الطاهر بن جلون في رواية «الرحيل» يخيب الآمال

كأننا أمام أنثروبولوجي غربي لم يأت من بلد المأساة والهجرة

باريس: محمد المزديوي
يدشن الروائي الفرنسي ـ المغربي الطاهر بن جلون مفتتحا هذه السنة 2006 برحيلين اثنين، الرحيلُ الأول هو روايته الجديدة Partir،
ورحيله عن دار النشر «لوسوي» Seuil إلى دار النشر غاليمار Gallimard وهما محطتان جديرتان بالاهتمام، في ضوء ما يصدر عن كاتب،
نظر إليه، دائماً، في فرنسا على أنه نموذج، يستحق الاحتفاء به.
في حوارات الطاهر بن جلون العديدة، بعد صُدور روايته الجديدة «الرحيل» أصبحنا نرى كاتبا ملتزما يتحدث عن البؤس في بلده وعن معاناة شبيبة بلاده وعن مسؤولية الدول الغربية في إيجاد حل لهذه «التراجيديا اليومية» على حد تعبيره.
وكان بن جلون قد اشتهر في فرنسا والغرب من خلال تقديمه صورة عن العرب والمغرب تعجب القارئ الغربي، الذي لا يزال يرانا كما رآنا كُتَّابُهُ في القرن الثأمن عشر ورحّالته، من خلال روايات ومجموعات قصصية تتناول الشرق بطريقة فولكلورية وعجائبية «ليلة القدر» و«ليلة الغلطة»، ولا تقطع مع تهويمات الغرب وكليشيهاته. هذه الكليشيهات التي أتت قصة الرسوم الكاريكاتورية الأخيرة المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لتذكرنا كم هو صعبٌ إعمال مجهود حقيقي لفهم الآخَر واحترام اختلافه ونمط عيشه. فقد حاول بن جلون في رواية سابقة تحمل عنوانا شعريا، «ذلك الغياب الباهر للضوء»، أن يتصالح مع وظيفة الأدب الحقيقي وأن يصوغ مرحلة قاسية من تاريخ المملكة المغربية في قالَب روائي، ولو أن عمله أثار موجة من الاحتجاج لدى الضحايا وعائلاتهم بسبب تأخر المهمة. إذ ان الروائي لم يستَغِلَّ شهرتَهُ في الغرب والهالة التي جاءته فجأة بعد فوزه بالغونكور، ليطرح قضية إنسانية عميقة في بلده، كان الكل على علم بها، على واجهة الجدل العمومي.
تلفيقات روائية توضح جهلا مدقعا
* إذن بعد المحاولة الأولى، التي حققت نجاحا لا بأس به، يعود بن جلون ثانية ليخوض في موضوع شغَلَ الرأيَ العام الوطني والدولي منذ عشرات السنين. لا نعرف بالفعل أين كان الكاتب؟! فهو يعود لتناوله، مستخدما نفس التَّوابل التي تعجّ بها كتاباته السابقة، أي الجنس والمخدرات (هنا يتحدث عن نبتة «الكيف»، ربما سيتناول الموضوع في رواية قادمة بعد أن صار موضوعا مسموحا الخوض فيه)! والجنس المثليّ والعلاقات المختلطة وانهيار الأخلاق.
إن قراءة بسيطة لأسماء الشخوص تسمح لنا بأن نرى في الرواية تلفيقا، لا من حيث الوسط الطبقي لمُرشَّحي الهجرة ولا من حيث الظروف والدوافع لمثل هذه الهجرة ومثل هذا الرحيل. أسماء شخصيات من قبيل «لالاّ» و«سيدي» و«مولاي»، في حين تقفز إلى الحقيقة المُرَّة أسماء ذات رنات جَبْليّة وبربرية، مما يعزز الانطباع الحقيقي بأن الروائي لا يعرف موضوعه. الآلاف من الذين هاجروا أو من الذين حَسموا، مع أنفسهم، مسألة الرحيل، لا يتعاطون المخدّرات وليسوا مستعدين لممارسة الجنس المثلي للحصول على بطاقات الإقامة في إسبانيا وفرنسا.
النفاق النقدي الفرنسي له اغراضه
* إن هذه التوابل التي جعلت الروائي، أخيرا، يتفاخر في برنامج تلفزيوني فرنسي بأنها جعلته ممنوعا في العديد من الدول العربية، هي التي منحته وتمنحه مديح الغرب ونقاد صحافته.
النقد الأدبي الفرنسي استقبل كعادته هذه الرواية بكثير من التقريظ، وهو ما يعرفه منذ البداية، أي منذ كتابه الأول عن معاناة العمال المهاجرين الجنسية في كتابه «أقصى درجات العزلة» إلى أن حاز جائزة الغونكور سنة 1987 في مواجهة رواية مهمة تستحق ذات الجائزة ومن توقيع أهم النقاد الفرنسيين «أنجيلو رينالدي» Angelo Renaldi، والذي أصبح الآن عضوا في الأكاديمية الفرنسية ومُديرا للملحق الأدبي لجريدة «لوفيغارو».
من نافل القول التذكير بأن كاتبنا يحظى بعناية واهتمام غير عاديين في فرنسا، منذ انضمامه إلى مجلس الفرانكفونية، إذ انه في كل مرة يستدعى للإدلاء برأيه في مختلف القضايا التي تهم الإسلام والمسلمين وقضايا الهجرة وغيرها، حتى وإن كان ظاهرا أنه لا يعرف عنها كبير شيء. كأنّ دور النشر الفرنسية لم تعرف غيره، أو أنها تتعمد ذلك لأسباب ايديولوجية ظاهرة، ليكتب «العنصرية كما شرحتُها لابنتي» أو «الإسلام كما شرحتُه للأطفال». لقد كان بالإمكان أن يُُعْهَد، بهذه المهمة، لأناس لهم وزنٌ وثقافة تُخولهم الخوض في مسائل خلافية وتطرح أزمة فهم الآخر وفهم اختلافه، وبالتالي تفهمه وتفتح حواراً جدّياً ونقدياً معه. والأسماء هنا لا تنقصنا، من الرّاحل جمال الدين بن شيخ إلى محمد أركون إلى الشيخ موسى وغيرهم. ولكن يبدو أن النشر والميديا الفرنسيين يفضلان أسماء سُبِكَتْ من زمان، وأصبحت جاهزة للتدخل عند الطلب، ومن بينها الطاهر بن جلون، مالك شبل وغيرهما.
الأديب الذي يأتي دائما متأخرا
* يأتي بن جلون، دائما متأخرا إلى تناول الموضوعات الشائكة والحرجة. فمثلا روايته عن سنوات الرصاص والقمع في المغرب لم تأت إلاّ مع بداية تصفية هذا الإرث الرهيب، في الوقت الذي كان يستطيع فيه أن يكون سبّاقا إلى تناول الحدث. كما أن مسألة الكتابة عن المأساة الحقيقية التي يعيشها الشباب المغربي والمغاربي، وأيضا قوافل الشباب القادم من أفريقيا والحالم بالوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط، جاءت متأخرة جدا. في الوقت الذي تصدى فيه الكثيرون من الكتاب لهذه المأساة ومن بينهم «الماحي بينبين» في روايته اللافتة «الحرّاقة»Cannibales التي ستصدر قريبا، بالعربية عن «دار الجمل» التي يديرها الشاعر العراقي خالد المعالي، في ألمانيا.
لقد شيد الطاهر بن جلون روايته «الرحيل» على أساس أربعين فصلاً، تسهيلا للخروج بأقل خسارة سردية ممكنة. مستعينا ببورتريهات عديدة لشخوص مرتبكة وضائعة ومُخدَّرَة ويائسة. هذه الحالات يمكن، بسهولة، أن تُقارَن بالحالة التي تعيشها شبيبة الغرب، حيث رواج المخدرات وجوّ الحرية والبوهيمية التي تعشعش في قاع المجتمع وأمكنته السفلية. لكأننا، بالفعل، أمام روائي فرنسي أو أنثروبولوجي غربي، وليس أمام كاتب قادم من بلد اليأس والمأساة والهجرة والرحيل.
الرواية تعج بالكلمة/اللازمة «الرحيل» التي هي عنوان الكتاب. ومن الطبيعي أن تتكرر هذه اللازمة التي أصبحت ترن في كل المغرب وليس فقط مدينة طنجة. ولو كان الروائي بالفعل مُصرّا على فهم الظاهرة، لإنجاح روايته، لذهبت به قدماه إلى مناطق الإقلاع الجديدة نحو البحر والأقاصي، من غير مدينة طنجة التي أصبحت صعبة، بل مستحيلة. نقصد مدن «طوريس» والحسيمة والجبهة وغيرها وهي مُدن لا يعرفها الكاتب لأنه لا يعرف بالفعل موضوع كتابته.
بن جلون والمواجهة مع العالم العربي؟
* الوسط الثقافي كالعادة، يصفق بشكل تلقائي، بل وميكانيكي، لهذا الكاتب الذي وصف نفسه، ذات يوم، في مقال له بصحيفة «لوموند» بأنّهُ «عربي الخدمة»، ويبدو أنه يجيد لعب هذا الدور ويرتاح له، وليس من المستغرب أن ينال تقريظا من مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» التي يكتب فيها أحيانا والتي وصفت الرواية بأنها «أفضل من كلّ الدراسات الديموغرافية حول الهجرات الكبرى، من دون مانوية»، كما ان «جوزيان سافينيو» المسؤولة السابقة عن ملحق الكتب بجريدة «لوموند»، التي ينشر فيها الطاهر بن جلون مقالاته، لم تتورع عن كيل المديح للرواية إلى درجة اعتبارها، دونما خجل، «الرواية الأكثر جرأة والأكثر راديكالية من دون شك». وتذهب إلى حدّ اعتبارها رواية «تَدخل في مواجهة ضد بلده، المغرب،
وضد العالم العربي الذي يعيش اليومَ في أسوأ حالة».
لقد استطاع الإعلام الثقافي الفرنسي، والغربي، تسويق كُتّاب من طينة بن جلون، على الرغم من أن كتابته لا ترقى أبدا إلى مستوى كتابة كُتاّب ملعونين من أمثال المغربي محمد خير الدين أو الجزائريين كاتب ياسين ورشيد بوجدرة.
لقد دشَّن بن جلون، من خلال روايته الأخيرة Partir، رحيلَيْن اثنين. والراجح أن رحيله عن دار النشر «لوسوي» إلى «غاليمار» يبقى الأكثرَ إغراء والأكثر نجاحا، من الناحية المادية على الأقل.