حالة حب
كانت لحظة غريبة،لحظة فارقت فيها نفسي ، وأحسست كأنما خرج من صدري قبس نور فأتبعته بصري فإذا هو بالسماء،ونظرت فيَ فما رأيت إلا شبح إنسان هزيلاً أضحى لا يعينه شيء ولا يحنو عليه.
كانت تلك الأشعة النورية التي يسمونها الحب قد سكنتني، وآهٍ من الحب ..كلمة لا أصغر منها بناء،ولا أكبر منها معنى ،تصغر إن شئنا حتى تغدو أدق من سن الخياط،وتكبر إن شئنا حتى تسع الوجود بما فيه،وتتصل بما هو فوقه وأعلى منه، باللامحدود الذي يتجاوز كل محدود.
كانت لا بالقصيرة ولا بالطويلة و إن كان بها ميل إلى الطول ، شعرها منسدل على كتفيها أملس كستنائي اللون،ويبلغ من طوله وجماله أن يجلل ظهرها كله،وفي عينيها وثغرها شيء وضاء لم ألمس مثله عند أحد بعدها ولا قبلها ، ولم يدر بيننا إلا بضع كلمات لحاجة بعينها ، لكنها كانت عندي بكلم اللغة أجمعه ، وبكل ما سوِِِد في صحائف العرب و العجم.
وكان لها وقع سحر غريب،جعل لا يفارقني في ليل ولا نهار، وكلما دعتني نفسي للمرور بجانب مكان عملها خشيت أن تحس ما انطوى عليه صدري فيكون ما لا أرغب فيه ‘ إذ لم أزل حينها صغيراً في العمر، وهي تكبرني بسنوات علمت عدتها فيما بعد ثلاثاً.
علقت منها الحب سنتين بتمامهما لا أملك لنفسي منه فكاكاً، وإن كانت رؤيتي لها لماماً، ولم أك أسعى حثيثاً لذلك لأن غايتي من حبها ما كانت تعدو تحليقاً في أجواء علية لا يتحصل إلا بمثل هذه التجربة ، لكنها غلبتني على أمري فتعديت بها ما كنت أحسب ، وعرفت عذاباً حقاً‘،لكنه بصدق عذاب فيه من اللذة ما يفوق المتعة نفسها ، غدا بمرور الأيام غذاء لروحي لا حياة لها إلا به .
وكانت الكلمات القليلة التي تجود بها علي للمعرفة البسيطة المعقودة بيننا تنزل مني منزل قطرات الماء من العطش التائه في الصحراء ، فإذا مرت بي الحياة صعبة قاسية لا يلين لي عصيها إلا أن أنظر نظرة في السماء يلوح لي بها وجهها باسماً، فيهون علي كل صعب ، بل يغدو أشهى من شهد العسل.
والغريب في كل ذلك أنها ما كانت تحس شيئاً مما يعتلج في صدري، وتجيش به أعماقي، بيد أني لم أتصور أنها منشغلة بأمر تبيته مع شاب آخر يبدو أنهما تعاهدا عليه ،وأنا وإن لم يتعدَ ما رجوته من هواها هواها فحسب، لا أن يكون بيننا رباط ولا أن أذوق حلاوة لثمها وضمها ، كان كل ما أرجوه باباً إلى السماء أرقى به من فضاء عينيها ونسيماً عليلاً أشمه من قبلها ، فإنني لست أدري لم أحسست أن أبواب الدنيا أقفلت كلها ،وأنني بت في سرداب مظلم لا أتحسس فيه موضع قدميَ حين بلغني أنها خطبت لذلك الشاب الذي عهدته، قد كنت أعلم تمام العلم أنني لن أصل إليها و أن غيري سيحظى بها ، لكنني لا أدري لم انطفأ النور الذي كنت أسير مهتدياً به، ولم أحسست برهة أن عينيَ قرتا في محجريهما فما عدت أتبين شيئا ًمن حولي كأني عميت.
صحيح أنني ما أملت الارتباط بها ، لكنَ نور عينيها كان يعينني حين تظلم عليَ دنيا الناس ، وصحيح أنني لم أك أرجو شيئاً يتم في حبي لها، لكنَ وجهها الذي كان يلوح لي بين لحظة و أخرى كان عندي ناصراً على الخطوب، وواعداً لي بأمل جديد.
لكنني في لحظة فقدت ذلك كلهً، وبات تذكر وجهها خيانة لمن أصبحت حليلته، وبات الحلم بعينيها وثغرها الباسم جريمة لا تغتفر.
أرتج الباب ، وأظلم الطريق،وانطفأت الجذوة ،ورأيت نفسي تائهاً وغص ريقي بي، ونالني عذاب آخر غير الذي كنت ألتذ به ،عذاب الضياع المطلق والإحساس بموت دون الموت، وذبح دون الذبح،وهلاك دون الهلاك.
وما أدري أي رحمة تنزلت علي حتى قدرت من بعد أن أتلمس نوراً جديداً، وألمح فضاء آخر لنفسي و أدرك أن غياب طيفها عني وإن عذبني وجعلني أخال أن حياتي قد وصلت آخر المطاف، فإنه لم يلبث أن أراني من بين ركام و ضباب الأحزان بصيص نور صغيراً ، لم يكن سوى القلم الذي أمسكته بين أصبعي ، وبدأت أخط به كلمات صارت جملاً ثم صارت نصوصاً، أخرج بها تباريح صدري و آلام ذاتي، ويوماً بعد يوم غابت صورتها والآلام معاً ، وبقي القلم والأوراق ، وانفتح لي فضاء لا يزول ولا يمحي بغياب صاحبه، وبت كلما ذكرتها لا أغص من جديد ، بل ترتسم على وجهي ابتسامة عريضة، وأهديها كلمة شكر لا تصلها أقول فيها : شكراً لما هديتني إليه وجعلتني أكشفه مستكناً في أعماقي، وإن حصل كل هذا وأنت لا تعلمين، بل صاحب هذا الكلام لا تذكرين.
ً