إسماعيل ابوبكر

الزهرة..

إنها زهرة ولا كأي زهرة.. بهذه العبارة بدأ المدرس يشرح لطلابه قصة الزهرة التي أقلقت كبير العلماء وسببت له تلك الحادثة التي ربما أودت بحياته.. اسماها علماء النبات بالزهرة القاتلة، ولم تكن يوما كذلك.. كم كان يوما رائعا حين قص علينا قصتها..
توسط المدرس الصف بشعره المشيب ووقفته المستقيمة التي تشبه وقفة الجندي المعتز بوسامه وعلى وجهه رُسمت خطوط الزمان.. حكى لنا تلكم الحكاية الغريبة عن احد العلماء الذين نذورا أنفسهم للبحث عن تلكم الزهرة العجيبة.. تلكم الزهرة التي تفوح منها روائح زكية، ولها منظر بديع، وينساب على جنبات أوراقها الندى بصورة رائعة.. زهرة تذكرك بكل ما هو جميل في هذه الحياة..

لم يعرف الجميع سبب هوس هذا العالم بها بحيث انه كرّس كل حياته للبحث عنها.. كم ارتحل من مدينة لأخرى، ومن بلد لأخر، وعانى الضياع جامعا للمعلومات ومتحملا أعباء الغربة.. تسلق الجبال وهبط الوديان وعكس مسار الشمس بحثا عنها.. كان يرتدي ذلك القفاز الأسود وهو يتفحص الزهرة تلو الزهرة حتى يتأكد من أنها هي الزهرة التي يريد.. كان قد وعد نفسه بعدم مس أي زهرة ما لم يتأكد من أنها هي لا غيرها..

لم تكن هذه الزهرة مختلفة عن غيرها من ناحية الشكل، لكنها كما تذكر الروايات: متينة الأوراق، وشذاها يملأ الآفاق، صحراوية تعيش في أحلك الظروف، الزهور التي تحتفظ برونقها ونضارتها على مدى الزمان وكأنها تفتحت بالأمس..

وهنالك من يذكر كأسطورة أن جد هذا العالِم هو من غرس تلكم الزهرة بنفسه، وسقاها من ماء إناءه الذي شرب منه ذلك العالم حينما كان صغيراً، ولذلك نشئت تلكم العلاقة الغريبة بين الزهرة والعالِم.. ولم يترك أي إشارة إلى مكان وجودها، وان القدر وحده هو الكفيل بنقلها إلى حفيده..

بعد البحث في أمهات الكتب والاستنتاجات منها استطاع أخيرا أن يصل إلى تلك الزهرة العجيبة.. وجدها على سفح جبل شاهق تسلقه على فترات من شدة ارتفاعه، حتى كادت رئته إن تتفجر من ضغط الهواء وقلّته، وكلما اقترب كلما اشتد خفقان قلبه من شدة الفرح، وشعر بدنو الوصول.. فكم هو جميل أن تحقق أمالك، فما بالك بحلم حياتك..

وجد تلكم الزهرة كما هو موصوف عنها: وحيدة ذات بهجة، منفردة عن بقية الزهور.. اقترب منها، ولم يرتد قفازاته هذه المرة.. وكانت الإشارات والمصادر تقول أن من اقترب منها أسكرته رائحتها فيتهاوى متى ما هزّها، فقام بهزها فانتشى بتلكم الرائحة حتى كاد أن يفقد وعيه.. لمس أوراقها فكانت كالحرير على يديه ومالت على أنامله وكأنها تخطب ودّه..

أزاح التراب من حولها وانزاحت معه كل آلامه ومعاناته في طلب تلك الزهرة، وصار يحفر ويحفر كي يصل إلى جذورها.. أحس بلحظة سكينة وراحة لم يعهدها من قبل في حياته.. امتلأت عيناه بالدموع وانسابت على خديه لتسقي تلكم الزهرة.. إنها لحظة اجتماع محبوب بمحبوبته بعد فراق طويل..

امسك بساق الزهرة وشدّها لأنه أراد أن ينقلها إلى مكان مناسب لها لطالما سهر على تنظيمه، لتعيش الزهرة في كنفه حتى يفارق الحياة.. لم يرد أبدا أن يستخدم عطرها، أو أن يقتلع جذورها للأبد، أو تجفيفها ووضعها في متحف كما يفعل بقية العلماء ومروجو العطور.. كل ما أراده هو أن تظل بجانبه ويأنس بها ما تبقى من عمره..

جذب الوردة برفق فأبت التحرك معه فأعاد الكرة ولم تفلح محاولاته.. شدها مرة أخرى فقطف جزء منها عن طريق الخطأ، ويا ليته لم يفعل، فقد أحس بقلبه يتفطر حزنا على ذلك الجزء، وكأنه اقتطع جزءا من جسده.. وبرزت تلكم الأشواك التي لم تكن في الحسبان ووخزت ذلك العالم في يديه.. إنها طريقة حماية لم يكن يتوقعها، ولم يقرأها قط في أي كتاب بأنها من صفات تلكم الزهرة.. كانت تساوره الشكوك والآلام، إن كان يتوجب عليه ارتداء قفازه المتين هذه المرة وإعادة الكرّة..

لكنه اختار عدم ارتداء القفاز وحاول السحب مجددا وازدادت معه كل آلامه، وفي كل الم هنالك الم في داخله وخوف من أن يكرر قطع جزء منها.. ولم تكن تلك نهاية القصة.. فقد وُجد ذلك العالم مغشيا عليه على سفح ذلك الجبل وعلى يديه أثار تلكم الأشواك، وجسده متجمد كالثلج بجانب الزهرة.. لم يعلم العالِم المسكين أن أشواك تلكم الزهرة كانت مسمومة، وان سمّها كان قد انتشر في أنحاءها لوجودها في تلك المنطقة التي لم يكن لها أن تعيش هناك..

رفعت يدي وأنا أتساءل كالمجنون عن مصير العالِم ومصير تلكم النبتة، وهل عاش أم مات؟.. لكن المدرس نظر إلي وفي عينيه حيرة كحيرتي، فهو أيضا لم يعرف نهاية تلك القصة.. ورن جرس نهاية الحصة وطُلب من الطلاب الانصراف إلى منازلهم، وألا ينسوا رسم تلكم الزهرة كواجب مدرسي، وودعنا بابتسامة..

وها أنا ذا بعد سنواتي الدراسية لا زلت انظر إلى الآن إلى صورة الزهرة التي رسمتها على كراستي، واسأل نفسي عن نهاية ذلك العالم وتلك الزهرة وهل سأجدها يوما ما ..

تمت ..