الرد على الموضوع
صفحة 1 من 4 1 2 3 4 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 42

الموضوع: نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان"

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1 نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان" 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    للشمس سبعة ألوان
    قراءة فى تجربة أدبية

    بقلم: محمد جبريل

    الطبعة الأولى
    كتاب الجمهورية ـ يونيو 2009م.


    ....................................


    إلى ماهر شفيق فريد




    تعرفين كم هو صعب وثقيل على المرء أن يكون كاتباً
    ديستويفسكى فى رسالة إلى قريبته إيفانوفا


    .................................................. ...

    هذا الكتاب حصيلة شهادات ، كتبتُها فى مناسبات مختلفة حول التجربة الإبداعية فى حياتى . كتبت فى فترات متباعدة ، وإن كان محورها نظرتى إلى العملية الإبداعية من خلال الأعمال التى أتيح لى كتابتها ، أو ما يمكن تسميته " تجربتى الأدبية " [ نشرت شهادتى عن " الأسوار " فى كتاب " قراءة فى أدب محمد جبريل الذى نشر عام 1984 ، فهى أول ما كتبت عن تجربتى الأدبية ] . قد تبدو كل شهادة مستقلة فى ذاتها ، وقد يتكرر الرأى الواحد ـ وربما الواقعة الواحدة ـ فى أكثر من شهادة ، لكن مجموع الشهادات يمكن أن يقدم للقارئ صورة كلية لآراء الكاتب فى العملية الإبداعية ، من خلال محاولة الإجابة على العديد من الأسئلة التى تشغل الكاتب ، وتشغل قارئه فى آن معاً
    أردت بهذا الكتاب ، أو بهذه المجموعة من المقالات التى تتناول وجهة نظرى فى قضايا الأدب والفن ، أن أفسر بعض الأمور ، مستعيناً فى توضيح ما أقول ، بما صدر لى من أعمال إبداعية ، فضلاً عن إبداعات الآخرين ، والشهادات التى تتوافق مع وجهات نظرى ، أو تختلف معها ، محصّلة لقراءات إيجابية فى الكثير من كتب النقد الأدبى والدراسات الأدبية ، والسير الذاتية للأدباء . لم تشغلنى فلسفة الكاتب ولا اتجاهه الأيديولوجى أو الفنى . ما شغلنى فحسب هو الرأى الذى أوافق عليه ، أو أختلف معه ، فأناقشه . ربما أميل إلى رأى يصدر عن كاتب ماركسى الأيديولوجية ، وأختلف مع رأى يصدر عن كاتب يؤمن باليقين الدينى ، لا لأنى أومن بالماركسية ، أو لأنى كاتب غير متدين ، وإنما لأن الرأى المحدد يخاطب قناعاتى ، بصرف النظر عن السياق الذى اقتطعته منه . هذه الكلمات أقنعتنى ذاتها ، فلا شأن لى بهوية كاتبها ، ولا ببحر الكلمات الذى كانت تسبح فيه ..
    قد يلحظ القارئ إطالة فى بعض الفقرات ، واختصاراً فى فقرات أخرى ، أو مجرد الإشارة إلى ما كان يستحق الإفاضة .. لكن ملاحظتى ـ كقارئ ـ أن طول مساحة القضايا التى تثيرها المقالات ، أو قصرها ، أو غيابها أحياناً ، لأنها تكمل بعضها البعض . فوجهة النظر المستفيضة فى مقال ، أكتفى بالإشارة إليها ، أو أهملها ، فى المقالات الأخرى ..
    هذه المقالات ، تشكل ـ فى مجموعها ـ وجهات نظر واضحة ، محددة ، من قضايا العملية الإبداعية فى أبعادها المختلفة . ثمة رأى أن المبدع هو ـ فى الأغلب ـ أسوأ من يستطيع الحديث عن إبداعه . لكن هذه المقالات تتسم بالعمومية لا بالتخصيص ، تتحدث عن العملية الإبداعية فى عمومها ، وتشير إلى نماذج للكثير من المبدعين ، وحسبت نفسى واحداً منهم . وإذا كنت قد أفدت من آراء الآخرين لتأكيد آرائى ، أو للتدليل عليها ، فليس معنى ذلك أنى أتحاشى المؤاخذة ، أو أحاول نفى نسبة تلك الآراء لنفسى على أى نحو ، ولا حتى لاقتناعى بتلك الآراء . إنها آراء ووجهات نظر أومن بها ، أدعمها ـ هل هذا هو التعبير الأدق ؟ ـ بآراء ووجهات نظر أخرى لكتاب عرب أو أجانب ، بصرف النظر ـ كما أشرت ـ عن انتماءاتهم الأيديولوجية ، أو التيارات الفنية التى يدعون إليها ، أو يعبرون عنها . ما وجدت فيه مرآة لآرائى ، نقلته باعتباره كذلك ، وما اختلفت معه ، عرضته للمناقشة والتحليل واختلاف الرأى ..
    والحق أنى ترددت فى نشر هذه المقالات ، إدراكاً منى بأنه ينقصها ما يمكن إضافته .. لكن الكمال مطلب يصعب على المرء ـ ويصعب على كاتب هذه السطور بخاصة ـ أن يبلغه . من هنا ، جاوزت التردد إلى نشر المقالات ، فهى ـ فى المحصلة النهائية ـ تعبير عن آراء ووجهات نظر فى العملية الإبداعية . ربما أضيف إليها فى مقالات تالية [ وقد أضفت بالفعل أسماء روايات وشخصيات من أعمال تلت كتابة هذه المقالات ، ونشرها فى الدوريات المختلفة ] ، وقد أجرى بالحذف والتبديل ، لكن يقينى بالملامح المهمة فيها لم يتبدل منذ أصبحت الكتابة ـ بالنسبة لى ـ قضية حياة .
    أخيراً ، فلعله يجدر بى أن أشير إلى أن أنى تناولت قضايا تتصل بمادة هذا الكتاب فى كتب أخرى : مصر فى قصص كتابها المعاصرين ، نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ، آباء الستينيات ، مصر المكان ، مصر : من يريدها بسوء ، مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات ، قراءة فى شخصيات مصرية ، حكايات عن جزيرة فاروس ، وغيرها .
    وأملى أن أكون قد وفقت ،

    محمد جبريل ـ مصر الجديدة 16/2/2008م.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    فهرست
    ..........

    1 ـ مقدمة
    2 ـ الأسوار
    3 ـ ملاحظات فى فن الرواية
    4 ـ ماذا يريد الكاتب ؟
    5 ـ دلالات الكتابة
    6 ـ كلام عن الحرية
    7 ـ المثقف والمجتمع والسلطة
    8 ـ التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية
    9 ـ الإضافة فى الفن
    10 ـ الفن إضمار .. ولكن ..
    11 ـ الواقع .. والخيال
    12 ـ الواقعية السحرية
    13 ـ الحداثة .. وما بعدها
    14 ـ القصة تكتب نفسها
    15 ـ الفن : هل هو للتسلية ؟
    16 ـ دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح
    17 ـ التراث .. لماذا نستلهم منه قصصنا ؟
    18 ـ القــراءة
    19 ـ القارئ .. والكاتب
    20 ـ الصحافة .. والأدب
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الأســــــــــــــوار
    .....................

    ـ 1 ـ
    على الرغم من اختلافى مع أرنولد بنيت فى رأيه ، بأن أساس الرواية الجديدة هو " خلق الشخصيات ، ولا شئ سوى ذلك " ، فلعلى أتفق تماماً على أن خلق الشخصيات دعامة أساسية فى بناء الرواية ، الذى يستند ـ بالضرورة ـ إلى دعامات أخرى ، أقواها ـ أو هذا هو المفروض ـ " الحدوتة " ، وإن تصور بعض الذين اقتحموا عالم الرواية الجديدة ، نقاداً أو أدباء ـ أن الرواية ليست فى حاجة إليها ، وأن ما يستعين به الفنان من أدوات ، يضع الحدوتة فى مرتبة تالية ، أو أنه يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً ..
    وفى تقديرى ، أن الحدوتة هى " النطفة " التى يتخلق بها العمل الإبداعى . وأذكر أنى حين عرضت ـ للمرة الأولى فى القاهرة ـ مسرحية بيكيت " لعبة النهاية " أن إعجاب النقاد تركز على خلوها من الحدوتة . وكان ذلك ـ فى تقديرهم ـ هو " الجديد فى الرواية الجديدة " . كانت القاهرة تعانى ـ كعادتها ـ غربة حقيقية عن الواقع الثقافى المتجدد فى الحياة الأوروبية . وكانت القلة تسافر وتشاهد وتقرأ ، والكثرة تنتظر ما يفد ـ متأخراً ـ وتقف منه ـ فى كل الأحوال ـ موقف الإعجاب . ولعلنا نذكر ما فعله الكاتب الساخر أحمد رجب ، حين طلب آراء عدد من كبار مثقفينا فى مسرحية من تأليفه على أنها لدورينمات . وتبارى مثقفونا فى إبراز الجوانب المتفوقة فى المسرحية المزعومة . وكتب الحكيم يا طالع الشجرة ومصير صرصار تأكيداً لريادته المتطورة .. وظواهر أخرى كثيرة ..
    أقول : حين عرضت لعبة النهاية ، وتركز إعجاب النقاد على خلوها من الحدوتة ، كان لأستاذنا نجيب محفوظ رأى آخر . ونشرت معه حواراً فى جريدة " المساء " ملخصه أن العمل الفنى بلا حكاية ، بلا حدوتة ، يصعب ـ مهما يتسم بالجدة ـ أن يسمى عملاً فنياً ، لأنه ـ حينئذ ـ يفتقد أهم مقوماته ، واستطاع ـ فى الحوار ـ أن يروى الحدوتة ، الدعامة التى استند إليها بناء المسرحية .
    الحكاية ـ كما يقول فورستر ـ هى العمود الفقرى . ويقول هيربرت جولد : إن كاتب القصة يجب أن تكون له بالفعل قصة يحكيها ، فلا يقتصر الأمر على مجرد نثر جميل يكتبه . وقيل إن الرواية " فن درامى يقوم على أساس الحدث " . ولعلى أذكر قول تشيكوف : إن الكاتب لا يكتب قصة قصة قصيرة إلا عندما يريد التعبير عن فكرة . حتى ألان روب جرييه يؤكد أن الروائى الحقيقى هو الذى يعرف كيف يقص الحكاية . وفى مقدمة يا طالع الشجرة ـ ذات الشكل السوريالى ـ كتب الحكيم : " المسرحية لا بد أن تحمل معنى . ولا يكفى فيها المعنى الداخل فى ذات تشكيلها . ربما استطاع الشعر ـ خصوصاً السوريالى والدادى ـ أن يحمل معنى وجوده فى ذات صياغته ، ولكن المسرحية ، وكذلك القصة ، لابد أن تقول شيئاً " ..
    الحدوتة إذن هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل فنى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وفى مقدمتها محاولة الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك والتقطيع فى السينما ، والهارمونى فى الموسيقا ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والحوار فى المسرحية إلخ . وكما يقول هنرى جيمس فإن الفكرة والشكل هما الإبرة والخيط ، ولم أسمع بعد ـ والكلام لهنرى جيمس ـ عن نقابة للخياطين أوصت باستعمال الخيط دون الإبرة .
    ولقد كانت الحدوتة ، الحكاية ، الفكرة ، التيمة ، الحدث ـ سمها ما شئت ـ هى الباعث الحقيقى لأن تتحول الأسوار فى ذهنى ـ قبل كتابتها بأعوام ـ إلى أحداث ومواقف وشخصيات . ثم تتخلق فى أشكال هلامية عدة ، قبل أن تأخذ ـ فى طريقها إلى المطبعة ـ سماتها النهائية ..
    فماذا كانت " الحدوتة " التى أملت كتابة الأسوار ؟
    ـ 2 ـ
    إن السؤال الذى ربما يلح على بعض المتصدين للعمل الوطنى ، دفاعاً عن حق الجماهير فى حياة آمنة ، هو : هل يعى هؤلاء الذين بذلت الحياة لنصرة قضاياهم قيمة ما أفعل ؟.. وهو سؤال يحمل السذاجة والانتهازية فى آن معاً ، ذلك لأنه يعامل مصير الجماعة بمنظور شخصى بحت ، ويناقش الأمور بمنطق المكسب والخسارة .
    الإنسان صاحب القضية يختلف عن الإنسان العادى فى أنه يبذل كل شئ ، حتى النفس ، من أجل نصرة ما يرى أنه حق ، ومن أجل دفع ما يرى أنه ظلم . بل لعله يعلم يقيناً أن ثمرة الانتصار لن تصل بحال إلى يده ، بل إن مصيره أقرب إلى الموت . مع ذلك ، فإنه لا يتقاعس عن نصرة الاتجاه الذى يؤمن به . وكما تقول نتاليا بطلة تورجنيف الشهيرة : إن الذى يسعى إلى غاية جليلة يجب أن ينقطع عن التفكير فى نفسه . ربما المنطق العادى يحمّل المسيح مسئولية صلبه ، فقد كان أدرى الناس بصورة المأساة المقبلة ، ويحمّل الحسين مسئولية استشهاده ، فهل يقوى سبعون على محاربة سبعين ألفاً ، ويحمّل جيفارا مسئولية اغتياله فى أحراش بوليفيا ، فهو الذى كان يعلم جيداً بتلمس المخابرات الأمريكية لخطواته . لكن الخطأ فى طرح القضية بهذه الصورة ، ذلك لأن " المناضل " يؤمن بعدالة القضية وقداستها حتى على النصر ذاته ، وبالتالى على الهزيمة له ولأتباعه ، والتى قد تصل إلى التصفية الجسدية . كان الأستاذ فى الأسوار يعلم بالمصير الذى ينتظره فى نهاية النفق ، مثلما كان جيفارا يثق أن المخابرات الأمريكية تترصد له حتى تغتاله ، منذ اختار سبيل تصدير الثورة إلى خارج كوبا " مرحباً بالموت مادامت يد ثورية تمتد لتقبض على أسلحتنا من بعدنا " ، ومثلما كان الليندى ينتظر الاغتيال نهاية لإصراره على البقاء وحيداً ، وأعزل ، فى وجه القوات التى اقتحمت قصره ، ومثلما كان الحسين يعلم باستشهاده وهو يقود فرسانه القلائل من الحجاز إلى العراق . وعلى حد تعبير المستشرق الألمانى حاربين ، فإن " حركة الحسين فى خروجه على يزيد ، إنما كانت عزمة قلب كبير ، عز عليه الإذعان ، وعز عليه النصر العاجل ، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذى يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيى به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة " . ويروى عن الإمام على قوله : لا تزيدنى كثرة الناس حولى عزة ، ولا تفرقهم عنى وحشة ، وما أكره الموت على الحق . كان الحسين يمتلك اليقين . وكان أعوانه الاثنان والسبعون يمتلكون اليقين نفسه ، بأن المعركة التى اتجهوا إليها صباح العاشر من محرم ، ستنتهى باستشهادهم ، لكن الدافع لم يكن مجرد الرغبة فى الاستشهاد ، فى الموت . كان الدافع هو التعبير عن رفض القهر والظلم ، حتى لو كان المقابل لذلك هو الموت . سقط كل جند الحسين شهداء ، فظل يواصل القتال بمفرده . حمل على جند الكوفة حتى شق صفوفهم بجرأة مذهلة ، ثم سقط بضربة سيف فى العنق . وأمر عبيد الله بن زياد ، فمثل بجسد الحسين ، وترك جثمانه للجوارح . أما الرأس ، فقد دفن ـ فيما بعد ـ فى كربلاء ، وإن ظلت أعداد كبيرة من المصريين تؤمن بأن رأس الإمام الشهيد مدفون فى جامعه بالقاهرة ..
    وأغلب ظنى أن مصطفى كامل كان سيتخلى عن مبادراته الوطنية ، لو أنه عانق اليأس الذى فرضه التصور بأن الشعب المصرى يتقاعس عن التحرك وراءه ، نشداناً لحريته . عاب مصطفى كامل ـ فى لحظات سخط ـ على الأمة أنها " لا تسعى للوصول إلى هذا المرام السامى ، وإلى تحقيق أمنيتها . بل تريد أن تأتيها الحرية وهى نائمة ، فتوقظها من نومها " . وهو يقول فى رسالة إلى صديق : " ها أنا ذا أنتظر من يتبعنى ، وأظن الأيام والليالى تمر ، ولا يتبعنى غير الهواء " . ويقول فى رسالة أخرى : " إنى عالم بأنى لا أستطيع الاعتماد على أحد من أبناء جنسى ، وإنى إذا صودرت يوماً بأية طريقة كانت ، لا أجد من أمتى عضداً أو نصيراً ، وهذا ما يحزننى كثيراً . فإنى مع ارتياحى للمهمة التى عرضت نفسى للقيام بها ، والغرض الشريف الذى أعمل له ، أرى غيرى من الذين أحب التشبه بهم ، كفرانكلين وغيره ، كان يعمل ووراءه أمة تعزز مطالبه ، وتدافع عنه ، بعكس ما أنا فيه " . ويقول فى رسالة : " دعنى بالله عليك من هذه الأمة التى بلانى الله بأن أكون واحداً من أبنائها " إلخ [ لا تنشغل بتذكر مقولاته المعلنة مثل قوله إنه لو لم يولد مصرياً ، لتمنى أن يكون مصرياً ! ] . لكن الزعيم أدرك ـ فيما بعد ـ أن انتفاضات الشعب لا تتحقق يخطب تشتعل حماسة ، فالتحرك الجماعى يستند إلى التوعية أولاً ، فالإعداد والتنظيم ، فضلاً عن دعامة الوقت التى تضع لكل خطوة توقيتها وحسابها . والحقيقة التاريخية تضغط على أن صلب المسيح هو الدعامة التى تماسك عليها إيمان أتباعه بخلود رسالته وتواصلها . كذلك فقد كان استشهاد الحسين بداية طريق طويلة من الثورات المتلاحقة ضد السلطة الظالمة ، أياً تكن . وكان مقتل جيفارا دافعاً للمزيد من الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية . ولا يخلو من دلالة قول سلفادور الليندى ـ قبل دقائق من اغتياله ـ بأيدى قوات الانقلابيين ـ " إنى موقن أن تضحيتى لن تذهب هباء ، وأنها ستكون على الأقل درساً معنوياً لعقاب الغدر والخيانة والجبن " . فماذا أقول عن الخديعة التى استلبت أستاذ الأسوار من وسط أتباعه ، لتودى به إلى المصير المؤلم ؟
    كان محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى يمشى فى بعض طرق الكوفة ، فنظر إلى عجوز تتبع أحمال الطرب ، تلتقط ما يسقط منها ، وتضعه فى كسائها الرث . فلما سألها عما تصنع بذلك ، قالت : إنى امرأة لا رجل لى يقوم بمؤنتى ، ولى بنات لا يعدن على أنفسهن بشىء ، فأنا أتتبع هذا من الطريق ، وأتقوته أنا وولدى . فبكى محمد بطاء شديداً ، وقال : أنت وأشباهك تخرجونى غداً حتى يسفك تماماً . وفجر محمد بن إبراهيم الحسينى العلوى ثورته العظيمة التى استمرت فترة طويلة ، وتعاقب عليها ـ بعد استشهاده ـ العديد من الثوار ، وامتدت إلى العراق والشام والجزيرة واليمن . ومع أن الصوفى لا يعنيه إن كان مجتمعه يعانى عسف حكامه ، أو أوضاعاً اقتصادية سيئة ، ذلك لأن فلسفة التصوف تكمن فى فناء العاشق فى المعشوق ، العبد الفقير الفانى فى الخالق الأعظم الباقى بعد فناء الأرض ومن عليها ، ثم فى الاعتزال التام لحياة البشر ، والانكفاء على الذات والمجهول من الأسرار ، وتفحص المخلوقات نشداناً لروح الخالق .. مع ذلك ، فإن أبا منصور الحلاج رفض أن يغض بصره عن الظلم الرهيب الذى كان يعانيه مجتمعه فى حكم العباسيين ، فنزل إلى الأسواق ، يبصّر الناس ـ بالرمز ـ بحقيقة أوضاعهم ، ويحثهم على أن يدافعوا عن حقوقهم ، ويثوروا على ظلم الحاكم ، فقبض عليه الحاكم ، وشهد ضده أقرب رفاقه ـ الإمام الشبلى ـ فاتهمه بالزندقة ، وحكم عليه بالصلب على جذع شجرة ، تطل على شاطئ الكرخ ببغداد . وبالمثل ، فلم تكن ثورة الحسين طلباً للسلطة بقدر ما كانت محاولة لاستعادة الحق الذى طال احتجابه على يدى يزيد بن معاوية . وكانت الأهداف التى ناضل من أجلها الحسين ، تمثل المصالح العريضة للجماهير الكادحة . وحين خرج على معاوية ، فقد كان موقناً من تأييد هذه الجماهير له ، ومحاربتها إلى جانبه . لكن الظروف الموضوعية لم تكن مواتية لنجاح الثورة . وكان فى مقدمة تلك الظروف غياب الوعى عن الكثرة الغالبة من جماهير المسلمين ، ومن ثم فقد أخفقت الثورة ، وإن ظلت أفكارها فى عقول القلة التى ظلت تتكاثر بما تبدّى فى تلك الثورات المتلاحقة ، والمتكررة ، فى المجتمع الإسلامى . كان مع الحسين ـ فى كربلاء ـ اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً ، استشهدوا جميعاً ، وواجه الحسين بمفرده جيش عبد الله بن زياد . مع ذلك فإن مقاتلى ابن زياد هموا بالفرار ، خوفاً من أن يصابوا على يدى الحسين ، ولما صاح فيهم شمّر بن ذى الجوشن : " ويحكم ماذا تنظرون بالرجل ؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم " ! حملوا على الحسين من كل جانب ، وضربه زرعة بن شريك التميمى على يده اليسرى ، فقطعها ، وضربه آخر على عاتقه ، فسقط على وجهه ، وقام ، وسقط ، والرماح والسيوف توالى طعنه ، حتى مات بثلاث وثلاثين طعنة وأربع وثلاثين ضربة ، غير الرمية بالنبل والسهام . وأقدم شمر بن ذى الجوشن على جسد الشهيد ، فذبحه ، واحتز رأسه . لقد أصبح الحسين ـ بعد مأساة كربلاء ـ " سيد الشهداء ، ورمز الإيمان والفداء ، وموضع الحب والتقديم والإكبار " . كذلك فلم يكن فى مغادرة جيفارا لموقعه المتفوق فى كوبا ، وانشغاله بالقتال ضد السلطة الديكتاتورية فى بوليفيا ، تطلعاً لمنصب ، لكنه حمل السلاح دفاعاً عن حق شعب بوليفيا فى حياة خالية من الظلم . رفض أن يشاهد الإنسان الضحية فى حلبة المصارعة ، ويتمنى نجاته . إن عليه أن ينزل الحلبة ، ويشارك الضحية مصيرها ، إما إلى الانتصار أو الموت . كان جيفارا ينتمى إلى عائلة موسرة . وكانت مهنته كطبيب تتيح له حياة اجتماعية طيبة ، لكنه ارتدى " الكاكى " ، واختار الثورة ضد الرداءة حيث توجد . كان بوسع جيفارا أن يطمئن إلى منصبه كوزير للصناعة ، بعد أن أفلحت الثورة الكوبية فى انتزاع النصر ، لكنه فضل أن يواصل النضال فى موقع آخر . تخلى عن كل مناصبه وسلطاته فى كوبا ، وترك أطفاله فى رعاية الثورة الكوبية ، وانطلق ليواصل الثورة فى إفريقية ، ثم فى أمريكيا اللاتينية ، حتى لقى مصرعه فى بوليفيا . وكتب إلى كاسترو ـ قبل أن يسافر إلى أحراش بوليفيا : " إنى لم أحزن لأنى لم أترك لزوجتى وأولادى أى شئ مادى . على أنى مسرور لهذا ، ولا أطلب لهم أى شئ " . وواجه جيفارا لحظة المفاضلة بين الكرامة ونقيضها عند أسره فى بوليفيا . حاول أحد الضباط أن يسخر منه ، فركله جيفارا بقدمه ، بحيث ألقاه بعيداً . وحاول ضابط آخر كبير ـ هو الجنرال هوجاريتشى ـ أن يدفعه إلى الكلام ، فبصق جيفارا فى وجهه . ودفع الثمن ـ بالطبع ـ فى اللحظة التالية : " هذا الشىء القليل الذى نستطيع تقديمه : حياتنا وتضحياتنا " . والمؤكد أن جيفارا كان واعياً بالمصير الذى تقوده إليه خطواته ، وبأن الاستشهاد هو المصير الذى ينتظره فى نهاية الطريق . ورغم معرفته اليقينية بذلك ، فإنه أصر على السير فى الطريق إلى النهاية [ أذكرك بما قاله الحسين وهو فى طريقه إلى كربلاء ] لكنه تطلع إلى تحرير الجماعة بتحريكها ، فإذا استشهد مقابلاً لما يؤمن به ، فإنه سيعطى المثل لمعنى الإيمان بالقضية ، وبالمثل الأعلى ، وللمترددين والمتخاذلين ، بما يتيح الصحو لشعوب طال نومها .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ـ 4 ـ
    قد يبدو رأى لابروبير " كل شئ قد قيل ، وقد أتينا بعد فوات الأوان " .. قد يبدو هذا الرأى بليغاً ، لكنه ـ فى تقديرى ـ يكتفى برؤية نصف الكوب الفارغ . الإحساس باللاجدوى يصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن يثمر شيئاً إيجابياً . لكن لابروبير أضاف ، وأضاف أيضاً أبناء جيله من المبدعين ، وأضافت كذلك أجيال أخرى تالية ، وستتحقق إضافات أخرى كثيرة فى أجيال تالية ، مما يضع مقولة لابروبير فى إطار العبارة البليغة دون أن يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك . لذلك فإنى من غلاة الرافضين للتعميمات فى إطلاق الأحكام ، وبالذات فيما يتصل بنهاية نوع أدبى . فقرار الحياة أو الموت لا يملكهما ناقد ، لأن ذلك القرار ، الذى ربما أصدره الناقد وهو يتأمل السماء فى ليلة قمرية ، لن يحول دون إقدام مبدع موهوب على الكتابة ـ فى الوقت نفسه الذى أصدر فيه الناقد قراره ـ فى عمل ينتسب للنوع الأدبى الذى قرر الناقد موته . لقد أعلن ت . س . إليوت ـ قبل عشرات الأعوام ـ أن الرواية ماتت ، فأعلنت الرواية عن تواصل حياتها فى أعمال محفوظ وكامى وهمنجواى ومنيف وكازنتزاكس وجويس وماركيث وغيرهم . وكما يقول هارولد نيكولسون ، فقد " بدلت الرواية تقنيتها مراراً ، لكنها كانت تصل إلى القارئ فى كل الأحوال " . كذلك فقد أعلن إدموند ولسن ـ فى الثلاثينيات ـ أن الشعر ـ بصورته التى نعرفها ـ فى طريقه إلى الزوال ، وأن الشعراء سيتجهون ـ بالضرورة ـ إلى أشكال أخرى غير الشعر .. لكن الشعراء أهملوا ذلك الإعلان الغريب ، وقدموا معطيات متميزة . ولعلى أذكر أكثر من صيحة لناقد ، ترددت فى حياتنا الأدبية ، تنعى وفاة هذا اللون الأدبى أو ذاك . ثمة من نعى الشعر ، وآخر نعى الرواية ، وثالث نعى القصة القصيرة . أهمل المبدعون ذلك كله ، وتلقفت المطابع ـ والأدراج ! ـ أعمالاً تحفل بالتميز والجدة والإضافة ، وتؤكد انتظام أنفاس الرواية . ظلت الرواية فى موضعها المتفوق بين الفنون الأخرى ، والفضل ـ فى الدرجة الأولى ـ لتلك المحاولات المتفردة ، والمتميزة ، من فنانين متفردين ، ومتميزين ، مما قد يرين عليه من استاتيكية . الثبات والتغير هما الرئتان اللتان يتنفس بهما كل شئ حياته ، ويجد تواصله واستمراره . فإذا أبقى على الثبات دون التغير ، حكم على نفسه بالجمود ، فالموت . وإذا حرص على التغير دون مراعاة للثبات ، تشوهت ملامحه ، وفقد التواصل . من هنا ، فإن القول بنظرية للرواية هو القول بضرورة أن يكون لها خطوطها العريضة ، وسماتها العامة ، فضلاً عن نجاح كل عمل روائى يريد له صاحبه التميز ، فى أن يحقق تميزه بالإفادة من خيال الفن ووعيه وحريته فى مغادرة الأطر والتقاليد ـ فنية أو اجتماعية ـ مهما تكن ثابتة . وكانت الرواية العربية ـ على سبيل المثال ـ قبل أن يبذر نجيب محفوظ محاولاته ـ أقرب إلى ما كانت تعانيه الرواية الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، من شوائب الوعظ والترفيه ، حتى حققت تفوقاً على يدى هنرى جيمس وجوزيف كونراد اللذين خلصا فن الرواية من معظم ما كان يعانيه من شوائب ، وأضاف إليه أبعاداً جديدة باستخدام جميع الإمكانيات التى تجعل من الرواية فناً حقيقياً .
    ليس المقصود بتحديد الجنس الأدبى أن نقيم الحواجز ، ونفصل تماماً بين الأجناس الأدبية . إن بين سائر الفنون نوعاً من التكامل فى التعبير عن الذات الإنسانية . كانت وحدة الفنون قائمة فى العصور اليونانية الأولى . ثم بدأت تلك الوحدة تذوى ، وتتلاشى بالتدريج ، نتيجة للنمو المتزايد الذى فرضه التباين الاقتصادى والاجتماعى فى المجتمعات بعد العصور الأولى . وهو ما أدى إلى ظهور التخصص فى الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والاجتماعية . فلما صار تقسيم العمل أمراً جوهرياً بالنسبة لإنتاج السلع ، كان لذلك تأثيره المباشر فى تحويل الأدب إلى وظيفة وعمل متخصص ، تقوم به جماعة خاصة ، منفصلة عن بقية الجماعات الأخرى ( فتحى أبو العينين : نصوص مختارة فى علم اجتماع الأدب ص 116 ) . الصورة المتغيرة الآن فى الروافد التى تأتى من النبع الواحد ، وتتجه إلى المصب الواحد ، روافد متشابكة تشمل الشعر والرواية والموسيقا والتشكيل والمسرح والسينما والتاريخ والموروث الشعبى وعلم الاجتماع وعلم النفس . وكما يقول الشاعر الإنجليزى صمويل بيكر ، فإن فنون الموسيقا والتصوير والكتابة هى شئ واحد . إن محصلة كل فن تأتى بتفاعله مع فنون أخرى ، تفاعل بين الوسائط والأدوات والأساليب الذاتية ، وإن كان من المهم أن نشير إلى أن عناصر علم النفس والتاريخ والاجتماع إلى غير ذلك ، والتى يحتويها العمل فى أحيان كثيرة ، لا تهمنا فى حد ذاتها ، لكن ما يهمنا ـ والكلام لألكسندر سكافتيموف ـ هو الدفعة التى تحققها داخل وحدة الكل . وحدة الفنون تعنى كسر التخوم بين السرد الروائى وفنون الشعر والمسرح والسينما والموسيقا والفن التشكيلى وغيرها ، بالإضافة إلى علوم مثل علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس إلخ . إسقاط الحواجز المفتعلة بين الفنون المختلفة ـ والعلوم المختلفة أيضاً ـ خطوة مهمة لتطوير فنوننا بعامة ، سواء أكانت فنوناً سمعية أو بصرية . وكما يقول شاعر افريقيا العظيم ليوبولد سنجور فلا يمكن " تصور الموسيقا بدون حركة أو بدون رقص . وهذا ما نستطيع تسميته بالموسيقا التشكيلية . كما أن الرقص لا يمكن أن يعيش بدون رسم أو نحت . والحقيقة أن الرقص ـ على الأقل فى فترة الحماس الدينى فى العصور الغابرة ـ كان يعتبر دراما غيبية أو تمثيلية عن المعجزات ، ومهمة الراقص هى تجسيد الأسلاف أو الأرواح الطوطمية ، وبعثها حية من خلال الزى الذى يرتديه ، والأقنعة والشعر والموسيقا والرقص . وإلى حين ، لم يعد الرسم مقدساً ، فقد احتفظ بالكثير من أصوله " ..
    لاحظ كلمات : الموسيقا ، التشكيل ، الرسم ، النحت ، الدراما ، الشعر . وبوسعنا أن نضيف إليها الرواية والسينما ليكتمل معنى وحدة الفنون . نحن نتحدث عن اللون فى الموسيقا ، والإيقاع فى الرسم ، والنغمة فى الشعر إلخ ، ذلك لأنه ليست هناك ـ كما يقول ميخائيل كيسيلوف ـ حدود فاصلة بين الفنون . فالموسيقا توحد الشعر والرسم ولها معمارها . ويمكن للرسم أيضاً أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقا ، ويعبر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد أن تكون الكلمات فى الشعر موسيقا ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صوراً جديدة . ويذهب جبران إلى أن " الموسيقا كالشعر والتصوير ، تمثل حالات الإنسان المختلفة ، وترسم أشباح أطوار القلب ، وتوضح أخيلة النفس ، وتصوغ ما يجول فى الخاطر " ( المؤلفات الكاملة لجبران ـ 40 )
    تعددت الأحكام فى تاريخ الفن . قيل إن عصر الشعر انتهى ، وعصر المسرح انتهى ، وعصر الرواية انتهى ، وعصر القصة القصيرة انتهى .. لكن كل الأجناس بقيت ، وتداخلت . ولعل أهم عوامل المفارقة بين الأجناس الأدبية المختلفة ، ان كل جنس لابد أن يقيم عالمه الخاص به . قد يفيد من جنس أو آخر ، لكنه يقدم فى النهاية جنسه الخاص ، صورته المتميزة .
    يقول رولان بارت : إن الحكاية كامنة فى الأسطورة والخرافة والقصة والرواية والملحمة والتاريخ والمأساة والملهاة والمشهد الصامت واللوحة المرسومة والزجاج الملون والأحداث المختلفة والحوار بين الأفراد . وهى موجودة تحت أشكال تكاد أن تكون غير متناهية فى كل الأزمنة والأمكنة ، فى كل المجتمعات " ( ت أحمد درويش ) .
    الحكاية ، الحدوتة هى الدعامة الأولى فى بناء أى عمل روائى ، ثم تأتى بقية الدعامات ، وهى بالنسبة للتقنية عندى الإفادة من العناصر والمقومات فى وسائل الفنون الأخرى ، كالفلاش باك فى السينما ، والتقطيع فى السينما أيضاً ، والتبقيع فى الفن التشكيلى ، والهارمونى فى الموسيقا ، ودرامية الحوار فى المسرحية إلخ .. أومن بقول بريخت : " يجدر بالكاتب ـ لكى يسيطر على القوة الدينامية للواقع ـ أن يفيد من كل الوسائل الشكلية المتاحة ، بصرف النظر عن جدتها أو قدمها " . وأتصور أن ذلك يتبدى ـبدرجة وبأخرى ـ فى كل رواياتى بدءاً بالأسوار وانتهاء برباعية بحرى ، مروراً بالصهبة و قاضى البهار ينزل البحر ومن أوراق أبى الطيب المتنبى والنظر إلى أسفل وقلعة الجبل وغيرها ..
    نحن نجد فى الرواية رداً على كل ما طرح من أسئلة وهى تقدم ردها بصورة أعمق وأشد وضوحاً من الفنون الأخرى كالشعر والموسيقا والرسم وغيرها . إنها ـ كما يصفها بعض النقاد الأوروبيين ـ فن المشكلات ، بوسعها ـ وحدها ـ أن تعالج كل الأبعاد للمشكلة الواحدة .
    الرواية تجسيد للحياة على نحو أعمق ، بينما وسائل التعبير الأخرى قد تعنى ببعد واحد . فثمة اللون فى الرسم ، والحركات التى تستهدف توترات صاخبة الموسيقا ، والمزاوجة بين اللغة وفهم الحياة الإنسانية
    ناتالى ساروت تجد فى الرواية الجديدة ضرورة ، لأن الأرض الخصبة ـ والتعبير لساروت ـ إذا طال استغلالها ، تتحول إلى أرض عقيم . ومن الواضح أن التجديد المستمر شئ لابد منه لحياة الرواية ، بل لحياة أى فن "
    (Les Nouvelles Litteraires 9, 6 ,1966 )
    وفى تقديرى أن إفادة الرواية من الفنون الأخرى كالموسيقا والتشكيل والشعر وغيرها ، يعنى إفادتها ـ بلغة ساروت ـ من مخصّبات تضيف إلى الأرض المنهكة تجدد حياة . [ هنرى جيمس ينادى بوحدة الفنون من زاوية أخرى : إن بعض الفنون ـ مثل التصوير والموسيقا والعمارة ـ إذا استعان بها الروائى فى روايته ، فإنها ستساعد فى التخلص من اقتحام ذاتية المؤلف لروايته ] . الرواية الحديثة تفيد من الموسيقا : التركيب الموسيقى للسيمفونية ـ مثلاً ـ أو التركيب الموسيقى للسوناتا ، كما تفيد من فهم الفنان التشكيلى للشكل ، ومن فن المونتاج فى السينما . ويلح د . س بلاند فى أن نتعامل مع الكلمات فى الرواية ، كما نتعامل معها فى الشعر والدراما . أما همنجواى فإنه يشير إلى أن ما يتعلمه الكاتب من الملحنين ، ومن دراسة الهارمونى والكونتربونيت يبدو واضحاً فى أعماله ، كما لا يتطلب تفسيراً
    على الروائى أن يثرى إبداعه بإسهامات الفنون الأخرى ، بما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتقنية ، فيتحقق للنص الأدبى أبعاد جديدة ـ أشارت إليها ناتالى ساروت ـ وتتحقق كذلك أبعاد جديدة للفنون الأخرى ..
    وعلى سبيل المثال ، فإن الروائى ينبغى أن يكون ذا حس عال بالشعر ، بالقصيدة الشعرية ، فثمة حس للكلمة ، وحس للصورة ، وهما حسّان شاعريان . اللفظة مهمة فى الرواية ، والصورة أيضاً بالقدر نفسه لأهميتها فى القصيدة الشعرية . " الرواية الحديثة تحتوى إطاراَ شعرياً ، بل انها بدون الشعر لا يمكن أن تحيا ، ولا أن تبشّر بآفاق أخرى للمعرفة غير المنظورة " . إن المزاوجة بين التوتر الشعرى والفن السردى إضافة مطلوبة فى فن الرواية . ولعلنا نذكر اعتراف ميشيل بوتور بأنه لم يكتب قصيدة واحدة منذ كتب روايته الأولى ، فقد أحس أن الرواية ـ فى أكمل أشكالها ـ قادرة على تلقّى ميراث الشعر القديم . وكما يقول جبرا ابراهيم جبرا فإننا " لن ندرك حقيقة الطاقة الفاعلة فى الفن الروائى النثرى مالم نرجع بأصوله إلى محركاته الشعرية الأولى " .
    أما اقتراب الرواية من الشعر ، واقتراب الشعر منها فى زماننا الحالى ، فلعلنا نجد تدليلاً له فى قول والتر بيتر : " يطمح الجميع لبلوغ الحالة الشعرية " . إن كل الفنون تطمح إلى الحالة الموسيقية ، وهى تفعل ذلك بواسطة الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . فإذا عزلت الشعر عن تلك الفنون سقطت حالاً ، وأضحت شيئاً غير الإبداع . مهمة الروائى المبدع هى أن يحول الحياة بزخمها وتوتراتها إلى ما يشبه القصيدة ، كمن يستخلص الذهب من المعادن الأخرى ، فيتحقق للكتابة الإبداعية تألقها وتفوقها قياساً إلى بقية الكتابات . أذكر قول جبرا إبراهيم جبرا : " فالشعر سمة الأصالة فى كل فن بمعنى الكلمة . وإذا كانت الفنون كلها تطمح إلى الحالة الموسيقية ـ كما قال ولتر باتر ـ فهى إنما تفعل ذلك عن طريق الشحنة الشعرية الكامنة فيها ، والتى تحمل فى تضاعيفها الكثير من سر الموسيقا . اعزل الشعر عنها ، تسقطها جميعاً ، وتصبح شاهداً غيرالإبداع . ولعل واجب الروائى المبدع فى النهاية ، هو أن يكون قد حوّل الحياة ، بزخمها وبؤسها وروعتها ، إلى ما يشبه القصيدة ، فيكون بذلك قد استخلص الذهب من المعادن الأخرى ، وبهذا يحقق الروائى المبدع امتيازه على غير المبدع ، رغم أن الإثنين قد يعرفان الأفراح والمآسى نفسها ، ويتحدثان عن الأفراح والمآسى نفسها ، التى هى إطار الحياة اليومى لكل إنسان " .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لم يكن فى دعوة الأستاذ [ الأسوار ] شبهة غرض شخصى . تحمّل الاشتغال والتعذيب ، وأسلم نفسه إلى الموت دفاعاً عن هؤلاء الذين أحبهم أكثر من نفسه . أما الحسين ، فقد خذله الشيعة الذين استغاثوا به ، وتركوه للمصير المؤلم تحت سنابك خيل الأمويين ، وانطلقت الرصاصة التى قتلت جيفارا من مسدس ضابط بوليفى صغير ، بذل المناضل الأرجنتينى حياته دفاعاً عن حقه فى الحياة . وكان نزلاء المعتقل ـ حلمى عزت بالذات ، ذلك الذى حماه الأستاذ من أذى الآخرين ـ هم الذين دبروا القرعة الظالمة ، ليدفعوا بالأستاذ إلى الشهادة دفاعاً عن الجميع . أسر بكر رضوان [ الأسوار ] إلى نفسه ـ غداة إحدى مرات الإفراج عنه ـ " هؤلاء الناس ـ أبناء الأنفوشى ـ هم محبوبه الذى ضيّع العمر إشفاقاً عليه . فهل كان الحب من طرف واحد ؟ هل تعنى المحبوب اللحظة ، مقطوعة الصلة بما مضى ، وما سيأتى ؟ وهل تعذب القلب لقلوب تجد الراحة فى العذاب ؟.. هذه الكلمات ـ وبكر رضوان يرى أهله وناسه منصرفين عن واقعهم الأليم ، كأنما لم يدفع أعواماً من حياته فى سبيلهم ـ تذكرنا بكلمات الحسين بن على فى حشد الجيش الأموى ، يوم العاشر من المحرم : " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً . حين استصرختمونا والهين ، فأصرخناكم مرجفين . سللتم علينا سيفاً فى إيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدونا وعدوكم ، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ، وبدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفنوه فيكم ، ولا أمل اصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش نعمتم فيه " . وكان ما أسره بكر رضوان ، أو ما أعلنه الحسين ، هو الهاجس الذى لابد أنهم خاطبوا به أنفسهم ، أو أعلنوه للجماعة ، هؤلاء الذين بذلوا النفس دفاعاً عما هو حق وصدق وعدالة [ فى زماننا الردئ ، فإن شخصية بكر رضوان تذكرنى بقادة اليسار المصرى الذين أمضوا أجمل سنى حياتهم فى معتقلات عبد الناصر . هتفوا بحياته ، وبشعارات المرحلة ، وهم يلقون أبشع ممارسات التعذيب ، حتى الموت . ظلوا يهتفون لعبد الناصر والثورة والاشتراكية ، وسط الضربات المتلاحقة التى لم تهدأ إلا بعد أن هدأت أنفاسهم ، وماتوا . جاوزوا آلامهم الشخصية ، وجعلوا الوطن قضية ، لا يعدلون بها قضية أخرى . كان عبد الناصر على صواب فيما يدعو إليه ، ويطبقه بالفعل ، فتناسوا العذاب الذى لاقوه بأيدى أعوانه ، وأعلنوا ولاءهم للبسطاء ، وللثورة ، وللغد الذى يعلو فوق العذابات الشخصية !. لو أنهم نظروا إلى المصالح العامة من منظور مصالحهم الشخصية ، مثلما فعل الرأسماليون والإقطاعيون الذين أضيروا بقوانين الثورة ، فلعلهم كانوا الآن هم الأعلى صوتاً ضد عبد الناصر ومعطيات عهده ] . لكن البذل لم يهدر ، والصيحة المخلصة لم تواجه التلاشى فى وادى الصمت . كان الشعور بالإثم هو الدافع لأن يقتل يهوذا نفسه بعد أن أسلم المسيح إلى قاتليه . وهو الدافع أيضاً لأن يزداد أتباع المسيح تمسكاً بتعاليمه . وكان الشعور ذاته هو الذى جعل جيفارا قدوة ومثلاً بين حركات التحرر فى دول العالم الثالث ، وارتسمت حول المناضل الشهيد هالة القداسة والأسطورة . وكان أيضاً هو الشعور الذى ارتقى بالحسينية إلى مرتبة العقيدة . ففى مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء ، ولعلها أخطر نتائجها ، أنها دخلت الضمير الإسلامى آنذاك ، وهزته هزاً عنيفاً . حركت فى النفوس ما كان خامداً ، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذى فرضه الأمويون . تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلاً ضد سبعين ألفاً ، بالحرص على الشهادة رغم يسر النجاة ، بإلقاء السؤال الأهم : ماذا بعد ؟ ، بحساب الذات عن التقاعس والتواكل ، بإعادة النظر إلى ما سبق ، وما يجرى حالاً ، والتفكير فى ضرورة التغيير . ولعله يمكن القول إن فاجعة كربلاء ـ رغم بشاعتها ـ كانت ثورة كاملة . أحدثت التأثير الذى تحدثه الثورات فى تحريك النفوس ، وإلحاجها على التغيير ، حتى يتحقق المجتمع الأفضل . تعددت ثورات التوابين ، همها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد ، فى حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموى . ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة ، أيا تكن صورتها ومظاهرها . وربما كان ذلك هو الشعور نفسه الذى تحرك فى نفوس الزملاء القريبين ، بل كل نزلاء المعتقل ، بعد أن بذل الأستاذ نفسه فى سماحة ، دفاعاً عن حقهم فى الحرية ، وفى الحياة . لم تدفعه الخيانة الواضحة إلى رفض القرعة ، لكنه أسلم النفس إلى جلاديه فى قناعة المؤمن بأن شهادة الفرد قد تكون فداء للجماعة ، وخلاصاً لها . وكما يقول برتراند راسل فإننا حين نعرف النهاية نغدو أقوياء ..
    أخيراً ، فإنى أتفق مع جون مورلى فى أن " الأفراد الذين يرون الضوء ـ وهم بطبيعة الحال الأفراد المثقفون ـ إذا أحجموا عن احتمال ما عليهم من تبعة ، فإنهم يضاعفون العلل الأخلاقية فى المجتمع . وهم لا يحرمون المجتمع من مزايا التغيير فحسب ، بل من يرون شعوره بالحاجة إلى التغيير ضعفاً ، وإيقاظ الإحساس الأخلاقى فى المجتمع من العوامل الهامة فى تقدمه [ المثقف الذى أعنيه ، هو الذى يملك استعداداً للتضحية بصالحه الشخصى من أجل صالح الجماعة ، لا يكتفى بترديد الشعارات عن الديمقراطية وإنكار الذات ، وإنما يحرص على تطبيق تلك الشعارات بالفعل ] . ولعل السبب المباشر فى انحطاط كثير من المجتمعات ، يرجع إلى ما يطرأ على الضمائر من الفساد وضعف الإحساس الأخلاقى . ولم يصب الضعف والتخلف الإغريق لنقص علمهم بالمذاهب الأخلاقية ، وإنما أصابهم من جراء تناقص عدد الذين يقدرون واجباتهم الأخلاقية ، وما عليهم من تبعات هامة . ويعلل انتصار المسلمين على المسيحيين فى الشرق وفى أسبانيا ، بأنه راجع إلى احترامهم للواجب ، وما كان يثيره فى نفوسهم من حماسة ".
    ـ 3 ـ
    فى بداية الستينيات ، كنت أنشد البحث عن موضع فى حياتنا الثقافية من خلال العمل بالصحافة . عملت ـ حيناً ـ فى " الجمهورية " مع سعد الدين وهبة فى صفحة عنوانها " صباح الخير " . ولأن الصفحة كانت تعنى بالمادة الترفيهية والاجتماعية : زواج وطلاق وأعياد ميلاد وحفلات تكريم وغيرها ، ولأنى كنت أعانى قلة المصادر ـ الأدق : انعدامها ـ فضلاً عن شحوب استعدادى .. فقد بدا لى الفشل حقيقة فى الأسبوع الأول ، وإن كابرت ، وتعمدت تجاهله ، حتى الشهر الثالث . والحق أن سعد الدين وهبة كان كريماً فى تعامله معى . لم يكن فيما أسهمت به شئ يتصل بلون الصفحة ، إنما هى خواطر فى الأدب والفن . حاولت أن أقفز على مبنى الجمهورية بالمظلة دون الصعود على الدرجات المتآكلة . مع ذلك ، فإن الرجل لم يرفض شيئاً مما قدمته له . وكان يقرؤه بعناية ، ثم يسلمه ـ فى رقة ـ إلى سلة المهملات . فلما انتهى الشهر الثالث دون أن تجد خواطرى سبيلها إلى النشر ، صارحت أحمد عباس صالح ـ وأدين له بفضل مساندة خطواتى الأولى ـ بيأسى ، فأشار على بمعاودة محاولة لقاء الدكتور على الراعى ، المشرف على الصفحة الثقافية فى " المساء " آنذاك . كان الراعى غائباً ، والتقيت بكمال الجويلى ، فعرض على أن أشارك فى الباب الذى كان يحرره ، وعنوانه " كل الناس " . وبرغم أن الباب كان أقرب فى اتجاهه إلى صفحة سعد الدين وهبة ، ولعله كان أقل احتمالاً لنشر خواطرى من صفحة صباح الخير ، فإن صداقة الجويلى الطيبة ، وتسامحه ، وأبوته ، صنعت جسراً إلى العمل الصحفى ، وإلى الحياة الثقافية بالتالى ..
    ويوماً ، طلب الجويلى أن أجرى حواراً مع شاب ارتكب ثلاثاً وعشرين حادثة سرقة سيارة ، قبل أن يكتشف أمره فى الحادثة الرابعة والعشرين . وروى لى الشاب عن ظروفه الاجتماعية ، وعن أجواء المعتقل الذى قضى فيه أعواماً ـ جعله تعدد السوابق من المجرمين الخطرين ـ حتى تم الإفراج عنه فى ظروف بالغة القسوة والغرابة : ألح نزلاء المعتقل فى طلب الإفراج . أرسلوا برقيات إلى المسئولين . أضربوا عن الطعام . تظاهروا . تشاجروا ـ إلى حد الاقتتال ـ مع حراس المعتقل . ثم لجأوا إلى وسيلة بشعة لتأكيد مطلبهم فى الإفراج . أجروا قرعة فى أسماء النزلاء ، واختير عشرة أسماء تعرض أصحابها للموت حرقاً ـ علانية ـ فى ساحة المعتقل . وكانت تلك الوسيلة القاسية هى الباعث لاهتمام المسئولين ، ودراسة حالاتهم ، والإفراج عن غالبيتهم . ونشرت الحوار ، ثم نسيته تماماً . حتى عادت ـ بتفكيرى فى كتابة الأسوار ـ صورة الشاب ، والحياة فى المعتقل ، والقرعة التى أحرقت عشرة أشخاص .. كانت تلك الصورة هى الإطار السردى للأسوار ، وإن داخلها ـ بالطبع ـ تصرف أملته طبيعة الرواية ، وتباين الظروف ، والتكنيك ، والدلالة . ذاب النزلاء العشرة فى شخصية الأستاذ . تعرض للمصير المؤلم بمفرده ، وعاش فى معتقل الرواية سياسيون ومجرمون عاديون . وتمت القرعة ـ عكس الحادثة الواقعية ـ بالخيانة . باختصار ، فقد كانت فكرة القرعة هى ما أفادته الأسوار من الحادثة القديمة .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لقد بدأ بلزاك حياته الأدبية شاعراً ، ثم انتقل إلى كتابة الرواية . الأمر نفسه بالنسبة لهمنجواى وفوكنر وعشرات غيرهم . وظل فيكتور هوجو ـ إلى نهاية حياته ـ يزاوج بين الشعر والرواية .. وكان وليم بليك شاعراً ورساماً . وكان اليوت شاعراً وناقداً . ويذهب بول فاليرى إلى أن كل كتابة أدبية هى كتابة شعرية ..
    أذكر أنى حاولت الشعر فى البداية ، وتأثرت بشعراء أبوللو . فلما أدركت أن القصيدة يصعب أن تكون لغتى التعبيرية ، تبدّت لغة الشعر فى أعمالى الروائية والقصصية ، وهو الأمر الذى يعد ملاحظة أساسية فى التناول النقدى لأعمالى . تهمنى اللغة فيما أكتب . الكلمة المناسبة فى موضعها ، الكلمة الفلوبيرية ـ على حد تعبير بورخيس ـ التى تحسن التعبير عن الفوضى الدنيوية الغامضة ، أو عن الرؤيا اللحظية الكاشفة . لا تهمنى الألفاظ الضخمة أو المهجورة أو القديمة ، ولكن تشغلنى موسيقا الحرف والكلمة والجملة ، أحذف وأضيف وأعدّل بما يحقق الاتساق والهمس الشعرى والإيحاء ذى الدلالة . . وثمة بعض النقاد يطالب القارئ أن يتمرس على تذوق الشعر حتى يمكنه قراءة الرواية الأقرب إلى صورة ذات تركيب شعرى ..
    أوافق أدونيس ـ واختلافاتى معه كثيرة ـ فى أنه يمكن للقصيدة أن تفيد من الرواية كثيراً ، والرواية تفيد من الشعر كثيراً ، وبهذا المعنى تتداخل الأنواع ، لكن تظل الرواية رواية ، والقصيدة قصيدة " ( الأربعاء الأسبوعى 21/10/1987 ) . ذلك لأن الموضوع الذى يصلح فى الرواية ، قد لا يصلح ـ أو أنه لا يصلح ـ فى القصة القصيرة ، والعكس صحيح . وإلاّ فلا معنى لاختيار الفنان هذا الجنس الأدبى أو ذاك .
    يقول هوجو لايختنتربت : " الحضارة فى أى عصر من العصور تعتمد على الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسى والأحوال الجغرافية ، إلى جانب اعتمادها على لغة البلد ، ومن ثم فهناك صلة ضرورية بين الموسيقا وبين هذه الموضوعات كافة ، وفضلاً عن ذلك فإن الموسيقا تستند إلى أساس علمى يتضمن الطبيعة والرياضة . كما أن بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة إلى حد ما . ولقد تأثرت الموسيقا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية ، إلى جانب تأثيرها فى هذه الفنون بدورها " ( ت . أحمد حمدى محمود ) . وكما يقول نيتشة فإن العمارة موسيقا تجمدت .
    ثمة علاقة منطقية بين الشعر والموسيقا ترتكز إلى العوامل التى تجمع بين هذين الفنين . والقول بموسيقا الشعر يعنى أهمية الموسيقا بالنسبة للشعر . إن الشعر لا يصبح شعراً بدون موسيقا . ويرى جاتشيف أن الموسيقا هى أقرب الفنون إلى الأدب ، وإن تباينا فى طريقة التعبير عن الإيقاع العام للوجود ، وللعالم الداخلى للإنسان ( ت نوفل نيوف ) . أما السينما ، فإن لنا أن نتصور فيلما خالياً من الموسيقا . الموسيقا ـ كما نعرف ـ بعد مهم فى الفيلم السينمائى ، وهى كذلك بعد مهم فى المسرحية ، وكلاهما يضم القصة والديكور والأزياء والشعر ، وبالذات المسرحية الشعرية ..
    ويرى البعض فى القصة اقتراباً من الشعر الغنائى . يؤكده ـ كما يقول أوكونور ـ الوعى الحاد بالتفرد الإنسانى . أما الموسيقا والرواية ، فإنهما ـ كما يقول ميشيل بوتور : " فنان يوضح أحدهما الآخر . ولابد لنا فى نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص الثانى ، وما كان حتى الآن بدائياً ، عليه ـ بكل بساطة ـ أن يصبح قياسياً . وهكذا يجدر بالموسيقيين أن يكبّوا على مطالعة الروايات . كما يجدر بالروائيين أن يكونوا مطلعين على بعض المفاهيم الموسيقية " (ت فريد أنطونيوس ) . ويذهب الفيلسوف الألمانى ليسنج إلى أن الرواية والموسيقا تشتركان فى الطبيعة الزمنية التى تميزهما على بقية الفنون ذات الامتداد الفضائى . الرواية هى فن الزمن ، والموسيقا كذلك ( عبد الملك مرتاض : فى نظرية الرواية ص 199 )
    لا يخلو من دلالة قول بابلو بيكاسو : " إذا أردت تعلم التكوين فى الرسم ، فإن عليك بدراسة مسرح مايرهولد ، لا يستوقفنى الفنان الذى تدرس مسرحياته ، بقدر ما يبدو مطلوباً تفاعل الفن التشكيلى والمسرح . يغيظنى ذلك الذى يحاول التجريب فى القصة القصيرة ـ مثلاً ـ ويرفضه فى الفن التشكيلى . يكتب أعمالاً يؤطرها النقد فى السوريالية ، بينما يعجز عن قراءة إبداعات تشكيلية مماثلة . الفن التشكيلى يلتحم بالفنون الأخرى ، من خلال التكوين والإطار والأبعاد والأضواء والظلال . واتساقاً مع قول سرفانتس : الرسام والأديب هما سواء ، فإن أرنولد بينيت يذهب إلى أن " التشابه بين فن الرسام وفن الروائى تشابه تام ، فمصدر الوحى فيهما واحد ، وعملية الإبداع فى كل منهما هى نفس العملية ـ مع اختلاف الوسائل ـ ونجاحهما أيضاً واحد ، وبوسعهما أن يتعلما كل من الآخر ، وبوسعهما أن يشرحا ويساندا كل الآخر ، فقضيتهما واحدة ، ومجد الواحد هو مجد الآخر " ( نظرية الرواية ـ 72 ) . أذكرك برواية " ممر ميلانو لميشيل بوتور التى تشبه فى تكوينها لوحات بول كيلى المسماة " تكوين " ، فهى تعرض للحياة فى احدى عمارات باريس أثناء فترة محددة ومحدودة من الزمن . ثمة علاقات متشابكة بين كل شقة والأخرى فى العمارة بقطع صغيرة ، تتحرك على لوحة شطرنج .
    لقد نشأت الرواية من الدراما ، ومن ثم فهى تشتمل على بعض المكونات المسرحية . وتؤكد آراء نقدية عمق الصلة بين القصة القصيرة والمسرحية . لقد تنبأت الرواية ـ والقول لكونديرا ـ بفن السينما ، وتمثلته مسبقاً ( الطفل المنبوذ ـ ص 125 ) . السينما هى رواية بالصور ، حتى أن السؤال يثار : ما أساس الفيلم السينمائى : هل هو صور لرواية ، أم رواية لصور ؟. إذا كان رأى جان كوكتو أن " الفيلم هو كتابة بالصور " فإن السينما هى الأداة الشعبية ـ أو الجمعية فى تعبير آخر ـ لتقديم الفنون فى وحدتها . فقد أفادت السينما من المدارس الفنية التشكيلية المختلفة مثل التأثيرية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية . كما أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج ، التبئير ، الزاوية القريبة ، التناوب ، الاسترجاع . وتبادلت الرواية والسينما بعامة التأثر والتأثير . لقد أوجد كاتب السيناريو والروائى ـ فى زمن متقارب ـ طريقة الفلاش باك ـ ارتدادات زمنية إلى الماضى فى ذهن الشخصية ـ وكان ذلك نتيجة مباشرة للتأثير المتبادل بين المبدعين . كما أفاد الروائيون وكتاب القصة من القص واللصق والمزج والتقطيع ، وغيرها من فنيات المونتاج . من المبدعين الذين طبقوا ـ فى السرد الروائى ـ تقنيات السرد المرئى ، وإفادته من السرد السينمائى : نجيب محفوظ وفوكنر وهمنجواى ودوس باسوس وشتاينبك وفوينتس وماركيث وغيرهم . تبين إفادة نجيب محفوظ من تقنيات السيناريو ، منذ لاحظ صلاح أبو سيف حسه الدرامى المتفوق ، فلم يجد عناء فى تدريس السيناريو لمحفوظ ، بحيث أقبل ـ فى ما يشبه التفرغ ، على مدى خمس سنوات ـ حتى من الكتابة الروائية التى نذر لها موهبته الإبداعية ، وزواج جارثيا ماركيث بين الكتابة الروائية والسيناريو السينمائى . الأمر نفسه بالنسبة لكتاب آخرين . وقد أفدت ـ شخصياً ـ من دراسة السيناريو على أيدى أساتذته الكبار : صلاح أبو سيف وعلى الزرقانى وصلاح عز الدين وغيرهم . تبينت إمكانية ـ بل حتمية ـ تلاقح السرد القصصى وتقنية السيناريو من تقطيع واسترجاع إلخ .
    ثمة آراء أن السينما فى منتصف الطريق بين الرسم والموسيقا ، والسينما ـ فى بعض الاجتهادات ـ ثمرة زواج شرعى بين الرسم والمسرح ، وقد أخذت عنهما أهم خصائصهما . أما العلاقة بين السينما والتشكيل فإننا نشير إلى قول مارسيل مارتن : " إنه فى وسعنا أن نزعم أن التاريخ الجمالى للسينما هو خلاصة مركزة من التاريخ الجمالى للرسم " . وعموماً ، فقد " ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم . كما أسهم فى تحديد قواعد تكوينه . فإلى جانب الرسم التقليدى ، هناك الرسم السينمائى على الشاشة . وإلى جانب الأدب المكتوب هناك الأدب المرئى والمسموع . وإلى جانب العرض المسرحى ، هناك العرض على الشاشة . وأخيراً ، إلى جانب الموسيقا التقليدية هناك موسيقا تحكم تركيب العمل السينمائى " ( عالم الفكر ـ المجلد السابع ـ العدد الثانى ) .
    وبالطبع ، فإن العمل الإبداعى يضع قوانينه ، فلا تأتى بالضرورة من خارجه ، لا تقحم عليه ، أو تنبو عن سياقه . وعلى حد تعبير إليوت فإن القانون الأدبى الذى جذب اهتمام أرسطو لم يكن قانوناً وضعه هو ، بل قانوناً اكتشفه . لكن القصة والقصيدة والرواية والمسرحية إلخ .. من خلال التراث الهائل لكل منها ، يظل لها مواصفاتها الخاصة ، شكلها الفنى الخاص . ولعلى أصارحك أمام قول البعض وهو يدفع إليك بأوراقه : هذا نص ! . أنى أعتبر هذه الأوراق مجرد محاولة ، نثرية أو شعرية ، حتى أتبين مدى اقترابها ، أو ابتعادها ، عن هذا الجنس الأدبى أو ذاك . لا أغفل إمكانية توقعى للعمل المتميز ، العبقرى ، الذى قد يفاجئنى بجنس إبداعى لم يكن موجوداً من قبل ، لكن هذا العمل لابد أن يحمل قوانين أخرى ، خاصة ، ومغايرة ..
    إن تقييم العمل الفنى ، التمييز بين الفن واللافن ، الجيد والردئ ، لا يصدر عن مجرد الذوق الشخصى ، لكنه لابد أن يخضع لمواضعات ، لمواصفات ، توجد فى العمل الفنى ، أو تغيب عنه . بمعنى أنه لابد للمبدع أن يكون على اتصال بتراث العالم ـ وليس تراث لغته فقط ـ من الإبداع ، وأن يكون على صلة بتراث العالم النقدى ، بالإضافة إلى اتصاله بالثقافة العالمية فى إطلاقها ..
    طبيعى أن العمل الفنى يحتاج إلى تلقائية مساوية للتلقائية التى يريد الفنان أن تكون عليها صورة عمله ، بحيث يحدث تأثيراً وجدانياً ، هو المطلوب ـ ابتداء ـ ليسهل على القارئ متابعة العمل ، والتفاعل معه ، والتأثر به ، وإحداث الهزة ـ أو التغير ـ فى وجهة نظره للحياة من حوله . بداية لحظة الكتابة عندى فى الإمساك بتلابيب اللحظة . أبدأ الجملة الأولى ، السطر الأول ، الفقرة الأولى ، فأجاوز العالم الذى تصورته ، ودخلت عالماً آخر ، هو عالم العمل الإبداعى : أحداث وشخصيات وملامح وتفصيلات وجزئيات ومنمنمات تتخلق من داخل العمل . تفرض نفسها عليه . لا شأن لها بتصوراتى المسبقة . فى تقديرى أنه إذا أراد الفنان لروايته أن تكون فناً حقيقياً ، فإن عليه أن يوجه تأثيرها إلى مزاج القارئ ، بإضفاء صورة الحياة الحقيقية على الأحداث . تلك هى الوسيلة التى تحرص الفنون الأخرى ـ مثل الموسيقا والتصوير ـ أن توجه لها تأثيرها . أما الإسراف فى " الصنعة " ، وإقحام بعض المستحدثات التكنيكية لغير سبب ، والإلحاح على صورة العمل الفنى بزوائد الظلال والتفاصيل ، فإن ذلك كله يصنع للرواية قبراً جميلاً ، تنعم فيه بالموت من قبل أن ترى الحياة . أستعير من هنرى جيمس تأكيده بأن الرواية شئ واحد متماسك ، كطبيعة الكائنات الحية ، وبقدر تماسك أجزائها ، واتصال كل جزء ـ عضوياً ـ بالأجزاء الأخرى ، تحصل الرواية على ما يريده لها الفنان من حياة . وبديهى أن الفنان لا يكتب محاولاته لتزجية الفراغ ، أو لحفظها فى الأدراج ، ذلك لأن العمل الفنى هو وسيلة الفنان للتخاطب مع مجتمعه ، وهذا المجتمع ـ بالطبع ـ لا يتشكل من ثقافة واحدة ، أو درجات متساوية من الوعى ، أو ذوق فنى عام موحد . المجتمع ـ أى مجتمع ـ يتكون من أفراد ، لكل منهم حصيلته المعرفية ، ووعيه وانتماؤه الفكرى والطبقى ، بحيث يصبح من السذاجة تصور أن فناناً ما يصل إليهم جميعاً فى محاولاته . لذلك فإن الحرص الأهم للفنان هو أن يكون مخلصاً فى التعامل مع فنه ، ومع نفسه ، لتجد محاولاته جمهورها الذى قد تضيق قاعدته أو تتسع ، لكن هذا الجمهور هو بعض شرائح المجتمع الذى يخاطبه الفنان فى محاولاته . وبتوالى الأعمال ، وتعددها ، فى المقولة والتكنيك ، فإن اتساع قاعدة المتلقين سيصبح أمراً شبه مؤكد ، فضلاً عن قيام الاحتمال بانضمام شرائح أخرى من المجتمع . باختصار ، فإن الرواية الجديدة ليست مودة تختفى بقدوم مودات أخرى . إنها نظرية واضحة ، متكاملة الأبعاد ، قد تطور نفسها ، وقد تستغنى عن بعض المقومات ، وتضيف مقومات أخرى . لكن المقومات الأساسية تظل فى صلة الرواية العضوية بالفنون الأخرى ، والإفادة المتبادلة بينها وبين تلك الفنون [ الرواية الجديدة هى التسمية التى تطلق ـ الآن ـ على التوجهات الطليعية فى المشهد القصصى الأمريكى اللاتينى ] . وإذا كان من البديهى أن تكون للعمل الفنى مقولته ، أو دلالته ـ راجع البداية ـ فإن هذه المقولة / الدلالة يجب أن تبين عن نفسها فى ثنايا العمل الفنى ، وليس من خلال الافتعال والمباشرة . الإيحاء ـ لا التقريرية ـ هو قوام العمل الفنى . وإذا أفصح الغرض عن نفسه ، فقد العمل الفنى صفته ، واستحال منشوراً دعائياً . وكما يقول نور ثروب فتراى فإنه لا يوجد فى الإبداع خطاب مباشر ، ذلك لأن الأمر ليس ماذا نقول ، بل كيف نقول . مع ذلك ، فإن الزيف ما يلبث أن يتكشف ـ ربما للقارئ العادى ـ إن كان الهدف من التجديد مداراة نقص أو قصور فى بعض أدوات الفنان . وعلى سبيل المثال ، فإن بعض الأدباء قد يلجأ إلى اللغة البرقية السريعة ، لا لضرورة يتطلبها العمل الفنى ، أو الرغبة فى التجديد ، وإنما لقصور فى ملكات الفنان الأسلوبية واللغوية . وقد يستغنى الأديب بالحوار عن السرد للسبب نفسه ، وإن غلف محاولاته بدعوى التجديد . أذكر فيلماً أمريكياً شاهدته منذ سنوات بعيدة ، عن فنانين يعيشان فى شقة واحدة ، أحدهما موهوب ، والثانى يحاول استكمال موهبته ودعا الثانى أحد أصحاب المعارض لشراء بعض لوحاته ، فلم يجد الرجل فيها ما يستحق الشراء . وقبل أن ينصرف ، لمح لوحة تجريدية مستندة إلى الجدار فى أقصى الحجرة . وعرض شراءها حالاً . كانت اللوحة للفنان الأول . وكان الفنان ذو الموهبة الناقصة يميل إلى التقليدية فى لوحاته ، فادعى اللوحة لنفسه ، ثم راح يدلق كميات من الألوان الزيتية على مساحات من القماش ، قدمها لصاحب المعرض على أنها لوحات تجريدية ، فرفضها الرجل بالطبع ، وأتيح للفنان " الحقيقى " ـ ختاماً ـ أن يحصل على فرصته . أما ذلك الذى كان يحاول تبين هويته ، فقد ظل يحاول . إن الموهبة المتكاملة التى تسيطر على أدواتها جيداً ، هى الأرضية التى ينشأ العمل الفنى ـ بدونها ـ فى فراغ .. فهل يمكن لبناء أن يقوم على فراغ ؟

    ـ 5 ـ
    يقول بولان " يعرف كل امرئ أن فى عصرنا نوعين من الأدب : الأدب الغث الذى هو حقاً غير جدير بالقراءة ، وهو المقروء غالباً ، ثم الأدب الجيد الذى لا يقرأ " ..
    وكانت المعادلة الصعبة التى طرحت نفسها فى البداية ، هى أن أكتب ما أطمئن إليه ، وأن يطمئن القارئ إلى قيمة ما أكتب . وبالتحديد ، فقد كنت أحب أن أضع القصة فى الإطار الذى أتصوره ـ فى عصرنا ـ مناسباً لها ، وليس فى الإطار السلفية الثابتة . ولم يكن التجديد لمجرد التجديد هو هدفى فى الحقيقة ، بقدر ما كان يصدر عن نظرة يقينية أن دائرة الفنون الخلاقة مكتملة ، وأن الأسلوب الذى يعالج به الفنان لوحة ، ربما يفيد منه كاتب القصة القصيرة . والوسائل التكنيكية التى يلجأ إليها كاتب السيناريو السينمائى قد تحقق التأثير ذاته فى رؤية أدبية ، والهارمونى الذى يحرص عليه المؤلف الموسيقى هو ما يحقق للقصيدة الشعرية وحدتها العضوية . ولفرجينيا وولف مقولة شهيرة " فى ديسمبر 1910 ، أو حوالى هذا التاريخ ، تغيرت الطبيعة الإنسانية " . وكانت فرجينيا وولف تقصد بتغير الطبيعة الإنسانية ، تغير المعرفة بالطبيعة الإنسانية . أما التاريخ الذى كان بداية لذلك التغير ، فهو تاريخ إقامة معرض للرسامين بعد الانطباعيين فى لندن ، عرضت فيه أعمال لسيزان وفان جوخ وماتيس وبيكاسو ، كانت تمثل ثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والتى تقف فى موازاة المدرسة الطبيعية فى الرواية [ حددت فرجينيا وولف تاريخ الثورة على المدرسة الانطباعية فى الفن التشكيلى ، والطبيعية فى الرواية ، بأنه ديسمبر 1910 . مع ذلك ، فإن محاولات نجيب محفوظ ـ فى الأربعينيات من القرن العشرين ـ جاءت أشبه بثورة فى دنيا الرواية العربية ! ] . بلغ يقينى بصلة الفنون بعضها ببعض ، وضرورة تأثر كل فن بالفنون الأخرى ، أنى رفضت " قد " فى رأى سارتر بأن الفنون فى عصر واحد قد تتبادل التأثير فيما بينها . ذلك لأنى كنت أومن ـ ومازلت ـ بضرورة ـ إن لم يكن بحتمية ذلك التأثر والتأثير الذى تتبادله فنون العصر الواحد . وطبيعى أن الرفض ينسحب على قول ميشيل بوتور بأن الرواية جديدة انتهت " ومهمتها كانت إزالة الحواجز بين الفنون " . إنه رأى متناقض وغير منسجم ، لأن إزالة الحواجز بين الفنون ليست عملاً طارئاً ، ولا وقتياً ، ولا تعبيراً عن مودة موسمية . إن الأدب ـ على نحو ما ـ محور لبقية الفنون . نقطة جذب واتصال . إيقاع المفردات والتعبيرات يتسلل إلى الأذن ، فيحمل طبيعة الموسيقا ، ويطالع العين ، فيحمل طبيعة الفن التشكيلى . وقد استطاعت الرواية ـ عندما لجأت إلى فنيات الإبداعات الأخرى ، مثل السينما والمسرح والموسيقا وغيرها ـ أن تغادر عنق الزجاجة ، تجاوز الاستاتيكية إلى ديناميكية متجددة ، تستوعب الإبداعات الأخرى ، وتسيطر ـ وربما تفوقت ـ عليها . وبالطبع ، فإن فنية العمل هى التى تفرض اللغة ، وأسلوب التناول ، وإن كنت أحاول أن أفيد من لغة الشعر . ثمة روائى يقبل على روايته بروح " السيناريست " ، كأن يضع فى تصوره حركة مجسدة ، تسترسل ، أو تتصاعد ، أو تمضى إلى الأمام وإلى الوراء ، تماماً كالمونتاج السينمائى [ أذكرك بقصيدة إليوت الأرض الخراب التى تأثرت بالمونتاج السينمائى فى بداياته ] والسيناريو الأقرب إلى الاكتمال هو السيناريو الذى يقترب من الرواية الجيدة . لكن تميز الرواية فى مساحتها العريضة التى يصعب على أى فيلم ـ مهما يستغرق من وقت ـ أن يغطيها . والقصيدة المكتملة هى التى يتشكل بناؤها فى قالب قصصى .
    والواقع أنى لم أتعمد طريقة الفلاش باك فى الأسوار . لكن الجلسة التى تشابه عشاء المسيح الأخير مع حوارييه ، كان لابد لها أن تعود إلى نقطة البداية . ولم تكن ـ فى الحقيقة ـ نقطة واحدة ، وإنما كانت عشرات النقاط ، البدايات ، التى يتشكل من مجموعها واتصالها واستمراريتها سدى الأسوار كرواية ..
    الرواية هى أشد الأجناس الأدبية قدرة على احتواء بقية الأجناس من قصة وشعر وحوار درامى ، وهى الأشد قدرة على استيعاب الفنون الأخرى من مسرح وسينما وموسيقا وفن تشكيلى إلخ . بل إنها الأشد قدرة على احتواء الموروث الشعبى والأسطورة والاجتهاد الفلسفى والمشكلة الاجتماعية والواقعة التاريخية والتحليل النفسى ، بحيث تتشكل من ذلك كله ـ أو بعضه ـ ضفيرة العمل الروائى . أخيراً ، فإن الرواية هى الأشد قدرة على احتواء الإنسانيات فى إطلاقها ، واستيعابها لصالح بنائها المضمونى والشكلى ، بما يجعل من الرواية فناً يعنى بالتواصل والمعرفة معاً . إن تعبير الرواية الجديدة يستفز التأمل ، ذلك لأنه سوف تولد دائماً رواية جديدة . إلى جانب أن الرواية الجديدة لا تعنى اتجاهاً محدداً لكل الأدباء . فاتجاه ميشيل بوتور ـ مثلاً ـ يختلف عن اتجاه ناتالى ساروت وألان روب جرييه ، واتجاه جرييه يختلف عن اتجاه ساروت وبوتور إلخ . ولعلى أوافق جرييه على قوله بأن تعبير الرواية الجديدة ليس دلالة على مدرسة " بل ولا جماعة معينة من كتاب يعملون بطريقة واحدة ، وإنما هى تسمية مناسبة تشمل كل من يبحثون عن أشكال جديدة للرواية ، قادرة على التعبير عن علاقات جديدة ، أو على خلق هذه العلاقات بين الإنسان والعالم . كل أولئك الذين عقدوا العزم على اختراع الإنسان . هؤلاء يعلمون أن التكرار المنظم للأشكال الفنية التى تنتمى إلى الماضى ، ليس أمراً غير معقول ، وغير مفيد ، فحسب ، بل إنه قد يصبح ضاراً إذ يغلق عيوننا عن موقفنا الحقيقى فى عالم الحاضر ، فيمنعنا آخر الأمر من بناء عالم الغد ، وإنسان الغد .
    كانت الرواية جديدة دائماً ، وينبغى أن تظل كذلك . حقق جدة الرواية ـ كل فى زمانه ـ جوجول وبلزاك وتورجنيف وفلوبير وزولا وديكنز وديستويفسكى وبروست وفرجينيا وولف وكافكا وجويس وهمنجواى ومحفوظ وعشرات غيرهم ..
    ـ 6 ـ
    فى العاشر من ديسمبر 1973 قرأت إعلاناً للهيئة المصرية العامة للكتاب ، عن صدور أول مطبوعات " روايات مختارة " روايتى الأسوار ..
    غمرنى شعور عميق بالارتياح .
    ..........................................
    1975 ـ نشر فى كتاب " محمد جبريل وعالمه القصصى " ـ 1984
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    العادة أن يبدأ الراوى فى سرد الحكاية ، بعد أن يصل إلى النهاية السعيدة ، أو فى الأقل : النهاية التى ينجو فيها بحياته . لا مشكلات تمنعه من أن يسترخى ، ويبدأ الحكى . من يبدأ فى رواية ما حدث ، فهو لابد أن يكون قد وصل إلى نهاية ذلك الحدث . أنا لا أستطيع أن أصارع الأمواج ـ على سبيل المثال ـ وأروى ـ فى الوقت نفسه ـ ظروف ذلك الصراع ، ولا كيف يحدث ما يحدث . لكن شاكر المغربى بدأ يروى بعد أن قتل نادية حمدى ، وواجه مصيراً قاسياً . وهو قد واجه النهاية دون أن يتخلى عن تقديسه لذلك الفعل السحرى ـ كما يصف جورجى جاتشيف " الفتشية " ـ والخضوع له .
    وفى مقالة متميزة وممتازة عن الهرمنيوطقا ومعضلة تفسير النص ، طرح نصر حامد أبو زيد عدة أسئلة هى : ما العلاقة بين المؤلف والنص ؟ وهل يعد النص الأدبى مساوياً حقيقياً لقصد المؤلف العقلى ؟ وإذا كان ذلك صحيحاً ، فهل من الممكن أن يتمكن الناقد أو المفسر من النفاذ إلى العالم العقلى للمؤلف من خلال تحليل النص المبدع ؟ وإذا أنكرنا التطابق بين قصد المؤلف والنص ، فهل هما أمران متمايزان منفصلان تماماً ؟ أو أن ثمة علاقة ؟ وما هى طبيعة هذه العلاقة ؟ وكيف نقيسها ؟ إلخ .. ( فصول ـ إبريل 1981 )
    روايتى الصهبة ـ فى رؤيتى النقدية ـ أقرب إلى رواية تكوين الشخصية التى يواجه المرء فيها ظروفاً غير مواتية ، سواء على المستوى الأسرى أو الاجتماعى ، ويقع ضحية انقسام بين الحلم والواقع ، لكنه ما يلبث أن يتخلى عن ذلك برفض مجتمعه من ناحية ، ومحاولة تحقيق طموحاته الشخصية من ناحية ثانية . أنت فى الصهبة لا تدرى أين يبدأ الواقع ، وأين ينتهى الخيال ؟ أين الحقيقة ، وأين الحلم ؟. حتى منصور سطوحى نفسه ، لم يدر : ما الذى جرى فى الحلم ، وما الذى جرى فى الواقع . اختلطت الرؤى ، وتشابكت ، وامتزج الحلم والواقع . ولعلى أستطيع أن أصف الشاطئ الآخر فى إطار مصطلح " الرومانسية الحديثة " ، فهى جديدة وليست تقليدية ، وتستند الى فترة مهمة من تاريخنا الحديث . وإذا كانت ألف ليلة وليلة تنتمى إلى القصة الإطارية ، أى القصة الواحدة التى تتفرع منها قصة ثانية ، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة ، وهكذا . فإن حواديت شهرزاد ـ فى روايتى زهرة الصباح ـ كانت تحاول إلغاء الموت ، أو تأجيله . تواصل الحواديت وتشابكها ، يعنى استمرارية الأمل فى الحياة . وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسير والقضايا والنوادر ، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبى المتبولى . كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذى تلتقط فيه التالية العصا من التى سبقتها . كان ذهاب شهرزاد إلى الموت ـ لو أن ذلك قد حدث ـ هو نهاية المسافة التى قطعتها فى السباق ، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى ، تهب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات ..
    لقد تداخلت الحدود بين كتابة السيرة الذاتية وكتابة الرواية . اتسع المجال السردى للرغبة فى البوح ، ورغبة القص ، ومزج الواقعى بالخيالى ، والحقيقى بالمجازى ، والتعبير عن الذات بعامة من خلال تقنيات مستحدثة . والحق أنى لم أحاول الإفادة من الحرية التى ربما تتيحها لى السيرة الذاتية / الرواية ، لما كتبت روايتى مد الموج . لقد حرصت على أن أسجل ما حدث ، ما رأيته بالفعل ، ما استمعت إليه بالفعل ، ما عشته بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، ولا حتى لضرورة فنية أو أخلاقية . وحين أراد سارتر أن يقول الحقيقة ـ على حد تعبيره ـ فإنه تعمد أن يقولها فى عمل تخييلى . وهو ما أثق أنى لم أفعله . لقد قلت الحقيقة دون حذف أو إضافة ، دون نقصان أو زيادة . الحقيقة كما استقرت فى الذاكرة . مد الموج ـ فى تقديرى ـ رواية بوح بأكثر من أن تكون رواية سيرة ذاتية . أنا ـ الكاتب / الراوى ـ أحيا فى الحاضر ، وأسترجع ومضات من مساحات الماضى . وفى روايتى اعترافات سيد القرية أتأمل القول إن شخصية الفنان هى محصلة الشخصيات التى يحفل بها إنتاجه . إن زاو مخو فى اعترافات سيد القرية من اختراع خيالى ، لا أتصور أنه يوجد فى داخلى شئ منه . وفى روايتى زمان الوصل تناوب صوت الراوى فى المضارع مع صوت الكاتب فى الماضى . هما صوتان : صوت الراوى ، والصوت العليم بكل شئ . الراوى يحكى ما يعرفه ، لا يجاوز ما حدث له شخصياً ، ومن خلال وجهة نظر قد تكون صحيحة ، وقد تكون كاذبة . أما صوت الكاتب فهو يحاول أن يقدم كل وجهات النظر . وأفدت ـ من حيث الشكل ـ من عمودية الخطوط وميلها ، فالخطوط العمودية تنقل رواية الراوى عن المضارع ، والخطوط المائلة تنقل رواية الكاتب عن الماضى .
    ألف ليلة وليلة تنتمى إلى القصة الإطارية ، أى القصة الواحدة التى تتفرع منها قصة ثانية ، وتتفرع من القصة الثانية قصة ثالثة ، وهكذا . وفى روايتى زهرة الصباح كانت حواديت شهرزاد تحاول إلغاء الموت ، أو تأجيله . تواصل الحواديت وتشابكها ، يعنى استمرارية الأمل فى الحياة . وكان الهدف من حفظ زهرة الصباح لعشرات الملاحم والحكايات والحواديت والسير والقضايا والنوادر ، إلى آخر ما أعاده عليها أبوها عبد النبى المتبولى . كان الهدف تحقيق ما هو أشبه بسباق التتابع الذى تلتقط فيه التالية العصا من التى سبقتها . كان ذهاب شهرزاد إلى الموت ـ لو أن ذلك قد حدث ـ هو نهاية المسافة التى قطعتها فى السباق ، لتحاول زهرة الصباح أن تعدو مسافة أخرى ، تهب أفقها المحدود ما حفظته من حواديت وحكايات ..
    إن قيمة القصة فى الحبكة ، فى فنية القص بأكثر من تيمة القص . الحبكة تعنى الخطة التى نكتب فى ضوئها العمل الفنى . أوافق على أن الحكى هو أساس الرواية ، لكن الحكى المتتابع ، المتسلسل ، لم يعد شرطاً صارماً للعملية السردية ، فضلاً عن الحبكة التى تصنع فنية العمل الإبداعى . لم تعد الرواية ـ ولا القصة القصيرة ـ تشترط ملاحظة ا . م . فورستر أن تكون عبارة عن قص حوادث حسب ترتيبها الزمنى ، الغداء بعد الإفطار ، والأحد بعد السبت ، والموت بعد الحياة ، والتحلل بعد الموت ، إلخ . ثمة تداخل فى الأزمنة والأمكنة ، وفى الأنواع الأدبية ، وفى الأنواع الفنية بعامة . إن كل ما يخدم القص تفيد منه الرواية . ليس ثمة ما لا تقبله الرواية . إنها تجاوز حدود الزمان والمكان ، وتتماهى مع الأجناس الأدبية الأخرى .
    ***
    أصارحك أنه لو أن أعمالى التى تلى البدايات جاءت مشابهة ، أو استمراراً على نحو ما ، لأعمال الأجيال السابقة ، فقد كان ينبغى أن أتوقف ، لأنى لن أضيف ، ولا أقدم المغاير ، أو الصوت الخاص ، بصورة مؤكدة . أتفق مع جابر عصفور فى رأيه بأن الرواية الحقيقية هى التى تضع أداة النفى " لا " فى مواجهة الروايات السابقة عليها ، بادئة من نقطة مغايرة ، باحثة عن ما تنفرد به فى إضافتها الكيفية لا الكمية ( زمن الرواية ـ 65 )
    إن الأصالة هى أن يخوض الفنان مغامرة الخروج عن السائد والمألوف ، واستكشاف الآخر وما بداخل النفس ، وامتلاك ما لديه . إنه يوظف السيرة الذاتية والسيرة الغيرية والتاريخ والشعر والدراما والخطابة والأسطورة والخرافة والملحمة والسيرة والطرفة والمثل والرسالة والحكاية والرحلة والحلم وغيرها .
    الأصالة هى القدرة على الانسجام مع عناصر الجدة وتحمّل تبعاتها . أتذكر قول خوليو كورناثر " إن الطبيعة الحقيقية للأشياء لا تكمن فى قوانينها، وإنما فى الشذوذ عنها " . وفى تقدير ألان روب جرييه " أن امتداح كاتب شاب اليوم ، لأنه يكتب مثل ستندال ، ينطوى على غش مزدوج . فمن ناحية إن هذه العبارة لا تنطوى على شئ يثير الإعجاب ، ومن ناحية أخرى ، إنها مستحيلة تماماً . فللكتابة مثل ستندال يجب ـ أولاً ـ أن يعيش المرء فى سنة 1830 . فالكاتب الذى ينجح فى إخراج صورة مقلدة بارعة ، إلى حد أن تكون صفحاته صالحة لأن يوقعها ستندال فى ذلك الزمن .. مثل هذا الكاتب لن تكون له اليوم نفس القيمة التى كانت تكون له ، لو أنه كتب هذه الصفحات نفسها فى عصر شارل العاشر ، أو قبل ستندال بمائة وثمانين سنة تقريبا " . لقد اطمأن الكثير من الروائيين ـ والدارسين أيضاً ـ ذات يوم ـ أن زمن الرواية قد انتهى ، لكن المبدعين المتميزين : ماركيث ويوسا ومحفوظ وكونديرا وغيرهم ، أعادوها إلى موضعها وتميزها ، أو على حد تعبير أنطونيو مونيوث مولينا ـ بدايتها الأسطورية ( ت . طلعت شاهين ) . ولعلى أذكرك بقول أندريه جيد إن ما كان فى استطاعة غيرك أن تفعله ، فلا تفعله . وما كان فى استطاعة غيرك أن يقوله ، فلا تقله . وما كان فى استطاعة غيرك أن يكتبه ، فلا تكتبه ، وإنما تعلق فى ذاتك بذلك العنصر الفريد الذى لا يتوفر لدى أحد غيرك ، واخلق من نفسك ـ بصبر وأناة ، وبتعجل ولهفة ـ ذلك الموجود الوحيد الذى هيهات لأحد غيرك أن يقوم بديلاً فيه "
    المرتقى صعب كما ترى .
    .........................
    1994 ـ بإضافات .
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    التجريب فى القصة الحديثة .. جذوره التراثية
    .....................................

    المؤلف المصرى ـ فى اجتهاد أستاذنا سيد كريم ـ هو المؤلف الحقيقى لأشهر الروائع القصصية الخالدة التى لا تزال نسخها تباع بالملايين منسوبة إلى غيره ، مثل سندريلا وعلى بابا ومجنون ليلى وشمشون ودليلة والشاطر حسن والسندباد البحرى والكونت دى مونت كريستو ، وغيرها .. ويعترف نوثروب فراى بأن حكاية الأخوين هى مصدر قصة يوسف ـ سماها خرافة ـ عندما حاولت زوجة الأخ الأكبر أن تراود أخاه الأصغر عن نفسه ، فلما رفض إغواءها ، اتهمته عند أخيه بأنه حاول اغتصابها . ويلاحق الأخ أخاه ، وتتنامى الحبكة فى توالى الأحداث المتسمة بالعجائبية . ويضيف ا . ل . رانيلا إن للعرب الفضل فى إبداع الحكايات بوصفها أدباً ، وبهذا ثبّتوا شكل القص الخيالى المصور للحياة .
    لقد واجه الشرق اتهاماً بضعف الخيال ، بحيث غاب فن القصة فى التراث العربى . القصة ـ فى تقدير المستشرقين ، وفى تقدير معظم الباحثين العرب أيضاً ـ فن أوروبى مستورد ، يمد جذوره فى الثقافة الأوروبية ، فهو تقليد ومحاكاة للقصة فى الغرب ، وليس له أى جذور فى التراث العربى الذى يعد تراثاً شعرياً فى الدرجة الأولى ، فهو مستحدث فى الإبداع العربى . بل إن محمود تيمور يقرر ـ فى بساطة ـ أنه لم يعد بيننا خلاف ـ كذا ـ على أن الأدب العربى ـ فى عصوره الخالية ـ لم يسهم فى القصة إلاّ بالنزر اليسير الذى لا يسمن ولا يغنى ، فالقصة الفنية إذن دخيلة عليه ، ناشئة فيه ، لا أنساب لها فى الشرق ، ولا استمداد لها من أدب العرب " ( دراسات فى القصة والمسرح ـ 64 ) .
    والحق أنه من المكابرة الساذجة تصور القص العربى الحديث بعيداً عن تقنيات الغرب ، لكن من الخطأ البالغ إهمال تقنيات الحكى العربى فى سعينا لتأكيد الهوية القومية لإبداعنا المعاصر . ومن الصعب ـ فى الوقت نفسه ـ أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . ولعلى أذكر بقول جارثيا ماركيث : " من الطبيعى أن يمعنوا ـ يقصد الغرب الأوروبى ـ فى قياسنا بالمعايير ذاتها التى يقيسون بها أنفسهم ، ولكن عندما نصور وفق نماذج لا تمت إلينا بصلة ، فإن ذلك لن يخدم إلا غاية واحدة ، هى أن نغدو مجهولين أكثر ، وأقل جرأة ، وأشد عزلة " ..
    وإذا كان التراث العربى ـ فى تقدير المستشرقين ـ يفتقر إلى الخيال ، والنظرة الفلسفية المتكاملة ، والحاسة النقدية ، وغياب الحس والقصصى والدرامى ، إلخ ، فلعله من المهم أن نشير إلى قول رينان بأن أوروبا امتلأت بقصص لا حصر لها قدم بها الصليبيون من الشرق العربى ، إثر عودتهم إلى بلادهم . ويقول ميشيل : " إذا كانت أوروبا مدينة بديانتها المسيحية لتعاليم المسيح ، فإنها مدينة بأدبها القصصى للعرب " . بل إن البارون " كار دى فو " يؤكد أنه ليس هناك أدب سبق الأدب العربى فى ابتداع فن القصة ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب ومذاهبه ـ 30 )
    إن ضعف الخيال والإسراف فى الخيال اتهامان أملتهما الرغبة فى تحقير الملكات الإبداعية لكتاب الشرق ، وأن الشرق سيظل دوماً فى موقف التابع بالنسبة للمتبوع ، وهو الغرب الأوروبى.
    الغريب أن الذين أفادوا من الخيال العربى ، ممثلاً فى ألف ليلة ليلة وحى بن يقظان ورسالة الغفران والحكايات والسير والطرف والأخبار العربية ، ينتمون إلى ثقافات أوروبية ، أو متأثرة بالثقافات الأوروبية . والثابت ـ تاريخياً ـ أن الرومانس ـ الحكايات الشعبية الأوروبية ـ تأثرت فى نشأتها بألف ليلة وليلة ..
    ثمة رأى أن الرواية والقصة القصيرة والمسرحية لم يعرفها العرب إلاّ بعد اتصالهم بالأدب الأوروبى . وقد نقل العديد من الدارسين العرب عن المستشرقين ـ وكم تظلمنا النقلية ! ـ ما ذهبوا إليه من أن ما عرفه التراث العربى من الإبداع القصصى والروائى والمسرحى ، لا يعدو مجموعة من الأخبار والطرائف التى تخلو من الحرفية الفنية كما فى الإبداع الغربى . عمق من المشكلة أن المسرحية والقصة والرواية قد اقتصر تناولها على النقد الأوروبى والدراسات الأوروبية . وهو ما يزال قائماً ـ للأسف ـ حتى الآن . ومع أن نجيب محفوظ هو أحد الكتاب العالميين ـ باعتراف نوبل ! ـ فإن كل المراجع النقدية الحديثة ـ قبل نوبل وبعدها ، وحتى الآن ـ تخلو من عمل له ، بل ولا تشير إلى أعماله على أى نحو . إنهم يناقشون إبداعاتهم باعتبارها هى الإبداع الذى ينبغى تناوله . إنها ـ مع التقاط شذرات من هنا وهناك ـ هى الإبداع العالمى إطلاقاً ..
    ***
    فى القرآن الكريم يقص الله ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم أحسن القصص . وكان العرب يبدءون حكاياتهم أو طرفهم أو نوادرهم بعبارة : قال الراوى ، يحكى أن ، زعموا أن ، كان ما كان ، إلخ .. وقد أسهمت ألف ليلة وليلة ورسالة الغفران وحى بن يقظان وغيرها ، فى تطور فن القصة ـ والرواية طبعاً ـ فى الغرب . أديب أمريكا اللاتينية ألفريدو كاردنيا بنيا يجد فى ألف ليلة وليلة مخزناً لأكبر عدد من القصص الإسبانية . إنها النبع الثرى المتعدد الروافد للكثير من القصص الواردة فيه ـ على حد تعبير الكاتب ـ فم تترك أى موضوع إلاّ وتطرقت إليه ، بحيث تحولت الكتابات التالية إلى مجرد تقليد ، أو نقل غير مبدع . وتبدو إفادة الثقافة المكتوبة بالأسبانية من الثقافة العربية المعاصرة ـ إبان حكم المسلمين لشبه الجزيرة الأيبرية ـ ظاهرة محيّرة ، مقابلاً لإخفاق الثقافة العربية المعاصرة فى الإفادة من ذلك التراث ، مع أنه يتصل بنحن ، وليس بالآخر . إنها ثقافة تعتمد على الدين الإسلامى والتاريخ العربى واللغة العربية . يغيظنى ـ على سبيل المثال ـ زهو بعض المبدعين بأنهم قد تأثروا بواقعية ماركيث السحرية ، بينما أعلن الكاتب الكولومبى أنه قد تأثر بغرائبية ألف ليلة وليلة !..
    يقول محمد فهمى عبد اللطيف : " كان من الطبيعى أن يتميز القاص المصرى فى هذا المجتمع الخصيب ، وأن يكون محصوله فى ذلك وافراً ، ونتاجه وافياً .. فكان أبرز وأوفى من أجدى فى هذه الناحية . وما ألف ليلة وليلة ، وقصة الهلالية ، وقصة الظاهر بيبرس ، وقصة سيف بن ذى يزن ، وغيرها من القصص ، إلاّ من فيض براعة القصاص المصريين ، وقدرتهم على التحليل والإفاضة ، سواء ما ابتدعوه منها ابتداعاً ، أو ما مدّوا فيه بالتزيد والإغراق والاختراع والاختلاق . وإذا كان هؤلاء القصاص قد تناولوا ألف ليلة وليلة نصاً عن الفارسية ، مدّوا فى فروعه ، وأساساً ارتفعوا ببنائه ، فإنهم كذلك فى قصة الهلالية تناولوها عن الأصل التاريخى ، وأخذوها مما جرى فى رحلة أولئك الأغراب إلى مصر ، ثم إلى بلاد إفريقية ، وما وقع لهم من الحروب والأحداث ، وانتقلوا بذلك الأصل التاريخى إلى ميدان الخيال الفسيح " ( أبو زيد الهلالى ص 59 ) .
    ما نستطيع الاطمئنان إليه أن القصة العربية لها جذورها الممتدة فى تربة التراث . وهى تختلف ـ بالتأكيد ـ عن تربة الترجمة التى أعطت لإبداعنا ثماراً يصعب التقليل من قيمتها . وإذا كان محمود طاهر لاشين قد أعلن أنه " لا ميراث لقصاصينا فى الأدب العربى " ( المجلة الجديدة ـ يونيو 1931 ) فإن مجرد التنقيب فى التراث العربى الأدبى القديم ، سعياً لاكتشاف شكل فنى يمكن نسبته إلى القصة والرواية ، اتساقاً مع شكل القصة والرواية الغربية .. ذلك التنقيب لم يكن يخلو من نظرة أحادية متعسفة ، فالقصة ـ فى تقدير هؤلاء ، وفى سعيهم لاكتشاف ملامحها فى الأدب العربى القديم ، هى القصة فى الغرب من حيث البنية والحبكة والتكثيف وغيرها . وحين أهملت إبداعات الغرب القصصية والروائية تلك الخصائص ، فإن محاولاتنا الإبداعية ـ والنقدية ـ قد أهملتها كذلك !
    ***
    لقد غابت القصة الموباسانية ـ أو ذوت فى أقل تقدير ـ منذ فترة بعيدة ـ فى الأدب العالمى . وغاب ذلك النوع من القصص فى إبداعنا العربى ـ منذ الخمسينيات ـ على يد اليوسفين إدريس والشارونى وإدوار الخراط ، ثم فى أعمال أدباء الستينيات التى اختلط فيها الوعى باللا وعى وتيارات الشعور . لم يعد الواقع هو تلك الثنائيات المكرورة : التقدم فى مواجهة التخلف ، الخير فى مواجهة الشر ، الغنى فى مواجهة الفقر إلخ .. أصبح الواقع ملتبساً وظنياً ، وقدمت محاولات تنتسب إلى الواقعية السحرية والعجائبية والغرائبية وخارج الواقع وما فوق الواقعى . النص الأدبى ـ فى تقدير تودوروف ـ هو النص الذى يحطم القواعد النوعية ، ولا يمكن أن يتقلص إلى مجرد معادلة ، ومن ثم فلا يمكن وضعه ـ بصورة نهائية ـ فى جنس محدد . ويذهب جوناثان كلر إلى أن الأنواع ليست مجرد فئات للتصنيف ، بل مجموعات من المعايير والتوقعات التى تساعد القارئ فى تحديد وظائف العناصر المختلفة فى العمل الأدبى . وهو رأى يبدو مقنعاً فى عمومه . مع ذلك ، فإنى أرجو ألا نختلف فى أنه توجد خصائص أو سمات يشترك فيها النص الإبداعى مع نصوص إبداعية أخرى ، تختلف عن نوع ذلك النص . فالقصة ـ على سبيل المثال ـ قد تستعين بدرامية الحوار ، أو تلجأ إلى هارمونية الموسيقا ، أو إلى أسلوب التبقيع ، أو الكولاج ، كما فى الفن التشكيلى ، أو تقنيات السينما والمسرح وغيرها . وثمة رأى أن الرواية نوع أدبى يقاوم التقيد بما هو تأملى وفنى خالص ، بحيث تذوب فى المجموع الكلى للتجربة الإنسانية من أفكار وآراء وطموحات وغرائز . لا تفرد مطلقاً فى الجنس الأدبى ، فهو لابد أن يفيد من الأجناس الأدبية الأخرى ويفيدها ، يتأثر بها ويؤثر فيها . وإذا كانت كتابات ما بعد الحداثة تتجاوز الأنواع ، الأجناس الأدبية ، تذيب الفوارق والحدود ، فإن التخلى عن الفروق بين الأنواع ، وظهور صيغة جديدة ، تأتلف وتختلط فيها كل الأجناس ، يعنى التحول إلى نص بلا ملامح ، وبلا هوية محددة [ عندما ظهرت اللا رواية واللا مسرحية ـ فى الستينيات ـ تصور الكثيرون أن الرواية والمسرحية حان أوان موتهما ! ]. القصة قد تفيد من لغة الشعر ، بينما تلجأ السينما إلى الرواية الأدبية ، وتعتمد الرواية على درامية الحوار ، إلخ .. لكن القصة يصعب إلا أن تكون قصة . الأمر نفسه بالنسبة للقصيدة والمسرحية والفيلم وغيرها . وإذا كانت بعض الأعمال الحديثة تطالعنا باعتبارها كتابات أو نصوصاً ، لا تسمية نوعية محددة ، كقصة أو قصيدة أو مسرحية ، فلعلى أومن بمقولة هيثر وابرو التى تؤكد أن معرفة النوع تهبنا مفاتيح عالية القيمة ، فيما يتصل بالكيفية التى نفسر بها قصيدة ..
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يقول ألان روب جرييه : " ليست المشكلة هى تأسيس نظرية أو قالب موجود سلفاً نَصُبّ فيه كتابة المستقبل . وعلى كل روائى ، وكل رواية ، أن يخترع شكله الخاص ، وليس هناك وصفة يمكن أن تحل محل هذا التأمل الدائم " . ثمة مقولة إن الرواية نوع غير منته ، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد . إنها تتسم ـ كجنس فنى ـ بالانفتاح واللانهائية . ما يشبه الإجماع النقدى على أن الرواية والقصة القصيرة هما النوعان القصصيان الحديثان اللذان جاوزا التعريفات والقوانين النقدية . وقد نشأت القصة الحديثة ـ فى تقدير أوستن وارين ورينيه ويلك وغيرهما ـ من الأشكال السردية غير الخيالية ، كاليوميات والمذكرات والرسائل والسير والتاريخ ، وأيضاً من خلال النادرة والخبر والطرفة والملحة وغيرها . [ وهو ما يخالف قول محمود أمين العالم : " ليس من الدقة أن نسعى إلى تلمس مصادر القصة العربية فى تاريخ الأدب العربى القديم ، وفى القرآن ، والأساطير الشعبية والحكايات والمقامات وكتب الأخبار " ـ الثقافة الوطنية ـ فبراير ـ مارس 1954 ] . ثم خالفت القصة الحديثة ـ فى محاولاتها للتجريب ـ كل الأبنية القصصية المعروفة ، وحطم كتاب القصة القصيرة والرواية المحدثون كل البنى القصصية المألوفة ، أو المتعارف عليها ، أو حتى التى حاولت التجريب دون أن تجاوز صفتها الإبداعية . أصبح مصطلح الرواية والقصة القصيرة ـ على سبيل المثال ـ مطاطاً . تلامس مع الملحمة والسيرة والمسرح والسيرة الذاتية إلخ . فالحيرة التى واجهها النقد فى النظرة إلى أيام طه حسين ، أو خليها على الله ليحيى حقى ، باعتبارها عملاً روائياً أو سيرة ذاتية ، تلك الحيرة تجد مرساها فى نسبة السيرة الذاتية إلى فن الرواية ، فالأيام أو خليها على الله إذن سيرة ذاتية ورواية فى آن . ولا يخلو من دلالة قول شلوفسكى إنه لم يعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة . ثمة روايات وقصص جيدة دون أن يكون لها منظور جيد . إنها تعبير عن الإبداع الفنى وليس نظريات النقد . أهملت بعداً أو اثنين من الأبعاد الثلاثة : الحدث والزمان والمكان . وثمة أسماء لأشكال أدبية تتصل على نحو أو آخر بفن القصة القصيرة : القصيدة النثرية ، الخرافة ، الحكاية ، الطرفة ، الملاحظة ، الحدوتة ، اللوحة ، الفصل فى رواية ، إلخ .. وهناك القصة المضادة ، أى التى تهمل المتعارف عليه فى فن القصة ، مثل الزمان والمكان والمنظور والحبكة والشخصيات واللغة إلخ . وعلى سبيل المثال ، فالقول بأن الرواية ليست مجموعة من القصص القصيرة ، مقابلاً لأن القصة القصيرة ليست جزءاً من الرواية . ذلك القول لم يعد وارداً فى الحقيقة . قد تطالعنا رواية هى مجموعة من اللوحات المنفصلة ، المتصلة [ أذكرك بروايتى رباعية بحرى بأجزائها الأربعة ] وقد تأتى فصولاً فى رواية ، يشكل كل فصل ما يعد قصة قصيرة . والمجموعة القصصية قارب الجليد لإدوارد ماييا E Maelle يمكن قراءتها باعتبارها كذلك ، أو باعتبارها فصولاً تشكل رواية . وأيضاً رواية البنتاجون لأنطونيو دى بنيدتو Antonio Di Benedetto كتبها الفنان فى شكل قصص قصيرة . وقد دخلت العظات والخطب والرسائل فى نسيج السرد . والمتواليات القصصية قد تأتى ـ كما أشرنا ـ فى صورة لوحات منفصلة ، ومتصلة ، أو حكايات سردية تتعدد فيها الشخصيات والأمكنة . وثمة القصة التى لا تسرد شيئاً ، أو التى تخلو من الحدث والشخصيات والحبكة . وثمة تقطع الحكاية ، والقص واللصق [ الكولاج ] وتحليل اللاشعور من خلال وجهات نظر الشخصيات ، والمناجاة الذاتية ، والنثر الغنائى . الحكاية تختلف عن القصة القصيرة فى أن لها دلالة واضحة ، لكن الحكاية ذات الدلالة هى الكثير مما يطالعنا الآن باعتباره قصة ..
    وإذا كانت الرواية الجديدة قد نشأت حوالى 1910 على يد فرجينيا وولف ، فإن الجدة فى الرواية متكررة ، ومتواصلة ، ومن الصعب القول إنها ستنتهى . الرواية ـ فى تقدير باختين ـ مجموعة من العمليات المفتوحة داخل حقل الكتابة . إنها لا تكون . فليس لها مجموعة من الخصائص الشكلية التى يمكن أن تحدها ، لكنها " تصير " ، فهى تتغير باستمرار وتتطور ، لكن ليس فى اتجاه محدد ، أو مرسوم سلفاً ، يمليه نظام للعلاقات بين الشكل الأدبى والبنية الاجتماعية التى تميز ظروف نشأته ( ت : خيرى دومة ) . ما يشبه الإجماع على أنه لم يعد هناك مالا تقبله الرواية ، وأن كل الأجناس ، وكل الحيل ، تخدم التقنية الروائية . أشير ـ ثانية ـ إلى روايتى رباعية بحرى . كل لوحة مستقلة بنفسها ، لكنها متصلة باللوحات التى سبقتها ، واللوحات التى تليها . تتشكل من توالى اللوحات بانوراما متكاملة ، بوسعنا أن ننسبها إلى الإبداع الروائى . وإذا كنت قد وصفت روايتى الحياة ثانية بالتسجيلية ، فلأن السرد يروى ما جرى بالفعل . لم أضف ، ولم أحذف ، اللهم إلاّ ما تصورته صياغة أدبية وتقنية . أما روايتى مد الموج فهى تنتسب إلى جنس الرواية ، لأنها تلتزم بتقنية الرواية ولغتها ، وإن اقتصر السرد الروائى على تبقيعات نثرية من سيرة حياة . وقد أفدت فى " البحر أمامها " من تقنية السرد المنفصل ، المتصل ، فى بنية روائية واحدة ، تتراكم فيه العلاقات والرموز والإيحاءات والإشارات والعبارات المضمرة والموحية .
    ***
    إذن ، فالاتهام الذى يواجهه التراث القصصى العربى متمثلاً فى القصة والحكاية والنادرة وغيرها ، أنه لا يشابه القصة كما نعرفها اليوم .. هذا الاتهام يحتاج إلى مراجعة شديدة ، وبالذات فى ضوء اتساع مساحة الأشكال الفنية فى القصة الحديثة ، بصرف النظر عن الثقافة التى تصدر عنها . والقول بأن زينب هى بداية الرواية المصرية الحديثة يحتاج الآن كذلك إلى مراجعة ، لا لأن الروايات التى سبقتها [ حوالى 130 رواية ] لم تخضع لتقويم من أى نوع ، بحيث تستحق زينب الصفة التى وسمها بها يحيى حقى وآخرون ، لا لذلك السبب فحسب ، وإنما لأن فنية الرواية بالمعنى التقليدى لم تعد واردة . وإذا كان من السهل تقبل الرأى بأن الرياح التى تهب من أوروبا حملت ـ فى أوائل القرن العشرين ـ بذرة غريبة على المجتمع المصرى ، هى بذرة القصة ( فجر القصة المصرية ص 21 ) فإن ذلك الرأى يحتاج ـ فى ضوء المعايير الحالية لفن القصة ـ إلى إعادة نظر . نعم ، كانت القصة بذرة غريبة على المجتمع المصرى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، القصة بقواعدها الكلاسيكية ، بخصائصها الموباسانية من بداية ووسط ولحظة تنوير . وهى قواعد وخصائص تجاوزتها التيارات والاتجاهات الفنية الحديثة بصورة مؤكدة . لم تعد صرامة البداية والذروة ولحظة التنوير ـ كما أوردها رشاد رشدى فى كتابه عن فن القصة القصيرة ـ مطلوبة . ما بعد الحداثة تذهب إلى أن " كل نص جديد إنما يكتب مكان نص أقدم " . بل إن بورخيس يحرص على التأكيد أنه لا أحد يمكنه أن يدعى الأصالة فى الأدب . كل الكتّاب ـ فى تقديره ـ ناسخون ومترجمون ومفسّرون للنماذج الأصلية المتوالية بتوالى الإبداعات ، فى توالى العصور ..
    ***
    السؤال الذى يطرح نفسه : كيف تعتمد محاولات توظيف التراث العربى فناً قصصياً ، ولا تعتمد التراث العربى نفسه ـ بكل ما يشتمل عليه من فيض حكائى وأشكال قصصية ـ فناً قصصياً ؟! وعلى سبيل المثال ، فهل تختلف مشاهد الواقعية السحرية عن مشهد الباب المغلق ؟.. يصر الرجل على فتحه لرؤية ما وراءه . يجد حصاناً ، يفك قيده ، ويمتطيه . يطير الحصان ، وينزل به على سطح ، ويضرب بذيله ، فيتلف عينه اليسرى ؟!.. ألا نجد فى ذلك المشهد ـ وسواه ـ مدخلاً لواقعية أمريكا اللاتينية السحرية ؟!
    ***
    لامست تخوم القصة أجناساً أدبية وفنية أخرى ، واختلطت بها وتشابكت ، وانتسبت جميعها إلى الإبداع القصصى ، بحيث انتفى التحديد الصارم لماهية القصة . بل إن صديقى عبد الله أبو هيف يذهب إلى أن تحديد عناصر القصة لا يعنى الركون إلى نظرية الأجناس الأدبية ، لأن فن القصة أنجب أجناساً متعددة فى القديم والحديث (القصة العربية الحديثة والغرب ـ 38 ) . وكما يشير كونديرا ، فإن معظم الروايات الحديثة ـ بالمعنى الزمنى وليس بمعنى الحداثة ـ تقف خارج دنيا الرواية . لقد أفادت الرواية من تقنية المدركات الحسية والبصرية : المونتاج والتبئير ، والزاوية القريبة ، والمزج ، والقطع ، والتناوب ، والاسترجاع ، وحذف علامات الترقيم ، والاستغناء عن أدوات الواصل . وتبادلت الرواية ـ والسينما بعامة ـ التأثر والتأثير . وثمة الاعترافات المصاغة فى شكل روائى ، والسير الذاتية للمبدعين ، والمشكلات والقضايا الأخرى التى تنسب إلى الرواية بالشكل وحده ، وثمة القصة المقال ، والقصة السرد ، والقصة اللوحة ، والقصة الرسالة ، والقصة الخاطرة ، والقصة الرحلة ، إلخ . وثمة تعاظم دور المتلقى بديلاً لسلبية القراءة ، وتداخل السرد بالمونولوج الداخلى ، والمزج بين الواقع والخيال ، والحسية والأسطورية ، وأنسنة الحيوان والأشياء . طرأ على نظرية القصة عموماً ما بدّل من النظرة الثابتة إليها ، كالشكلانية والبنيوية والتكوينية واللسانية وغيرها . لذلك فإنى أجد فى ما بعد الحداثة ما يحمله التراث العربى ، فأنسب إلى القصة والرواية ، ما تناثر فى كتب العرب من الخرافة ، والتاريخ ، والسيرة ، والحكاية ، والخطابة ، والتهذيب ، والشعبية ، والخبر ، والطرفة ، والملحة ، والرحلة ، والحلم ، وغيرها من فنون السرد العربى . ثمن زوجة قصة لنجيب محفوظ ، نشرها ضمن مجموعته همس الجنون تتحدث عن الزوج الذى يضبط زوجته فى موقف الخائنة ، ويدبر حيلة يدفع بها الزوجة إلى الانتحار دون أن يكون هو المتسبب بصورة معلنة . هذه القصة تذكرنا بحكايات العرب ونوادرهم وأخبارهم . القصة لا تستدعى التراث ولا توظفه ، لكن ملامح التراث تبدو واضحة بما لا يخفى . أنت تستطيع أن تتعرف إلى حيل الأزواج فى كشف خيانات زوجاتهم ، فى الكثير من حكايات العرب ونوادرهم . ولو أننا بدلنا الأسماء والمسميات ، وتحول البيت إلى خيمة ، والريال إلى درهم ، فستطالعنا حكاية ذكية من تراثنا العربى . أذكر بالحكاية التى جاءت فى " وفيات الأعيان " عن حب أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، وزوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك ، لوضاح اليمن الشاعر . أخفته ـ ذات يوم ـ فى صندوق بعد أن دخل عليها الخليفة فجأة . وفطن الوليد إلى ما حدث ، فدعا الخدم وأمرهم بحمل الصندوق إلى شفير بئر ، ثم قال له : يا صاحب الصندوق ، إنه بلغنا شىء ، إن كان حقاً فقد دفناك ودفنّا ذكرك إلى آخر الدهر ، وإن كان باطلاً فإنما دفنّا الخشب . ثم قذف الخدم بالصندوق فى البحر ، وأهالوا عليه التراب ، وسويت الأرض " فما رؤى الوضاح بعد ذلك اليوم ، ولا أبصرت أم البنين فى وجه الوليد غضباً ، حتى فرق الموت بينهما " . لقد تعمد كلّ من الزوج والخليفة ألا يشير إلى ذلك الكابوس ـ بعد انقضائه ـ بتلميح أو تصريح ، ولا ذكره بخير أو شر ، ولا أجرى بسببه تحقيقاً ، ولا أثار عنه سؤالاً ، وطالع الزوجة بوجه هادئ كأنه شخص آخر غير الزوج المطعون . استعان حمدى فى ثمن زوجة بهدوئه ، وخطط للانتقام دون أن يصارح أحداً بما ينوى فعله . وهو ما فعله الخليفة . وكان الريال مساوياً للصندوق الذى اختفى فيه الشاب العشيق ، وإن اختلفت النهاية بين القصة والحكاية ، فقد قتل العشيق فى الحكاية ـ الأدق أنه قَبِل القتل! ـ أى أنه انتحر ـ بينما انتحرت الزوجة فى القصة ( محمد جبريل : عود على بدء ـ فتوة العطوف لنجيب محفوظ ) . لا تباين فى دلالات العملين ، وإن اختلفت فنية التناول ..
    من الصعب أن ندعى غياب الصلة بين الأشكال القصصية التراثية ، والقصة العربية ـ بل والقصة بعامة ـ فى أحدث معطياتها . القول بأن الصياغة العربية تخالف الصياغة التى تضيف إلى فنية القصة ـ وتمثل فيها بعداً أساسياً .. هذا القول يبدو خافت الصوت إلى حد التلاشى فى ضوء التيارات الفنية الأوروبية الحديثة نفسها ، كاللاقصة ، واللاحكاية ، وتوظيف التراث إلخ . ولعلى أعيد التأكيد على أن القصة الحديثة لم يعد لها إطار ولا مدى محدد . ثمة قصيدة تسرد قصة ، وثمة قصة هى أقرب إلى قصيدة النثر ، وبعض المقالات تكتمل فيها مقومات القصة القصيرة ، بل إن بعض قصص بورخيس المتفوقة ليست إلا عروض كتب أو مقالات نقدية . وعلى سبيل المثال ، فإن إبداعات بورخيس تعاملت مع التراث الإنسانى باعتباره تراثه القومى . أعلن أن تراثه هو ثقافة العالم ، فلا يظل حبيساً داخل الحدود الضيقة لمدينة بذاتها ، ولا لبلد ذاته ، ولا لقارة محددة . إبداعات بورخيس تطالعنا بالكثير من الاقتباسات والمقارنات والإشارات . لم يحبس بورخيس قراءاته ولا أفكاره ولا إبداعه ، فى سجن التراث القومى لبلاده مثلما فعل الأوروبيون . انطلق فى كتاباته إلى الآفاق الثقافية الرحبة . استوعب أساطير اسكندنافيا ، وسير الشرق العربى ، وشعر الأنجلو ساكسون ، وفلسفة الألمان ، وأدب العصر الذهبى بأسبانيا ، وشعر الإنجليز ، وشعر هوميروس ودانتى ، وضفّر فى أعماله آيات القرآن ، وأحاديث الرسول ، وليالى ألف ليلة وليلة ، والعديد من الطرف والنوادر والحكايات والإشارات الثقافية ، مما يزخر به التراث الإبداعى العربى ، بالإضافة ـ طبعاً ـ إلى التراث الإبداعى الغربى كنثر ستيفنسون وحكايات الساجا الآيسلندية وغيرها . ثمة تكامل فى إبداع بورخيس بين الشعر والقصة القصيرة والمقال .. ذلك كله يصب فى بوتقة واحدة ، من الصعب أن تميز فيها بين جنس فنى وآخر . تداخلت مستويات القص . لم يعد الفضاء الروائى أو القصصى ينتهى بتلك الحدود الحاسمة التى كان يشترطها النقد قبل نشوء الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة . تشابكت المسميات والصفات ، واختلطت ..
    ***
    باختصار ، فإنى أومن بالتراث ، بوعيه وجدواه ، وإمكانية استعادته واستمراره ، تواصلاً مع المعطيات المعاصرة والحديثة . وكما يقول أندريه موروا ، فإن كل قارئ من قراء القرن العشرين ـ أضيف : الحادى والعشرين ـ يعيد ـ لا إرادياً ـ كتابة روائع القرون الماضية بطريقته الخاصة .
    .......................
    الهلال ـ مارس 2002 م.
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الحداثة .. وما بعدها
    ........................

    التعريف اللغوى للحداثة Modernity : حدث الشىء ، يحدث حدوثاً ، وحداثة وإحداث فهو محدث ، وكذلك استحدث . والحدوث كون شئ لم يكن ومحدثات الأمور ، ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء ( لسان العرب ـ 2 / 463 ) .
    يرجع البعض استخدام تعبير الحداثة ـ للمرة الأولى ـ إلى النقد الفرنسى ـ بودلير تحديداً ـ فى عام 1859 . وقد أطلق على الاتجاهات الحديثة فى الفن التشكيلى الفرنسى .
    وإذا كانت الحداثة كما تصورها اجتهادات نقدية " تقاليد تناقض نفسها ، ولحظة تدمير للشروط والقواعد السائدة ، وتخريب عميق لها " [ يذهب رولان بارت إلى أن الحداثة تبدأ بالبحث عن أدب مستحيل ] ، فإن الحداثة لا تعنى المستقبل فقط . هذه نظرة خاطئة . إن تعريف الحداثة يمكن أن يطلق على كافة تجلّيات الإبداع فى كل العصور ، والتى قامت بالدور التدميرى والثورى للمستقر وتجاوزاته ، فشعر المتنبى وابن الرومى ، ومخاطبات النفرى ، وفلسفة ابن عربى ، وحكايات ألف ليلة ، وأعمال رامبو وديستويفسكى وكافكا وهمنجواى ومحفوظ وإدريس وماركيث .. كلها أعمال حداثية طمحت أن تقدم شيئاً مغايراً وغير متشابه بغية خلق إبداعى جديد . بل إن بودلير يصف الحداثة بأنها " ما هو انتقالى ، عابر ، عارض . هى نصف الفن الذى يتمثل نصفه الآخر فيما هو أبدى لا يتغير " .
    الحداثة ـ فى تعريف جيانى فاتيمو ـ " حالة وتوجه فكرى تسيطر عليهما فكرة رئيسة مضمونها أن تاريخ تطور الفكر الإنسانى يمثل عملية استنارة مطردة ، تتنامى وتسعى نحو الامتلاك الكامل والمتجدد ـ عبر التفسير ـ لأسس الفكر وقواعده " . والحداثة تعنى أن العمل الفنى يمتلك هويته الخاصة التى يحددها بنفسه . ربما لهذا اعتبر البعض ثلاثى جيمس جويس ومارسيل بروست وفرانز كافكا هم بداية الحداثة . ومن هنا يأتى قول رامبو : " يجب أن نكون مطلقى الحداثة " ..
    والحداثة تعنى أحد مستويين : أولهما هو الاستخدامات اللغوية ، بكل ما تحمله من دلالات . أما المستوى الثانى فهو فلسفة الحياة عند الفنان ، نظرته الشاملة من الكون والعالم والمجتمع والإنسان وعلم الجمال والموروث الخ ..
    الحداثة ـ بأبسط عبارة ـ هى التغيّر المستمر ، والحتمى ، ثم التقدم الدائم ، والمتوقع . ومع ذلك ، فإنها لا تعنى رفض الماضى ، أو الانسلاخ عنه ، إنما هى التواصل ، ارتباط الجذور بالأفرع والأغصان .
    ***
    إن النظريات الفنية والأدبية والنقدية تتلاحق من أواسط القرن العشرين . عشرات النظريات تتعارض وتتداخل وتتشابك وتتقاطع ، فتصيب المبدع ـ فضلاً عن المتلقى العادى ـ بحيرة صادمة ..
    كان رفض البنيوية [ تينيانوف هو أول من استخدم لفظة " بنية " فى مطالع العشرينيات ، ثم استخدم رومان ياكبسون كلمة " البنيوية " ـ لأول مرة ـ فى 1929 ] ثم التفكيك ، للمذاهب النقدية السابقة والمعاصرة لغياب المعنى .. لكن البنيوية فشلت فى تحقيق المعنى ، بينما أفلحت فى تحقيق اللامعنى . بدا الرفض لذاته إذن دون تقديم البديل أو المغاير . ثم تقلصت النظرية البنيوية . احتلت مساحات من أرضها نظريات ما بعد البنيوية ، وما بعد الحداثة .. مضت البنيوية إلى أفق الغرب منذ العام 1966 ، وتولى جاك دريدا فى محاضرة بجامعة " جونز هوبكنز " خطوات التغسيل والدفن وإحلال التفكيك بديلاً ( المرآة المحدبة ص 15 ) ، ولكن المشكلة عند التفكيكيين إنهم لا يعترفون بوجود النص أصلاً !..
    ***
    ما بعد الحداثة Postmodernity هى موضة هذه الأيام فى حياتنا الثقافية . سبقتها موضات الحداثة والبنيوية والأسلوبية وعبر النوعية والحساسية الجديدة وغيرها من المسميات التى ربما أضافت إلى حصيلتنا المعرفية ، لكنها تضع النقد فى إطار التنظير ، دون أن يجد ذلك الإطار تطبيقاً فعلياً له فى إبداعات " بعد حداثية " !
    تقول نك كاى إن " الحداثة هى الأرض التى تقف عليها ما بعد الحداثة ، وتشتبك معها فى جدال ونزاع دائم ، وهى الأرض التى تمكّنها أيضاً من الدخول فى حوار وجدل مع نفسها . ومن هذا المنظور تتضح مشكلة تحديد الملامح المميزة لفن تيار ما بعد الحداثة . وهى مشكلة تتلخص فى أن التوصل إلى معنى وخصائص ما بعد الحداثة لا يتأتى إلاّ عن طريق الخوض فى معانى وخصائص الحداثة والحداثية " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدبية ـ المقدمة ) .
    والحق أن المذاهب الفنية فى الغرب هى إفرازات لأحداث مهمة ، وانعطافات فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية ..
    المذاهب المعاصرة فى الغرب لم تظهر عفواً ولا مصادفة ، إنما أملتها طبيعة المرحلة التى حاول المبدعون أن يعبروا عنها ، وحاول النقاد مناقشتها بالتالى فى ضوء التوجه الإبداعى المغاير . وبطبيعة الحال ، فإن الجديد لابد أن يصبح قديماً . حتى أعمال فرجينيا وولف التى اعتبرت بداية للرواية الجديدة ، أصبحت ـ فى رأى ناتالى ساروت ـ فطرية ساذجة ، كما تحولت أعمال جويس وبروست إلى مجرد شواهد تمثل زمناً ماضياً !
    ثمة تعريف لما بعد الحداثة بأنها التشكيك فى كل النظريات أو القصص الشارحة . ما بعد الحداثة ـ كما يقول ليوتار ـ لا تتحقق إلاّ فى صورة محاولة لتدمير كل التصنيفات والتقسيمات والإفلات منها ، وفى صورة تشكك جذرى فى كل ما هو معروف ومألوف وثورة عليه . إنها حالة من عدم الاستقرار الدائم . وعلى سبيل المثال ، فإن فنون ما بعد الحداثة تقيم علاقة مركبة جديدة مع الماضى ، وتتخطى كل التصنيفات الفنية ، وتقاوم التقنين والتحديد ، وتكسر القواعد . وتصف نك كاى ما بعد الحداثة ـ فى الفن والأدب والمسرح ـ بأنها تقترن بمحاولات التكسير والقلقلة التى تدفعها الرغبة فى تحدى قدرة عناصر العمل الفنى ما بعد الحداثى ، باعتباره شيئاً يحدث بصورة دائمة دون نهاية .إنها ـ بتعبير آخر ـ سعى إلى مراوغة القواعد وتجاوزها ، أو تدميرها ، وخرق الحدود المتفق عليها ، بمعنى رفض كل التصنيفات ، وخلخلة فرضيات قواعد الفن وقواعده ، وبمعنى تقويض للسعى نحو تحقيق الاكتمال ، والاكتفاء الذاتى للعمل الفنى . إنها تتبنى مبدأى التشظى والتنافر ، وتطرح من خلالهما أسلوباً ينأى عن النموذج المثالى القديم للعمل الفنى المتكامل ، الذى يفقد الكثير من قيمته لو أنه أضيف إليه ، أو حذف منه ..
    وإذا كانت الحداثة ترتبط بالحركة الاجتماعية الشاملة التى استهدفت الخروج من مجتمعات العصور الوسطى ، والانتقال إلى مجتمعات تدين بالرأسمالية وما رافقها من ميل إلى التجديد والتحديث ، فإن ما بعد الحداثة تجد بدايتها فى الولايات المتحدة . وبالتحديد منذ انتصارات الحرب العالمية الثانية ، وما تلاها من محاولات للهيمنة ، فضلاً عن أنها التقت فى مرحلة لاحقة باتجاهات ما بعد التعبيرية الأوروبية ، وهى كذلك تعبير عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التى طرأت على المجتمع الأمريكى ، ورفعتها الرأسمالية المتعددة القومية إلى مرتبة نموذج مثالى يجرى تعميمه على مستوى العالم كله ..
    واللافت أن اهتمام مثقفينا بالبنيوية قد بدأ عندما بدأ اهتمام مثقفى الغرب بها يقل ويذوى ، بل إنها أصبحت ـ فى أذهان النقد الغربى ـ تنتمى إلى الماضى ..
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    إن التخلف الذى نرسف فى إساره يجعل من الحداثة ضرورة .. ولكن أى حداثة ؟..
    هذا هو السؤال ..
    الملاحظ أن البعض من فاقدى الموهبة يلجأون إلى أواخر المذاهب الفنية ، دون أن تشغلهم الظروف الموضوعية التى أثمرت ذلك ، وهى ظروف لها إرهاصاتها وبواعثها ، بحيث تشكل النتيجة التى كان المذهب الفنى محصلة لها . أخشى أن أقول إن العديد من تلك الكتابات يحاول ـ ولو بحسن نية ـ طمس هويتنا ، يبعد بإبداعاتنا عن محاولات التأصيل وتأكيد الانتماء والجذور .
    الثابت ـ تاريخياً ـ أن الحداثة الأوروبية ـ عندما ازدهرت فى الأعوام الأولى من القرن العشرين ـ إنما تحقق ذلك عند التقاطع بين نظام حاكم شبه أرستقراطى ، واقتصاد رأسمالى شبه مصنع ، وحركة عالية شبه ناشئة ، أو شبه متمردة . فأين الواقع العربى ـ باختلاف الوقت وتباين الظروف ـ فى هذه الصورة ؟
    إن لحظتنا الحضارية تختلف عن اللحظة التى يحياها الغرب . دعك من التعبيرات المخدرة مثل القول إن العالم قرية صغيرة .. فثمة مجتمعات منتجة ، وأخرى مستهلكة ، وثمة من يعانى مشكلات الترف والديمقراطية والحرية ، ومن يعانى مشكلات الفقر وحق الإنسان فى المقومات الدنيا للحياة ..
    أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون هدف جميل ، لكن اللحظة الحضارية أشبه بنظرية الأوانى المستطرقة ، والفن ينبغى أن يعبر عن المجتمع الذى صدر عنه ، وليس عن مجتمعات الآخرين . لا أتصور أن العمل الإبداعى يمكن مناقشته بعيداً عن بيئته ، عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى صدر عنها ، ونشأ فيها ..
    ولا شك أن الحداثة الغربية تنطلق من قلب تراث حضارى وتاريخى وفلسفى وإبداعى ، له خصوصيته المؤكدة . إنها نتاج واقع مغاير للواقع الذى يجدر بالحداثة العربية أن تنطلق منه . وعلى سبيل المثال ، فإن البنيويين ، يفرضون على النصوص الإبداعية " نظاماً ليس نابعاً منها ، ولا كامناً فيها ، بل هو سابق ومسقط عليها ، وأنه يحتمى بالتجريد والغموض لعجزه عن السيطرة على المادة " ( فصول ـ فبراير 1991 ) . حتى المفاهيم والمصطلحات التى تطالعنا فى كتابات الحداثة العربية ، تنتسب إلى ثقافة أخرى ، مغايرة ، وهو ما يفضى ـ بالضرورة ـ إلى حدوث انفصام بين المبدع والنص الذى يقرأه ..
    ومع أن المناخ الثقافى فى كل من أمريكا وأوروبا أقرب منه إلى المناخ الثقافى بين كل منهما ، وبين الوطن العربى ، فإن الأمريكية إديث كروزويل ذهبت إلى أنه من الصعب على البنيوية أن تجد فى أمريكا نفس الاستجابة التى لقيتها فى فرنسا ، وذلك لاختلاف النظرة إلى التاريخ ، وإلى المستقبل . وفى المقابل ، فقد وجدت التفكيكية فى الثقافة الأمريكية تربة صالحة لاقترابها من المزاج النفسى الأمريكى أكثر من اقترابها من المزاج النفسى الفرنسى ..
    نحن نلجأ ـ فى خطابنا الأدبى ـ ربما دون تبصر ـ إلى المفردات والتعبيرات المستوردة . لا نحاول التعبير بما يعكس خصوصية لغتنا وثقافتنا وفكرنا . إن المذاهب الأدبية والنقدية الأوروبية هى إفراز لإبداع الغرب . ولعلنا فى حاجة إلى الحداثة التى تجاوز التخلف ، وتسعى إلى الإضافة والتطوير والتقدم فى كل الآفاق ، وهى حداثة يجب أن تصدر عن ظروفنا ، تنبع منها . لا تحاكى ، ولا تقلد ، ولا تقتات على موائد الآخرين ، ولا تعبر عن واقع ليس هو الواقع الذى نحياه ..
    ولعلى أزعم أن أعمالى التى توظف التراث قد تنتسب إلى ما بعد الحداثة من حيث إن ما بعد الحداثة تسعى " عن وعى إلى إعادة طرح صور من الماضى ، باعتباره كياناً مبهماً ، لا يمكننا التعرف عليه يقيناً ، ولا نملك إلاّ أن نعيد بناءه المرة تلو الأخرى من خلال الجدل المستمر بين العديد من الصور المعاصرة التى تحيل إليه ، وتسعى إلى تجسيده ، باعتباره فكرة مجردة " ( ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ـ 26 ، 27 )
    ***
    أعرف أن مدّعى الحداثة العرب يوجهون الاتهام إلى كل من يختلف معهم بالجهل والتخلف ، لكن الاستيراد قد يصح فيما يصعب على قدراتنا أن تنتجه ـ التكنولوجيا مثلاً ـ فى حين أنه من غير المتصور أن نستورد الفكر والإبداع أيضاً . الأدب تعبير عن خصوصية فى التاريخ ، وأنماط التفكير ، واللحظة المعاشة ، بالإضافة إلى أن متلقى الأدب ـ فى الدرجة الأولى ـ هو الوجدان ..
    إن البنيوية والتفكيكية وغيرها من معطيات الحداثة ، ليست إلاّ مرحلة أخيرة ـ وليست نهائية ـ للفكر الفلسفى فى الغرب ، متداخلاً مع الإبداع الذى يحاول أن يعبر عن فلسفة حياة . إنها نتاج للحداثة الغربية بكل ما تنطوى عليه من ظروف وملابسات . فإذا تم نقلها إلى العربية فى عزلة عن تلك الظروف ، افتقدت شرعية الأبوة والبنوة ، وعانت غياب النسب !
    المؤكد أن عمقى الحضارى يمتد بضع آلاف من السنين ، بينما العمق الحضارى للغرب يمتد بضع مئات من السنين ، مما يفرض مغايرة حادة ، والتأكيد على عدم النقل عن الحداثة الغربية ، يعنى ـ ببساطة ـ إنشاء حداثة عربية ، وهو ما لم يتبد ـ حتى الآن ـ فى الأفق القريب ، أو البعيد ..
    ثمة بعد آخر : إذا كان من حق الفنان الموهوب أن يستشرف فى إبداعه أفقاً أوسع ، فإن من واجب الذين يعانون غياب المعرفة والموهبة ألا يحاولوا القفز دون أن تسعفهم قدراتهم ، والبديهى أن طالب الفن التشكيلى يبدأ بدراسة التشريح قبل أن يدرس الكلاسيكية وينتهى بالتجريبية والسوريالية وغيرها من المذاهب الحديثة ..
    والحق أنى أنظر إلى العمل الإبداعى من وجهة نظر تناقش وتحلل وتفيد من القراءات والخبرات والآراء ، فلا تأخذ إلاّ بما ترى أنه أقرب إلى فهمى وتفهمى ، وإلى صلتى بالعملية الإبداعية ..
    أصارحك بأنى أقف ـ فى الأغلب ـ موقف المتحير أمام الخطوط المتوازية والمتقاطعة والمائلة ، والزوايا الحادة والمنفرجة ، والدوائر ، والمستطيلات ، والمثلثات ، والمعادلات الجبرية ، والشفرات ، والطلاسم . وتشتد بى الحيرة حين تتقابل " القطيعة المعرفية " بعدم معاداة التقاليد بمعناها الإيجابى ، وإنما إقامة علاقة حوارية معها . وهو قول الحداثيين أيضاً . بل إنى حاولت أن أفيد من إضاءة النقد البنيوى لما قرأته وقرأه نقاد البنيوية من أعمال إبداعية ، فدفعنى شحوب الإضاءة إلى الاكتفاء باجتهاد شخصى ، يستند ـ فى كل الأحوال ـ إلى قراءات وخبرات ، ومتابعة للمدارس والمذاهب الأدبية والنقدية . أفادتنى ـ بلا جدال ـ فى تأليف كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " الذى نلت به ـ ولست ناقداً ـ جائزة الدولة فى النقد !..
    إن نقاد الحداثة يسعون إلى " تأصيل دراسات تحاول تطوير منهج علمى فى النقد ، يبتعد عن الانطباعية التى تغرق الدراسات النقدية على وجه العموم " ..
    كلام جميل كما ترى ، وينشده الحداثيون وغير الحداثيين . ينشده من يجد فى النقد محاولة لإضاءة النص ، وليس التعتيم عليه ، لتحليله ، وليس الربط بين الغلاف ونوعية الخطوط والأبناط ، واعتبارها جزءاً مكملاً للعمل الإبداعى ، فى حين أنها رميات بغير رام . إنها تخضع للاجتهاد الشخصى الذى لا صلة له بالنص ، سواء من الفنان التشكيلى الذى يصمم الغلاف ، أو فنّى الكومبيوتر الذى تختلف نظرته إلى العمل ـ بالتأكيد ـ عن نظرة المبدع .
    أعجب الأمور عندما يحاول الناقد أن يستنطق الإبداع بما ليس فيه . إن التعبير عن فلسفة الحياة هم للمبدع ، مثلما أن البحث عن فلسفة الحياة هم للناقد ..
    المذاهب الفنية ليست موضة ، لكنها تعبير عن موهبة ومعرفة وفلسفة حياة . إن الوجه العربى من الحداثة يجب أن تكون له ملامحه المميزة . وكما أن المواطن الأوروبى له ملامحه التى تختلف ـ بدرجة وبأخرى ـ عن ملامح المواطن العربى ، فإن هذا الاختلاف قائم أيضاً ـ بدرجة وبأخرى ـ فى القيم والمثل والعادات والتقاليد ، والثقافة فى إطلاقها . ولعلى غير مغرم بالتسميات : الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وما يتصل بهما من تسميات البنيوية والتفكيكية والأسلوبية وغيرها . أميل إلى التجريب بعامة . أرفض المحاكاة أو التقليد ، وأحاول الخصوصية . الحداثة العربية كما يصفها إلياس خورى ـ الأدق أن هذا هو ما يأمله ـ " محاولة عربية داخل مبنى ثقافى له خصوصياته التاريخية ، ويعيش مشكلات نهضته " ، فالحداثة العربية إذن حداثة نهضوية . إنها محاولة بحث عن شرعية المستقبل ( الذاكرة المفقودة ص 25 )
    ***
    من السذاجة نقل المصطلحات النقدية الجديدة ، والتعامل بها ، فى عزلة عن خلفيتها الثقافية ، عن التطورات السياسية والفلسفية والاجتماعية التى انبثقت منها ، ونشأت فيها . وإذا لم يكن بوسع الحركة النقدية ـ لاعتبارات ليس هذا مجالها ـ أن تشكل نظرية نقدية عربية ، فإن ما نتطلع إليه فى المدى القريب ، أن تقدم اجتهادات نقدية عربية ، تجعل الإبداعات العربية ـ فى إطار الظروف العربية ـ محوراً لها . وبتعبير محدد ، فإننا فى حاجة إلى اجتهادات نقدية ، تصدر عن أعمالنا الإبداعية ، فهى اجتهادات عربية فى الدرجة الأولى .
    ........
    1999
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الكاتب .. والقارئ
    ......................

    نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا
    أندريه جيد


    إذا كان الفن يكمن فى العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفنى وبين المتلقى لهذا الإبداع ، فإن الكثير من الشخصيات الروائية ـ والقول لأندور لايتل ـ يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعى بقوة الإلهام اللاشعورى المتحكم فى مسيرة الكتابة ، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبينه . أذكر رأى أستاذنا حسين فوزى بأن " الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان ، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن ، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق ، ووعيهم الثقافى " ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . لذلك فإن على القارئ أن يستدعى مخزونه المعرفى من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين ، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعى من دلالات ..
    الفنون هى أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلى . والعلاقة بين المبدع والمتلقى ـ فى تصورى ـ أشبه بالعلاقة بين جهازى الإرسال والاستقبال ، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفنى ، لا يتعمد الغموض ، وإنما يترك العمل يكتب نفسه ، مستفيداً من موهبة المبدع ، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه .. وفى المقابل ، فإنه على المتلقى أن يبذل جهداً مكافئاً لما بذله المبدع فى فنه ، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه ، لا يكتفى بالتلقى السلبى أو السطحى الذى ينشد المتعة المجانية ، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعى ، وتبين دلالاته ، وتلمس النشوة الروحية العميقة التى يهبها لمتلقيه . بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقى . فالذهن الرائق ، والحالة المسترخية المنبسطة ، أو الموافقة التى قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات ، تتلقى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود ، أو الحالة المزاجية المتعكّرة ، أو الرفض الذى قد يكون مسبقاً لما يحمله النص .
    ولعلى أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلق من القارئ بتوجيه من الفنان . ثمة نصوص تهبنى نفسها منذ السطر الأول ، تهبنى صداقتها ، وخطابها التحدثى ، وحميميتها . تنفتح أمام القارئ ، فيسهل عليه المتابعة والفهم . قد يكتفى بدلالة ما ، وقد يعيد القراءة ، فيخرج بدلالات أخرى . وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها ، فهو يجد صعوبة فى تلقّيها ، لا يصل ـ من خلال المتابعة ومحاولة الفهم ـ إلى مستوى دلالى ، ومن ثم فهو يضطر ـ لتحقق المتابعة ـ إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها ، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقى .
    القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد ، يحتاج إلى مراجعة ، لأن عملية التلقى ـ بافتراض موت المؤلف ـ لا شأن لها بشخصية المتلقى نفسه . المتلقى شخصية مقابلة ، مغايرة ، لها خصائصها التى تحسن التلقى ، أو العكس . أنا أقبل على قراءة العمل الأدبى بمخزون معرفى وخبرات ، تمثل ـ فى مجموعها ـ الشخصية المتلقية التى هى أنا . المتلقى ليس شخصاً مطلقاً ، ليس مجرد فهم واحد ، متكرر ، فى تلقى العمل الأدبى ، لكنه شخص ، فرد ، يختلف فى ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء ، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقى بين قارئ وآخر ..
    ربما وجد الفنان فى دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن فى باله عندما شرع فى الكتابة ، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة . لم يكن يقصد المعنى الذى تحدث به القارئ / الناقد إطلاقاً . وللدكتور عبد الله الغذامى مثل مهم ، هو أن المتنبى كان يقول إن ابن جنى أعرف بشعره منه ، أى من المتنبى . وكانت اجتهادات ابن جنى فى شعر المتنبى ، تأويلاً وتفسيراً ، رائدة وغير مسبوقة ، فضلاً عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية . لكن الأجيال توالت ، وقدمت تأويلات جديدة لشعر المتنبى ، تختلف ـ بصورة جذرية أحياناً ـ عما قدمه ابن جنى من تأويلات ..
    والحق أن مشاهدة مسرحية ، أو فيلم سينمائى ، لا تحتاج من المتلقى إلاّ التركيز فى متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل . أما قراءة الرواية أو القصة ، فهى تترك للذهن تجسيد ما يقرأه ، بتخيل الشخصية والحدث ، بإثارة الحوار مع ، وفى ، ذلك جميعاً . إن الإبداع الجيد هو الذى نكتشف أننا لم نعد كما كنا عندما بدأنا تلقيه ..
    وبالطبع ، فإن الكتابة لا تتم فى لحظات ، إنما هى قد تأخذ زمناً طويلاً من الكتابة والمراجعة والتأمل ، والاطمئنان إلى الصورة النهائية . بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة ، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية ، واكتملت نظرته الشاملة . وفى المقابل ، فإن القراءة يجب ألا تتم فى لحظات . إنها تحتاج إلى جهد يقترب ـ ما أمكن ـ من جهد الكتابة . قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها ، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية ، ومتأملة ..
    ***
    ابتداء ، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة . الناقد فى ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التى تناقش وتحذف وتضيف وتجيز . وقد يكتب الأديب قصة فى ليلة ، ويراجعها فى أشهر .. وهذا ما أفعله شخصياً . وفى المقابل ، فإنه على القارئ أن يبذل جهداً مساوياً للجهد الذى بذله المبدع فى الكتابة . من الصعب التوقع بأن يمنح العمل الإبداعى عطاءه ، ويكشف مقولته ودلالاته ، دون أن يسهم القارئ فى مغامرة الاكتشاف . النص الإبداعى يحتاج إلى قراءة متأملة ، متعمقة ، متفكرة ، بحيث يلامس مفتاح العمل ، ويستطيع اكتناه دلالاته . وكما يقول أوكونور ، فإنه ليس للروائى أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين ، إذا لم يكن مستعداً لقراءة ما يكتب عشرات المرات . أشفق على المبدع الذى يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية فى ذاتها . إنه يفكر فى التأثير الذى سيحدثه الموقف ، أو الشخصية ، أو الدلالة التى يعنيه توصيلها .. لكننى ـ فى الوقت نفسه ـ أرفض القارئ الذى تعنيه سهولة العمل . القارئ الذى أريده هو الذى يشاركنى فى متابعة الأحداث ، وفى فهمها ، وتقبل الشخصيات ، أو عدم تقبّلها ، التعاطف معها ، أو معاداتها . يقرأ بإيجابية ، يتأمل ، يضع الملاحظات ، يشارك بإيجابية فى تنامى النص ، يظل منشغلاً بما قرأه بعد أن يتركه . من المهم أن تتحول العلاقة بين المبدع والمتلقى من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة ، أخذ ورد ، قبول ورفض . ولعل غاية ما أرجوه أن أثير فى القارئ ـ القارئ العادى تحديداً ـ ملكة النقد . كذلك فإنى أفضل النهاية المفتوحة بدلاً من النهاية التى تقرر وتحسم . إنها تحض على تأمل العمل ، والتحاور معه ، ومحاولة الكشف عن الدلالة ـ أو الدلالات ـ الكامنة فيه . النهاية المفتوحة ، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما ، بحيث يضع المتلقى دلالتها ، يعنى أن المتلقى ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعى ، لكنه مشارك فى عملية الإبداع ..
    الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان ، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكل للعالم ، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان . وبالنسبة لى ، فحين أستغرق فى القراءة ، أغادر صفحات الكتاب ، وأغادر الكرسى الذى أقعد عليه ، والحجرة التى تحتوينى ، والمدينة التى أقيم فيها . أتعرف إلى أماكن أخرى ، قريبة وبعيدة ، وإلى شخصيات تتحدث بلغات متباينة ، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة إلخ . وثمة حقيقة ـ أتصورها بديهية ـ هى أن عمل الروائى الأساسى هو أن يجعل القارئ يستمر فى قراءته ، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه ، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه .
    ثمة من لا يملك صبراً طويلاً على الأدباء الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليتفهم كتاباتهم : " ليس لدى صبر طويل على هؤلاء الكتاب الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليستبطن معنى ما يقولون . وما عليك إلاّ أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير فى وضوح عن أعمق الأفكار " . وتقول الشاعرة ماريان مور : " إذا لم تستطع أن تشد انتباه المتلقى منذ البداية ، وتجعله يتابع ما كتبت ، فلا جدوى من الاستمرار " ، ولكن على القارئ ألاّ يتوقع حلاّ جاهزاً يقدمه له المبدع ، وعلى المبدع ـ فى الوقت نفسه ـ أن يحرك فى القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه ـ بإرادته ـ إلى التفكير فى التغيير . الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده وهو يتلقى الصور التى يخلقها العمل الأدبى بمخيلته فى الدرجة الأولى ، أى فى التصور الروحى .
    يقول ميشيل بوتور : " إن القارئ لا يقف موقفاً سلبياً محضاً ، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة ، مستعيناً هو أيضاً بالمواد التى هى فى متناول يده ، أى ذاكرته ، فيضىء الحلم الذى وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام . إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده ، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ ، لأنه وجه العملة الآخر . أوافق على أن القارئ طرف فى علاقة طرفها الآخر هو النص . " نحن نبدع النصوص حين نقرأها ، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص ، أو نشهد على موتها " . وكان كورناى Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم ، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة ، بصرف النظر عن مصدرها . ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متباينى الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية ، يبدون آراءهم ، فأهمل مالا أراه عيباً فى العمل ، أو إضافة له ، وأعمل بالملاحظات الإيجابية . وأذكر أنى عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافى ، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة . وعلى سبيل المثال ، فقد تنبه صديق إلى وفاة الخادم فى اعترافات سيد القرية قبل وفاة البطل " زاو مخو " ، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال فى العصر الفرعونى . خطأ مبعثه مغالاتى ـ كما ذكرت لك ـ فى أن تكتب القصة نفسها . أبدأ بالقليل ، ويتخلق الكثير الباقى فيما بعد . تتخلق أحداث ، وتظهر شخصيات ، وتموت شخصيات ، وتتبدل مسارات ، ولا يكون لى فى ذلك كله حيلة . وأذكر أنى توقفت عند النهاية التى اختارها محمد قاضى البهار ، بعد أن حاصرته الظروف تماماً ، حتى همس لى ـ بعد أيام قليلة ـ وأنا أسير فى الشارع ـ انه اختار النزول فى البحر ..
    ونزل محمد قاضى البهار البحر ، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائياً فى حياة قاضى البهار ، ربما لأنى وجدت فيه قيمة مصرية . قد تغيب عن حياتنا ـ لبواعث طارئة ـ لكنها لابد أن تعود ..
    ***
    الفن إضمار ، بمعنى أن العمل الإبداعى يجب أن يوجد فيه ضوء ، وفيه أيضاً ظلال . وفى أوفيد بجماليون : " الفن هو أن تخفى الفن " . بل إن العمل الإبداعى قد يجد إضماره فى تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية ، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة . وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدرى ما يحدث فى الرواية حتى تنتهى .. بل إن الفنان ـ فى تقدير جورجى جاتشيف ـ لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة .. ومع ذلك ، فإنى أوافق شوبنهاور على أن " أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائماً ، من الدلالات البالغة السوء . وهو يأتى فى معظمه نتيجة لغموض الفكرة ، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض فى الفكرة نغسها ، أو أن الفكرة خاطئة " .
    ***
    يقول فلوبير : " ان الفنان فى العالم الروائى ، صاحب القدرة على كل شئ ، برغم أنه لا يكشف عن ذاته .. ان عليه أن يكون مختفياً فى ثنايا عمله ، كالإله فى السماء " . لذلك فإنى أرفض الوصف الجسدى إذا لم يكن للعمل الإبداعى حاجة إليه . لماذا أقتحم ذهن التلقى بصورة محددة ، فى حين أنه ربما رسم صورة مغايرة ، تتسق مع الشخصية ، ومع الأحداث . الأبعاد الحقيقية لشخصية ما فى عمل إبداعى هى الأبعاد النفسية . كلما أجاد الفنان التعبير عنها ، توضّح تميزها ، صورتها الخاصة . وثمة عوامل مساعدة ، مهمة ، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعى ، والحوارات الداخلية ، ودرامية الحوار ، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات الخ . أتفهم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع ، بدلاً من المشاهدة . القراءة والسماع يتركان للمتلقى فرصة تخيل المكان والشخصيات . أما المشاهدة فهى تحدد ذلك بصورة قاطعة . أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية ـ إن جاز التعبير ـ ذلك . أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية ، فهو تزيد لا معنى له ، ويشوش على الصورة التى ربما رسمها القارئ ـ فى ذهنه ـ للشخصية .
    العمل الإبداعى يصل إلى المتلقى بقدر الصدق الفنى الذى عبّر به المبدع . الصدق الفنى هو ما أطلبه فى العمل الإبداعى الذى أتلقاه . ما يهمنى هو قيمة العمل الفنية ، لكننى لا أستطيع أن أهمل البيئة التى أحيا فيها ، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد ، فلا أنسلخ عنها ، ولا أرفضها ، ولا أسخر منها . العلاقة الإبداعية هى بين مبدع ومتلق . ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام ، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقى من قيم ثابتة ..
    ***
    فماذا عن النقد ؟.. أليس الناقد قارئاّ ؟..
    الناقد الممتاز ـ فى تعريف البعض ـ هو فنان تبحر فى المعرفة ، وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره . بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقوماً بتوخى العدالة فى أحكامه ، إنما هو روح مرهفة الحس تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن . ويرى جوتييه Gautier فى الناقد الخصى المسكين المجبر على مشاهدة السيد الكبير ـ المبدع ـ وهو يلهو ! . أما روجر ب . هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التى تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين ، فهى قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه فى تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية ، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية . ويناقش الفرنسى ألبير تيبوديه ما يشاع بين الكتاب من أن الفنان مبدع ، وأن الناقد لا يبدع شيئاً ، وليس له وظيفة إلا أن يرى ، وأن يحكم ، وعلى وجه أخص أن يطرى ما ابتدعه الآخرون . والمديح الأكبر الذى يمكن أن يوجهه إنسان إلى ناقد كبير هو أن يقول له : إن النقد فى المستوى الذى ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقداً مبدعاً خلاقاً . ويجيب تيبوديه عن السؤال : ما هو ذلك الإبداع ؟.. يقول : " لنأخذ نمط المعمارى . لكن هناك معمارى ومعمارى . معمارى يبنى بيتاً للسكن ، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير . أن تبنى معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقاً لخريطة معدة ، أن تطبق الذكاء الحركى ، لكن أن تبدع ، معناه أن تسهم فى قوة الطبيعة ذّاتها ، أى أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى " ( ت أحمد درويش ) .
    ***
    ويفرض السؤال نفسه : هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقى العادى ، ليصبح المتلقى قادراً على الاستجابة للعمل الإبداعى ؟..
    النقد الأدبى ـ بأبسط تعبير ـ هو فن الحكم على الإبداع الأدبى . دراسة العمل الفنى يجب أن تركز على العمل نفسه ، وليس المبدع أو المتلقى . تركز على بناء العمل ، مكوناته ، صورته الفنية ، عناصره المختلفة ، تفصل بين العمل الفنى وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة ، مادامت لا تتصل ببنية العمل نفسه . وبالنسبة لى ، فأنا حين أقرأ عملاً ما لا أدعى أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما فى خاطرى . وأستعير التعبير من " ليمز " .
    والحق أن قراءة النقد الذى يعرض للأعمال الأدبية ، ويناقشها ، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها . ومع أن الناقد هو قارئ فى الدرجة الأولى ، فإن مهمته هى تحويل القراءة إلى كتابة ، أى أنه يهبنا فى كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعى . وفى أسرار البلاغة يقول الجرجانى إن الباحث عن المعانى كالغائص فى الدر . الكتابة السردية كنز ، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز .
    ثمة رأى أنه " ليس هناك قراء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم " . وفى تقديرى أنه إذا كان النص ـ حين يبدأ الناقد فى قراءته ـ يتحول إلى علاقة بين وعيين : وعى المبدع ، ووعى الناقد ، فإن النقد فى أفضل صوره ـ والتعبير لفورد مادوكس ـ يتعامل مع العمل الفنى كنقطة بداية فى عملية خلق جديدة . أما أبشع أنواع النقد ، فهى تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفنى . الرومانسية ـ على سبيل المثال ـ تنظر إلى العمل الأدبى على أساس " أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ، ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية " ( فصول ـ إبريل 1981 ) . ولعلى أميل إلى قول بيير ماشرى Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على " لا شعور " النص " أى ما لا يقال ، وما هو مكبوت بالضرورة ( ت . جابر عصفور ) .
    يقول همنجواى : " كثيراً ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد ، بدلاً من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر " . لا ينبغى ـ والقول لأميرسون ـ أن يكون النقد باحثاً عن الشجار ، داعياً إلى هدر الطاقات ، يمسك بالسكين ، وينتزع الجذور . عليه أن يكون هادياً ، معلماً ، ملهماً . عليه أن يكون ريحاً منعشة وليس ريحاً باردة تجمّد الأطراف " . أما بوب فإنه يرى ان " الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التى كتب بها المبدع عمله . عليه أن ينظر إلى العمل فى شموله ، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات ، مادامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب ، والنشوة قد أوقدت عقله " ..
    أذكر قول تشستر فيلد : " لنترك الناقد الغبى يعيش على جثث الأعمال . أعطونى أنا روح العمل ورواءه " ..
    أما الفنان الذى يمارس النقد ، فلعلى أذكر قول أستاذنا يحيى حقى إن " الفنان الذى يشتغل بالنقد ، إما أن يكون تدفقه غنياً جداً ، وموهبته كبيرة جداً ، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنه ، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفنى محدودة ولا ترضيه ، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية مادام لم يشملها تدفقه الفنى " .
    ***
    إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدى الذى تناول أعمالى الإبداعية ، فلعلى أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة " أصوات " الأدبية ضمت بعض المقالات والدراسات والحوارات التى ناقشت أعمالى حتى عام 1984 فى كتابين ، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية ، تفوق ما ضمه كتابا جماعة أصوات ، وهما " محمد جبريل وعالمه القصصى " و " قراءات فى أدب محمد جبريل " . أذكرك بكتاب حسين على محمد " البطل المطارد فى روايات محمد جبريل " ، وكتاب ماهر شفيق فريد " فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل " ، وكتاب سعيد الطواب " استلهام التراث فى روايات محمد جبريل " وكتاب نعيمة فرطاس " فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل الحياة ثانية " ، وكتاب حسن حامد " مصر التى فى خاطره " ، وكتاب سمية الشوابكة " التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ، وكتاب محمد زيدان " المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل " إلخ ..
    مع ذلك ، فإنى ـ حتى الآن ـ لست مدرجاً فى قوائم ـ وبتعبير أدق : لست مدرجاً فى تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقادها . إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية ، فإنهم يعلنون القائمة التى تضم ممثلى الأيديولوجية أو الشلة فى أقل تقدير .. ولأنى أتصور الكاتب أكبر من أى منصب أو تنظيم حزبى أو أيديولوجى ، لأنى أرفض مبدأ الشللية فى إطلاقه ، ولأنى لا أتردد على المقاهى والجلسات الخاصة ، وأفضل المشاركة فى المؤتمرات الثقافية ، والحياة مع الناس العاديين ، وقضاء غالبية الوقت فى بيتى أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمى ، وإن وجدت تعويضاً حقيقياً ، وجميلاً ، فى الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التى تناولت سيرتى الإبداعية وأعمالى ، وفى العديد من الرسائل الجامعية التى كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرفى إليهم .
    أزمة النقد ـ التى يتجدد حديثها فى الصحف والدوريات ـ اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة ، والمنحازة .. حتى أنه يمكن القول : قل لى من هم نقادك ، أقل لك من أنت !
    ...............
    1987 بإضافات.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08/07/2011, 12:01 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
  4. مع الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 54
    آخر مشاركة: 21/08/2008, 10:02 PM
  5. كتاب .. "زواهر الفكر وجواهر الفقر" .. لابن المرابط ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01/02/2007, 12:45 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •