استهل الشاعر قصيدته بالنداء (يَا حَرفُ) ، و الغاية من النداء عادة لفت الانتباه لكي يسمع المنادى الكلام و يتلقى الصدمة التي تمهده للآتي من الكلام ، غير أن المنادى/ المخاطب في هذه القصيدة من غير العاقل ، فالشاعر يخاطب الحرف وقد جسده في صورة إنسان يسمع ويتكلم ويحاور ، فيبادر الشاعر بمخاطبته لأنه كان السبب في ضياع حبه وشوقه بين ثناياه ، فأصبح قلب الشاعر بسبب هذا العشق وهذا الحب مكلوم القلب مجروح الفؤاد ، و هذا الجرح لا علاج له في الوقت الحاضر بسبب الفراق و الهجر ، بالرغم من هذا الهيام وهذا العشق و هذا النداء فإن الحرف كان متعنتا و مصرا على هجره وفراقه و لم يهتم بهذا الأسى و الألم الذي يشعر به قلب الشاعر (وَمَا استَجَبتَ لِلفُؤَادِ المُبتــــــــَلَى)
ويستمر دائما الشاعر في مخاطبة الحرف و كأنه واقفا أمامه ملفتا ظهره لا يبالي مما يعاني و ما يقاسي من هجر ولوعة فراق مصرا على التوسل إليه ، و الحرف دائما على حاله معرض عن هذا التوسل ، و مما زاد من توسل الشاعر اعتباره الحرف بأنه العزاء و المنقذ أثناء الشدة حين تختلط الأماني بالأسى و الحسرة حين يحتاج الإنسان إلى من يخرجه من معاناة الحياة و همومها (أَنتَ العَزَاءُ الصَّادِقُ الَّذِي أَرَى فِيهِ الأَمَانِيَ انثَنَت بِالحَسرَةِ)
فبالحرف يعبر الإنسان عن همومه و مشاكله ، في الوقت الذي تنعدم فيه الثقة في الإنسان من بني جلدة الشاعر، فيكون الحرف هو الملاذ و المفر لتفريغ ما يعانيه من مشاكل و هموم لا يقدر الإنسان على حلها و إيجاد مخرج لها في ظروف مستعصية حالكة مظلمة تسود أمامها الحياة وتقف حجر عثرة أمامه فيكون الحرف هو المنقذ و المخرج من الطريق المظلم و يفتح أمامه باب الأمل و بصيصا من النور للخروج من ظلمة الحياة بهمومها ومشاكلها المتنوعة بتنوع الأيام و الليالي .
فالحرف بالنسبة للشاعر دواء للجراح التي تسببت فيها نوائب الدهر فبتمازج الحروف تتشكل المعاني و بالمعاني تتشكل الصور التي تعبر عما يختلج في نفسية الشاعر فتكون بذلك سببا في التنفيس عن العذاب الذي يعاني منه و يقاسي من همومه ، هذه الهموم التي دفعته للخروج إلى الصحراء هربا من المحن و المتاعب التي تسبب فيها الأعداء الذين طالما لطخوا سمعته و شوهوها أمام القراء و المستمعين فكانت الفيافي و الصحراء المحك الحقيقي لتجربته في الحياة ..
وبفضل الحروف التي تشكل المعاني تؤدي بالشاعر إلى الرفعة و المعالي التي طالما حلم بها و نشد إليها ، فبفضل الشعر أصبح رمزا من رموز الكلمة و المعنى و خلد اسمه على رأس قائمة الشعراء رغم حقدهم و غدرهم وكرههم له ، وقد وصفهم بالخسة و الدناءة هذه الصفات التي لا تليق بأخلاق الشعراء الأحرار الذين يدخلون في المنافسة بأشعارهم و ليس بمقالبهم و حيلهم التي يهدفون من خلالها التقليل من شأن الشاعر ، كل هذه المشاكل و المعاناة خلقت منه شخصا آخر ، فتحولت قصائده من الليونة التي كانت تحن في الأعداء وتمجدهم إلى علقم ، فأصبحت قصائده تتجه اتجاه الهجاء بعدما كانت تتصف بالعطف و الحنان ، و لعل غدر الزمان و مشاكل الناس هي التي غيرت من مساره الشعري فأصبحت قصائده رجما من نار بعدما كانت رحمة بالناس ولعل خروجه إلى الفيافي زاد من هذه القسوة في الحروف و شدة في المعاني ، فأصبح السامع و القارئ لقصائده يشعر بالرهبة و الخوف وقد غير القاموس اللغوي الذي كان يعتمده فأصبحت الأزهار التي كانت تفوح عطرا حروفا مرة صعبة المذاق .
و الشاعر لم يفقد الأمل في الحياة بل ما زال عنده هذا الشعور المتفائل حيث أنه يرى هذا البصيص من النور التي يظهر في الظلمة مما يعطيه الأمل في العودة مرة أخرى إلى ساحة السجال و المقارعة الشعرية و الأدبية لأنه لا يريد أن يترك الساحة فارغة للقاصي و الداني ( تَبدُو كَضَوءٍ خَافِتٍ فِي حُلكَةِ) ،
و الشاعر بهذه النظرة المتفائلة الأبية لا يريد أن يعيش حياة ملؤها الذلة و المهانة بل يريد أن يعيش حياة كلها عزة و كرامة لا يخضع لقرارات الآخرين الذين لا يرقون إلى مستواه الأدبي و المعرفي (وَدَيدَنُ النَّفسِ الأَبِيَّةِ الشَّــــقَا تَشقَى وَلاَ تَحيَا حَيَاةَ الذِّلَّــــــةِ)
فهو دائما سيظل يمشي مرفوع الرأس غير آبه و لا مهتم بنظرة الآخرين و استهزائهم به مؤكدا على ذلك بتكرار النفي( أَمشِي وَأَمشِي لاَ وَلَن يُضِيرَنِي هَمزٌ يُرِيدُ ذِلَّـــتِي) لأنها لا تمثل شيئا مهما له لأن ساحة السجال و الجدال هي المحك للشاعر ولمن يدعي نظم القوافي .
إن الشاعر من خلال هذه القصيدة قد عبر عن حالة نفسية عاشها خلال تجربته الشعرية دفعته إلى التعبير عن مجموعة من الصور الجمالية و الفنية بلغة بسيطة يفهما القارئ من خلال كلمات عذبة للها دلالات متعددة قابلة لعدة قراءات ، لغة شعرية تخللتها بعض الاستعارات و الكنايات التي تزيد من جمالية النص وتسمو بروحه الشعرية و الفنية .
و للشاعر من خلال هذه القصيدة رؤية إلى العالم هذه الرؤية تعكس الواقع المتدني للحالة الأدبية التي تكثر فيها الانتقادات غير المبنية على أسس علمية بل هي انتقادات من أجل الانتقاد لا تساهم في الرفع من المستوى الأدبي بل تزيد من التدني و هبوط مستوى التلقي عند القارئ و المستمع ، وبهذا فإن الشاعر لم يعبر عن هذا السخط مباشرة بل صاغه هذا السخط أدبا بل شعرا وأعطاه هذه الأدبية التي تخلق من العالم الواقعي عالما متخيلا أدبيا .
وفي الأخير يمكن أن نقول بأن هذه القصيدة تدخل في إطار الشعر العمودي الذي يحافظ على الوزن و القافية ومما زادها جمالا اعتماد الشاعر على التصريع بإشباع التاء للضرورة الشعرية ، و انتهت بالتاء كقافية لها وفي هذا الحرف يشعر الشاعر بالنفس العميق و التعبير الحقيقي عما يعيشه الشاعر وهذا على المستوى الصوتي يريح الشاعر ويفرغ عن معاناته ويعطيه النفس الطويل في المقارعة الشعرية .
محمد يوب 15-03-10