بسم الله الرحمن الرحيم

نشرت مجلة ( الفيصل ) مقالاً بعنوان : (( الخرافة في أذهان الشباب العربي )) (( 1)) .

وقد خلط الكاتب ( أصلحه الله ) بين الخرافة والحقيقة العلمية فاعتبر ( السحر والحسد والعين والجن ) خرافة وساوى بينهما وبين ( المندل والبخت وقراءة الفنجان وتحضير الأرواح ) وغيرهما من الرواسب الخرافية .
والمقال فيه فائدة لولا أن كاتبه دمج الصحيح بالفاسد والحق بالباطل والحقيقة بالخرافة ....!
ولما كان الإسلام ديناً يتعامل مع ( الحقائق العلمية ) ويحارب الخرافة لأنه من الله العليم الحكيم قال تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام )) وإنه تعالى أكلمه ديناً ومنهج حياة قال تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )) .
ولما كان القرآن والسنة المطهرة المصدرين الأساسيين للأحكام والعقيدة وقد نص كل منهما صراحة على ( الجن والشياطين والسحر والحسد والعين ) التي اعتبرها الكاتب خرافة تعشيش في أذهان الشباب العربي يجب تخليص الأذهان منها ....!
لذا أحببت أن أكتب إلى مجلتكم الغراء ( الفيصل ) هذا الرد على المقال المذكور ليصار إلى نشره ويعمم على القراء إذ المقال طعن في صميم عقيدة المسلم وإنكار صريح لما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ( وإن جاء الرد متأخراً ) لكن مثل هذا الموضوع لا يعتريه التقادم وها أنا اقتطف من المقال ما يخص الموضوع لمناقشته , جاء تحت عنوان ( أهداف الدراسة الحقلية ) : ((استهدف التعرف على الخرافات المنتشرة في المجتمع ( المصري واللبناني ) ومقارنتها بمثيلاتها في المجتمعات الأوربية وتناول موضوعات كثيرة ( كتحضير الأرواح والسحر والحسد و المندل والزار والفأل والحظ والبخت واستطلاعها في الصحف والمجلات و قراءة الكف والفنجان ودور الأحجبة والتعاويذ وإطلاق البخور والشعور بالتشاؤم من بعض الأرقام ومن بعض الحيوانات ( كالبوم والغراب والكلاب والقطط ) الإيمان بوجود الأرواح الشيطانية أو الجن , وكذلك مدى الإيمان والاعتقاد بالأمثلة الشعبية الخرافية وبالحظ والصدفة والعين الشريرة .... )) الخ
وفي أماكن أخرى من المقال مثل هذا , لكن يكفينا منه هذا المقطع إذ هو صريح في اعتبار ( السحر والحسد والعين والشياطين والجن ) من جملة الخرافات , بينما هي في الحقيقة حقائق ثابتة لا شك فيها ولا ريب بالدليل القطعي الذي لا شبهة فيه وهو ( القرآن الكريم ) في نصوص قاطعة الورود وقاطعة الدلالة .
ولنناقش كل حقيقة بمفردها مدعومة بالدليل القطعي :
أولاً : الجن :
جاء ذكر الجن في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعاً , من هذه المواضع على سبيل المثال :
قوله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا لعبدون )) , وقوله : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ..)
وقوله سبحانه : (( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ...)) وهناك سورة كاملة اسمها (( سورة الجن ))

ثانياً : الشياطين :
ورد لفظ ( الشيطان ) ومشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من ثمانين موضعاً , قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )) ويقول حل ّ ثناؤه : (( ..... من شر الوسواس الخناس , الذي يوسوس في صدور الناس , من الجنة والناس ))
والذي استغربه حقاً : كيف غاب عن بال الكاتب هذا الحشد من الآيات القرآنية وبأي منطق ساغ لنفسه أن يعتبر ( الجن وأرواح الشياطين ) من جملة الخرافات ويضرب صفحاً عن هذه الآيات الواضحات و البينات القاطعات , وكلها نصوص قاطعة الورود قاطعة الدلالة على وجود ما اعتبره الكاتب خرافة ...!
وليس بعد كلام الله عز وجل كلام ....!
أغلب الظن أنه أنكرهم واعتبرهم خرافة لأنهم خارجون عن حواسه . ومن المعلوم أن هذا لا يكفي ولا يقبل في المحاججة العلمية , لأن القاعدة المعروفة تقول : (( عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود ))
أي عدم رؤيتك للشيء الذي تبحث عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقوداً إذ الموجودات أعم من المشاهدات ...!
وأنا استوقف الكاتب عند هذه الآيات البينات من كتاب الله عز وجل والتي لا تحتمل تأويلاً ولا إنكاراً وهي صريحة كل الصراحة في الوجود هذا العالم الغيبي الذي قال الله عنه (( .... ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين , الذين يؤمنون بالغيب )) , وأريد أن أقول للكاتب : أنه من المعلوم بالضرورة أن العلم أو اليقين بأحد ثلاثة أمور :
1-الخبر الصادق , الذي يتيقن السامع من صدق خبره ( كأخبار الله تعالى وأخبار أنبيائه )
2-التجربة أو المشاهدة بعد التأكد من سلامة التجربة فيما يقع تحت التجربة والاختبار .
3-حكم العقل فيما ليس فيه خبر صحيح ولا تجربة مشاهدة .
ومن إعجاز القرآن أنه وضع هذه القواعد الثلاث للتحقق ( العلم ) أو (اليقين) في هذه الآية الكريمة : (( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه كان مسؤولاً )) , منتمام الإعجاز في الآية أنها جاءت مرتبة هكذا ... الخبر الصادق ( السمع ) ثم التجربة والمشاهدة ( البصر ) ثم المحاكمة العقلية ( الفؤاد ) على أنها هي ( العناصر ) الثلاثة التي يتكون عنها كل علم ولن تجد في الحياة ( علماً ) لا ينشأ عن عنصر من هذه العناصر ...!
ثالثا : السحر :
أما السحر فإن جمهور العلماء أن له حقيقة , وله تأثير استشهدوا على ذلك بعدة أدلة منها :
1-جاء في قوله تعالى : (( سحروا أعين الناس و استرهبوهم و جاؤوا بسحر عظيم )) .
2-قوله تعالى : (( فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه )).
3-قوله تعالى : (( وما بضارين به من أحد إلا بأذن الله )) .
4-قوله تعالى : (( ومن شر النفاثات في العقد )) .
فالآية الأولى : دلت السحر حقيقة بدليل قوله تعالى : (( و حاؤوا بسحر عظيم ))


والثانية : اثبت أن السحر كان حقيقاً حيث أمكنهم بواسطته أن يفرقوا بين المرء وزوجه وإن يوقعوا العداوة والبغضاء بين الزوجين فدلت على أثره وحقيقته .
والثالثة : اثبت أن الضرر للسحر لكنه متعلق بمشيئة الله عز وجل , فلا يضر بذاته .
والرابعة : تدل على عظيم أثر السحر حتى أمرنا أن نتعوذ بالله من شر السواحر والسحرة الذين ينفثون في العقد وفي الحديث الصحيح : (( اجتنبوا السبع الموبقات , قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله والسحر ...)) الحديث , متفق عليه .
فهو إذاً من الكبائر الموبقات ( المهلكات ) ولأن القرآن ذكره في معرض الذم وبين أنه كفر فكان حراماً تعلماً وتعليماً لأن الغاية من تعلمه التواصل إلى العمل به , فمجرد العلم به غير مقصود ولأنه يجر إلى العمل غالباً .
قال أبو حيان الأندلسي : فما كان منه يعظـَّمُ به غُير الله من الكواكب والشياطين فهو ( كفر ) إجماعاً وذهب جمهور العلماء إلى أن عقوبة الساحر القتل لحديث : (( حد الساحر ضربة بالسيف ))((2))
رابعاً : العين والحسد :
نـُذكر الكاتب ( فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) بقول الله تعالى : (( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون , وما إلا ذكر للعالمين )) .
يقول ( القاضي البيضاوي ) في شرح الآية الكريمة وتفسيره لها :
(( إنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني ( أسد ) عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت )) .
ويقول عز وجل (( .... ومن شر حاسدٍ إذا حسد )) , ويقول جل ثناؤه : (( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله )), ومما يجدر التنبيه عليه أن الحسد حرام ومن الكبائر وأنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب , كما جاء في الحديث .
وأما الإصابة ( بالعين ) :
فإننا إذا رجعنا إلى أي كتاب الحديث الصحاح فسنجد الآثار والأخبار كثيرة منها :
(( إن العين لتولـَع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقاً ثم يتردى منه . )) , لأن العائن إذا تكيفت نفسه بكيفية رديئة انبعث من عينه قوة سمية تتصل به فتضره , وقد خلق الله تعالى في الأرواح خاص تؤثر في الأشباح لا ينكرها عاقل ، ألا ترى إلى الوجه كيف لرؤية من يحتشمه ويصفر لرؤية من يخافه ؟ وذلك بتأثير الأرواح ....!
وفي أثر آخر نقرأ (( العين تدخل الرجل القبر وتدخل الجمل القدر )) وهذا ما عليه عامة الأمة ومذهب أهل السنة , ولذلك كان على ( العائن ) أن يتقي الله ويبادر إلى ما يعجبه بالبركة كأن يقول : ما شاء الله أو تبارك الله أو ما شابه ذلك , ويكون هذا رقية منه


ثم لماذا الإنكار واعتبار هذه الأمور خرافة ؟ ونحن نعلم والكاتب يعلم إن في الإنسان طاقات مذخورة لم تكتشف بعد وإنما في طي الغيب , فهذا أحد كبار المختصين في دراسة الإنسان وهو( الدكتور الكسيس كارلايل ) الحائز على جائزة ( نوبل ) في الطب يقول كما نقول وذلك في كتابه ( الإنسان ذلك المجهول ) ودونكم قوله :
(( إننا نجهل الإنسان جهلاً تاماً , معرفتنا بالإنسان كمعرفة الطفل في أعماق البحار ))
والعلماء يكتشفون كل يوم جديداً كان غيباً , ليس بمستعد أبداً أن يأتي العلم في القريب العاجل أو البعيد الآجل ليكتشف هذه الحقائق كلها , الأيام حبالى يلدن كل عجيب .
وقد استشهدت بكلام ( الكسيس كارلايل ) على حد قول الله تعالى : (( وشهد شاهد من أهلها )) , وإلا فنحن المسلمين نستغني بكتاب الله وسنته رسوله عن كل قول آخر , إذ فيهما الغناء كل الغناء (( من أصدق من الله قيلا )) والرسول عليه الصلاة والسلام هو ( الصادق المصدوق )
وإنكار هذه الأمور لمجرد أنها غير مدركة بالحواس طفولية نبرأ كل عاقل يؤمن بالعلم و مستجداته و مفاجآته أن يقع فيها ...!
اكتفي بهذا القدر واسأل الله العظيم للكاتب ولنا الهداية والثبات على عقيدة التوحيد الغراء وإن يجنبنا الزلل في القول والعمل إنه تعالى والعمل إنه تعالى أكرم مسؤول وخير مأمول , والحمد لله رب العالمين

((1)): انظر مجلة الفيصل : العدد (( 153)) ربيع الأول 1410 هـ , بقلم د. عبد الرحمن العيسوي
((2)) : الترمذي والحاكم عن جندب , صحيح , انظر فيض القدير ج3.


سوريا / القامشلي
فاكس / 0096352445588/ خاشع ابن شيخ إبراهيم حقي