الصراع (الباطني) المخبوء .... في قصة مريم والسيد المسيح (ع)



في مشهد (مسرحي) رائع يصور قصة ولادة السيد المسيح (ع) ، نجد (سورة مريم) في القرآن الكريم تسلط الضوء على أربعة عناصر (مادية) مهمة ، وهي (السيدة العذراء مريم) و (السيد المسيح) والعنصر الثالث المتمثل بـ بني إسرائيل أو قوم مريم ، والعنصر الرابع (الوحي) الذي يتحول الى عنصر مادي حين يتمثل لمريم ((بشراً سوياً)) ، حيث تمثل هذه الشخصيات بطولة المشهد بشكل رائع ، وبحوارات مختصرة تفتح شهية القارئ للتوغل داحل هذه العناصر ، واستشفاف (ما وراء النص) في الآيات التي تتناول هذه القصة .

لقد اجتهد المفسرون في تناول المعاني والغايات في قصة ولادة السيد المسيح من (سورة مريم) ، ولسنا هنا بصدد تقييم هذه التفسيرات ، ولكننا نحاول أن نتابع هذا المشهد الجميل من زاوية أخرى لا علاقة لها بالتفسير والروايات والأسانيد ، ولا علاقة لها بقصدية أو اعتباطية اللغة ، ونحاول قراءة هذه الآيات (القصص) من مرتكز آخر ، وهو ما نعتبره نوعاً من أنواع التدبر .

إن (ظاهر) الآيات يشير الى حوار وصراع محتدم بين أبطال القصة ، ولكن (باطن) الآيات يشير الى حوار وصراع محتدم ومن نوع آخر ، لا علاقة له بالأشخاص ، لأنه يدور بين (النفس) و (الروح) و (العقل) و (الوحي) ، وهو في أغلبه صراع داخلي ، ولكنه يتقاطع أحياناً بالمؤثرات الخارجية ، ويتناغم معها ، وأحيانا يختلف معها شكلاً ومضموناً .

يمكن لنا أن نفهم من خلال الزاوية التي نشاهد منها هذا المشهد في الآيات الكريمة بأن السيدة مريم العذراء كانت تمثل دور (العقل) ، في حين كان دور (الروح) مسنداً للسيد المسيح ، بيد أن قوم مريم كانوا يمثلون (النفس) ، وكان الملاك الرسول يمثل دور (الوحي) ، ومن المهم أن نعرف بأن هذا التمثيل جاء على وفق ماهية الأدوار وتأثرها بالمتغيرات الخارجية ، فالسيد المسيح كان يمثل (الروح) النقية التي تولد على الفطرة ، وتعبد الله متأثرة بالعهد المقطوع في دائرة (عالم الذر) ، بينما تمثل السيدة العذراء أنموذج العقل الذي يتأثر بالمادة ، ويتصارع مع النفس من أجل الوصول الى القناعات ، ويحتاج الى الروح كي تدعمه ، في الوقت الذي كان فيه قومها يمثلون النفس ، ولأنهم كثيرون ومتعددون ومختلفون باسلوبيتهم في الحوار ، فهم يمثلون تنوع النفس كـ (النفس المطمئنة) و (النفس اللوّامة) و (النفس الأمارة بالسوء) .

لقد إشار القرآن (في سورة مريم) الى حاجة العقل في الإبتعاد عن الضجيج ، والإنعزال عن تداعيات وتهافتات المجتمع ، ومنحه فرصة مراقبة الأشياء من الخارج ودون الدخول في المعترك ، حين يصف مريم - التي تمثل العقل هنا - بانها قد ((انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً)) و ((اتخذت من دونهم حجاباً)) في جو مشحون بـ (التخلية) و (التحلية) و (التجلية) ، وهي أول بوادر استقبال العقل لمؤهلات النمو ، والتدريب على التفكير النقي ، وبداية نشأة (الروح) عند الإنسان ، وهي تمثل خطوات العزلة من أجل فتح أوعية العقل لاستقبال الفيوضات التي يمكنها أن تمنح العقل روحاً ، لأن كل إنسان يملك عقلاً ، وجسداً ، ونفساً ، ولكن ليس كل إنسان يمتلك روحاً ، بل إن الإنسان نفسه تتفاوت لديه القدرة على اكتساب (الروح) ودرجاتها ، ومنه نفهم سر اختيار عبارة ((فأرسلنا إليها – روحنا - فتمثل لها بشراً سوياً)) ، فالمغزى هنا يتعلق بالروح ، وهبة الروح ، وهذا واضح في عبارة ((لأهب لك غلاماً زكياً)) ، والغلام هنا يشير الى (روح) موهوبة جديدة داعمة للعقل ورادعة للنفس ، فالروح يهب الأرواح ، كما أن ملك الموت يسلب الأرواح .

إن أول إشارات الصراع تكمن في الآيات الأولى المتعلقة بالقصة ، حيث يتصارع العقل (مريم) مع نفسه ، ليقبل أو يرفض (العقدة الكاذبة) ، ويصارع القناعة بفكرة إمكانية أن يأتي الشئ من الــ (لاشئ) ، فقد انتفضت (مريم) التي تمثل العقل ، على مفهوم أو فكرة أو مشروع أن تصبح (حاملاً) أو تلد دون استكمال العوامل المهمة في عملية الإخصاب ، والمتمثلة – مادياً – بالرجل والمرأة والنطفة والبويضة وبلوغ الأورجازم .

لقد كان العقل (مريم) يصارع نفسه في مسألة قبول مخالفة قوانين ونواميس الطبيعة ، ويثبت التصاقه بحركة الطبيعة المؤثرة ، ويعبر عن انهياره أو انكساره أو عجزه عن قبول ما لا ينتجه أو يدعمه المختبر ، رغم أن هذا العقل كان قد تشبع بمظاهر النمو والإنبات الحسن ، وخبر المراس في التعاطي مع خرق الطبيعة ، وسبق له أن اكتشف أو شاهد عوالم (ما وراء الطبيعة) من خلال المعجزات ، وكان هذا العقل (مريم) قد تلمس الطريق الى المعجزات وخرق الطبيعة وعلى غير عادة القوانين الطبيعية ، كما هو مذكور في بدايات سورة آل عمران .حين كانت تأتيها (الموائد) من السماء ، والتي لم يستطع زكريا (النبي) نفسه أن يخفي استغرابه منها ، فنرى (زكريا ع ) ينزاح أيضاً نحو المادة ، كما هو مندرج في كتاب الله فيتسائل ((كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ، قال يا مريم !!! أنـّى لك هذا ؟)) ، وذلك حين كانت (مريم) تحت رعايته ، وتنعم بفيوضات نبوته ، وكانت تحت كفالته ، وهو من تولى بنائها وزراعة الفضيلة فيها ، ولذا ، كانت مريم العقل – في مرحلة سابقة – تتعامل مع هذه الخروقات للطبيعة على أنها من المسلمات ، ربما لأنها كانت تصب في وعاء فائدتها ، فنراها ترد على دهشة وتساؤلات (زكريا) قائلة ((هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)) .

ولكن هذا العقل (مريم) ينتفض حين لا يجد جواباً لخروقات الطبيعة التي لا تؤدي الى فائدته ، فنجدها (أي نجد العقل) يحاكم نفسه ويرفض ما لا يستطيع إدراكه ، ويعترض على التقافز فوق الأسباب الطبيعية ، حين قالت مريم (العقل) رافضة فكرة الحمل والولادة دون زواج أو وجود العنصر الثاني المكمل لعملية الإخصاب ((أنـّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغياً)) ، وهنا ينزاح العقل – تماماً – نحو المادية ، فيأتي تأثير (الوحي) المتمثل بـ ((روحنا)) ليغلق أمام العقل طريق التساؤل والتسافل المادي ، فيقول ((كذلك قال ربك ، هو عليّ هين)) ، لكي يمنح العقل نوعاً من الإطمئنان في لحظة انكساره ، ويفرض عليه مفهوم الخرق للطبيعة فرضاً حين يقول له أو لها ((وكان أمراً مقضيـّاً)) ، فيتحمل العقل (مريم) أعباء الوحي ، ويقبل الفكرة بشكل غير متجذر ، خضوعاً للفيض ، وتسليماً للوحي ، وإذعاناً للقدرة ، ولو أنه لم يكن مقتنعاً 100% بفكرة خرق القوانين الطبيعية ، ولذلك نراه – حتى بعد التسليم ، وحتى بعد وقوع الخرق في قوانين الطبيعة – يراهن على قدراته الاستيعابية فقط ، ، فنجد مريم العقل حتى بعد أن ((فأجائها المخاض الى جذع النخلة)) تتناسى قناعاتها التي توارثتها من (الوحي) ، وتعود الى ثورتها ، لتقول ((يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)) .

إن انزياح العقل نحو (المختبرية) في الفهم ، وتعلقه بالماديات ، وتسليمه بالقوانين والأسباب الطبيعية ، يجعل منه عاجزاً أمام تقبل فكرة (الماوراء) ، وحتى لو أنه سلّم أو قبل بإملاءات (الوحي) والأنبياء ، فإنه لا يستطيع أن يغادر مفاهيمه المادية بسهولة وببساطة ، وهذا ما يجعل المعجزات الخارقة للطبيعة (أشد تأثيراً) و (أقل ديمومة) ، ومنها نفهم لماذا اختار الله لنبيه (محمد) صلى الله عليه وآله معجزة القرآن ، مع وجود الكثير من المعجزات ، ذلك لأن الله سبحانه أراد لهذه المعجزة – القرآن - أن تمتلك التأثير الآني والسريع في مجتمع فصيح كقريش ومن حولها ، وتمتلك الديمومة على مر الزمن في ذات الوقت ، لأن المعجزات الخارقة للطبيعة أسرع زولاً في التأثير على النفس ، بل ربما تجد لنفسها تبريراً علمياً أو تفنيداً لدى العلماء في المستقبل .

ولذا رأينا مريم مع وجود الوحي ، ومع تربيتها في بيت زكريا تنتفض لهذا الخرق ، بسبب انزياحها نحو المادة والمادية والطبيعيات ، وترفض – حتى بعد التسليم للمشيئة والقدرة – فكرة ولادة إنسان من دون أب ، ولذا ، فهي تعبر عن رفضها بمقولة ((يا ليتني مت قبل هذا)) وهو أنموذج العقل الذي يوقن بالله والوحي والقدرة والرسالة ، ولكنه لا يستطيع التملص من المادة ، ولا يستطيع تجاوز الأسباب الطبيعية .

ويمكن أن نجد أن العقل (مريم) هنا تحتاج الى داعم آخر كي يوطد علاقتها بـ (ما وراء الطبيعة والأسباب) ، وتحتاج وسيطاً بينها وبين النفس ، وهنا يأتي دور (الروح) لتغيير القناعات ، وإذكاء نكهة الطمأنينة والرضا عند العقل ،كي يكمل قبول العقل للفعل الخارق للطبيعة ، والمتقافز على القوانين والنواميس ، ولتبدأ معها رحلة الصراع مع النفس ، في سلسلة من المشاهد يصورها المشهد (القرآني) أروع تصوير.

ولنلاحظ أن الله أرسل ((روحنا)) الى العقل (مريم) بشكل بدائي ومقبول ومضمون الألفة ، يمكن فهمه بما يلي ((فأرسلنا إليها روحنا ..فتمثل لها - بشراً - سويـّاً) ، وذلك تحضيراً للعقل بقبول الخرق الآتي ، ومخاطبته بلغته الدارجة ، وهو أشبه بـ (استدراج العقل) لقبول الخوارق ، وهو ما نلاحظه في الحوارية التالية بين العقل والوحي ((قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيـّاً ، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً))وهنا تتجلى فكرة قناعة العقل بوجود القوى المسيطرة على العالم ، والتي يمكنها خرق القوانين ، ولكنها تحتاج الى صورة مادية (معروفة) كي تتعامل معها فكان ((بشراً سوياً) ، وهذا كي تبدأ مرحلة أخرى من مراحل فتح بوابة العقل لقبول الخرق من منطلق (المادية) التي عبر عنها العقل بانتفاضته وتساؤله ((أنـّى يكون لي غلام؟) .

من روائع التفاتات القرآن في مسرحة دور (العقل) أنه اختار لهذا الدور مريم وهي (امرأة) ، لكي يقول لنا بأن العقل ليس حصراً على جنس من الأجناس ، بل هو متمثل بوجوده لدى الرجل والمرأة على حد سواء ، وقد أسند دور العقل للمرأة على اعتبارها كائن ناعم ولطيف وغير قوي ، لكي يقول لنا بأن العقل ليس كاملاً في القوة التي تعد من العناصر المهمة .

وفي لحظة انكسار العقل ، يأتي دور الروح المتمثل بالسيد المسيح ع ، فنرى (الروح) تخاطب العقل على وفق متبنياته المادية ، وتحرك لديه الإطمئنان ، وتغازل فيه متطلباته ، ونلاحظ لطافة الخطاب في عبارة ((فناداها من تحتها)) ، ذلك لأن الروح مخبوءة تحت تفاصيل الإنسان ، وهي ليست بارزة كما العقل ، فنجد أن الروح تبدأ خطابها للعقل (ألا تحزني....قد جعل ربك تحتك سريـاً) وهي دعوة للإطمئنان والراحة ، ودعوة للعقل أن يعود الى (تحت) حيث يمكنه فهم الخرق ، وبنفس الوقت ، لا تترك (الروح) أهمية الأسباب الطبيعية لدى العقل فتقول له ((فكلي ، واشربي ، وقري عيناً)) وهي تمثل ارتباط الغرائز وإشباعها بالتأثر النفسي والقناعات والإرتياح والهدوء ، وهي إقرار بأن (الروح) تفهم أن تجويع الإنسان أو عزله عن متطلباته قد يؤدي به الى عرقلة مسيرة (العقل) ، وكبح طاقاته على التفكير والتدبر .

أنظر كيف تحاول الروح أن تدفع بالعقل الى أن ينظر الى (فوق) ، في إشارة الى استقبال الفيض ، فيقول للعقل ((وهزي إليك بجذع النخلة)) ((تساقط عليك)) ((رطباً جنياً)) ، وهو دفع للعقل أن يتحرك ، ليغازل الخيط الممتد من الأسفل للأعلى ، كي يهزه ، وينتظر الفيض الذي يمثله القرآن بالرطب الجني .

وفي المرحلة الثانية ، وبعد أن توفر (الروح) للعقل مكامن الإرتياح واشباع الرغبات المهمة والنظيفة ، تبدأ الروح بتوجيه العقل نحو مساحة جديدة ، فيعد أن يأكل العقل ويشرب ، ويقر عيناً ، تبدأ الروح بدعم العقل للتفكير الصحيح (الإنساني) حين نقرأ في خطاب الروح للعقل بعدها مباشرة ((فإما تريـّن من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيـّاً) وهي من أروع حوارات الروح والعقل ، فالروح هنا لا تنكر وجود العوامل البيئية والمجتمعية ، ولكنها توجه العقل الى كيفية (تقنين) التعامل مع الخارج ، وترسم له مخططاً للتعامل معه ، وهي تشبه مقولة (عاشر الناس ، ودينك لا تكلمنه) .

فالروح هنا تزرع لدى العقل قناعات في الخلاص ، وحيلة في التدبر ، وتترك لنفسها أخذ دور الرد على اهتياجات وتساؤلات النفس (المتمثلة بقوم مريم) ، وتشكل الداعم لحجج العقل على النفس ، وكأنها تعمل عمل وسيلة التقارب بين العقل والنفس ، فتأمر العقل – ((فقولـي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)) - بأن يصمت بعجزها أمام تساؤلات النفس ، وتمنح الروح متسعاً للرد ، لأن الإعتماد على العقل وحده في الحوارات والمساجلات سيوقع العقل في معترك الصراع بين المادة والماوراء ، بل لابد للروح من تدخل كي تصنع الإجابات ، وهو ما نسميه بالتسديد .

وفي مشهد رائع لا تستطيع رسمه آلاف اللوحات الفنية ، ولا تستطيع الإحاطة به آلاف المؤلفات ، وتعجز عن مسرحته كل خشبات المسرح ، يأتي القرآن ليختصر كل هذا الصراع بين الروح والعقل والنفس ، ويجمع كل عناصر الصراع بلوحة فنية مختصرة ، وبعبارة مشحونة متدفقة فيقول (( فأتت به قومها تحمله)) ، وللقارئ حق الرحيل بمخيلته كي يسرح في عوالم هذه اللوحة (البانوراما) التي لا تحدها حدود التفكير.

يمكن أن نفهم من هذا التكثيف الصوري بأن العقل هو (حاضن) الروح ، ومن خلاله يمكن للروح أن تعبر عن نفسها ، بل إن مقدار وكمية الروح تأتي على وفق استيعاب العقل ، فالمفترض بالعقل أن يحاول ، وأن يجاهد ، وأن يبقي وعاءه مفتوحاً نحو السماء كي يتلقى الفيض ، وتنمو لديه الروح .

في هذا المشهد ، تبدأ مرحلة الصراع والإقناع بين النفس والروح ، بينما يقف العقل مراقباً ، ينتظر نتائج الحوار كي يبني عليها قناعات جديدة ، في وقت تبدأ فيه (النفس) المتمثلة ببني إسرائيل بالتساؤل ، وتتجزأ النفس الى صورها الثلاث ، وتعبر كل واحدة عن نفسها وقناعاتها ، فواحدة تقول ((يا مريم – أي يا عقل - لقد جئتِ شيئاً فرياً)) ، بيد أن الأخرى تخاطب العقل بلغة هادئة قائلة ((يا أخت هارون)) وثالثة تحاول أن تكون أكثر التصاقاً بالمنطق أو الإستنتاج فتقول ((ماكان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً)) .

وحين تفرض النفس حصارها على العقل ، وتنهكه بالأسئلة التي تحاكي القناعات المادية ، والموروثات المجتمعية ، يبدأ العقل باستصراخ (الروح) واستنهاضها من أجل الرد على تخرصات النفس ، والإجابة عن اسئلتها ، ويقوم العقل باستخلاص ومضات الروح ، فنجد أن النص القرآني يختصر هذا المعنى بعبارة ((فأشارت إليه)) ، لكي يخرج العقل من دائرة الحوار المنفلت عن المختبرية والمادية ، ويترك مجالاً للروح كي تعبر عن عالمها الغريب ، وغير المرئي ، وغير الخاضع للقياسات المختبرية .

النفس – بأنواعها الثلاث – تمتلك القدرة على اكتساب القناعات أكثر من العقل ، ويمكن لها تقبل فيوضات عالم الماوراء بشكل سريع ، ورغم أن النفس متمردة ولكنها أقرب للإقناع ، فنجدها ترد على العقل حين يشيرها للروح بتساؤل يدغدغ قناعات العقل وانزياحه نحو المادة وقوانين الطبيعة ، قائلة ((كيف نكلم من كان في المهد صبياً)) .

هنا يأتي دور (الروح) لتعبر عن نفسها ، وتغازل (النفس المطمئنة) بمفردات مكتنزه لديها ، فتقول ((إني عبد الله)) ، حيث تشير الروح إلى وجودها بكلمة ((إني)) ، وتعبر عن نسبها وصفتها بكلمة ((عبد)) ، وتعلن عن انتسابها ومصدرها بكلمة ((الله)) ، فتكتمل الصورة بكلمات مختصرة ((قال إني عبد الله)) ، ثم تأتي بعدها التفاصيل .

وتبدأ (الروح) باستعراض مؤهلاتها ومواصفاتها ومكتسباتها ووظيفتها بعد أن تشير عناية النفس الى أصل انتسابها ، وعدم تأثرها بالمادة وعدم انزياحها نحو الشوائب الجسدية والنفسية والعقلية التي يمكن أن تفرمل حركتها ، فتقول ((آتاني الكتاب)) لتعبر عن اكتنازها بالفيض وعدم قبولها لفكرة التلاقح مع المؤثر الخارجي ، ثم تقول ((وجعلني نبياً)) لتعبر عن وظيفتها كـ نبي (داخلي) للإنسان ، ورادعٍ له من التسافل والإنحطاط ، ثم تستعرض كونها ليست موجوة لدى كل الناس حين تقول ((وجعلني مباركاً أينما كنت)) ، وهو دعم لوظيفتها كنبي من الأنبياء الملازمين للإنسان .

تبدأ الروح بإرسال إشاراتها للنفس عبر ((وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً)) ، وهي تختار النفس لإيصال الفكرة في العبادات ، لأن العقل قد يرفض (العبادة) ويبحث فيها عن الفائدة والنتيجة والغاية والعلل ، وهنا تقوم الروح بترسيخ فكرة العبادة لدي النفس ، ولا تخاطب العقل المادي ، ولأنها تعرف بأن للنفس الغلبة حتى على العقل ، وقد ينقاد العقل الى توجيهات النفس ودفعها ، ويتجرد عن طاقاته وقدراته بالمعرفة والتحليل والإستنتاج والإستنباط والفرز لمجرد وجود الدافع النفسي .

وحين تتمكن الروح من زرع القناعات لدي النفس ، تبدأ مرحلة جديدة في التوجيه ، فالروح في النص السابق دخلت الى النفس ، وهيأت أرضيتها من الداخل بـ ((الصلاة والزكاة)) ، لتنتقل بعدها الى توظيف نتائج هذه العبادات والقناعات الى الأسرة ((وبراً بوالدتي)) ، وفيها إشارة مهمة الى رعاية الروح للعقل ، فوالدتي هنا تعني (مريم) وهي تعني العقل ، وعليه ، فمن وظائف الروح أن ترعى العقل ، وتخدمه ، وتوفر له مستلزماته .

وفي آخر النص نجد عبارة ((ولم يجعلني جباراً)) فهي تتعلق بأسلوبية التعامل مع المجتمع ، حيث تقوم الروح بزراعة بذرة التخلص من (التجبر) لدى النفس ، لتؤثر بدورها على العقل ، وتكظم لديه الرغبة في التسلط .والتخلص من الــ (أنا) المريضة .


راسم المرواني
العراق – عاصمة العالم المحتلة
marwanyauthor@yahoo.com