الحسناء والوحشصديقي وسيم جدا..وسامته جواز سفر، تأشيرة عبور لكل القلوب المغلقة والمحروسة والمحجوزة..لا يكاد يمر من مكان حتى تتنهد الشفاه وتنبت الأحلام. لكني أبدا ما حسدته والعجيب أني دائم الفخر به.
صديقي طويل القامة،شعره السود الجميل يتراقص والنسمات وأكثر ما فيه جاذبية بسمته السحرية وأنا جنبه نكرة..غير موجود.. كانت كل تجاربه العاطفية ناجحة..أما أنا فمهزوم مهزوم..لا أكاد أدخل معركة إلا والرفض يقابلني..كلما رأيته تذكرت (دوريان غراي) للكاتب أوسكار وايلد.
لكني وصديقي نلتقي في شخصية صلبة..شخصية صقلتها التجارب والمواقف الجريئة.فكلانا جال وساح في المدن الصغيرة والكبيرة..عرفنا المر والحلو..إختبرنا الناس بوجوههم الظاهرة والخفية وأدركنا أن التجربة أساس الشخصية..
صديقي يحب أن يحدثني كثيرا عن مغامراته والمعجبات الكثيرات وكيف يتلهى بملاعبتهن كقطع الشطرنج..لعبتنا المفضلة..أما أنا فأحب قراءة الشعر والقصص الفكرية.أحيا قصص الغرام والمغامرات في الخيال وأبني من حكاياه كثيرا من قصور الرمل..فمنذ زمن طويل رتبت دفاتري وأحاسيسي ولم أعد أجرؤ أن أغامر في تجربة أخرى وأصبحت الجميلات تمرقن كما الليل والنهار..وأنا أتأمل المرأة كأغرب آية للخالق.أراقب جسدها في حيرة وشوق..
كنت وصديقي قد عزمنا أن نقضي بعضا من عطلتنا الصيفية نتسكع من مدينة إلى أخرى بغرب الوطن..كان ذاك المساء الخميسي جميلا..جلسنا كعادتنا نتجاذب أطراف الحديث..نقفز من موضوع إلى موضوع..كان صديقي قد أحضر فنجان قهوة وراح يدخن سيجارة وإذا القمر يسطع في وضح النهار..حسناء من كتب الأساطير .آلهة جمال إغريقية تمر جنبنا..نظرت إليها بجنون ،بلهفة المشتاق المحروم، شعرها طويل طويل يغطي كامل ظهرها، بشرتها صافية ذات لمى وقدها آه قدها وخصرها وكل ما فيها رائع رائع..
كالعادة أمحت من ذاكرتي.حين إلتفت وجدت صديقي مبهورا يتبع طيفها وهي تلتفت بين الفينة والفينة..ساعتئذ أدركت أنها ما مرت من هنا إلا لأنها تريده هو..راح يسأل عنها .كان يعرف بعضا من الأشياء..يعرف أن إسمها (سميرة) وأنها تزور عائلتها ..لأنه خبير بفك طلاسم العيون الجميلة،عيون المها فسينالها حتما..أما أنا فأرعن..أنهيت الأحاسيس اللطيفة والأحلام التي لن تتحقق..
في تلك الليلة وأنا اقرأ رواية (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي أحسستني ذلك البطل المسكين وتمنيت لو أني على إحدى جسور قسنطينة لأنتحرت..راحت بعض الدموع المؤجلة منذ زمن تتمرد..تذكرت عنوة تلك الحسناء وتخيلت أنها تمر لأجلي..حقا إنه لضرب من اللّمم.
-(لأجلي ومن أنا وأي وسامة حتى تنتبه إليّ.مؤكد أنها لم تنتبه حتى لوجودي..فأنا نكرة إلى جانب صديقي..ستجر وراءها زرافات زرافات وسيختفي وراء كل شارع وكل باب وكل نافذة معجب..)
منذ تلك الوهلة وصديقي لا يتوان عن ذكر إسمها ووصفها كأجمل أنثى.ومرة ثانية مرت الحسناء فما كان مني إلا أن أغضض اللحظ مستحييا وقد راحت تنظر بجرأة إلينا..أقصد إلى صديقي الذي كان مبهورا يبتسم..
ومر اليوم ومر الليل وأنا أتناسى وصديقي يبحث عن فرصة ورقم الهاتف أو مرسول ما..كانت الليلة ليلة سبت وكنت أنوي السفر لأشارك بأيام أدبية..كانت ليلة لتحضير أوراقي المبعثرة وقصائدي المخطوطة على الأوراق والكراريس القديمة..حين رنت(11) رن معها الهاتف..هاتفي غير المعروف ..هاتفي الذي ركبته منذ عامين لأداعب الصبايا لكني أبدا ما تجرأت..ومضت مدة أنتظر أن تتصل إحداهن خطأ تملئ فراغي الطويل والطويل جدا ..نديمي كتاب وكأس شاي ..إنتظاري طال ولا شيء حدث ..فكل ما نتوقعه لا يحدث..يئست ثم نسيت..وهاهو هاتفي المنسي مثلي يرن..
-(أنا المنسي وسنيّ عمري المسروقة)
حملت السماعة وأنا أرتعد وألف سؤال وسؤال إختلط بذهني :
-آلو..آلو..
لا أحد يرد .حينها تأكدت أنها فتاة ..طارت عصافير الفرحة تزقزق وأحسست بالروح تعود وكل الشباب المكبوت يستيقظ..وإذا بموسيقى أعرفها تنساب..موسيقى العندليب الذي أحبه حبا جنونيا..راودني شعور أن هذه الفتاة تعرفني..
-(فاتت جنبنا أنا وهو..أنا وهو..وضحكت لنا..)
غمرني إحساس غريب محوته..لأنّ مجرد الحلم به معجزة..تخيلت للحظة أن من يهاتفني تلك الحسناء..ثم جاء الصوت الملائكي..الصوت الأنثوي منسابا ليغمر أذني وقلبي وكياني:
-مساء الخير يا سعد..
-مساء الخير هل تعرفينني..؟!!
-أعرفك وأعرف كل صغيرة وكبيرة ولا أكاد أنام وأنا أفكر بك.
ابتسمت في داخلي..بحذري الذي تعودت عليه أدركت أنها مداعبة فتاة طائشة..
-عفوا يا آنستي..لست ممن يفرحون بهذا الكلام ...أنا أعرف أنك تحاولين ملئ الفراغ.
-كنت أعرف أنك لن تصدقني واعرف أنك مسافر غدا لتشارك بالأيام الأدبية..لدي طلب واحد ..أريد أن تقرأ لي قصيدتك (حسناء) المنشورة بالجريدة والتي أهديتها لحسناء تنتظرها على الدوام..
تعجبت كثيرا وزادت حيرتي إتساعا..بدأ فكري يعمل بسرعة—إختلط الحلم بالواقع والحلو بالمر..لكن شيئا بقي ثابتا..لن أصدقها فكلها كلمات وكلها ألاعيب(وأنا خائف..خائف من المرأة المجهول..من إمرأة تتلهى من وراء الخيوط..يا رب ما الحل؟! الرغبة أقوى من الحذر..)
-آلو..آلو( سعد) ما بك؟ ألا تريد أن تقرأ ..أعرف أنك خجول ولكنّي أريد أن أسمعها بصوتك..صوتك هادئ ..هادئ.هادئا يداعب الأعماق..هيا ..هيا أرجوك..
-عفوا آنستي ما إسمك؟
-سميرة..
عجيب أمر هذه الدنيا كم هي ضيقة.فلأتبع الخيط للأخير..
-حسنا ساقرأها ..لكن دعيني أضع موسيقى العود.
وإنثال صوتي على غير العادة مكتسبا موسيقى جذابة..رحت أجعل من كل بيت صورة ومن كل صورة سيمفونية تتحرك بإتقان..وكأني بيتهوفن بين أشجار الغاب وتخاطب الحيوان..لكنها قطعت الخط فجأة..مرّ الليل والأرق أنيسي والكرى عدو لا يقترب.
طبعا لم أكن لأخفي عن صديقي ما حدث بعد عودتي.أدركت بالفطرة أنه لا يصدق الحكاية..كان مشغولا بتلك الحسناء..قال لي إنها لم تمر ولم يرها منذ مدة..هدأته وقلت مازحا ستمر الآن وضحكت..لكنها مرّت فعلا وعطرها يملئ الأجواء..راح صديقي ينظر إليها بجنون وتحد ..أما أنا فأنزلت الطرف خجلا..لا بل يأسا ..أنا إلى جانب هذا الوسيم نكرة..بدافع الفضول نظرت هل تبادل صديقي النظرات.وجدتها كذلك.لمحت شيئا آخر شدّ إنتباهي.كانت تحمل جريدة..بعدها تهنا في الأحاديث..
في المساء عند عودتي من خطبة أحد الأصدقاء راودني إحساس غريب أني سأتلقى مكالمة أخرى هذه الليلة..حملت كتابا لأدو نيس ورحت أقرا بل أنتظر وإذا بالهاتف يرن والصوت الجميل يتكلم:
-مساء الخير يا(سعد)..قصتك "الشاردة" المنشورة اليوم جميلة أحسست أنك كتبتها لأجلي.
(من أنت ..من أي حلم تأتين؟! لم أنا بالذات..فأنا لن أتحمل هزيمة أخرى..لم أنا وقد رتبت أيامي وأفكاري على شكل قلعة لأتفادى هذه الهزات..إسمعي يا آنستي..أنا مثل أحدب ( نوتردام) ..أنا مثل بطل رواية رجل نبيل ( لفيكتور هيغو) ..أنا..أنا كل أبطال المآسي..والنهايات التعيسة.)
لكن الدموع والخوف جعلوني أضع السماعة دون كلام..لكنها أعادت المكالمة وعدت أصرخ بلا صوت..
-آلو..آلو إسمع يا (سعد) ..أنا أحبك.أنا ..أنا أحب فيك الشخص الطيب البسيط وراء تلك الملامح الثابتة..أنا لا تهمني الوسامة والمال..
-لكن كيف أنا لاأعرفك.
-بل تعرفني ..مررت من أمامك عدة مرات أنت وصديقك..أنا سميرة..وكنت أمر لأجلك.
وإنتحر كل شيء أمامي.أصبحت جمادا..أصبحت لغة بلا معان وراح الصوت يتكلم..تسارعت دقات قلبي في جنون..ككل مرة أدركت أن هذا هراء وكذب وسراب..(هل صحيح ما أسمع..أنا المقصود..) وتفتحت كل الزهور الذابلة وأصبحت الصحراء جنة..والصدأ الذي علا هذا القلب اختفى وجفاف السنين العجاف بلله مطر الحب وأنا تحررت..تحرّرت..