. وبعضهم اقتنى الأدوات والوسائل التربوية ورمم بناية المدرسة من ماله الخاص، مع أنه لم يتوصل بتعويضات المناطق النائية ولم يتم تلبية طلبه في الحركة الانتقالية.. والجميل أن المجهودات التربوية لهؤلاء الأساتذة لم تنسهم متابعة كل جديد ومفيد في ميدان مهنتهم، بل منهم من تطلع إلى أكثر من ذلك، فأكمل دراسته الجامعية وعزز تكوينه بنيل أعلى الشهادات الجامعية...
حركية هذا النوع من الأساتذة خلقت نخبا تعليمية، أقل ما يقال عنها، أنها كانت "عصامية" في دراستها؛ لم تنتظر تكوينا مستمرا تنظمه وزارة التربية الوطنية، ولم تؤجل إكمال تعليمها إلى حين الانتقال إلى المدن الكبرى؛ حيث مراكز التكوين والدراسة في كل مكان.. بل ركبت الصعب، وأنفقت من مالها الخاص، وسخت بوقت فراغها، وسخرت عطلها المدرسية في الاعتكاف على طلب العلم... والجدير بالتنويه أن هذه المجهودات الفردية لهؤلاء الأساتذة رفعت مقدار مردوديتهم داخل القسم، وحسنت من طرق تدريسهم، وأغنت معارفهم ومهاراتهم وخبراتهم التربوية..
على الرغم من أن الجميع قد أقر بفشل المدرسة المغربية، إلا أن هذه النخب التعليمية مازالت مؤمنة بدور المدرسة العمومية في تقدم المجتمع، ومازالت تقرأ المذكرات الوزارية والنيابية بتفاؤل وأمل في المستقبل، وتتابع باهتمام بالغ محطات إصلاح التعليم.. مشاركة بفعالية في هذا الورش الكبير من الإصلاح، الذي يروم إنجاح المدرسة المغربية.. ومما يؤكد تفاؤل هذه النخب في مسيرة التغيير؛ مشاركتها بوطنية في الدورات التكوينية، وفي الامتحانات المهنية، ومباريات الترقية، وكل نشاطات وزارة التعليم.. وكلها أمل في قطف بعض ثمار جهدها وصبرها.. حتى إذا نجحت هذه النخب والكفاءات اصطدمت بجحود الإدارة ونكران تضحياتها.. فضاعت حقوق الأساتذة أمام تماطل وزارة التربية الوطنية وتسويفها.. وأحيانا كثيرة يتم إقبار هذه الحقوق ونسيانها، واعتبارها من الماضي الذي "تقادم مع مرور الزمان"..
إذا تأمل الناظر في دواعي إضرابات الشغيلة التعليمية خلال هذا الشهر (فبراير 2011) رأى أن الأمر يتعلق بنخب المجتمع؛ أساتذة نجحوا في مباريات الترقية وعددهم 900 أستاذ وأستاذة، ومدرسون حصلوا على شواهد جامعية عليا وعددهم 680، إلى جانب الأساتذة المجازين وعددهم أكثر من 4000، يطالبون جميعا برفع الغبن وجبر الضرر الذي لحقهم جراء عدم اعتراف الوزارة بنجاحاتهم، ومن ثم تأجيل الحسم في ملفاتهم، وتحقيرهم بإقبارهم في وضعيات لا تليق بما اكتسبوه من خبرات تربوية وكفاءات علمية..
عار في جبين وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي أن يقوم أزيد من 900 أستاذ وأستاذة بحرق شواهدهم الجامعية العليا أمام مبنى وزارة التعليم بالرباط، معبرين بهذا الفعل عن سخطهم واستيائهم من التدبير السيئ لملف النخب التعليمية بالمغرب، فهل يمكن الحديث عن "نجاح المدرسة" بعد حرق الأساتذة لشهاداتهم الجامعية العليا؟
لقد قامت وزارة التعليم بتسوية الوضعية الإدارية والمالية لأساتذة مدينة العيون في وقت قياسي غير مسبوق في تاريخ تسوية وضعيات الموظفين - ليس في المغرب وحده بل على مستوى العالم بأسره-، ولولا أن الأمر تم بسرية تامة وتكتم شديد لتلقفه كتاب غينيس بإعجاب وترحيب منقطع النظير.. أن يتم توظيف أساتذة جدد ثم تسوية وضعياتهم في أقل من شهر على توظيفهم، أمر له أكثر من دلالة، على الرغم من أنه أُلبس لباس القضية الوطنية الأولى.. وأن يترك باقي الأساتذة المتضررين في طابور الانتظار أكثر من ثلاث سنوات له أيضا أكثر من دلالة..
إن ما يميز إضرابات فبراير 2011 بالمغرب؛ أنها "إضرابات النخب"، وليست إضرابات خفض الأسعار ولا الزيادة في الأجور.. بل يتعلق الأمر بإضرابات من أجل تسوية وضعيات النجاح لرجال ونساء منتمين لمدرسة النجاح..! فهل ستواصل تلك الكفاءات التعليمية عملها الجاد داخل الأقسام الدراسية بعد إنهاء فترة إضرابها؟ كيف سيكون شعورها أمام تلاميذها وهي تلقنهم مبادئ "النجاح الذي لم ينجح" ؟
ربما يكون في الأفق بعض الضوء، لكن معنى ذلك؛ أننا نسير في نفق مظلم، ومع أنه نفق مفتوح؛ بدليل وجود أفق بعيد، إلا أن هذا لا يعني أبدا "الخروج الآمن" ما دام حارس النفق خائنا لوطنه.. وبتعبير صريح؛ ما دامت وزارة التربية الوطنية لا تعترف لموظفيها بنجاحاتهم فهي "خائنة لمدرسة النجاح".. ومن ثم، يصبح "الفشل" أو "الجهل" شعارا جديدا لنخب المجتمع.. أخشى أن يتم حرق التفاؤل أثناء حرق هذه النخب التعليمية لشهاداتها العلمية.. أم أن "ثقافة الحرق" قادمة من الشرق.., وأن حرق الشهادات أول الغيث..
للتواصل بشأن المقال: touzani79@hotmail.com