كعكة

حالما وطئت رجلاي عتبة الدار، و قبل أن أفتح فمي بالسؤال، تلقفتني شقيقتي لبنى مبشّرة:
ــ سامي سامي .. خمّن من ضيفنا اليوم... و ماذا أحضر معه؟!
لما كنت قد عاينت دراجة نارية أعرف صاحبها جيدا، فقد أجبت بثقة خيبت رجاء شقيقتي:
ــ أعلم أنه عمّ مختار،، و لكن ماذا أحضر معه ؟
أجابت شقيقتي و هي تتبعني:
ــ جاء بصندوق مرطبات!
حالما لمحت الصندوق الحبيب، دفعت بمحفظتي نحو شقيقتي، ثم طرت بدوري لأزفّ البشرى لأخي التوأم الذي شغلته مشاجرة على تلقيه معي الخبر السعيد.
سألت أخي (و انا أدرك مسبقا انني سأعجزه عن معرفة الزائر، نظرا لأنه لم ير دراجة نارية جاثية قرب دارنا):
ـــ جلال، جلال، خمّن من ضيفنا اليوم.. و ماذا أحضر معه ؟
انقض عليّ اخي جلال، سألني وهو يوسع معصمي فتلا :
ــ لا يهمني الضيف، هيا اخبرني بما جاء معه؟
صحت متألما:
ـــ عم مختار جاء معه بمرّطبات.
تركني أخي جلال أتألم، ثم سبقني كالسهم .
حين دخلت البيت وجدت أخي جلال يقلّب صندوق مرطبات عليه علامة " الجميلي " امهر صانع مرطبات بمدينة بنزرت. كان الصندوق مركونا على طاولة المطبخ الى جانب خوذة ضخمة معروفة طالما تبادلنا استعمالها و اخي أثناء الجولات السرية الخاطفة التي كنا ننتهز حلول عم مختار بيننا لنقوم بها.

دخلنا بالتوالي على عم مختار، سلّمنا عليه، كان ــ و على خلاف ما عرفناه ـ مرحا و نشطا و كثير التنكيت .. قبل أن نغادره، أعطى أختي لبنى نصف دينار و أمرها بقسمتها علينا بالتساوي.
بعد ذلك، جلسنا في باحة البيت ونحن ننتظر على أحرّ من الجمر، انصراف عم مختار، حتى ننال نصيبا من الكعكة الشهيّة.
قالت شقيقتي لبنى بحماس:
ـ إن كانت هديّة عم مختار بسبب خروجي من المستشفى، فسأنال النصيب الأوفر منها .
قاطعها أخي جلال مزمجرا:
ــ ان كانت كذلك، فسأحطم رأسك كل يوم، حتى نحظى بكعكعة مختاريّة مماثلة!
بالمناسبة ،كان دخول شقيقتي لبنى المستشفى، بسبب ضربة تلقتها من قبل اخي جلال إثر مشاجرة حدثت بينهما!
قلت لأخي جلال مشاكسا:
ــ لعلها كعكعة خليليّة لا مختارية!
قذفني اخي جلال بفردة حذاء لم تخطيء رأسي، ثم صاح بي:
ـــ فال الله و لا فالك يا غراب البين.!
أردف وهو يتابع قطة عرجاء فرّت بمجرّد رؤيته:
ـــ ثم ما أبعد ما بين عم مختار و خليل الكلب.
أضافت شقيقتي لبني مؤيّدة:
ــ لا تشبّه عم مختار بخليل الكلب، فعم مختار كريم و عيديته التي يتحفنا به مرتين في السنة لا يعلي عليها، هذا بالإضافة الى كونه قد وافانا بكعكة مماثلة منذ سنة أو يزيد.

قبل ستة أشهر، فوجئنا بعم خليل الكلب ( و الكلب هذه، و للأمانة من عند اخي، و أن حظيت باجماع من قبلنا). وهو يقتحم دارنا حاملا صندوق مرطبات من الحجم الصغير و النوعية الرديئة. كان عم خليل حديث عهد بجوارنا، كما كنا على جهل تام بسفالته و شحّه. لأجل ذلك ابتهجنا كثيرا و علقنا آمالا خلبا حال رؤية ذلك الصندوق الشهيّ يستقر على طاولة المطبخ.. و قد ضاعف آمالنا أن مجيء عمّ خليل، صادف يوم تسلّم شقيقتي لبنى جائزة مدرسيّة بمناسبة اجتيازها بتفوق امتحان الدخول للتعليم الإعداديّ... بعد نصف ساعة من الإنتظار المتوتّر لرحيل عم خليل، طرق بابنا. حين فتحته، وجدت زوجة عم خليل ــ التي لم تزرنا قط ــ ، سألتني:" عمّك خليل موجود؟" قلت:" أجل، تفضلي" قالت" شكرا يا بنيّ، أعلمه فقط بقدومي" .. حالما أعلمت عمّ خليل بقدوم زوجته، تناول صندوق المرطبات، سلم علينا ثم غادرنا لا يلوى على شيء، غير أمعائنا التي كانت تتلوى شرها على الكعكعة الفقيدة!
علمنا بعد ذلك أن جارنا خليل ــ لا بارك الله فيه! ــ قد دخل بيتنا ليحتمي من عارض مطر صيفيّ مفاجئ، في إنتظار قدوم زوجته التي غادرت بيتها للتسوّق!
كان بخل عم خليل الكلب، قد حال بينه و بين استخراج نسخة من مفتاح البيت، نسخة كانت ستجنبه انتظارات كثيرة، كما كانت ستجنبنا ذكرى مريرة!

تألّمنا كثيرا من ذلك الحادث المخيب لآمال أطفال فقراء محرومين مثلنا...
غير أن أخى جلال لم يقف عند حدّ الألم، بل تجاوز ذلك الى الإنتقام !
لم يغفر اخي جلال قط ذنب عم خليل الكلب، تضاعفت نقمة اخى جلال على جارنا اللئيم، حين علم ان تلك الكعكة التي " فاتت جنبنا" بتعبير العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، قد أقتنيت لعيد ميلاد ابنته... حين ابلغتنا والدتي بالخبر، صاح اخي جلال متألّما" كان على الخبيث دعوتنا على الأقل، حتى ننال من تلك الكعكة التي تحلّب لها ريقنا"سكت قليلا ثم اضاف حانقا:" كما كان عليه إرسال قطعة صغيرة كجبر للضرر" قال ذلك، ثم أقسم بالله لينتقمن من جارنا خليل الكلب حتى يشفي غليله!
كان انتقام اخي جلال من عم خليل الكلب سريعا و مكلّفا.. بدأ أخي جلال انتقامه بتعقب عم خليل الكلب الى مسجد الحيّ، ثم إختلاس فردة حذائه الجديد بمجرّد أن غيب صاحبها مرحاض المسجد( علمنا فيما بعد، أن عم خليل البخيل كان يتغوط يوميّا في مراحيض المسجد، ليوفر مياه السيفون رغم أنه لم يكن قط من المصلين!) بعد ذلك، حفر أخي جلال حفرة في مدخل بيتنا، ثم دفن فيها تلك الفردة السليبة، ثم وضع فوق الحفرة حجرا كبيرا. حين سالته عن ذلك، أجابني وهو ينفض التراب عن يديه"" حتى أشعر بارتياح كلما رأيتها !" و حين سألته:" طيب لم أخذت فردة و تركت الأخرى" أجابني بخبث لا يناسب سنه:" لعلمي بأن اللئيم سيضع الفردة الباقية نصب عينيه أملا في العثور على أختها، و هذا سيذكّره بمصابه فيزداد ألمه، و تتضاعف حسرته و يشتدّ عذابه!"
ثنىّ أخي جلال إنتقامه من عمّ خليل الكلب، باستغلال مرور عربة بحصان كانت تتردّد على حيّنا بين الأسبوع و الآخر، لشراء الأشياء المستعملة، لجرّ دراجة عمّ خليل ــ و كانت مقفلة ـ و عرضها للبيع! حين خامر العربجيّ شك ّفي مصدر الدرّاجة، خصوصا و قد قنع اخي جلال بثمن بخس، تباكى أخي جلال، طأطأ رأسه، ثم أخبر البائع بأنها دارجة الوالد المتوفّي حديثا، و أن وجودها أمام أنظارنا كان يزيد من حزننا كما كان يضاعف من لوعة والدتنا التي لم تتماسك بعد من هول الصدمة، رغم مرور سنة على رحيل الفقيد!
كانت خسارة عم خليل الكلب مكلّفة، إلى درجة حملني اشفاق ـ ندمت عليه فيما بعد ــ على إبلاغ والدتي بأمر الدرّاجة، و ان كن قد كتمت أمر فردة الحذاء الدفينة، مما قلّل من غضب أخي جلال عليّ!
سرّني كثيرا رفض إمام المسجد تقديم والدتي أي تعويض لعم خليل الكلب لقاء دراجته الفقيدة، خصوصا و قد أنبرى أخي جلال يحدّث الإمام عن الخلفيّة" الكعكية" للإنتقام... ضحك الإمام طويلا، سأل أخي جلال عن عمره، حين علم الإمام أن أخى جلال لم يبلغ الحلم حمد الله كثيرا، تلا قوله تعالى:" و ما رميت اذ رميت و لكن الله رمى" ثم أردف ماسحا على شعر أخى:
" لا ذنب عليك يا بنيّ، فقد رفع القلم عن الصبيّ حتى يحتلم،" سكت قليلا ثم اضاف " لقد جعلك الله سيف انتقام سلطه على ظالم قليل الذوق.. كسر الله خاطره و عامله بما يستحق ! "
حدث ذلك منذ سنتين كاملتين، و رغم ذلك، فان نقمتنا على عم خليل الكلب لم تخفّ حدتها.
حين بلغنا صوت عم ّمختار وهو يودّع والدتي، هببنا وقوفا... تقدّم منّا عمّ مختار، لاطفنا من جديد و كأنه لم يرنا منذ شهرين، حتى أنه أخرج نصف دينار أخرى، آمرا شقيقتي لبنى بقسمتها بيننا بالتساوي، قبل انصرافه الى حديث جانبيّ مع والدتي.. كنا نفرك أيدينا من خلف ظهر عمّ مختار ترقبا للحدث السعيد و الخلوة المرتقبة بجلالة الكعكة الشهيّة، حين رأينا ضيفنا يتجّه بخطى ثقيلة نحو طاولة المطبخ، ما أن أدرك الطاولة، حتى تناول خوذته، كنا نتظر ذهابه مباشرة، حين فاجأنا وهو يرفع صندوق المرطبات ثم وهو يتمنى لنا "ليلة سعيدة"، قبل أن ينصرف وهو لا يلوي علي شيء غير نفوس كسيرة، و قلوب ملتاعة على كعكة مختاريّة لم نتصوّر قطّ أننا سنحرم منها !
ــــ 2 ــــ
بعد مرور أقلّ من نصف يوم عن الحادث المخيّب للآمال، و رغم لوعة الحرمان، لم يكن أي فرد منا ــ بما فيهم أخي الرّهيب جلال ــ يحمل ضغينة أو غلاّ على عمّ مختار، بل كنا ندعو له الله بالمغفرة و الرحمة، فقد لقي عم مختار مصرعه قبل أن يدرك بيته، بعد أن دهسته شاحنة بسبب حالة سكر صرفته عن احترام قاعدة أساسية للمرور، كما صرفته قبل دقائق قليلة ــ وهذا ما يهمنا في قصّة الحال ــ عن اتمام معروفه، بتسليم والدتي كعكعة أشتريت لنا خصيصا ( كما كنا على يقين من ذلك، و كما أكدته لنا زوجته المكلومة فيما بعد)!

أوسلو 31 ماي 2010