النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: صحيفة بِشْر بنِ المُعْتَمِـر

  1. #1 صحيفة بِشْر بنِ المُعْتَمِـر 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    صحيفة بِشْر بنِ المُعْتَمِـر

    د أحمد زياد محبك


    يسعى هذا البحث إلى إعادة النظر في نص قديم موضوعه: "الإبداع"، محاولاً الكشف عن طبيعة فهمه للإبداع، وموقفه منه، وأسلوب معالجته لقضاياه، مستعيناً على ذلك ببعض مصطلحات علم النفس المتعلقة بالإبداع لا لإسقاط قيم معاصرة على نص قديم وإنما لإنصاف نص تنبه النقاد القدامى إلى مافيه من قيم الإبداع وقضاياه، على حين اقتصر المعاصرون على الجانب البلاغي في فهمه، ولتأكيد نمو الجهد النقدي وتطوره في تقدم مستمر .
    ويتألف البحث من قسمين يتم في الأول منهما ربط درس الإبداع بازدهار العلوم والتقدم الحضاري ، ثم التعريف بالنص وصاحبه ، ووضعهما في سياقهما التاريخي، ثم توثيق النص، وتوضيح ما حظي به من اهتمام في الدراسات القديمة والحديثة. وتتم في القسم الثاني دراسة النص بكشف فهمه للإبداع وإظهار تصوّره لعوامله وأوقاته ومنازله، ومقارنته بعد ذلك بغيره من النصوص ،ثم تقويمه ، وتسويغ العودة إليه في النقد المعاصر.
    القسم الاول
    تعريف النص وتوثيقه
    1- دراسة الإبداع والنقد الأدبي :
    إذا كانت دراسة الإبداع قد أصبحت في العصر الحديث مبحثاً من مباحث فلسفة الفن وعلم الجمال، ثم كاد ينفرد بالبحث فيها علم النفس، وعلم الاجتماع، لتصبح بعيدة عن اهتمام النقد الأدبي ونظرية الأدب، فقد كانت تلك الدراسة تمتلك منذ القديم ما يؤهلها لمثل هذا الوضع ، إذ لم يتصدّ لها من النقاد ، إلا مَنْ كان واسع الثقافة، متنوع أشكال المعرفة، ذا اهتمام بالفلسفة والمنطق، واطلاع على علوم عصره ، ولعل في أفلاطون خير مثل لذلك.
    إن دراسة الإبداع أشد تعقيداً من النقد الأدبي، وأكثر منه صعوبة، وهي خطوة تالية له، فيها من العمق والنفاذ أكثر ممّا فيه. فالنقد إذا ماحاول تجاوز التحليل والتفسير والتقويم والحكم، فإنه لايصل إلى أبعد من ربط النص بمجتمعه أو مبدعه، أو مقارنته بغيره، ووضعه في سياقه من تاريخ الأدب، أما دراسة الإبداع فإنها تتجاوز ذلك كله إلى النظر في العملية التي أنتجت النص، بما في تلك العملية من أبعاد نفسية واجتماعية وتاريخية وثقافية، وهي تسعى إلى تكوين رؤية شاملة، تكشف قوانين عملية الإبداع، وشروطها، ودوافعها، ومستوياتها، ودرجاتها، من أجل التحكم بها، والتدريب عليها، والإعداد لها.
    إن في دراسة الإبداع من العقل والمعرفة أكثر مما فيها من الذوق والإحساس، وإن كانت لاتخلو منهما، فهي تقترب من العلم أكثر مما يقترب منه النقد الأدبي، وهي تحتاج إلى أنماط من المعرفة العلمية، أكثر مما يحتاج النقد الأدبي، وإن كانت لاتنتفي عنه مثل هذه الحاجة.
    ولذلك ترتبط دراسة الإبداع بتفتح الثقافة، وازدهار الآداب، ونضج العلوم، وهذا كله لايتحقق إلا في مرحلة من مراحل التقدم الحضاري، على حين لايرتبط الإبداع نفسه بهذا، ولا يتوقف عليه.
    2- بشر بن المعتمر وصحيفته:
    ومن شواهد ذلك في التراث العربي صحيفة مختصرة، لمفكر وأديب عالج فيها قضايا الإبداع، فكشف طبيعته، وحدد شروطه، وصنفه في أنواع، ممثلاً عصره، ومعبراً عما تحقق فيه من تقدم حضاري.
    وصاحب الصحيفة هو بِشْرُ بنُ المُعْتَمِر(1) المتوفَّى عام 210هـ 868م، رأس المعتزلة في بغداد، وزعيم نزعة دعيت فيما بعد "البِشْرية" نسبة إليه، وعمادها آراؤه الخاصة في الاعتزال، من أبرزها قوله بتوالد الأفعال بعضها من بعض، وإجلاله العقل، بل تقديسه، تألق نجمه في عهد الرشيد، وكان له اتصال بالبرامكة، لما يجمعه بهم من تشيّع، برع في الجدال، وامتاز بقوة الحجة، وكثرة الرواية للشعر، وهو من فصحاء المتكلمين وبلغائهم، كان ينظم الشعر في الأغراض التعليمية والفكرية، وقد ذكر ابن النديم في "الفهرست" أنه نقل كثيراً من الكتب إلى الشعر، ولكن لم يحفظ الدهر منها شيئاً، كان يجيد المخمس والمزدوج، وقد روي أنّ إحدى مزدوجاته بلغت أربعين ألف بيت، رد فيها على خصوم المعتزلة، وله قصيدتان ذكر فيهما الحيوان والوحش والطير، وأشار إلى طباعها، واستخلص العظات والعبر، ثم أكد فضل العقل ومكانته، وقد رواهما الجاحظ في كتابه "الحيوان"، جاعلاً إحداهما مفتتح أحد فصول الكتاب، ويبدو أنه كان معجباً به، مُقِرّاً بعلمه.
    3- مكانة الصحيفة عند الدارسين:
    ولا يمكن الادعاء بأن صحيفة بشر مجهولة، أو القول إن أحداً لم يُقَدِّرْها، بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فقد تناقلها من بعد الجاحظ البلغاء والنقاد، ورووها في مصنفاتهم، وتناولوها بالنقد والدرس، سواء من القدماء أو المعاصرين.
    ولكن على الرغم مما حظيت به الصحيفة من اهتمام في الماضي والحاضر، فإن معالجتها قضايا الإبداع لم تُوَفَّ حقها من البحث، بل لم يتنبه إلى هذا الجانب فيها غير قلة، وكانت غالباً ماتُعَدّ في البلاغة فقط.
    أ- الجاحظ وصحيفة بشر:
    والجاحظ هو الذي روى صحيفة بشر في كتابه "البيان والتبيين"، وعنه نقلت، فقد رواها في باب "ذكر ناس من البلغاء والخطباء والأبيناء والفقهاء"(2)، وهو يذكر في هذا الباب ناساً من البلغاء، ويوضح دلائل البلاغة عندهم، ثم يورد آراء كثيرة في البلاغة وتعريفها وتفسيرها، ثم يذكر صحيفة بشر بن المعتمر، وهذا الباب نفسه تال لباب سابق في "البلاغة"(3)، يورد فيه تعريف الفارسي والرومي والهندي للبلاغة، ثم يورد تعريف رجال آخرين، ثم يورد صحيفة مترجمة عن الهندية في البلاغة(4)، ولذلك كله بدت صحيفة بشر كأنها في البلاغة فحسب.
    والذي ساعد على تأكيد ذلك، أن الجاحظ أتبع صحيفة بشر بكلام لبشر نفسه في البلاغة، يتعلق بالموازنة بين أقدار المعاني وأقدار المستمعين، وتقسيم الكلام على أقدار المقامات والحالات، وقد توهم كثيرون، فأتبعوا هذا الكلام بالصحيفة، وعدوه جزءاً منها، ومنهم الدكتور شوقي ضيف، على الرغم من تنبيه الجاحظ إلى الموضع الذي انتهت فيه الصحيفة، بقوله: " فهذا هذا"، وتوضيحه الموضع الذي بدأ فيه رواية كلام جديد لبشر بقوله: و "قال"، وعلى الرغم أيضاً مما بين الصحيفة وقول بشر بعدها من اختلاف واضح في الأسلوب، فبشر في الصحيفة يتوجه بالخطاب إلى المستمع، وهو في القول الذي بعدها يتحدث عن "المتكلم وما ينبغي" مستخدماً ضمير الغائب المفرد، وكلام بشر الذي يرويه الجاحظ عقب الصحيفة هو قوله:
    " ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات. فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إنْ عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحنّ وبها أشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤوساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية مالم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفاً لكل خلف، وقدوة لكل تابع ".
    ومما لاشك فيه أن صلة هذا الكلام بالبلاغة واضحة وكبيرة، ولكن صلته بمعظم الصحيفة وجملتها ليست كذلك، وهذا ماسوف يتضح فيما بعد.
    ب- أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف، وصحيفة بشر:
    وفي العصر الحديث عدّ أحمد أمين، في كتابه "النقد الأدبي" (1952)، صحيفة بشر في البلاغة والنقد معاً، وجعلها من أقوم ماكتب فيهما"، ثم قال: "وربما كان كل ماكتب المسلمون في النقد والبلاغة مؤسساً عليها"، ويبدو أنه يشك في نسبتها إلى بشر، إذ يقول: " ينسب الجاحظ لبشر بن المعتمر صحيفة في البلاغة والنقد"، وهو يورد نصها كاملاً، ويلحق بها كلام بشر الذي جعله الجاحظ في عقب الصحيفة، ولكنه لايدرسها بعد ذلك(5).
    ولقد تأثر الدكتور شوقي ضيف في كتابه "النقد" (1954)، بأحمد أمين، فشك في نسبة الصحيفة إلى بشر، ثم عدّها في البلاغة فحسب، ورأى أن ماتتضمنه من دعوة إلى مطابقة الكلام لمقتضى الحال ليس إلا فكرة مستمدة من "أفلاطون في بعض محاوراته" وهي التي "فصل الحديث فيها أرسطاليس في كتابه "الخطابة"، ويرجّح أن المتكلمين لم يقرؤوا تلك الفكرة "مباشرة في آثار يونانية مترجمة، وإنما سمعوها من المسيحيين والسريان الذين كانوا يجادلونهم، وربما أتتهم من طريق الفرس المتأثرين بالثقافة اليونانية" (6).
    ومن المؤسف أن ينكر الدكتور ضيف على بشر إمكان قوله بمطابقة الكلام لمقتضى الحال، ثم ينسب هذا القول إلى تأثر بشر بأفلاطون، من غير دليل.
    ويبدو أن الدكتور ضيف قد استوثق فيما بعد من نسبة الصحيفة إلى بشر، فرواها كاملة في كتابه "البلاغة تطور وتاريخ" (1965)، وقد أكد أن الجاحظ رواها "تامة غير منقوصة"، وعدّها "خير ماأثر عن المعتزلة في البلاغة"(7)، واستمر في قوله بتأثرها بالثقافة اليونانية، فقد رأى أن بشراً "يرسم في دقة الفكرة اليونانية التي تدعو إلى الملاءمة بين الكلام وأحوال السامعين ونفسياتهم"(8).
    ويتعرض الدكتور ضيف مرة أخرى لبشر بن المعتمر في الجزء الثالث من كتابه: "تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول" (1966) فيشيد بصحيفته، ويعدها في البلاغة، ويرى أنها "تجعله واضع أصولها الأولى في صورتها الدقيقة"(9).
    ويلاحظ أن الدكتور ضيف في كتابه "النقد"(10) ينسب إلى الجاحظ الكلام الذي ألحقه الجاحظ نفسه بصحيفة بشر، على حين يعده في كتابه "البلاغة تطور وتاريخ"(11) جزءاً من صحيفة بشر نفسها.
    ج- الدكتور إحسان عباس وصحيفة بشر:
    وفي الاتجاه نفسه، وهو فهم صحيفة بشر على أساس بلاغي، يقف الدكتور إحسان عباس في كتابه "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" (1971)، على الرغم من حرصه على تبين أسس النقد فيها، لأنه يختصر مافيها من نقد بفكرة التناسب بين المعاني والمستمعين، ويعدها مدار البلاغة، كما يردّها إلى مفهوم البلاغة في الصحيفة الهندية، ثم يرى أن حرص المعتزلة على الجدل الكلامي دفعهم إلى استبانة المقاييس البلاغية والنقدية، وهي عندهم سواء، و" لهذا كان بعض علماء المعتزلة معلمي بلاغة، كما كان سفسطائيو يونان"، ثم يقرر أنه "على هذا النحو يجب أن نفهم دور بشر بن المعتمر وغاية صحيفته"(12).
    ويتضح من تلخيصه الأسس النقدية في صحيفة بشر بفكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومن إحالته إلى الصحيفة في "البيان والتبيين"، من خلال الحاشية ذات الرقم /3/ في الصفحة ذات الرقم /67/ أنه يعد الكلام الذي رواه الجاحظ لبشر بعد الصحيفة، جزءاً من الصحيفة نفسها.
    وبذلك يقتصر الدكتور إحسان عباس على الجانب البلاغي في فهم الصحيفة، معتمداً على ماألحق بها من قول لبشر في البلاغة، وما ورد فيها من القول بمطابقة الكلام لمقتضى الحال، رادّاً إلى هذه الفكرة وحدها جلّ ماجاء فيها من أسس نقدية، وجاعلاً هذه الفكرة نفسها ممثلة لمفهوم البلاغة عند المعتزلة.
    ولا يمكن أن يعدّ الجاحظ في الواقع مسؤولاً عن الاقتصار على الجانب البلاغي في فهم الصحيفة عند الباحثين المعاصرين، لأن البلاغة عند الجاحظ لم تكن تعني ماتعنيه اليوم من ضيق الدلالة على البلاغة، بمعنى البيان والمعاني والبديع، كما لم تكن تعني، كما هو معتقد، فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فحسب، بل كانت تحمل دلالات أوسع يمكن تلمسها من خلال ماأورده الجاحظ نفسه من تعريفات لها كثيرة، فقد كانت تشير في معظمها إلى القدرة على التبليغ بمعنى التوصيل، وما يساعد على ذلك من قدرات، كالإيجاز والفصاحة وقوة الحجة ورواية الأشعار ومطابقة المقال لمقتضى الحال.
    وبهذا المعنى يعد مصطلح البلاغة شاملاً لأمور كثيرة، يمكن أن يكون النقد نفسه من جملتها، ولذلك أورد الجاحظ الصحيفة في سياق حديثه عن البلاغة.
    ويؤكد ذلك كله أن القدماء لم يقتصروا مثلما اقتصر المعاصرون على فهم جانب البلاغة في الصحيفة، بالمعنى الضيق لمصطلح البلاغة، بل تنبه القدماء إلى مافي الصحيفة من معالجة لقضايا الإبداع، وفهموها على هذا النحو، ويوضح ذلك طبيعة استخدامهم لها، ونوع السياق الذي كانوا يعرضونها من خلاله.
    د- أبو هلال العسكري وصحيفة بشر:
    لقد أورد أبو هلال العسكري (المتوفى عام 395هـ) في كتابه "الصناعتين" نص الصحيفة كاملة (13)، وكان ذلك في الباب الثالث، وعنوانه: "في معرفة صنعة الكلام وترتيب الألفاظ"، وفي الفصل الأول منه، وعنوانه: "في كيفية نظم الكلام".
    ولئن دل ذلك على شيء، إنما يدل على تنبهه إلى مافي الصحيفة مما يتعلق بعنوان الفصل الذي روى فيه الصحيفة، وعنوان الباب الذي يندرج فيه الفصل.
    والأمر لايقف بعد ذلك عند الاستدلال فحسب، بل يتجاوزه إلى مضمون الفصل نفسه، والعسكري يفتتحه بكلام له، يتعلق بالإبداع، أو صنعة الكلام، يستفيد فيه من صحيفة بشر، ويقلده، ولكنه لايجاريه، ولا يستطيع بلوغ شأوه، ويتضح ذلك كله في قول العسكري:
    " إذا أردت أن تصنع كلاماً فأخطر معانيه ببالك، وتنوق له كرائم اللفظ، واجعلها على ذكر منك، ليقرب عليك تناولها، ولا يتعبك تطلبها، واعمله مادمت في شباب نشاطك، فإذا غشيك الفتور، وتخونك الملال فأمسك، فإنّ الكثير مع الملال قليل، والنفيس مع الضجر خسيس، والخواطر كالينابيع يسقى منها شيء بعد شيء، فتجد حاجتك من الري، وتنال أربك من المنفعة، فإذا أكثرت عليها نضب ماؤها، وقلَّ عنك غناؤها. وينبغي أن تجري مع الكلام معارضة، فإذا مررت بلفظ حسن أخذت برقبته، أو معنى بديع تعلّقت بذيله، وتحذّر أن يسبقك فإنه إن سبقك تعبت في تتبعه، وتعبت في تطلبه، ولعلك لاتلحقه على طول الطلب، ومواصلة الدأب"(14).
    ويورد العسكري بعد ذلك صحيفة بشر، كما رواها الجاحظ، ولكن مع قليل من الاختلاف في بعض الألفاظ، وترتيب بعض المقاطع.
    ويلاحظ أن العسكري يدخل في الصحيفة كلام بشر في البلاغة والذي كان الجاحظ قد ذكره عقب الصحيفة، ولكن بعد أن يغير في روايته، ويحوّر فيه، فيجعله في صيغة الخطاب للمستمع، ليتسق والصحيفة.
    ولا يظن أن ذلك راجع إلى أن العسكري وقف على نسخة أخرى من صحيفة بشر، فيها مثل ذلك التعديل والاختلاف في الألفاظ وترتيب المقاطع، لأن العسكري لم يشر إلى شيء من ذلك. وربما كان من فعل النسّاخ بعد العسكري.
    هـ- ابن رشيق القيرواني وصحيفة بشر:
    ويروي ابن رشيق القيرواني (المتوفى عام 456هـ) صحيفة بشر بن المعتمر في كتابه "العمدة" (15)، وهو يوردها كما رواها الجاحظ، من غير اختلاف في الألفاظ، ولا تعديل في ترتيب المقاطع، عدا بضع كلمات يتضح أن الخلاف فيها من صنع النسّاخ أو بسبب التحقيق، وهو لايضيف إليها الكلام الذي يرويه الجاحظ لبشر في البلاغة عقب روايته الصحيفة.
    وفي رواية ابن رشيق للصحيفة مايرجّح انتهاءها عند الموضع الذي تمّت الإشارة إلى انتهائها عنده، على الرغم من تأخر القيرواني عن العسكري، وبعده عنه في المكان، لأن رواية القيرواني تكاد تكون مطابقة لرواية الجاحظ.
    والقيرواني بعد ذلك يروي الصحيفة في "باب عمل الشعر وشحذ
    القريحة له" (6)، وهو يذكر قبل روايتها أموراً كثيرة تتعلق بما يعرض للشاعر من حالات يعزّ فيها قول الشعر، وما يحاوله من وسائل لاستدعائه، كخلوة ذي الرمة بذكر الأحباب، وطواف كثير عزة في الرياض المعشبة، وإكراه أبي تمام نفسه عليه حتى يظهر ذلك في شعره، ثم يورد بعد ذلك صحيفة بشر، ويتبعها برأيه في أحسن مااستعان به شاعر، فيقول: "حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب، ثم يأخذ فيما يريده"(17).

    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    وواضح أن القيرواني قد تنبّه إلى معالجة صحيفة بشر قضايا الإبداع، وأدرك ذلك بجلاء، فوضعها في الباب الذي يمكن أن توضع فيه.
    وفي تنبه العسكري والقيرواني إلى مافي صحيفة بشر من القضايا مما يتعلق بصنعة الكلام، مايسوّغ إعادة النظر فيها من خلال هذه الزاوية، ودرسها دراسة جديدة.
    4- مناسبة الصحيفة وطبيعتها:
    والجاحظ يقدم للصحيفة بتمهيد يذكر فيه أن بشر بن المعتمرمرّ "بإبراهيم ابن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب، وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد، أو ليكون رجلاً من النظارة، فقال بشر: "اضربوا عما قال صفحاً، واطووا عنه كشحاً "، ثم دفع إليه صحيفة من تحبيره وتنميقه"(18).
    وفي التمهيد دلالة على مايمتاز به بشر من رفض للتقاليد الثابتة، وإنكار لطرق التعليم الشائعة، وحرص على تقديم ماهو جديد، وهذا كله يشير إلى عقل حصيف، لايطمئن إلى سكون، بحثاً عن التغيير. وفي التمهيد دلالة أيضاً على جرأة بشر وثقته، فهو يتدخل في مجال يدرك أنه أهل للتدخل فيه، والخوض في أموره، سعياً منه إلى التطوير، وتحقيق معنى الحرية، في القول والفعل، وفي ذلك كله مايشف عما في نفس بشر من حساسية للمشكلات sensetivity to problems "وهي من أبرز سمات الشخص المبدع الذي يستطيع رؤية كثير من المشكلات في الموقف الواحد فهو يعي الأخطاء، ونواحي النقص والقصور، ويحس بالمشكلات إحساساً مرهفاً " (19).
    وفي إشارة الجاحظ إلى أن بشراً قد دفع إلى الفتيان صحيفة من تحبيره وتنميقه، مايدل على أن كلام بشر كان مدوّناً في قرطاس، ولم يلق شفاهاً، ولذلك فهو "صحيفة"، وهي طريقة العلماء الذين يقيدون العلم، حتى يحفظ. وفي هذا مايطمئن إلى أن نص الصحيفة المرويّ في "البيان والتبيين" هو كلام بشر نفسه، كما حبّره في صحيفته ونمقه، لفظاً ومعنى، وليس من تأليف الجاحظ.
    ولو أن بشراً ألقى كلامه على الفتيان ارتجالاً، ثم دوّن فيما بعد، لوصف كلامه بأنه خطبة أو إملاء، ولما وصف بأنه صحيفة، ومما يؤكد ذلك ويقوّيه قول القيرواني: "صحيفة كتبها بشر بن المعتمر”(20).
    وإلقاء بشر صحيفته على فتيان في حلقة تعليم يدل على ثقته بجدوى التعليم، ووعيه ورسالته فيه، وحرصه على القيام بواجبه نحوه، وهو لايعلم الفتيان أموراً عادية، وإنما يعلمهم أموراً معقدة، تتصل بالإبداع، مما يدل على ثقته بإمكان تعليم الإبداع والتدريب عليه، أو الإرشاد إلى بعض أساليبه ووسائله، وفي هذا مايدل على امتلاك بشر نظرة علمية موضوعية للإبداع، وهي النظرة التي ستؤكدها الصحيفة نفسها، بما فيها من آراء في الإبداع، ماكان من الممكن أن يصل بشر إليها، لولا امتلاكه مثل تلك النظرة.

    القسم الثاني
    دراسة الصحيفة وتحليلها
    والصحيفة تتضمن معالجة عامة لبعض قضايا الإبداع، وهي مقسمة تقسيماً عقلياً إلى قسمين واضحين، أولهما يعنى فيه بشر بوقت الإبداع، ويتعرض فيه لعوامله، والثاني يعنى فيه بمنازل الإبداع، ويتعرض فيه أيضاً لأصناف المبدعين، وهو يلجأ إلى التقسيم الواضح المرقوم، والتصنيف التفضيلي.
    5- وقت الإبداع وعوامله:
    وأول مايعنى به بشر هو وقت الإبداع، وهو عنده وقت عملي، وليس وقتاً زمنياً، والقيمة فيه للفعل والإنتاج، وليس لطول الزمن أو قصره، أو كثرة الجهد أو قلته، ولربّ ساعة عمل أعطت أكثر مما يعطي عمل يوم، بل ربما أعطت أفضل مما يعطي.
    وهو يستند في تأكيد ذلك إلى عوامل الإبداع نفسها، وهي عنده ثلاثة عوامل:
    1- النشاط
    2- فراغ البال
    3- إجابة النفس.
    فالإبداع لايقوم على قوة الجسم والعقل، واستعداد كل منهما، فحسب، وإنما يقوم على إجابة النفس أيضاً، أي مطاوعتها، وهي التي تساعد على إنجاز أفعال في ساعة النشاط وفراغ البال أكثر وأفضل مما يمكن إنجازه، في حالة غيابها، ولو بطول الزمن ووفرة الجهد.
    وهو لايوضح ذلك من خلال البسط والتفصيل والشرح، وإنما يؤكده تأكيداً من خلال التلقين المباشر، بالوعظ الخطابي، والتعليل التفضيلي، وهذا راجع إلى اعتداده بالعقل، وتقديسه له، ولذلك فهو يتوجه إليه، وإن كان هذا التوجه لايتفق وموقفه التربوي، وهو يلقي الكلام على الفتيان. ويتضح ذلك في قوله:
    " خُذْ مِنْ نفسِك ساعة نشاطِك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإنَّ قليلَ تلك الساعةِ أكرمُ جوهراً، وأشرفُ حسباً، وأحسَنُ في الأسماعِ، وأحلى في الصدورِ، وأسْلَمُ مِنْ فاحِشِ الخَطاءِ، وأجلَبُ لكلِّ عَيْنٍ وغُرَّةٍ مِنْ لفظٍ شريفٍ ومعنى بديعٍ.
    واعلمْ أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومُك الأَطْولُ، بالكَدِّ والمُطَاولة والمجاهدة، وبالتكلُّفِ والمُعَاودة، ومهما أخطأك لمْ يُخْطِئْك أنْ يكونَ مقبولاً قَصْداً، وخفيفاً على اللسانِ سهلاً، وكما خَرَجَ مِنْ يُنبوعِه، ونَجَم مِنْ مَعْدِنِه.
    وإيّاك والتوعُّر، فإنَّ التوعّرَ يُسْلِمُكَ إلى التعقيدِ، والتعقيدُ هو الذي يستهلِكُ مَعَانِيَك، ويشينُ ألفاظَك "(2).
    إن إجابة النفس عند بشر خير من "الكد والمطاولة والمجاهدة، والتكلف والمعاودة" ولذلك يفتتح المقطع الأول من صحيفته بالحض على الاستفادة من ساعة النشاط وفراغ البال وإجابة النفس، فيقول: “خذ”، ويختتم المقطع بالتحذير من التوعر، فيقول: " وإياك والتوعر".
    وفي إنكار بشر التوعّر والتعقيد وخفضه من قيمة الكد والمطاولة والمجاهدة، ماينبئ بفهمه الإبداع على أساس مما هو نقيض لما ينكره ويخفض منه، وما ذلك الأساس إلا الإجابة، لأن المعاودة والتكلف والكد والمجاهدة تكون مع النشاط وفراغ البال، ولا تكون مع الإجابة.
    ولذلك يمكن القول إن العامل الأول عند بشر في الإبداع هو الإجابة.
    ومثل هذا الفهم لطبيعة الإبداع من مفكر معتزل يقدس العقل، ويعلي من قيمته، يدل على وعي منه وتبصر، إذ المتوقع ممن يقدس العقل أن يرد الإبداع إلى الكد وطول النظر والمعاودة، لا إلى إجابة النفس.
    ولعل في تصور بشر أن عمل ساعة مع الإجابة يعطي أفضل وأكثر مما يعطي عمل يوم مع الكد والمطاولة ولكن من غير إجابة، مايتفق مع مايتصوره علماء النفس المعاصرون للإبداع من عوامل أبرزها مايدعونه الطلاقة fluency ويعنون به " المقدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار الإبداعية، فالشخص المبدع شخص متفوق من حيث كمية الأفكار التي يقترحها عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة بالمقارنة بغيره"(22).
    ثم يشترط بشر ضرورة الوفاء بحق الغرض، إذا تصدّى له المرء، والقيام به على خير وجه، وحسن الانتقال إليه، وإلباسه لبوسه، وصيانته عما يفسده، كي لاينقلب من بعده إلى حالة هي أسوأ من الحالة التي كان عليها قبل أن يتصدّى لذلك الفرض، لأن سوء حالته قبل تصدّيه له لايعلم به أحد، أما سوء حالته بعده فواضح ومكشوف.
    وما قيام المرء بحق الفرض على خير وجه، منتقلاً بذلك من حالة سابقة كان فيها إلى حالة جديدة، إلا دليل قدرته على التوافق مع الحالة الطارئة، وهو مايدعوه علماء النفس مرونة flexibility وهي تعني " درجة السهولة التي يغير بها الشخص موقفاً أو وجهة عقلية معينة "(23). أو "القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغيّر الموقف"(24).
    وبذلك يكشف بشر عن عامل جديد في الإبداع هو المرونة، يضيفه إلى العوامل السابقة، وهي النشاط وفراغ البال، وإجابة النفس، وكان الأخير منها أكثر بروزاً عنده وأكثر أهمية.
    " ومَنْ أراغَ معنى كريماً، فَلْيَلْتَمِسْ له لفظاً كريماً، فإنَّ حقَّ المعنى الشريفِ اللفظُ الشريفُ، ومِنْ حقِّهما أنْ تصونَهما عما يُفسِدُهما ويهجِّنُهما، وعمّا تَعُودُ مِنْ أجْلِهِ أنْ تكونَ أسوأَ حالاً منكَ قبلَ أن تلتَمِسْ إظهارَهما، وتَرْتَهِنَ نفسَك بمُلابَسَتِهما وقضاءِ حقِّهما.
    فكُنْ في ثلاثِ منازلَ، فإنَّ أولى الثلاثِ أنْ يكونَ لفظُكَ رشيقاً عَذْباً، وفخْماً سهلاً، ويكونَ معناكَ ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، إِمّا عندَ الخاصّةِ إنْ كنتَ للخاصّةِ قَصَدْتَ، وإمّا عندَ العامّةِ إنْ كنتَ للعامَّةِ أردْتَ.
    والمعنى ليس يَشْرُفُ بأنْ يكونَ مِنْ معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضِعُ بأنْ يكونِ مِنْ معاني العامّة، وإنما مَدارُ الشرفِ على الصواب وإحرازِ المنفعةِ، مع موافقةِ الحالِ، وما يجبُ لكلِّ مقامٍ من المقالِ، وكذلكَ اللفظُ العاميُّ والخاصيُّ " (25).
    6- اللفظ والمعنى:
    ويبدو من الصعب الاقتصار في فهم مصطلحي اللفظ والمعنى على مايدلان عليه دلالة أولية من ألفاظ نص ما ومعانيه، سواء أكان قصيدة أو خطبة، أو غير ذلك من فنون القول، ولا بد من فهم هذين المصطلحين من سياق الصحيفة كلها، وما ترتبط في مجملها العام من معالجة لوقت الإبداع وعوامله، وهو مايفتتح به بشر صحيفته، كما لابد من فهم باقي المصطلحات الواردة فيها على مثل هذا النحو.
    إن بشراً يؤكد أن شرف المعنى واللفظ ليس " بأن يكون من معاني الخاصة " أو ألفاظهم، وإنما هو بتحقيق "الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من مقال". وواضح أن الشرف في هذا السياق لايعني قيمة اجتماعية أو خلقية، وإنّما يعني قيمة فنية، وهي العلو والسمو والمنزلة الرفيعة، ودليل ذلك أن شرف المعنى كما يقول بشر: “ ليس بأن يكون من معاني الخاصة”، “وليس يتضع بأن يكون من معاني العامة"، وواضح بعد ذلك أيضاً أن "الصواب" لايعني الدقة في التعبير وإصابة المعنى، فحسب، بل يعني ماهو أوسع من ذلك وأشمل، ليدل على صدق التعبير عن التجربة، كما أن "إحراز المنفعة" يتجاوز الدلالة اللغوية الضيقة إلى الدلالة النقدية الواسعة ليشمل في بعض مايشمل الوصول إلى المتلقين والتأثير فيهم، وقياساً على ذلك يمكن القول إن "موافقة الحال" تعني أيضاً مناسبة التعبير للتجربة واختيار الشكل المناسب لها لتحقيق الوحدة، أما “مايجب لكل مقام من مقال” فيدل على مايجب الارتباط به من قضايا طارئة لتلبية حاجات المقام، الذي لايعني المكان فحسب، بل الناس الذين هم فيه، وزمنهم، وما في ذلك كله من مشكلات وموضوعات.
    وإذن، شرف المعنى واللفظ، أو المكان الأعلى فيهما، يتأتى من القدرة على صدق التعبير عن التجربة، للتأثير في المتلقين والوصول إليهم، باختيار مايحقق وحدة التعبير، وما يعبر عن روح العصر، ويتّفق وحاجات الناس ومشكلاتهم.
    ومن ذلك يمكن القول إن مصطلحي اللفظ والمعنى في صحيفة بشر يتجاوزان في دلالتهما مجموع المعاني الواردة في نص ما، ومجموع كلماته وجمله وتعبيراته، إلى الدلالة على الموقف العام في النص، والرؤية التي يتضمنها، وطبيعة التجربة التي يعبر عنها، والمجال الذي يلقى فيه، وما يتعلق بذلك كله من وسائل التعبير وأشكاله وبنيته ومذاهبه واتجاهاته، وصلة ذلك كله بعصره وعلاقته به.
    إن مصطلحي اللفظ والمعنى ليسا إلا صيغة اصطلاحية قديمة، توازي في قيمتها الدلالية والتاريخية والنقدية صيغاً اصطلاحية جديدة. وبُعْدُ الصيغة الاصطلاحية القديمة عن العصر والاستعمال النقدي، يسقط عنها كثيراً من دلالاتها النقدية، ليحتفظ بأبسط دلالاتها المعجمية وأكثرها قرباً، فالقارئ المعاصر يجد في مصطلح "البناء الفني" من الدلالات النقدية أكثر مما يجد في مصطلح “اللفظ”، الذي لايكاد يوحي بغير دلالته اللغوية البحتة. وهذا مايضعف من قيمة نص نقدي قديم في عين قارئ معاصر غير متصل بالتراث، ولذلك يبدو فهم نص قديم على أسس من النقد الحديث أمراً مسوغاً بل ضرورياً، من أجل الكشف عما في التراث من قيم نقدية، بعضها يعبِّر عن مرحلته التاريخية، ويتصل بها فقط، وبعضها الآخر أكثر عموماً، وأكثر تطوراً، يؤهله لأن يرتبط ببعض القيم المعاصرة.
    إن اختلاف الصيغة الاصطلاحية بين القديم والجديد لاينفي أن الصيغة القديمة كانت تحمل لدى أصحابها من الدلالات بعض ماتحمله الصيغة الجديدة، لأن هذه الدلالات قائمة في الأدب كله على مر العصور، ومعظم دلالات المصطلحات الجديدة مستمدة من الأدب القديم، ويضرب لها المثل به.
    وإن لدى الأقدمين غالباً من شمول الرؤية، وعموم التفكير، مايؤهلهم للخوض في معظم قضايا الإنسان في عصرهم، بعيداً عن التخصص في مجال محدود، ولذلك تتسم معظم نتائجهم بالشمول، ويتخذ التعبير عنها صيغة العموم، ومن هنا يمكن تفسير بعض مايصلون إليه وفق بعض ماينفذ إليه الدارسون المعاصرون من نتائج، وهي من غير شك أكثر دقة وضبطاً، وأكثر علمية ووضوحاً، ولكن مثل ذلك التفسير لايمكن أن ينكر، ولا سيما في الإنسانيات، وفي مقدمتها الأدب والنقد الأدبي.
    7- البلاغة والتوصيل:
    ولذلك يمكن القول إنّ بشراً يلح على قضية التوصيل Communication والتأثير في المتلقين، ودور المبدع فيهم، بما يمتلك لذلك من وسائل، وهو مايوحي به قوله:
    " فإنْ أمكنَك أنْ تَبْلُغَ مِنْ بيانِ لسانِك، وبلاغَةِ قلمِكَ، ولُطْفِ مداخِلِكَ، واقتدارِك على نفسِك، إلى أنْ تُفْهِمَ العامَّة معانيَ الخاصة، وتكسُوَها الألفاظَ الواسِطة التي لاتلطُفُ عنِ الدهماءِ، ولا تجفو عنِ الأَكْفَاءِ، فأنتَ البليغُ التامُّ “ (26).
    وفي اعتقاد بشر أن بإمكان البليغ إفهام العامة معاني الخاصة، مايدل على تجاوزه القول بجعل الكلام على أقدار المستمعين، أي إنه يخالف بذلك الكلام الذي رواه الجاحظ عنه عقب الصحيفة، ومنه قوله: “ ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات “(27). وفي هذا مايؤكد ماتقدم من أن الكلام الملحق بالصحيفة ليس جزءاً منها، وإنما هو كلام لبشر قيل في موضع آخر، ومناسبة أخرى.
    ولعل بشراً كان لايعني بالكلام الملحق بالصحيفة غير المتكلمين، حتى يحذرهم من استخدام مصطلحات المنطق وعلم الكلام في خطاب العامة، وهو مايؤكده قوله: "فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين"(28).
    ولئن دل ذلك على شيء، إنما يدل على مرونة بشر، وسعة فهمه لمعنى البلاغة، وعدم تقيده بمعنى واحد لها، وعدم تقيده أيضاً بما جاء من معناها في الصحيفة الهندية، ولا سيما مايتعلق بموافقة الكلام لمقتضى الحال، وهو ماتعبر عنه الصحيفة من وصف البليغ بأنه: " لايكلم سيّدَ الأمَةِ بكلام الأمَةِ ولا الملوك بكلام السوقة "(29).
    وتأكيدها بعد ذلك أن “مدار الأمر على إفهام كل قوم بمقدار طاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم"(30).
    8- منازل الإبداع وأصناف المبدعين:
    وبشر لايستند بعد ذلك في تقدير المنزلة الأولى في الإبداع إلى فكرة التوصيل والتبليغ والتأثير فحسب، وإنما يستند أيضاً إلى قيم أخرى أكثر ارتباطاً بعملية الإبداع، وهي العفوية والتلقائية.
    إن المنزلة الأولى في الإبداع عند بشر لاتكون إلا في أول النظر وأول التكلف وأول وهلة، ولا تكون إلا بالسماح والمواتاة واللطف، أما مايكون من الإبداع بعد جهد وتكلف ومعاودة، فهو في المنزلة الثانية.
    وقد يبدو مثل ذلك الفهم للمنزلتين عند بشر أولياً وساذجاً، ولكنه في الحقيقة دقيق ومتميز، يكشف عن إدراك واضح للعمليات النفسية الكامنة وراء فعل الإبداع، كما يكشف عن استعمال واع للمصطلحات الدالة عليها.
    يقول بشر:
    " فإنْ كانتِ المنْزِلَةُ الأولى لاتواتيك ولا تعتريك ولا تَسْمَحُ لك عندَ أولِ نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظةَ لم تقعْ موقعَها ولم تصرْ إلى قرارِها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافيةَ لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تتصلْ بشِكْلِها، وكانت قَلِقَةً في مكانِها، نافِرةً مِنْ موضعِها، فلا تُكْرِهْها على اغتصاب الأماكِنِ، والنزولِ في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاطَ قرض الشعر الموزون، ولم تتكلّف اختيار الكلام المنثور، لم يَعِبْك بتركِ ذلك أحد. فإنْ أنت تكلفتَهما ولم تكنْ حاذقاً مطبوعاً ولا مُحْكِماً لشأنِكَ، بصيراً بما عليك ومالك، عابَك مَنْ أنت أقلّ عيباً منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك"(31).
    وإذن، فالإجابة هي الأساس، وفرق بعد ذلك بين مواتاة تكون عند أول وهلة، وهي المنزلة الأولى، وإجابة تكون بعد معاودة، وهي المنزلة الثانية.
    يقول بِشْر:
    “ فإن ابتليتَ بأن تتكلّف القولَ، وتتعاطى الصنعةَ، ولم تسمحْ لك الطباعُ في أول وهلة، وتعاصى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تَعْجَلْ ولا تَضْجَرْ، ودعْهُ بياضَ يومِك، وسوادَ ليلتِك، وعاودْه عند نشاطك وفراغِ بالِك، فإنك لاتَعْدَمُ الإجابةَ والمواتاةَ، إنْ كانت هناك طبيعةٌ، أو جَرَيْتَ من الصناعةِ على عِرْق"(32).
    إن المنزلة الثانية في الإبداع ليست مناقضة للمنزلة الأولى، ولا مختلفة عنها اختلافاً كبيراً، إذ لابد لكلتيهما من النشاط وفراغ البال وإجابة النفس، والفرق بينهما قائم في التلقائية والعفوية.
    وفي حاجة أصحاب المنزلة الثانية إلى شيء من الراحة وادخار الطاقة لحصول المواتاة وتحقيق الإجابة، مايدل على أن لديهم نقصاً في كمية النشاط وفراغ البال وإجابة النفس، وهذا النقص هو الذي لايمكنهم من الإبداع عند أول وهلة، فيضطرون إلى الراحة، لتجميع القوة، وتعويض النقص.
    وإذن فالاختلاف في منازل الإبداع لايرجع إلى اختلاف في نوع القوة، وإنما يرجع إلى كميتها، ودرجات قوتها، وقدرة ممتلكيها على تنميتها وتطويرها والإفادة منها.
    ولأجل هذا يتصدى بشر للحديث عن الإبداع وأوقاته ومنازله، أي ليساعد على تعلمه، أو على التدريب عليه، وحسن استثماره.
    وحين يميز بِشْر بين منزلتين في الإبداع على أساس من العفوية والتلقائية، فإنما يميز في الواقع بين صنفين من المبدعين، صنف يتحقق لديه الإبداع عفواً، وصنف يتحقق لديه الإبداع تكلفاً، ومثل هذا التصنيف على بساطته يتفق مع مايلجأ إليه علماء النفس المعاصرون من تصنيف المبدعين إلى نوعين، صنف يعتمد على التلقائية، وصنف يعتمد على الإرادة.
    " ولو حاولنا أن نتأمل فيما تركه لنا الفنانون والعلماء من سير ذاتية أو ماكتب عنهم، أو فيمن يحيط بنا من المعاصرين لنا من هؤلاء الفنانين والعلماء، لوجدنا بينهم من يمثل كلاً من الحالتين، فهناك كثير من الأدباء والفنانين يتميزون بالتلقائية في إنتاجهم الذي يأتيهم غالباً في شكل لحظات إلهام فجائية، كما أن هناك طرازاً آخر لايصل إلى إنتاجه الفني إلا بالدأب والإرادة والجهد في المراجعة " (33).
    9- مرحلة الاحتضان:
    ولا بد من الإشارة إلى نصيحة بشر للمبدع بترك الأمر إذا هو لم يواته، إلى أن تستريح نفسه وتطمئن، وتستعيد قواها، فتنشط له ثانية، فتكون الإجابة والمواتاة. ومن الممكن القول إن في تلك النصيحة ماقال به علماء النفس من مراحل الإبداع، وأبرزها، مما يلتقي به بِشْر، مرحلة الاحتضان incubation وهي مرحلة “ تتيح للمبدع أن يحرر تفكيره من إطار النسق القديم الثابت للأفكار والآراء التي تعوق التفكير أحياناً في الأفكار الجديدة التي لاتتفق مع هذا النسق القديم، وكذلك فإنها تعمل على التقليل من تركيز الانتباه على المشكلة مما يساعد على تفكيك عناصرها وعلى إبراز بعض العناصر دون غيرها، إذ من المعروف أن العدول عن التفكير في مشكلة ما حيناً من الوقت يحرر الذهن من الوجهة العقلية القديمة التي كان ينظر بها إلى المشكلة ويعيد إليه نضارته بحيث يصبح قادراً على إدراك عناصرها الجديدة التي برزت في صورة جديدة… وهنا يسطع نور الاستبصار… وهو مرادف للإلهام أو لحظة الإشراق "(34).
    ومما لاشك فيه أن بِشْراً لم يكن يعني مايعنيه علماء النفس اليوم بمرحلة الاحتضان، بما تتضمن من دقة ووضوح في المعنى، ولكن تنبّهه إلى الحاجة للراحة، حتى تعود الإجابة، يُعَدُّ دليلاً على درسه الإبداع درساً عقلياً، وقدرته على تلمّس مافيه من مراحل.
    10- المنزلة الثالثة في الإبداع:
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    أما المنزلة الثالثة في الإبداع، والتي يذكرها بِشْر، فهي تتعلق في الواقع بنوع آخر من أنواع الإبداع، لاعلاقة له بالأدب، إذ يرى المنزلة الثالثة في انصراف النفس إلى مجال آخر للإبداع، تميل إليه وتهواه، لايتعلق بالمنزلتين الأولى والثانية، كما لايتعلق بالأدب، وذلك حين لايمكن تحقيق الإبداع في الأدب عفواً ولا تكلفاً، ولو بعد حين من الاستراحة.
    يقول بِشْر:
    " فإنْ تمنّعَ عليك بعد ذلك من غير حادث شُغْلٍ عَرَضَ، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحوّلَ من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك، فإنّك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لايحنّ إلا إلى مايشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات، لأن النفوس لاتجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة " (35).
    وواضح أن بِشْراً لايرى الإبداع في الأدب فقط، وإنما يراه في غيره من ميادين العمل، والذي هو مثلها، فهو صناعة كسائر الصناعات، وإن كان يعد الإبداع في الأدب من أول أصناف الإبداع، وليس هذا غريباً عليه، وهو المعتزلي الذي يعتد بالعقل ويقدسه، كما أن هذا ليس بضائره في شيء، لأنه في الواقع لايسقط عن ميادين العمل الأخرى صفة الإبداع، وإنما يعدها ضرباً منه، ويشترط لها مثل الذي يشترطه للإبداع في الأدب نفسه، من الشهوة والمحبة، والرغبة والميل، أي إن تلك الصناعات لاتختلف عن الأدب في النوع، وإنما في المنزلة، أو الدرجة.
    ووفقاً لرأي بِشْر يمكن القول إن المبدعين أو العاملين في ميادين الصناعات الأخرى، غير الأدب، مثلهم كمثل المبدعين في ميدان الأدب، والفرق بين هؤلاء وأولئك ليس في امتلاك أحد الفريقين قوى خارقة، وعدم امتلاك الفريق الآخر مثل هذه القوى، إنهم متفقون جميعاً على امتلاك قوى الإبداع وعوامله، من نشاط وفراغ بال وإجابة نفس، ولكنهم مختلفون بعد ذلك في شهوة النفس في هذا الميدان أو ذاك، وقدرتها على العمل فيه بقدر أكبر من العفوية والتلقائية.
    يؤكد ذلك أن الفرق بين المبدعين في المنزلة الأولى والمبدعين في المنزلة الثانية ليس في غياب شيء من النشاط أو فراغ البال أو إجابة النفس أو الشهوة والرغبة، وإنما الفرق قائم في العفوية والتلقائية، فأصحاب المنزلة الأولى يبدعون عن أول وهلة وأول النظر وأول التكلف، وأصحاب المنزلة الثانية يبدعون بعد تكلف واصطناع ومعاودة.
    وفي تعليق بشر الإبداع عامة على الشهوة والمحبة، وإعلائه لهما على الرغبة والرهبة، مايدل على ربط الإبداع في الدرجة الأولى بأقصى درجات الانفعال والهوى، وهو موقف يحمد له، لأنه معتزلي يقدس العقل، ويقدر بعد ذلك الهوى ويراه أساساً في الإبداع.
    وتأكيد بشر دور الهوى والميل والرغبة في الإبداع، هو دليل استبطان ذاتي، وتأمل في داخل النفس، والغوص في أعماقها، للوصول إلى طبيعة الإبداع، وعدم الاعتماد على العقل وحده.
    11- الإبداع فعل إنساني، وليس إلهاماً :
    ويتضح من كلام بشر إدراكه الشروط الموضوعية التي تساعد على الإبداع، من نشاط وفراغ بال وإجابة نفس، أو التي تعيقه من حادث شغل عرض، وطول إهمال، كما يتضح إدراكه أن الإبداع كامن في النفس، من الممكن استعادته ثانية، بعد قسط من الراحة، والعودة إليه عند الإجابة والمواتاة، فالإبداع عند بشر حالة فعل إنساني، يباشرها الإنسان بنفسه، وتقوم على العمل والصنعة والتكلف، وتحتاج إلى قوة ونشاط وفراغ بال وإجابة نفس، وليس الإبداع عنده حالة تلقّي الإلهام، تقوم على الانجذاب والغيبوبة والاستلاب، وتحتاج إلى رقية أو سحر كيما تستحضر.
    ولبيان فهم بشر لعملية الإبداع يحسن قرنه بفهم أفلاطون ليتضح مابينهما من فرق، يقول أفلاطون (المتوفى 347 ق.م): " إن جميع فحول الشعراء، ملحميين كانوا أو غنائيين، لايصدرون في نظم قصائدهم الرائعة عن فن، بل لأنهم ملهمون أو متبوعون، إذ إن الشاعر كائن أثيري مجنّح مقدس، وليس له قدرة على الخلق إلا إذا هبط عليه الإلهام وتعطلت حواسه وباينه عقله، ودون أن يصل إلى هذه الحالة يظل دون حَوْل، عاجزاً عن التفوه بملهماته. وما أكثر الكلمات النبيلة التي يتلفظ بها الشعراء متحدثين عن البشر، ولكنهم لايتحدثون عنهم معتمدين على قاعدة من قواعد الفن، بل إنهم أُلهموا النطق بما توحيه إليهم ربات الشعر إذ إن الشاعر لاينطق عن فن بل بقوة من السماء، فلو أنه اكتسب علمه عن طريق قواعد الفن لاستطاع أن ينظم في كل الأنواع لانوع واحد وحسب. وهكذا يذهب الإله بعقول الشعراء ويصطنعهم وسطاء له، كما يصطنع العرّافين والأنبياء المقدسين" (36).
    ولكي تتضح قيمة النظرة التي يحملها بِشْر إلى عملية الإبداع يكفي القول" إنه لطالما أضفى الناس على هذه العملية وعلى مايحدث خلالها من إلهام أوصافاً جعلتها أقرب إلى السحر، وتصوروا المبدع أقرب إلى المجنون، ولم تكن هذه التصورات وقفاً على عامة الناس، بل شاعت أيضاً عند عدد من كبار الفنانين والمفكرين والفلاسفة منذ هوميروس وأفلاطون وحتى عهد قريب " (37).
    " ففي مجال كالإبداع، اختلطت التصورات الذاتية مع الأفكار الشائعة التقليدية، الأمر الذي أدى إلى وجود كثير من الأفكار الخاطئة في تفهم الإبداع الإنساني وتفسيره، إن كثيراً من المعالجات السابقة للإبداع قد أدت إلى عدد من التناقضات والتصورات الخاطئة منها على سبيل المثال أن الإبداع لايمكن دراسته دراسة علمية ومنظمة، لهذا فليس غريباً أن نجد لفترة قريبة فيلسوفاً مثل كانْتْ kant يستنتج في كتابه " نقد الحكم" أن الإبداع عملية طبيعية تخلق قوانينها الخاصة، وأن فعل الإبداع يخضع لقوانين من صنعه، لايمكن التنبؤ بها، ومن ثم فإنه لايمكن تعليم الإبداع تعليماً منظماً " (38).
    ولا يمكن القول بعد ذلك إن بِشْراً لم يردّ الإبداع إلى الإلهام أو الوحي، كما هو عند أفلاطون لأن الوحي في الإسلام مرتبط بالوحي الإلهي، ولا يجوز ربطه بالإبداع الإنساني، إذ يبدو مثل هذا التعليل متكلفاً، ولا شيء في صحيفة بِشْر يدل عليه.
    12- فهم عقلي، مرتبط بعصره ودال عليه:
    إن فهم بشر للإبداع فهم عقلي عملي، يراه في هوى النفس، وشهوتها، ولذلك يشترط له وقت إجابتها إياه، ونشاط المبدع له، وفراغ باله، ولذلك أيضاً يعدّ أعلى درجاته ماجاء عفواً، ولم يكن متكلفاً، ولم يكن فهم بِشْر للإبداع، ذهنياً مثالياً.
    ولقد استطاع بِشْر أن يعبّر عن فهمه للإبداع بلغة تتفق وفهمه العقلي والعملي، فقد لجأ إلى الألفاظ الواضحة المباشرة، التي يمكن عدها مصطلحات، وهو يسوقها في تعبيرات واضحة دقيقة، متجنباً في ذلك كله المجاز والتعقيد.
    وحين يُوازَن فهْمُ بِشْر بن المعتمر للإبداع بفهم أبي هلال العسكري، يتضح مابينهما من فرق، ففهم الأخير للإبداع ذهني مثالي، يقوم على التصور غير العملي، المصنطع اصطناعاً، وهو يعبِّر عنه بأسلوب تصويري، مستخدماً المجاز والتشبيه، فيبتعد عن الوضوح، وإمكان تحقيق الفائدة العملية، وهو بعيد عن إدراك شهوة النفس وميلها.
    وقد يزداد الأمر وضوحاً حين يوازَن فهم بِشْر للإبداع بفهم ابن طَبَاطَبَا (المتوفى عام 322هـ)، وهو أكثر من العسكري إغراقاً في التجريد الذهني، والبعد عن الواقع العملي.
    يقول ابن طباطبا :
    " فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعدّ له مايلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه، بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه على تفاوت مابينه وبين ماقبله، فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفّق بينها بأبيات تكون نظاماً لها، وسلكاً جامعاً لما تشتت منها، ثم يتأمل ماقد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، فيستقصي انتقاده ويرُمُّ ماوَهَى منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنسّاج الحاذق الذي يفوّف وَشْيَه بأحسن التفويف ويسده وينيره، ولا يهلهل منه فيشينه " (39).
    ويبدو من الصعب القول بتأثر بِشْر في صحيفته بالصحيفة الهندية، ولا سيما فيما يتعلق بقضايا الإبداع، لأن الصحيفة لاتهتم بشيء من ذلك.
    كما يبدو من الصعب القول بتأثر بِشْر في صحيفته بشيء من كتاب فن الشعر أو فن الخطابة لأرسطو، لأن كلا الكتابين لم يترجم في عصره، أما القول بتأثره بما كان شائعاً من أقوال أرسطو في عصره، أو بالثقافة الفارسية المتأثرة بالثقافة الإغريقية، فأمر لايثبته دليل ويبدو قبوله أكثر صعوبة.
    وإذا مادلت الصحيفة على شيء، فإنها تدل على أن بِشْراً لاينظر إلى الإبداع بوصفه إلهاماً لايمكن درسه، وإنما ينظر إليه نظرة علمية، بوصفه موضوعاً قابلاً للدرس والتحليل والتصنيف، ومن الممكن تعليمه أو التدريب عليه، ومثل هذه النظرة دليل نضج عقلي، ووعي لطبيعة العمل الإبداعي، وهي تمثل ثقافة عصرها، وتفتّح علومه، وتقدمه الحضاري.
    13- أول نص باللغة العربية يعالج قضايا الإبداع:
    ومن الممكن أن يُشار بعدئذ إلى وصية الشاعر أبي تمام (المتوفى عام 231هـ) للشاعر البحتري (الذي ولد عام 204هـ وتوفي عام 284هـ)، وهي تشبه في بعض جوانبها صحيفة بِشْر بن المعتمر، وفيها يقول: " تخيّر الأوقات وأنت قليلُ الهموم، صِفْرٌ من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السَّحَر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم، فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى رشيقاً، وأكثِرْ فيه من بيان الصبابة، وتوجّع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه، وأظهرْ مناسبه، وأبِنْ معالمه، وشرِّفْ مقامَه، وتقاص المعاني، واحذرِ المجهول منها، وإياك أن تشِين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرِحْ نفسَك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتَك إلى قولِ الشعر الذريعة إلى حُسْنِ نظمه، فإنّ الشهوة نِعْمَ المعين، وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبْه ترشدْ، إن شاء الله تعالى “ (40).
    وواضح حضُّ أبي تمام للبحتري على تخير الأوقات المساعدة على الإبداع، وهي الأوقات التي يقوى فيها الجسم، ويخلو فيها الفكر من الهم، وهو يحرض بعد ذلك على عدم التكلف، ويحث على طلب الراحة إذا ماعرض للنفس عارض من ضجر، كما يحرص على جعل الشهوة الدافع الأول للإبداع.
    وأبو تمام يلتقي في ذلك كله ببِشْرِ بنِ المعتمر، ولكنه يكتفي بما هو أكثر شمولاً أو عموماً مما هو عند بشر، ولا يعمد مثله إلى التدقيق في تحديد عوامل الإبداع، ولا إلى تصنيف منازله، وهو يضيف بعد ذلك أموراً ثلاثة: أولها المبالغة في إظهار العواطف، وثانيها استقصاء المعاني، وثالثها الحض على الإفادة من شعر السابقين، وهي أمور ذهنية، لاتدخل في عملية الإبداع، إذا ماتم تناولها من وجهة عقلية عملية.
    ووصية أبي تمام أقصر من صحيفة بشر، وهي دونها في العمق والوضوح، والنفاذ إلى عملية الإبداع، وهي أكثر منها حرصاً على النصح والوعظ، وفيها يعمد أبو تمام إلى التصوير المجازي لتقريب المعنى، ويُظَنّ أنها من تأليف البحتري، وإن كانت معانيها لأبي تمام.
    ويبدو من الصعب تأكيد تأثر أبي تمام بصحيفة بشر، وإن كانت علامات التأثر واضحة في الحضّ على تخير أوقات الفراغ، وترك العمل في حالة الضجر، وردّ الإبداع إلى الشهوة. ولكن مايمكن تأكيده هو أن صحيفة بشر أسبق من وصية أبي تمام، لأن عمر البحتري حين توفي بشر كان لايزيد على ست سنوات، ولا يمكن للوصية أن تكون قد ألقيت عليه إلا بعد ذلك بزمن غير قليل.
    وحين يذكر المرء بعد ذلك أن بشراً المتوفى عام 210هـ هو أسبق من ابن سلاّم الجمحي المتوفى عام 232هـ، ومن الجاحظ المتوفى عام 255هـ ومن ابن قتيبة المتوفى عام 276هـ، ومن ابن المعتز المتوفى عام 296هـ، يمكنه عندئذ أن يعدَّ صحيفته أول نص باللغة العربية على شكل صحيفة أو رسالة أو بحث يعالج قضايا الإبداع.
    خــاتمــة
    وبعد، فإن ماتأمله هذه الدراسة ألا تعدّ رجعة رومانتيكية إلى الماضي، للتغنّي به، والفرار إليه من الواقع، كما تأمل ألا يفهم منها القول إن المعاصرين لم يصلوا إلى شيء لم يصل إليه القدماء من قبل، أو كما يقول إليوت:
    … إن ذلك الهدف الذي يُرْمَى إليه
    بالقوة والخضوع، هو هدف قد وصل إليه من قبل،
    مرة أو مرتين أو مراراً، رجال لاأمل للإنسان
    في السير على منوالهم.
    إن مالا يحتاج إلى تأكيد هو نقيض مايقوله إليوت، ذلك أن جهود الإنسان تحقق تقدماً مطرداً في ميادين البحث جميعاً، وإذا مامرّت البشرية بحالات انتكاس أو خيبة أو إخفاق، فإنها كانت غالباً ماتمر بالمقابل بحالات من النهوض المبكر وتجاوز المراحل وسبق ماهو حاضر خطوات واسعة إلى أمام، ليبقى التقدم مستمراً في تصاعد دائم نحو ماهو أقوى وأرقى وأصح وأفضل.
    ولا يمكن بعد ذلك الادعاء أن الثقة بالتقدم تتحقق من خلال التنكر لما كان من جهد إنساني في الماضي، إن الثقة بالتقدم لاتتحقق إلا بتقدير الجهد كله، ماكان منه في الماضي، وما هو كائن منه في الحاضر، وما سيكون منه في المستقبل، فهو في الآلات كلها وحدة متكاملة، ولا يمكن تقدير جزء دون تقدير الكل، ولا يمكن تحقيق الثقة إلا بإدراك خط التقدم الفعلي خلال ذلك الجهد كله.
    إن ماترجوه هذه الدراسة أن تُعدَّ محاولة لإنصاف نص قديم، لم يُفهم من قبل على الوجه الذي كان يجب أن يُفهم عليه، ولعلها تكون بعد ذلك دعوة إلى دراسة مفهوم الإبداع في النقد العربي القديم، على ضوء الدراسات المعاصرة في النقد الحديث، ومقارنته بعد ذلك بمفهوم الإبداع عند الاغريق والرومان من قبل، أو عند الأوربيين في عصر النهضة من بعد.

    الحواشــي
    1) ينظر في ترجمة بشر المرجع التالي، وما يحيل إليه أيضاً من مراجع:
    ضيف، د. شوقي، تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، ط.ثانية، 1969. ص426-429.
    2) الجاحظ، البيان والتبيين، تح. عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة،ط. ثالثة، 1968، ج1، ص98 ، وما بعدها.
    3) المصدر السابق، ج1 ص 88 وما بعدها.
    4) المصدر السابق، ج1 ص 92-93.
    5) أمين، أحمد، النقد الأدبي، مكتبة النهضة، القاهرة، ط. ثالثة، 1963، ص260، وما بعدها.
    6) ضيف، د. شوقي، النقد، دار المعارف بمصر، ط. ثانية، 1964، ص48.
    7) ضيف، د. شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف بمصر، 1965، ص 41.
    8) المصدر السابق، ص 45.
    9) ضيف، د. شوقي، تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول، ص 427.
    10) ضيف، د. شوقي، النقـد، ص 49.
    11) ضيف، د. شوقي، البلاغة تطور وتاريخ، ص 43.
    12) عباس، د. إحسان، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الأمانة،ومؤسسة الرسالة، بيروت، 1971، ص 67.
    13) العسكري، أبو هلال، الحسن بن عبدالله، كتاب الصناعتين، تح. علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار احياء الكتاب العربي، القاهرة، 1952، ص 134- 136.
    14) المصدر السابق، ص 133.
    15) القيرواني، الحسن بن رشيق، العمـدة، تح. محيي الدين عبدالحميد، مط. السعادة، القاهرة، ط. ثانية، 1955، ج1 ص 212 - 214.
    16) المصدر السابق، ص 204 وما بعدها.
    17) المصدر السابق، ص 214.
    18) الجاحظ ، البيان والتبيين، ج1 ص 135.
    19) ابراهيم، عبدالستار، " ثلاثة جوانب من التطور في دراسة الإبداع"، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد، 15، العدد 4، يناير فبراير مارس 1985، ص 42.
    20) القيرواني الحسن بن رشيق، العمـدة، ج1 ص 212.
    21) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1 ص 135- 136.
    22) ابراهيم، عبدالستار، " ثلاثة جوانب من التطور في دراسة الإبداع" ص 40.
    23) عيسى، د. حسن أحمد، الإبداع في الفن والعلم، كتاب عالم المعرفة، الكويت، العدد 24، كانون الأول، 1979، ص 103.
    24) ابراهيم، عبدالستار، " ثلاثة جوانب من التطور في دراسة الإبداع"، ص 41.
    25) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1 ص 136.
    26) المصدر السابق، ج1 ص 136.
    27) المصدر السابق، ج1 ص 138 - 139.
    28) المصدر السابق، ج1 ص 139.
    29) المصدر السابق، ج1 ص 92.
    30) المصدر السابق، ج1 ص 93.
    31) المصدر السابق، ج1 ص 138.
    32) المصدر السابق، ج1 ص 138.
    33) عيسى، د. حسن أحمد، الإبداع في الفن والعلم، ص 21.
    34) المصدر السابق، ج1 ص 32.
    35) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1 ص 138.
    36) ديتشس، ديفـد، مناهج النقد الأدبي، تر. د. محمد يوسف نجم، مر. د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1967، ص 20-21 بتصرف.
    37) عيسى، د. حسن أحمد، الإبداع في الفن والعلم، ص19-20.
    38) ابراهيم، عبدالستار، " ثلاثة جوانب من التطور في دراسة الإبداع"، ص 27.
    39) ابن طباطبا، عيار الشعر، تح. د. طه الحاجري، ود. محمد زغلول سلام، المكتبة التجارية، القاهرة، 1956، ص 5.
    40) الحصري، ابراهيم بن علي، زهر الآداب وثمر الألباب، تح، علي محمد البجاوي، مط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة، ط. أولى 1953، ص 111 وينظر: ضيف، د. شوقي، تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الثاني، دار المعارف، القاهرة، 1973، ص 272- 273.

    © أحمد زياد محبك
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مقال: صحيفة سعودية تكذب نبأ وفاة الأمير بندر
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى مجلة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12/10/2012, 03:57 PM
  2. ما هي صحيفة بشر ابن المعتمر ؟
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى سؤال
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03/01/2011, 05:34 PM
  3. التبشير لكن بأداوت سخيفة
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 14/03/2008, 07:36 AM
  4. توقيف صحيفة الحياة!!
    بواسطة هيا الشريف في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16/12/2007, 07:16 PM
  5. صحيفة السياسة الكويتية هل هي عربية حقاً ؟
    بواسطة محمود الحسن في المنتدى قبة المربد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10/01/2006, 10:32 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •