بسم الله الرحمن الرحيم

الربا بين تحريم الدين وتحريف المبطلين

الربا من حيث بعده الزمني ( أو تاريخاً ) قديم قدم الشعوب التي ترعرعت على هذه الأرض منذ فجر التاريخ , فقد كان يتعامل به ( الرومان والفرس وقدماء المصريين واليونان والإغريق ) وغيرهم من الشعوب في قارات الأرض جميعها ومنها ( أهل الجاهلية في الجزيرة العربية ) وكان الله عز وجل يبعث إليهم الأنبياء والرسل بين الحين والآخر محرماً ( الربا ) .
فهو محرم في جميع الرسالات السماوية والكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من البشر وفي مقدمتها الكتب الثلاثة ( التوراة والإنجيل والقرآن ) فهو ليست ظاهرة جديدة كما يقول بعضهم . ولكن لم يحدث أن تعامل الناس به على هذا النطاق الواسع كما نراه اليوم , لذلك لا بد أن تكون هناك أسباب جعلته ينتشر على هذا النطاق العالمي .
ونشير هنا إلى أهم الأسباب :
فمن أهمها على الإطلاق ( دور اليهود ) الفعال بما يملكون من أموال وأملاك وثروات استطاعوا بقوتهم المادية ( المالية ) السيطرة على البنوك والمصارف والمؤسسات الربوية التي كانوا يديرونها ويشرفون عليها ولا سيما في ( أوروبا ) علماً أن الله عز وجل حرَّم عليهم ( الربا ) تحريماً قطعياً , والتوراة التي بين أيديهم اليوم ( رغم ما حدث فيها من تغيرات شنيعة ) ما تزال تحمل نصاً بتحريم الربا وبوجوب الأمانة في التعامل مع الناس .
ومع هذا الوضوح فاليهود – كما هم معلوم – يتعاملون بالربا على النطاق الدولي ويسلبون عن طريقه أموال الناس بغير حق , وإلى ذلك يشير القرآن الكريم , قال تعالى : ((فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً )) النساء : / 160- 161 /
فكيف تحالوا على النص الموجود في كتابهم أو بعبارة أخرى كيف حرفوه ليبيحوا لأنفسهم التعامل بالربا مع الناس وسلب أموالهم بغير حق ......! ؟
قالوا : إن الربا غير جائز في التعامل بين اليهود وكذلك الامانة واجبة في تعامل اليهود بعضهم مع بعض ( وهذا تحريف بالمعنى : أي أنهم أبقوا على اللفظ وغيروا مفهومه ) , كما قال تعالى : (( ويحرفون الكلم من بعد مواضعه )) البقرة : 75
أما إن كان الذي تتعامل معه من غير اليهود فلا بأس عليك أن تتعامل معه بالربا ولابأس أيضاً أن تأكل ماله.
وإلى ذلك يشير قوله تعالى : (( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) عمران : 75 ((والأميون هنا العرب ثم عمموه على كل من ليس يهودياً )).
وهذا التحريف منهم لبعض أحكام التوراة لا يمكن أن يكون من عند نبي الله موسى عليه السلام لأنه مبعوث كغيره من الانبياء للإصلاح والرحمة .
والله عز وجل ليس ربأً محلياً لبني إسرائيل كما يدَّعون ( إله بني إسرائيل ) , يعطف على مدينهم فيحرم عليه أخذ الربا منه ويقسو على المدين من الامم الاخرى فيبيح ماله للمرابين .......!.
قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام : (( ربِّ بما أنعمتَ عليّ فلمن أكون ظهيراً للمجرمين )) القصص : 17
وحرب الإبادة التي تقوم على إهلاك الحرث والنسل وحصد الأطفال والنساء والشيوخ هذه الحرب المجرمة لا يمكن أن يوعز او يرضى بها موسى نبي الله عليه الصلاة والسلام .
قال تعالى : (( كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين )) المائدة : 64
وتـَفكر معي كلمة ( يسعون ) وكيف أنها جاءت فعلاً مضارعاً والفعل المضارع عند علماء العربية يفيد الاستمرار والديمومة , وكلمة ( فساداً ) جاءت نكرة والنكرة تعم فهي تشمل كل أنواع الفساد , وانظر إلى اليهود في العالم اليوم فهم يبثون الأفكار الهدَّامة الدَّاعية إلى الإلحاد ونظريات عن الجنس التي تدعو إلى التحلل من الدين والاخلاق بحجة أنها تسبب الكبت الجنس والعقد النفسية والعصبية وهم الذين أشرقوا على الحركة الصناعية الرأسمالية في أروبا يُشغِّلوا فيها أموالهم بالربا .
وعن هذا الطريق سيطروا على كل نواحي الحياة الاوروبية فأفسدوا فيها مفاسد جمّة ينشرون كل رذيلة باسم التقدم والحضارة تارة ً وباسم الحرية الشخصية تارة ً أخرى .(1)

((1)) : للمزيد من الاطلاع على مفاسد اليهود راجع كتاب ( بروتوكولات حكماء صهيون )

عودٌ على بدء :
فما هو الربا ؟ وما الحكمة من تحريمه ؟ وما عِـلـَّتـُه التي تبني عليها الأحكام حِلا ً وحرمة ً ؟ وما البديل عنه أو المقترح ؟ .
هذه هي النقاط التي سنتعرف عليها ونشرحها بشيءٍ من البيان والتفصيل .
تحت هذا المفهوم أو التعريف نوعان للربا :
أحدهما : ربا الفضل : وهو كل تبادل بين مطعومين أو نقدين من حنس واحد مع زيادة أحد البدلين على الآخر, كمبادلة كيلو غرام من القمح الجيد بكليوين من القمح الرديء .
والثاني : ربا النسيئة : وهو كل زيادة يؤديها المدين إلى الدائن على رأس ماله المستحق نظير مدة معلومة مؤجلة (( كثيرة كانت الزيادة أو قليلة ....))
وهناك أنواع أخرى للربا – ربما وصلت إلى سبعين نوعاً - صرفنا النظر عنها خشية الإطالة – ولأن النوعين المذكورين – هما الأكثر شيوعا ً وتعاملا ً بين الناس ولاسيما النوع الثاني وهو ( ربا النسيئة )
والربا بنوعيه أو أنواعه حرام , حرمه الله في كتابه العزيز إذ جاء تحريمه في ثلاثة مواضع منه وعلى ثلاث مراحل :
أي أنه لم يحرم رأسا ً ودفعة واحدة إنما سلك التشريع في تحريمه مسلك التدرج شأن الخمر لأنه كان نظاما ً تدور عليه عجلة الاقتصاد في التعامل بين الناس .
وكان من الصعب بل من المتعذر إبطاله أو تحريمه بجرة قلم أو أمر ٍ آني سريع , والحكيم الباري العليم بالنفوس وبالسبيل إلى إصلاحها وبأحوال عباده هو الذي سلك معهم هذا المسلك الذي يجدي فيهم لينتهوا عنه , وهو أقوم سبيل وخير علاج للنفوس التي ألفته واعتادت عليه (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )) تبارك : 14
وأول مواضع التحريم :
من الآيات المكية التي في مكة هو : قوله تعالى : (( وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )) الروم : 29
فكان هذا مقدمة وتمهيدا ً للتحريم مستقبلا ً .
أما الموضع الثاني :
فكان تحريما ً لبعض أنواعه ( أي تحريما ً جزيئا ً ) نص عليه القرآن الكريم وهو قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا ً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون )) آل عمران : 130
وهذه الآية أشكلت على الكثيرين حقيقة الربا ممن لا علم لهم ببقية الآيات إذ يقول أحدهم : إن الربا المحرم ما كان أضعافا ً مضاعفة – بناء على صريح الآية – فإذا انتفى الضعف كان حلالا ً ولما كانت المؤسسات الربوية ( من مصارف وبنوك ) ومعاملات أخرى لا تتعامل مع المقترضين بالضعف إنما بشيء رمزي قد يكون 3% أو أقل أو أكثر بقليل كان حلالا ً , وهكذا يعللون ويحللون ......!؟
وهذا بلا شك خطأ كبير وإثم عظيم يقع فيه هذا الفريق من الناس إذ لم يكلفوا أنفسهم بمراجعة الآيات الأخرى في موضوع الربا فجهلوها أو تجاهلوها واكتفوا بهذه الجزئية من الآيات الكريمة فأصدروا حكمهم ذاك فوقعوا في الخطأ الجسيم ..... كمن يقرأ قوله تعالى : (( ولا تقربوا الصلاة ...... )) ويقف عليها ولا يتم الآية وهي (( وأنتم سكارى ...)) وكان عليهم الا يتسرعوا بالتحليل قبل مراجعة الآيات المتعلقة بالموضوع .
فالقرآن يفسر يعضُه بعضا ً , أو أن يسألوا أهل العلم في هذا الشأن كما قال تعالى : (( فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) النحل : 43
فالربا المضاعف في الآية السابقة كان مرحلة أولية لتحريم الربا كما سيأتي معنا في المرحلة الأخيرة منه
أما الموضع الثالث :
فقد ختم به التشريع محرما ً الربا تحريما ً قاطعا ً بجميع صنوفه وأنواعه مهما كانت نسبة الفائدة .
قال تعالى : (( ويمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم )) البقرة : 176

وقال جل ثناه : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لن تفعلوا فأذنوا بحرب ٍ من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تـَظلمون ولا تـُظلمون )) البقرة : 179
ثم جاء تحريم الربا مؤكدا ًومتوعَّدا ًفاعله بالخلود في النار , فقال تعالى: (( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالو إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وامره إلى الله ومن عاد أصحاب النار هم فيها خالدون )) البقرة : 175
فقطعت هذه الآية الكريمة قول كل من يقول بحلية الربا , على حد المثل القائل : (( قطعت جهيزة قول كل خطيب )) مع الفارق الكبير بين كلام الله عز وجل المعجز وبين المثل من كلام البشر .
حكمه تحريم الربا :
والمؤمن لا يمتنع عن التعامل بالربا من أجل حـِكـَمـِهِ إنما تعبداً وطاعة ً مطلقة ً لخالقه الذي حرمه ونذكر هذه الحـِكمَ لأولئك الناس الذين يبحثون عن الحكمة ويقولون لماذا ....؟
ذكر العلماء عددا ً من الحـِكم لتحريم الربا مستنبطينها من الآيات الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة وواقع المجتمعات البشرية التي تتعامل بالربا فمن ذلك :
1-عدم انسجام الربا مع قاعدة الكسب الحلال التي تقوم على ألا يعطي المجتمع الفرد إلا بمقدار ما يعطي الفرد المجتمع من العمل النافع والجهد المبذول وهو ما يسمى بـ (( التقابل بين الجهد والثمرة )) وفي حال انعدام الجهد والعمل ينعدم حق الثمرة والاجر .
2-انهيار اقتصاد المجتمع بسبب تلكؤ الدائن عن العمل وخلوده إلى الكسل طمعا ً في ربح الفائدة وإرهاق المدين بالالتزامات الربوية .
3-انهيار أخلاق المجتمع لانعدام التعاون بين أفراده بسبب العلاقات الربوية وهذا بدوره يؤدي إلى تفسح المجتمع وشيوع الاثرة والانانية بدلا ً من التضحية والإيثار .
4-يسبب وجود طبقتين متنازعتين في المجتمع طبقة المتحكمين برؤوس الأموال وطبقة المستضعفين الذين اُكلت جهودهم وأتعابهم من غير حق ....!
وقد كان اهل الجاهلية العربية قبل الإسلام يعطون المئة حتى إذا حل الأجل , فإما أن يدافع المدين وإما أن يزيد في الدين ..... وهكذا حتى يصبح أضعافاً مضاعفة وهو المسمى بـ (( ربا النسيئة )) أو الربح المركب .
وضابطه :
كل قرض جر نفعاً في مقابل النسئية أي التأخير في الأجل سواء كانت المنفعة نقداً أو عيناً كثيرة أو قليلة وعلى هذا التعامل مع المصارف بفائدة 3% أو 4% مثلاً أو أقل أو أكثر هو ( ربا النسيئة )) لقوله تعالى : (( فإن تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تـُظلمون )) . أي بدون زيادة أصلاً.

وهنا قد يقول قائل : (( إذا ما الفرق بين الفائدة التي يأخذها صاحب المال على رأس ماله نظير مدة مؤجلة معلومة وهي حرام ، وبين استئجار الادوات والآليات والبيوت والأراضي الزراعية وأجرها حلال ..!؟ ))
وللجواب عليه نقول :
الفارق هو الانتفاع برأس المال المقرّض لا يؤدي بطبيعته إلى استهلاك شيء منه أو العمل المتجسد فيه لأن المقترض ( المدين ) مسؤول بحكم القرض عن دفع المبلغ الذي استلمه مضيفاً إليه الفائدة في الوقت المحدد , بينما انتفاع المستاجر بالأداة أو الآلية أو الدار التي استأجرها خلال عملية الإنتاج يؤدي إلى استهلاكها بوجه ما, واستهلاك العمل المتجسد فيها , ولذلك كان لصاحب الأداة أو الآلية أن يحصل على كسبه عن طريق إيجار الأداة بسبب العمل المنفق والجهد المستهلك .
ولم يكن للرأسمالي أن يحصل على كسب من هذا القبيل لأنه يسترجع ماله كما هو من غير استهلاك مضافا ً إليه الفوائد التي ترتبت على رأس المال خلال الزمن ( طال أو قصر ) .
وقد أخطأ أولئك الاقتصاديون في تبريراتهم للربا , مثل : تبرير الفائدة بعنصر المخاطرة , أو تبريرها على أساس أنها تعويض للرأسمالي عن حرمانه من الانتفاع بالمالالمقرض ومكافأة له على انتظاره طيلة المدة المتفق عليها والتي انتفع أثناءها المدين بالمال الذي اقترضه أو بوصفها تعبيرا ً عن حق الرأسمالي في شيء من الأرباح التي جناها ( المقترض ) عن طريق ما قدم إليه من مال أو بوصفها تعبيرا ً عن الفارق بين قيمة السلع الحاضرة وقيمة السلع المسقبلية أو بسبب انخفاض سعر العملة ( التضخم ) .
ورغم كل ذلك فإن الإسلام لم يقر أي كسب لا يبرره اتفاق عمل مباشر مختزن .
والفائدة أو الربا من هذا القبيل أوضحه الاقتصاديون من علماء الإسلام وقالوا : (( المال لا يولد المال)) إنما يولد إذا تزوج العمل .
وينظرون إلى النقدين الذهب والفضة على أساس أنهما يكونان مقصورين على التعامل فقط أي : وسيلة للتعامل بين الناس وقضاء مصالح العباد , فالناس يحتاجون إلى النقد ليكون أداة للتبادل أما استغلال المال بالمال فلا يقره الشرع ولا يرضاه الله لعباده لأنه يؤدي إلى حيازتهم له وتكديسه في خزائنهم وصناديقهم ووقوف حركة الأعمال والتثمير بين الناس وانهيار قيمتها وشيوع البطالة والكساد في الامة كما يقول ((الإمام الغزالي )) رحمه الله تعالى .
ومن ذلك يتضح أن الربا يعتبر عائقاً من أهم العوائق تقف عثرة في وجه التقدم والتنمية الاقتصادية , وهذا ما أثبته أيضا ً آراء كثيرة من الاقتصاديين في القرنين ( الثامن عشر والتاسع عشر ) , إذ يعتبره ( الاشتراكيون ) نوعا ً من أنواع السرقة أو الاغتصاب .
فهم يشيرون إلى أن الرأسمالي هو أول من يمتلك الثروة الجماعية , علما ً أنه ليس ثمة قانون أسبغ عليه حق هذه الملكية , ويحدث ذلك عن طريق أخذ الفائدة على رأس المال , ولذلك فلا عجب أن حاول بعض المشرعين في ذلك الوقت في ( أوروبا ) أن يمنعوا هذا الحق عن طريق سن قوانين ضد الربا .
علة الربا : حاول بعض العلماء في العصر الحديث ( باسم التجديد ) أن يبرزوا أعمال والمصارف والبنوك وأنظمتها بدعوى أنه ليس فيها استغلال أو جشع فحللوا الربا هو حرام ((1))

سئل الإمام ( أحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى : ما الربا الذي لا يسع مسلما ً أن يجهله ؟
فقال : (( ان يعطي الرجل دينا ً ويزيد في الأجل نظير الزيادة في الدين , وأن من ينكر أمرا ً علم من الدين بالضرورة يكون خارجا ً عن الإسلام )) .
وهذا النوع ( ربا الديون ) هو أقوى أنواع الربا – وهو حرام- لا شك فيه – لا يسع مسلما ً أن ينكره ولكن مع الأسف الشديد فإن كثيرين كتبوا في الربا وحللوا وحرموا بغير ما أنزل الله , ومنهم من بلغ مرتبة تجعلهم مسؤولين أمام الله وأمام الناس , فضل عنهم فهمهم الربا وأضلوا الناس ولم يكن جهلهم لضرورة يعذرون منها ( كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة ) رحمه الله تعالى بل كانت بين أيديهم أسباب العلم فتركوها ليتعلقوا بما يرضي الناس ولايرضي الله .
وليس تحريم الربا بسبب الجشع أو الاستغلال – كما قالوا- إنما بسبب الزيادة وهي علة الربا فأي زيادة يأخذها صاحب رأس المال ( مصرفا ً أو غيره ) على القرض بسبب التأجيل وهو المدة الزمنية المتفق عليها بين الطرفين , وكل فائدة ربا .
أما ما ذهبوا إليه معللين به التحريم ( وهو الاستغلال أو الجشع أو كلاهما ) فهو الحكمة من تحريمه لا العلة .
أما علة الحكم :
فهي وصف في الأصل بني عليه حكمه ويعرف به وجود هذا الحكم في الفرع , فالإسكار وصف في الخمر بني عليه تحريمه ويقاس عليه وجود علة التحريم في كل نبيذ مسكر أو شراب مسكر .
ومن المتفق عليه بين جمهور علماء المسلمين أن الله تعالى ما شرع حكما ً إلا لمصلحة عباده فالباعث على تشريع الحكم هو الغاية من تشريعه وهو ( حكمة التحريم ) .
وكان المتبادر أن يبني كل حكم على حكمته وان يربط وجوده بوجودها وعدمه بعدمها لأنها هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه . ولكن رئي بالاستقراء أن الحكمة في الأحكام قد تكون أمرا ً خفيا ً
غير ظاهر أي لا يدرك بحاسة من الحواس الظاهرة فلا يمكن التحقق من وجوده ولا عدم وجوده ولا يمكن بناء الحكم عليه ولا ربط وجوده

((1)) : يقول أحد هؤلاء : في اعتقادي أن هذه الحرب المعلنة على المرابي لا تنطبق على هذه المعاملات المصرفية عندما يمضي الرجل باختياره بدون اضرار أو ضغط من أحد يمضي إلى مصرفية من أجل أن يستثمر ماله فيها وهي بدورها باستثمار هذا المال فليس المصرف سائلا مضطرا ً ولا مسكينا ولا مبتلى حتى عليه الناس , فلا هنا ضعيف يشغله شخص آخر جشع فأرى هنا أن الربا ليس المقصود به المعاملات المصرفية ....!؟




بوجوده وعدمه بعدمه , مثل : إباحة المعاوضات التي حكمتها دفع ُ الحرج عن الناس بسد حاجتهم , فالحاجة أمر خفي ولا يمكن معرفة أن المعاوضة لحاجة أو لغير حاجة فاعتبرت صيغة العقد مناطا ً لحكمته لأنها عنوان تراضي الطرفين المتعاقدين .
وقد تكون الحكمة أمرا ً تقديريا ً غير منطبط فلا ينضبط بناء الحكم ولا ربطه به وجودا ً وعدما ً , مثاله : إباحة الفطر في رمضان للمريض , حكمتها دفع المشقة , وهذا أمر تقديري يختلف باختلاف الناس وأحوالهم : فلو بني الحكم عليه لا ينضبط التكليف ولا يستقيم .
فلأجل خفاء حكمة التشريع في بعض الاحكام وعدم انضباطها في بعضها الآخر لزم اعتبار أمر آخر يكون مناسبا ً لحكمته ظاهرا ً ومنضبطا ً يبني عليه الحكم ويربط وجوده بوجوده , وعدمه بعدمه بمعنى أنه مظنة لحكمته , لأن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها هو المراد بالعلة في اصطلاح الأصوليين .
فالفرق بين حكمة الحكم وعلته هو :
أن حكمة الحكم :
هي الباعث على تشريعه والغاية المقصودة منه وهي المصلحة التي قصد الشارع بتشريع الحكم تحقيقها أو تكميلها أو المفسدة التي قصد الشارع بتشريع الحكم دفعها أو تقليلها .
وإما علة الحكم :
فهي الامر الظاهر المنضبط الذي بني الحكم عليه , وربطه به وجودا ً وعدما ً لأن الشأن في بنائه عليه وربطه به أن يحقق حكمة التشريع أي حكمه وهو أمر تقديري غير منضبط لايمكن بناء الحكم عليه وجودا ً وعدما ً فاعتبر الشارع السفر مظنة تحقيق حكمته لأن الشأن في السفر أنه توحد فيه بعض المشقات , فحكمة قصر الصلاة الرباعية للمسافر دفع المشقة عنه وعلته السفر .
وعلى هذا فجميع الاحكام الشرعية تبنى على عللها لا على حكمها , فمن كان في رمضان على سفر يباح له الفطر لوجود علة إباحته وهي السفر , وإن كان في سفره لا يجد مشقة ومن كان في رمضان على غير مسافر ولا مريض لايباح له الفطر وإن كان عاملا ً في محجر أو منجم ويجد من الصوم أقسى مشقة , لكنه إذا تعذر عليه أن يتم صومه بسبب مشقة نالته (( كعطش شديد )) أفطر عندئذ ((1))
ثم ماذا يقول هذا الفريق من العلماء المعللين تحريم الربا بالاستغلال والجشع .....!
أجل ماذا يقولون ( السّلم ) أو ( السلف ) .....!؟ أليس السلم أيضا ً فيه استغلال من طرف قوي لطرف ضعيف , لأن السلم – كما معلوم – ( هو عقد على بيع معدوم موصوف في الذمة ) و(المسلِم) بكسر اللام محتاج ومضطر ومستغل , ( والـُمسْلـَم إليه) بفتح اللام هو صاحب رأس المال مستغل وجشع , هذا بناء على تعليلكم , فيكون عقد ( السلم ) حراما ً في هذه الحال لأن الاستغلال فيه واضح وجشع ظاهر , في حين أن الشرع أباح ورخص فيه ... !
فاتقوا الله يا علماء الدين ... يا ملح البلد ... ولا تجعلوا من الدين مبررا ً لأعمال الخارجين على أحكامه وقنطرة لكل مارق منه فإن الله تعالى سائلكم عما استرعاكم .......!
يقول الشيخ (( عبد الحليم محمود – رحمه الله تعالى- (( شيخ جامع الأزهر سابقا ً )) : مامن شك في أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر الأرض يحاول أن ينزع نزعة بشرية بحته وبتصرف في الوحي نقصا ً وزيادة ))

((1)) : بمعنى أن العامل يخرج إلى عمله صائما ً ولا يجوز له أن ينوي الإفطار في الليل إذا أصح إنما ينوي الصيام , فإذا تعذر عليه الصوم أو وجد مشقة غير متحملة أفطر عندئذ للضرورة (( وهي خشية الهلاك )) وقد قال تعالى : (( ولا تقتلوا أنفسكم )) وقال (( وما جعل عليكم في الدين من حرج ))

وتغييرا ً وتبديلا ً , فيقول مثلا ً : إن الحكمة في التحريم الخمر إنما هي المفاسد التي تنشأ من الشخص الشارب فإذا انتفت تلك المفاسد فلا مانع من شرب الخمر ..... أو يقول : إن التكاليف الشرعية إنما جاءت لإصلاح الضمير فإذا كان الضمير صالحا ً فلا لزوم للتكاليف الدينية ....! أو يقول : إن أعمال العبادة أنما هدفها التقرب إلى الله فإذا حصل القرب فلا حاجة إليها .... وهكذا يخرج الإنسان بأهواهه – لا بعقله – عن الدين كل ذلك أهواء يصورها الشيطان كأنه منطق معقول .....!؟ ((1))
البديل عن الربا :
رغم انتشار الربا في العالم فإنه لا يعني الاستسلام له أو عدم وضع العلاج المناسب , وقد يكون أفضل علاج لهذه المشكلة هو تأميم المصارف ووضعها في ملكية الدولة أي أن الدولة تقوم باستثمار المال على رأس غير ربوي ولا تأخذ فائدة على المال إنما تأخذ أجرا ً للعاملين في الحقل الاقتصادي ( رواتب ) إن صح التعبير .
كما هو الشأن في جباة الزكاة ( العاملين عليها ) وتـُقرض القروض بلا فائدة للمحتاجين وتستثمر الاموال المودعة لديها في المشايع التي لا يحرمها الشرع – وهي كثيرة - .
وبذلك يمكن الاتجاه نحو بناء اقتصادي إسلامي متكامل يعتمد على نظام يوائم بين فطرة الإنسان وهي ( حب التملك وحب المال ) الخاص به وبين مصلحة الجماعة أو المجتمع محررا ً الإنسان من استغلال أخيه الإنسان ومن عبادته المال , فلم يجعله هدفا ً لذاته وسيلة لتحقيق غايات ومصالح لاتتم إلا بها ويحقق بذلك العدل من التكافل والتعاون والعلاقات الاقتصادية السليمة والروابط الرحيمة بين بني الإنسان في نظام عالمي ولا استغلال ولا كراهية .
واخيرا ً فها هي بشرى التخلص البنوك اليوم أن شبكة من البنوك ( الربوية ) تزف إلى العالم إذ أن ما يلفت نظر المراقبين الاقتصاديين والتخصصين في هذه البنوك اليوم أن شبكة من البنوك الإسلامية (( اللاربوية )) قد ظهرت على الساحة وبدأت بأعمالها ومنافستها لها وبقوة آخذة ً طريقها إلى العالمين ( العربي والإسلامي ) .
وهي تقوى وتشتد يوما ً بعد يوم رغم العراقيل التي تواجهها , وفي مقدمتها ( المؤمرات العالمية من يهودية وغربية ورأسمالية ) , وغيرها لتمنعها من الانطلاق لكنها ماضية في سبلها وغير عابئة بها , وقد حققت نجاحا ً كبيرا ً , وكسبت ثقة المتعاملين معها والمساهمين فيها , ولسوف يمتد نسيجها – إن شاء الله تعالى – حتى تعم العالم أجمع لتطهره من ( الربا المحرم ) وآفاته القاتلة وآثاره النجسة وتجنب المجتمعات البشرية حرب الله ورسوله , قال تعالى : (( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) ومن أصدق من قيلا ......!؟
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ملاحظة :
لم أشأ أن أذكر الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الموضوع – وهي كثيرة – لئلا يطول البحث ويتشعب الموضوع ولأن الآيات القرآنية الكريمة التي ذكرتها فيها الغـَناء كل الغناء .......
والحمد لله رب العالمين

خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي

((1)) : انظر كتاب (( الإسلام والعقل ))