حدود السرد وحدود السيناريو في "كائنات من غبار"للروائي هشام بن الشاوي

1: تقديم
عندما يريدالناقد قراءة عمل من الأعمال الإبداعية يصطدم بمشكلة المنهج الذي سيعتمده لدراسة هذا العمل أو ذاك،قصد تبسيطه وتقريبه للقارئ،وهذا المنهج ينبغي أن يتصف بقدر معين من الموضوعية العلمية،وأن يعتمد لغة تقرب هذا العمل للمتلقي وتشعره بلذة القراءة، وتزداد هذه العملية صعوبة في دراسة الأعمال الروائية.

لأن الرواية أولا وقبل كل شئ كتابة مشكلة من مجموعة من الجمل،ذات حمولة فكرية و أيديولوجية،وكل ما يصدر عن الأديب من أحداث وشخصيات وتفضئ زمكاني،يتخذ صفة الأدبية بواسطة اللغة،ولهذا السبب تعتبر اللغة مكونا أساسيا من مكونات العمل الأدبي عامة و الإبداع الروائي خاصة.
و اللغة بدورها لا تستقيم في الأعمال الروائية دون سرد و المقصود بالسرد،هو لغة الرواية وأسلوبها وطريقة كتابتها،أي الانتقال باللغة عبرمراحلها من الألفاظ إلى التراكيب،ثم التعابير فالدلالات،هذه اللغة التي تنقل الأحداث من المحيط الخارجي إلى الصور الفنية و الجمالية.

وفي السرد الروائي ينبغي التمييز بين المقطع و الخطاب،فالمقطع هو الجملة اللغوية التي تتوزع ألفاظها حسب التفسير المعجمي،أما الخطاب فهو تحول هذه الجمل من المعنى المعجمي إلى السياق الدلالي.
وفي لغة السرد نجد"المحكي بالمعنى الحرفي للكلمة"le recit proprement dit وفيه يتدخل السارد في العمل الروائي ويكون طرفا مباشرا في نسيجها.
وهناك السرد"المحكي المشهدي"le recit sceanique حيث يكتفي السارد بتقديم الرواية دون أن يخضع نفسه للاستفسار،وهو ليس في حاجة إلى شرح كيفية توصله إلى معرفة ما يرويه.

وفي رواية "كائنات من غبار" يتصف السرد بصفة المحكي المشهدي،فنجد السارد يسرد الأحداث نيابة عن نفسه ،وعن الشخصيات في كثير من الأحيان،ويفسح لها المجال للتعبير عن نفسها وأحيانا يكون طرفا وسطا يتوسط الشخصيات وكأنه واحد منها،دون التصريح بذلك مباشرة بل يظهر ذلك من خلال بعض ردود أفعاله،أومن خلال نبرة صوته التي تختلف من مشهد لآخر،وفي كثير من الأحيان يتخذ لنفسه مكانا منعزلا عنها،حيث يراقب الأحداث ويسير الشخصيات من نافذة واسعة،وهذا النوع من السرد هو الذي يمكن تسميته بالرؤية من الخلف(بعد انصراف العمل يتبادل "بعية" و"كبالا"بصوت خافت،وهذا الأخير جر دراجته الهوائية المتهالكة ولاح ل"بعية" سرواله الممزق من تحت،وفضلات البهائم تحت حذائه)ص65
فالسارد له مطلق المعرفة بشأن الشخصيات فتشعر به و كأنه يراقب (بعية) و(كبالا) من بعيد وينقل كل الوقائع والأحداث بكل دقة وتفصيل،بما في ذلك شكل الدراجة الهوائية والسروال الممزق وفضلات البهائم تحت حذاء (كبالا).
إن السارد يركز على تتبع تفاصيل الأحداث والشخصيات فينقلها للقارئ بكل أمانة(رمى "كبالا" الدراجة في إهمال على حائط البيت الطيني الذي بدأ ملاطه يتقشر،تحت جنح الظلام التقى عمه" التباري" واقفا أمام بيته،يرمي بعض أعواد الذرة اليابسةعلى الأرض بين بقرتيه العجفاوين...مداعبا ظهرإحداههما،فيما الأتان تمد رأسها في حركات متسارعة مطالبة بنصيبها من التبن...) ص68 فالملاحظ هنا أن السارد يلتقط بشكل دقيق تفاصيل الفضاء الروائي،بل أكثر من هذا إنه يتتبع نفسيات الحيوانات وهي تنتظر حظها من التبن و اهتمام التباري ببقرتيه لأنهما مصدررزقه،وهذا التتبع للنفسيات يزداد حدة عندما قال(مصدرة صوتا لن يقاومه، ويعرفه بحكم عشرته القديمة للحيوانات ....من خلال الصوت يدرك إن كانت جائعة أو عطشى أو مرهقة...)ص68
فالسارد في هذا المشهد يصف بشكل حرفي التمازج النفسي بين الشخصيات البشرية و الشخوص الحيوانية التي اتخذت موقعا هاماواستراتيجيا في نسيج العمل الروائي داخل فضاء"كائنات من غبار"فتقنية السرد هنا تقنية غير ملموسة،تستشف من خلال الكلمات المنتقاة التي تترجم المرئي إلى لغة.

2:تقنيات السرد الصائت

لقد استخدمت هذا المصطلح تجاوزا لالتقاط مجموعة من المشاهد عبر فضاء الرواية،هذه المشاهد التي تشعر المتلقي أن الشخصيات في الرواية تتحرك محدثة صوتا فريدا من نوعه يلتقطه القارئ عبر مجموعة من الأحداث في الرواية،وكأن السارد يحمل على كتفيه كامرا فيديو وينقل بالصوت و الصورة مشهد معاشرة "كبالا" للأتان(ضبطته زوجة عمه محتضنا الأتان من الخلف وجسده يهتز....تراجع إلى الخلف،مبتعدا عن الأتان...شهقت غير قادرة على رفع عينيها:عرفت الآن لم لا تحبل كل أتان"نكسبها")ص69

وهذه الحرية في التقاط المشاهد الجريئة و الفاضحة لواقع نعيشه في حياتنا،بل أصبح طابوها من طابوهاتنا،استطاع السارد تكسير هذا الطابو وتمزيق الحجاب عنه،ورغبة منه في تفادي الوقوع في الإحراج اختبأ وراء ضميرالغائب،لكي يعطي لخياله ولغته الروائية الحرية التامة لذكر تفاصيل الوقائع والأحداث،بما فيها من جرأة،ومن انفلات تلفظي لايليق بالمتلقي العربي الذي يعيش ضمن منظومة أخلاقية وتربوية،فاللغة هنا تهتم بكل ما هو حركي في إطار زمكاني يزيل الحواجز المكانية و الزمانية ممزجا إياها بالعوامل النفسية .

ويظهر أن ترصد السارد لأحداث الرواية بهذه الألفاظ الهامشية يريد منها ذكر أنماط عيش لفئة من فئات المجتمع التي تعيش على الهامش،ولها رؤية إلى العالم تنسجم ورؤية الهامش،حيث حاول السارد تتبع هذا النوع من الحياة وإن كان غيرراض عنها و لا عن أصحابها("كبالا" يتلكأ وهو يتمطى في فراشه بهيئته الضخمة،فيبدو مثل بغل يتمرغ في التراب)ص78

ولغة السرد الفاضحة تفضح هذا الواقع النفسي والاجتماعي لفئة اجتماعية محددة هي فئة البنائين،تعكس لغتهم و ألفاظهم التي تتماشى مع عقلياتهم ومعجمهم التلفظي(سمر هاذ القل.....ضحك التباري البناء الكهل الخمسيني وملح حتى دمعت عيناه...)19
('تلفظ التباري بنفس الكلمة وزوجته تطالبه بجلب "عدال" ماء من بئر الدوار،بنبرة جافة رد عليها:ما ساكي حتى ق...)ص20

فالألفاظ هنا لا تفهم مستقلة بل تفهم في سياق منظومة بنيوية،لغوية ونفسية واجتماعية،وهذه الألفاظ القبيحة تتخذ مسارا عموديا وأفقيا من ورشة البناء إلى الشارع إلى البيت لتعود مرة أخرى من البيت إلى الشارع لتصل مرة أخيرة إلى ورشة البناء.
كما أن الطابع الغالب على لغة الرواية هو لغة الثالوث البوهيمي الطعام والخدرات و العاهرات،بمعنى أن الرواية نزلت إلى نسيج اجتماعي بعينه،نزلت لتعكس واقع طبقة اجتماعية هي القاعدة التي تعيش يومها بين العمل اليومي وصرف ما أنتجته من هذا العمل في ما تشتهيه النفس في الليل.إنها بصفة عامة تبرز الاختلال البنيوي في المجتمع المغربي بل في كثير من المجتمعات.

ولعل الفئة التي التقط السارد يومها في شكل سيناريو سينمائي هي طبقة الفلاحين الذين ينحدرون من القرية ويهاجرون إلى المدينة صبيحة كل يوم لجلب المال من أجل تلبية هذه الرغبات الذاتية اليومية،التي أصبحوا مدمنين على هذه العادات السيئة بل يشعرون وكأنهم يحققون إنجازا عظيما عندما يعبرون بحرية عن هذا الواقع المهووس بحب جلد الذات وحرقها بشتى المخدرات،وبأشكالها وأنواعها المختلفة،والملاحظ هو أن السارد بين علاقة هذه الفئة بالأرض وبالقرية فبين بأن العلاقة هي علاقة إيواء فقط،يعود مساء إلى القرية من أجل المبيت،ولم يعد للأرض هنا أية قيمة في ذاتها ولا هما من هموم أصحابها،كما كان معهودا في أبناء القرية قديما.
إذن تبقى علاقة الشخصيات بالأرض مقتصرة على المبيت وعلى تعاطي المخدرات وعلى العلاقة بالمرأة،بمعنى لوتوفرت هذه الأشيات في المدينة لانقطعت العلاقة بالقرية وبالأرض.

3:كائنات من غبار بين السيرة الذاتية و التخييل الذاتي

يحاول الروائي هشام بن الشاوي كتابة رواية كائنات من غبار انطلاقا من رؤية من خلف، مبعدا ذات الراوي عن عملية السرد،التي تمزج بين السرالروائي والوصف الفاضح الذي يتغلغل في جوهر الشخصيات وتفاصيل الأحداث،وهذه من السمات التي تميز كتابات التخييل الذاتي،التي تستقي مواضيعها من السيرة الذاتية،لكنها لا تسرد الأحداث بعفوية وببساطة بل تنقلها على لسان البطل في الرواية،وحينها يشعر القارئ بتطابق بين السارد وبطل الرواية وبالعلاقة الافتراضية بين السارد و المتلقي المحتمل.

وعندما نتابع مجريات أحداث الرواية،نجد أن الراوي يعبرعن أزمات نفسية تعاني منها الشخصيات،وتخرج هذه الأزمات عبر بوابات مختلفة منها بوابة المخدرات،والكلام القبيح الذي ينفلت بشكل تلقائي عبرألفاظ ساقطة،كما تخرج عبر بوابة ملازمة العاهرات لتفريغ الكبت الجنسي.

وكل هذه الأحداث يسردها الراوي ليعبر بها عما سجلته مخيلته ونقلتها أدبا،وفي هذا الانعكاس الأدبي للواقع تسجيل لرؤية إلى العالم،رؤية تعبرعن موقف الراوي من هذه الأحداث ورفضه البين لها،وعند إفصاحه عن موقفه يعبر في نفس الوقت عن ثورة الانفعال التي تغلي في داخله،هذه الثورة النفسية المتأججة تعلن صراحة في كثير من مشاهد الرواية عن الرفض التام لهذه النماذج البشرية التي وصفها الروائي هشام بن الشاوي بكائنات من غبار،كائنات في اعتقاده ليست من طينة البشر،وإنماهي مندثرة وزائلة تذهب مع مهب الريح،وتزول فجأة في غفلة من عيون البشر.

ومهما كان العمل الأدبي غارقا في الخيال الأدبي يبقى لصيقا بصاحبه وبالواقع المعيش،وهنا تدخل مسألة قديمة حديثة وهي مسألة الصدق والكذب في الأدب،وإلى أي حد كان الكاتب صادقا في عمله،وخير من يجيب عن هذا السؤال هو المتلقي،لأن مصداقية العمل تعود إلى مدى تأثير العمل الأدبي في القارئ.

ففي الرواية نلاحظ أن لغة السرد جاءت لتعري الواقع المعيش لفئة عريضة من فئات المجتمع،تكشفها عن حقيقتها،وكان توظيف الراوي للقاموس المنحط،رغبة منه في إزالة غطاء الحياة المزيف وفضح الواقع الحقيقي لهذه الفئة.
كما أن في الرواية توظيفا آخرلمعجم جديد فرضته حاجة العصروهو لغة الحوار عبر الانترنيت،وقد خلق السارد من خلاله نوعا جديدا من السرد، ابتدعه من أجل ملاءمة الرواية مع الأحداث و الحوارات في غرفة الدردشة،وهذا النوع من السرد لايكتفي بلغة الحكي المباشرة،بل يتعداها للبحث عن لغة تكشف عن المسكوت عنه،لغة تتابع الحوارات الداخلية و المتخيلة،حوارات تلتقط البياض والفراغ في لغة السرد،ويظهر البياض من خلال الحوار الداخلي للشخصيات(ألن تغتنم هذه الفرصة الذهبية،هذه أرملة وما زالت في عمر الورد ياغبي..لايمكن...حتى ولو كانت آخر امرأة في العالم،تخيل نفسك مكان ابنها،أيها الحيوان)ص91
نلاحظ هنا تدخل السارد ليفرض سلطته على لغة السرد،ويحسم في بعض المواقف التي تبدو له غير أخلاقية،فتدفعه أخلاقياته باعتباره الشخصية الوحيدة في الرواية التي تتصف بالعقلانية وتحمل رؤية جادة إلى العالم،رؤية خفية يمررها من حين لآخر بين سطور الرواية،ولهذا نجده يحسم في هذا الموقف لدرجة التلفظ ببعض العبارات التي تدخل من يقوم بهذا التصرف في خانة الحيوان(أيها الحيوان)

4:خلاصة وتعليق

إن المتتبع والمتمعن لرواية كائنات من غبار يستنتج بأن هذا العمل الأدبي،لم ينجز بشكل عشوائي ولم تتم صياغته بتلقائية،بل نلاحظ بأنه عمل محكم البناء،تم الإعداد له مسبقا،احترم المكونات الأساسية للعمل الروائي بما فيها من أحداث وشخصيات وحبكة وفضاء روائي وحوار......
والسرد في الرواية كان نتيجة توافق بين رؤية الروائي الفنية،وما يتطلبه موضوع الرواية.والرؤية الفنية هي التي تتحكم في سير السرد و النهوض به،ليتحكم في بناء الحبكة واختيار الشخصيات وإدارة الحوار الذي يجري بينها،سواء أكان حوارا داخليا أوحوارا ذا طابع ثنائي يتمدد عبر فضاء الرواية،إنه الطريقة المثلى التي تكيف البنية الفنية مع الرؤية إلى العالم،عبر نقل الواقع وتمثله ثم التعبير عنه أدبا،ورصد العيوب،واقتراح الحلول الممكنة رغبة في إعاط تصور ممكن لواقع يهدف إلى التناغم و الانسجام.
وموضوع السرد في الرواية يحيلنا إلى نموذج آخر اعتمده هشام بن الشاوي في هذه الرواية وهو السرد المؤدي إلى السيناريو السينمائي،فنجد الكاتب يتحرك باللغة وينهض بها في اتجاه حركي درامي،يشعر به القارئ من خلال أصوات الشخصيات ومن خلال حركاتهم الصامتة و الصائتة التي تتخلل المقاطع الصوتية عبر بياض الكتابة الروائية.

كما أن عملية السرد السينمائي تظهر من خلال توظيف أسلوب تنوع أشكال الخطاب في الرواية الواحدة،ويظهر هذا من خلال المذكرات التي كتبها عبد الرحمن،والتي أخرجت القارئ من جو الرواية إلى جو المذكرات الشخصية،التي تحدثت عن المرأة التي أنجبت من الفقيه وأسندت مولودها لزوجها العقيم،وافتضاح حكايتها الذي تسببت لها في طلاقها،والنهاية المأساوية للزوج الذي أصبح تائها في الشوارع يرشق الناس بالحجارة. فطريقة الكتابة تشعرنا وكأننا أمام مشاهد سينمائية متنوعة يعتمد فيها السيناريست على لقطات مختلفة من الواقع يسلط عليها الضوء لكي لا يشعر المتفرج بالملل.
لكن تبقى رواية "كائنات من غبار" رواية حداثية تمزج بين تقنيات متعددة في الكتابة،دون الخروج عن مقومات الكتابة الروائية،فتأخذ من الرواية التقليدية لغة السردالمكتوبة التي تحترم مقومات الكتابة بما فيها الألفاظ المأدية للمعاني،وأنماط التركيب الخاص بالأحرف و الكلمات،واستفادت من الرواية الحداثية وخاصة من التحررالنسبي لزمن السرد الروائي الطويل،والاكتفاء بالزمن السردي القصيرالمؤدي إلى المعنى من أقصرالطرق، كما استفادت من الفن السينمائي من خلال حركية الشخصيات وتمفصلات الأصوات المؤدية للحوارات،واستغلال اللغة لأداء وظيفة التوليف البصري المنتج للدلالة البصرية و الذهنية المخزونة في ذاكرة المتلقي.
محمد يوب
12/01/11