الرد على الموضوع
صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1 2 3 4 الأخيرةالأخيرة
النتائج 25 إلى 36 من 42

الموضوع: نص كتاب الروائي محمد جبريل "للشمس سبعة ألوان"

  1. #25  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    يضيف كيتس : " إننى أشعر كل يوم أكثر فأكثر ، عندما يقوى خيالى ، أننى لا أعيش فى هذا العالم وحده ، وإنما فى ألوف من العوالم " . ويقول ميشيل فوكو : " إن العملية الإبداعية تولّد الخيال ، وترتبط به بطريقة مركّبة ، فهى تنتظر منه دعماً ودحضاً على السواء . إنها تفترض مسافة لا تخص العالم أو اللاشعور أو النظرة أو السريرة " ( محمد على الكردى : ألوان من النقد الفرنسى المعاصر ص 78 ) . وعلى حد تعبير مارتينيث بوناتى ، فإن الأدب يجد إمكانيته فى التخييل ..
    واذا كان قدامى الإغريق مثل سوفوكليس وهوميروس قد استعاضوا عن اللجوء الى الخيال باستخدام صور الميثولوجيا المتاحة ، فإن دانتى وشكسبير وكالديرون وملتون وجوجول وغيرهم قد أفادوا من الخيال بصورة مؤكدة .
    يقول بورخيس : " إن أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال " . وتصف الناقدة البريطانية هيلين جاردنر المبدعين ، الشعراء وكتاب المسرح والرواية والقصة القصيرة ، بأنهم " صانعو العوالم الخيالية من كل نوع ، ومبتدعو الصور العميقة لمعنى للحياة والتجربة البشرية " . وقد رفض جابرييل جارثيا ماركيث تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية . فضّل أن يتخيل القارئ شخصيات القصة وأحداثها ، فلا يقتحم عليه ذلك الخيال مؤثر من أى نوع . الفيلم السينمائى يجسد الشخصيات والأحداث والمكان والزمان ، من آفاق الحركة
    الراوى العليم لا يكون كذلك إلا إذا أفاد من الخيال ما وسعه . من الصعب على الراوى أن يكون عليماً بكل شىء ، لأنه لن يستطيع التعرف على ما فوق السطح وما تخفيه المياه . فهو إذن لابد أن يستعين بالخيال لتستكمل الصورة ملامحها .
    إن الرواية الجيدة لا تقتصر على نقل الحياة فحسب ، لكنها تقول شيئاً عن الحياة ، فهى تكشف عن نمط أو مغزى معين فى الحياة . إن عين الفنان لا تستطيع أن ترى أكثر من واحد فى المائة من الناس والأحداث حوله ، وهو لا يعى ويفهم مما رأى أكثر من هذه النسبة ، وهو كذلك لا يستطيع أن يعبر عما وعى وفهم ، وأحس بأكثر من واحد فى المائة ..
    بديهى أن الخيال يبدأ من الواقع ، أو أن الواقع هو البداية فى أى عمل فنى . أختلف مع الرأى فى أن الفن أكثر واقعية من الواقع نفسه ، وهو ما يذهب إليه وليم بليك فى قوله : " نحن نجد فى الخيال حياة حقيقية أكثر واقعية مما يسميه الناس العالم الحقيقى " العكس ـ فى تقديرى ـ صحيح . إن الواقع أشد واقعية من الفن ، مهما يخلص الفنان فى تصوير الواقع . وعلى حد تعبير أندريه موروا ، فإن أكثر شخصيات العمل الروائى تعقيداً ، هو ـ فى المحصلة النهائية ـ أقل تعقيداً من أبسط شخصية إنسانية .
    الواقعية ليست نقلاً عن الواقع ، لكنها اختيار فنى من الواقع . يبدأ من الزاوية التى يلتقط منها الفنان " الكادر " ، قيمة الصورة الفوتوغرافية فى الانتخاب ، الاختيار ، انتخاب أو اختيار ما تلتقطه العدسة ، الواقع ، وليس الخيال ، هو النبع الذى يستمد منه الفنان إبداعه ، وإن كان من الصعب أن يهمل الخيال تماماً . يقول ماركيث : " ينبغى أن نعترف أن الواقع أفضل منا جميعاً ، فقدرنا ـ وربما مجدنا كذلك ـ هو أن نقلده بتواضع ، وبشكل أفضل ، فى إطار المتاح لنا " ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 145 ) . إحدى ميزات الرواية ـ والقول لروجر ب هينكل ـ إنها تتفوق على الحياة الحقيقية فى القدرة على اجتذابنا إلى أعماق وعى الناس الذين قد لا نجد سبيلاً آخر لفهمهم فهماً كاملاً . وإذا كانت مثالية ديستويفسكى ـ على حسب تعبيره ـ أشد واقعية من أعمال الأدباء الواقعيين ، فإن الواقع أشد واقعية من أعمال الواقعيين ومثالية ديستويفسكى فى آن . أذكر قول جابرييل جارثيا ماركيث : " هناك شئ غالباً ما ننساه نحن الروائيين ، وهو أن الحقيقة ما تزال حتى الآن أبرع قالب أدبى " . المعنى نفسه ـ تقريباً ـ يذهب إليه ميشيل بوتور فى قوله : " إن الرواية تقرير علمى عن شئ أهم من مجرد الأدب . إنها طريقة أساسية لمعرفة الحقيقة " ..
    إن الصدق فى التاريخ ، وفى العلم ، هو الصدق فى الواقع . أما الصدق الفنى فهو الصدق فى الإمكان ، بمعنى أن الصدق فى العمل الفنى هو انعكاس لما يمكن أن يحدث فى حياة الإنسان ، والصدق فى الإمكان يتسم بالشمول والعمق لأنه يتركز فى العواطف الإنسانية ، بكل ما تحفل به من مشاعر وميول وأهواء وانفعالات . بل إنه ليس كل ما يجرى فى الواقع يحتمله العمل الفنى ، أو يبدو صادقاً فى مرآته . أذكّر بقول سومرست موم : " إن الكاتب لا ينسخ نماذجه من الحياة ، وإنما يقتبس منها ما هو بحاجة إليه . ملامح معينة استرعت انتباهه ، أو عبارة أثارت خياله ، فهو يبدأ من ثم فى تشكيل شخصيته ـ أو شخصياته ـ دون أن يشغله أن تكون صورة مطابقة ، بل إن ما يعنيه بالفعل هو أن يخلق وحدة منسجمة ، محتملة الوجود ، تتفق وأهدافه الفنية الخاصة . وكما يقول هنرى جيمس ، فإن العمل الفنى وحدة مترابطة حية ، تضم الشخصيات والأحداث والحوار والأسلوب . إنها شئ حى ، متكامل ، متصل ، مثل أى كائن حى ، وبالقدر الذى تكون حية ، بالقدر الذى نجد فى أى جزء من أجزائها شيئاً من كل الأجزاء الأخرى " .
    أوافق أرسطو أن المحتمل فى الواقع يستطيع أن يكون أكثر احتمالاً فى السياق الفنى من الواقع نفسه ، لأن من المحتمل أن تحدث أشياء كثيرة منافية للاحتمال . مع ذلك فإنى أشير إلى حقيقة أن أبطال الحياة ، الواقع ، يموتون ـ أحياناً ـ فجأة ، ربما بلا تبرير ، ربما بلا مرض ولا ممهدات يصبح المرض نتيجة لها . أما أبطال الفن فإن وفاتهم لابد أن تكون خيوطاً فى نسيج العمل ككل ، فهم لا يموتون فجأة مثل أبطال الحياة ، وإلاّ تقوض العمل من أساسه ، وفقد استمراره وتواصله ، وربما لهذا السبب بدأ نجيب محفوظ رواية بداية ونهاية بوفاة العائل ، فقد يرفض الواقع الفنى وفاة الأب لو أنه مات فى تنامى الرواية . حتى بطل قصة تشيكوف العطسة القاتلة لم يمت فجأة . ولو أننا تأملنا مقولة وليم بليك : " إننا نجد فى الخيال حياة حقيقية ، أكثر واقعية مما يسميه الناس بالعالم الحقيقى " فبماذا نفسر رفض المتلقى تقبل فكرة إيقاف تنفيذ حكم الإعدام بعد أن وضع الحبل فى العنق فعلاً ، مع أن الواقعة ـ بنصها وفصها ـ حدثت فى الحياة المعاشة ؟! . أشير إلى فيلم الكاتب محمد كامل حسن حب وإعدام الذى رفع فيه حبل المشنقة من عنق البطلة فى اللحظة الأخيرة ، فأعلن جمهور السينما عدم تصديقه ورفضه ، بينما كانت الواقعة قد حدثت قبل فترة قصيرة ، وكان بطلها مواطناً من شبرا ، استشكل محاميه ـ واسمه ، فيما أذكر ، فاروق صادق ـ وحصل على موافقة النائب العام بإيقاف تنفيذ الحكم ، وهو ما أفلح فيه المحامى قبل أن يجذب عشماوى يد المشنقة !؟
    الواقع فى العمل الإبداعى ليس إلاّ واقعاً افتراضياً ، واقعاً نتصور حدوثه ، دون أن نملك التأكيد على أنه قد حدث بالفعل . من هنا يأتى تحفظى على قول الأسبانى خوان مارسيه " يهمنى الواقع قليلاً ، وعلى نحو نسبى . أهدف إلى واقع متقن الصنع . إننى لا أستنكر نظرية ستندال فى الرواية ، لكننى لست مستنسخاً للحكايات . إننى أخلقها . أعشق الحقيقة المخترعة " ( الرواية الأسبانية المعاصرة ص 218 ) .
    ***
    يقول ماركيث : " لا يوجد فى رواياتى سطر واحد ليس له أساس من الواقع " ( فى الواقعية السحرية ص 146 ) ، لكن الإبداع لا يقدم الواقع على علاته ، لا ينقله كما هو ، وإنما هو ـ على حد تعبير توفيق الحكيم ـ يقدم الحقيقة مصفاة بعد هضم الواقع . الواقع يخلو من البنية الفنية ، ولكى تتشكل تلك البنية ، فإن الواقع يجب أن يؤطر بقوانين جمالية . وكما يقول لوكاش : " العمل الإبداعى ليس الواقع نفسه ، لكنه شكل خاص من أشكال انعكاسه . الإبداع لا يقوحين قرأ جارثيا ماركيث لكافكا هذه الكلمات : " عندما استيقظ جريجور سامسا من نومه ، بعد أحلام مزعجة ، وجد نفسه وقد تحول إلى حشرة عملاقة " ، قرر ماركيث أن يصبح كاتباً .
    للعمل الإبداعى منطقه الخاص الذى يختلف عن منطق الواقع . إنه منطق قد يقف على أرضية الخيال إطلاقاً . يصنع صيرورته دون اتكاء على دعائم منطقية من خارج العمل الإبداعى . ما يهمنى هو معادلة الإبداع لا معادلة الحياة ، زمن الرواية لا زمن الحياة ، شخصيات الرواية وأحداثها لا الشخصيات والأحداث التى يفرزها الواقع . الفن ـ على حد تعبير تشارلس مورجان ـ ليس دواء لشفاء عصر ما ، لكنه نبأ عن الواقع ، متمثلاً فى رموز وأفراح وترانيم ورؤى مسحورة .. والتعبير عن ذلك النبأ لا يأتى بغير منطقه ، منطق الفن نفسه . هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ـ والقول لكونديرا ـ خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة قد لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، لمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحوّل أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ص 241 ) . وبالنسبة لى فأنا لا أنقل الشخصية كما هى فى الواقع ، وإنما أحذف منها ، وأضيف إليها ، وأدمجها ـ أحياناً ـ فى شخصيات أخرى ، بحيث تتخلق الشخصية الفنية . وقد أوزع من ملامح الشخصية الواحدة على شخصيات متعددة . يغيظنى من يتصور أن الشخصية الروائية ـ أو فلنقل القصصية ـ هى شخصية المبدع نفسه . قد يكون فى الشخصية الروائية ملامح من شخصية المبدع ، لكنها تظل شخصية روائية ، شخصية فنية ، تستمد مقوماتها من شخصيات متباينة ، قد تكون من بينها شخصية الفنان نفسه . أذكر بعد أن قرأ ابن عم لى قصتى القصيرة نبوءة عراف مجنون اتصل بى محتجاً : كيف تكتب عن أبيك بهذه الصورة ؟.. والصورة التى احتج عليها ابن العم هى الأب الذى يصحب ابنه الصغير لشراء لوازم العيد وهو يؤذيه بالقول . وبالطبع ، فلم تكن شخصية الأب فى القصة تقترب من شخصية أبى فى قليل ولا كثير ، لكنها شخصية قصصية ، فنية ، تأخذ من أكثر من شخصية حقيقية ، وتأخذ من الخيال أيضاً ! من هنا ، يأتى تحفظى على قول إنريكى أندرسون بأن القصة القصيرة مجرد تخيل ، وأنها تعرض حدثاً لم يقع أبداً ، أو تعيد ترتيب أحداث فعلية ، وإن ركزت بصفة أساسية على البعد الجمالى أكثر من الحقيقة ( القصة القصيرة ـ النظرية والتقنية ـ 6 ) .
    ***
    كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
    وقد ذهب طه حسين إلى أن الآلهة القديمة لبلاد العرب لم يكن لها أى حظ من الخيال ، فجاءت حياتها كئيبة بالفعل ، لأنها لم تلهم المؤمنين بها أياً من المظاهر الفنية التى أغدق بها على غيرهم من الشعوب ، كما يرى العقاد أن العرب أمة بلا خيال ، وهو ما يراه أيضاً أحمد أمين ، وإن قصر رأيه على البدو . ثمة رأى ـ فى المقابل ـ يرى فى رسالة الغفران وحى ابن يقظان إطلاقاً للخيال فى آماد بعيدة ، وأن " ألف ليلة وليلة عكس كل الأحكام التى قيلت عن العقلية العربية ، فهى تثبت قدرة هذه العقلية على الإبداع الفنى الكامل ، كما تثبت قدرة هذه العقلية على الخلق ، وعلى إعادة الخلق من جديد " . وكان حرص الراوى فى حكايات ألف ليلة وليلة على أن يظل مورد رزقه ـ الحكايات ـ موصولاً بسماع المتلقين ، ومتابعتهم له ، دافعاً لأن يلجأ إلى الخيال ، يضفّر منه وقائع وأحداث وأصناف من البشر والحيوان والطير والأسماك والمخلوقات المتخيلة والجماد ، عالم من الأسطورة والسحر والفانتازيا ، كان هو الأرضية التى تحركت من فوقها واقعية أمريكا اللاتينية السحرية ..
    الغريب أن الإبداع عندما يلامس ـ أو يقتحم ـ مناطق الخيال ، الأسطورة ، الفانتازيا ، الخرافة ، الغرائبية ، العجائبية ، إلخ .. التسميات كثيرة ، فإننا نحيله إلى أدب الطفل ، نعتبره نصاً يقرأه الطفل . تصورنا أن الخيال مقصور على الأطفال ، حتى جعلنا حكايات ألف ليلة وليلة ـ المفعمة بالخيال والأسطورة والغرائبية ـ مجرد حكايات للأطفال ، مع أنها ليست كذلك ..
    الخيال ـ خيالى وخيال كل قارئ للنص ـ هو الذى يعتق النص من ماديته وجموده ، هو الذى يجسّده . يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ص 52 ) .
    أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
    ***
    يقول روجر ب . هنكل إن أتم تصوير روائى للمجتمع ، هو ذلك التصوير الذى يشعرنا أننا نوشك أن نكون جزءا ًَمن بناء ذلك المجتمع ( قراءة الرواية ص 106 ) ،
    ويختلف كاتب الواقعية الطبيعية عن غيره من الكتاب ـ كما يقول سترندبرج ـ فى أنه هو الذى يبحث فى معترك الحياة عن المثيرات الكبيرة التى يعتبرها الكاتب الواقعى شذوذاً ، تلك المثيرات التى تتوارى وراء حجب كثيفة من التقاليد والقوانين والقواعد الأخلاقية ( الأدب ومذاهبه ص 131 ) . أذكر قول إيزابيل الليندى إن التصوير والكتابة هما محاولة للإمساك باللحظات قبل أن تتلاشى . لكن الواقع الفوتوغرافى ، الواقع الكربونى ، يبين عن فشل مؤكد إذا لجأ إليه المبدع فى تصوير التحول الذى يطرأ على الأشياء . إنه يحمل الواقع ، ويحيله إلى شئ ثابت لا يتحرك ، فهو يسلبه حريته ، ويعمل على قتله . وكما تقول إيزابيل الليندى فإن الصورة هى خلاصة الواقع مضافاً إليها حساسية المصور . زقاق المدق ـ مثلاً ـ تتسم بخصوصية تختلف بها عن أعمال مرحلة الواقعية الطبيعية فى أدب نجيب محفوظ . السراب تتناول مشكلة فردية ، وخان الخليلى كذلك ، وبداية ونهاية تعنى بمشكلة أسرة ، والثلاثية تهب صورة للمجتمع كله إبان فترات من تاريخه . أما الزقاق فهى لا تتناول مشكلة فردية محددة ، ولا صورة اجتماعية بانورامية ، وإنما تتناول أحد أزقة القاهرة ، تحيا فيه وعلى هامشه شخصيات تتنافر أمزجتها وطموحاتها وسرعة خطواتها فى طريق الحياة . ولم يكن تصوير الفنان لتلك الشخصيات هدفاً فى ذاته ، وإنما كان يعكس بهم واقع المجتمع المصرى : المحبط ، والشاذ ، والمعقد ، والمشوه ، والمتصوف ، والمجذوب إلخ .. كانوا صورة مختزلة ، وربما متشائمة ، للمجتمع المصرى آنذاك .. ولكن : ألم تكن هذه صورة المجتمع المصرى فعلاً ؟!
    المبدع يختلف عن الآخرين ، حتى فى أوقات الصمت ، فى أوقات السكينة . فجميع أجزاء جسمه الظاهرة تكف عن الفعل ، بينما العمل الإبداعى ، أو الشخصية ، أو الحدث ، يتخلق فى داخله ، يفرض عليه حالة من التوتر قد لا تبدو على مظهره الساكن . ويقول ميلان كونديرا : " هناك شخصيات مبتكرة بشكل كامل ، خلقها الكاتب وهو مستغرق فى تفكيره الحالم . هناك تلك الشخصيات التى يستلهمها عن طريق نماذج بشرية . فى بعض الأحيان يتم ذلك بشكل مباشر ، أو بشكل غير مباشر . هناك تلك الشخصيات التى تخلق من مجرد تفصيلة منفردة لوحظت فى شخصية ما ، وكلها تدين بالكثير لاستبطان الكاتب ، ولمعرفته لذاته . إن العمل الناجم عن الخيال يحول أشكال تلك الإلهامات والملاحظات بدرجة عميقة جداً ، لدرجة أن الكاتب ينسى كل ما يتعلق بها " ( الطفل المنبوذ ) ، وكما يقول سارتر ، فإن الخيال هو الأداة السحرية التى يحقق بها الفنان مشروعه الإبداعى . انه يتجاوز كل ما هو ثابت وحتمى ، ويصنع العالم الخاص ، المتميز ، والمتفرد . إن واجبه ـ والتعبير لبرسى لبوك ـ هو أن يبدع الحياة .
    أنا أخضع خيالى لخيال العمل الإبداعى . أخضع قراءاتى وخبراتى ورؤيتى للفضاء الذى تتحرك فيه القصة طولاً وعرضاً وعمقاً . الإبداع بعامة مزاوجة بين الحقيقة والخيال ، أشبه بالمزاوجة بين العلم والفن . الحقيقة ليست مطلقة ، والخيال يمكن أن يرتدى ثوب الحقيقة . العالم الذى يعتقد أنه قد وصل إلى الحقيقة ، يذكرنا بالفنان الذى كاد أن يحطم تمثاله لأنه لم ينطق ، والفنان الذى يعتقد أنه يعيش فى الخيال فحسب ، يعانى وهماً باعثه التبلد .
    ........................
    2002
    رد مع اقتباس  
     

  2. #26  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الواقعية السحرية
    ......................

    الواقعية السحرية ؟
    سبقت السوريالية اتجاهات إبداعية كثيرة ، تبدأ بالواقعية التى أفرزت العديد من الروافد المهمة . وثمة الابتداعية والمستقبلية والماورائية والدادية وغيرها . وكانت الدادية ـ تحديداً ـ هى الاتجاه السابق على السوريالية ، بل إن بعض الاجتهادات النقدية وجدت فيها وجهين لعملة واحدة . وثمة من يجد فى السوريالية والواقعية السحرية اتجاهاً واحداً ( حامد أبو أحمد : فى الواقعية السحرية ص 34 )
    ظهر مصطلح الواقعية السحرية ـ للمرة الأولى ـ فى عام 1925 . أطلقه الناقد الألمانى فرانتز روه على الاتجاه الذى توضح فى أعمال جماعة من الفنانين الألمان ، اتسمت بالصور الساكنة ، الواضحة ، الحادة التفصيلات والخطوط ، لكنها ـ فى الوقت نفسه ـ تعنى بالتخييل ، الفانتازيا ، المستحيل ، بصورة تناقضية ، كأنها الواقع ، أو هى الواقع تحديداً . ثم اتسع إطلاق المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية . أطلق على أعمال روائيى أمريكا اللاتينية ، مثل خورخى لويس بورجيس وأليخو كاربنتير وجبرييل جارثيا ماركيث . السرد فى أعمالهم يمازج بين الواقع والخيال ، بين المألوف وغير المتوقع ، بين المدرك والخارق ، بين الأنماط والنماذج والأحداث اليومية ، وما يعد من الأحلام ، أو أقرب إلى الأسطورة ، والخرافة .. ذلك كله ، فى لغة تغلب عليها الشعرية بصورة لافتة . وثمة رأى يحدد الفارق بين الواقعية السحرية والفانتازيا ، فى أن الفائق للطبيعة فى الواقعية السحرية لا يربك القارئ .
    يقول ماركيث : " الخيال هو فى تهيئة الواقع ليصير فنا " . وتضيف هالى بيرت : " عندما تلتمع الفكرة فى الذهن ، فإن الخيال مهم لإثراء الصورة ، بحيث لا يبقى أمام المبدع ـ فى لحظات الكتابة ـ ألاّ أن يكتب ما يمليه عليه خياله . وكما يقول ديهاميل فإن أى منظر لا يمكن أن يصل إلى مثل ما يصل إليه الخيال فى عمله المدهش عندما يحركه قصص جميل مؤثر ( دفاع عن الأدب ـ 52 ) .
    وفى ذكرياتها " بلدى المخترع " تؤكد إيزابيل الليندى أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس ، أدخلتها فى الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمى بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير ( بلدى المخترع ـ 72 ) . ويقول ماريو بينيدتى إن ظهور حركة الواقعية السحرية أو العجائبية ، ليس مرده الواقع العجائبى ، وإنما الواقع المروع . وقد عاب ماركيث على واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذى يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال ، والعبد الذى يظل داخل الزجاجة مائتى عام ، قبل أن يتاح له الخروج إلى العالم .
    ***
    كان رأى العقاد أن خلق العمل الفنى من الواقع ، أصعب بكثير من صنعه من الخيال . وقد وافقه الحكيم على ذلك ( تحت المصباح الأخضر ص 82 ) . وقد كتب كافكا روايته أمريكا من خلال الصورة التى كونها خياله بتأثير قراءاته للمطبوعات الشعبية ، فهو لم يزرها إطلاقاً ، لكن عبقرية كافكا عوضت المشاهدة ومصادقة المكان . وكان أستاذنا محمد مفيد الشوباشى يفضل اللجوء إلى خياله ، بدلاً من السفر : " إن خيال الإنسان يمكن أن يتصور أماكن أجمل من الحقيقة . فلماذا أرهق نفسى ، وأتكبد مشاق السفر ومخاطره ، إذا كنت أستطيع أن أتصور بخيالى ما هو أجمل مما سأراه ؟ " . ولعلنا نذكر قول ماريو إيوسا إن الإطار المكانى لقصص همنجواى هو حلقة الملاكمة . أما بورخيس فإن إطار قصصه المكانى هو المكتبة . والدلالة ـ بالطبع ـ واضحة : همنجواى يعتمد على الموهبة ، ويعتمد كذلك على المغامرة ومحاولة التجربة والتعرف على الأشياء . أما بورخيس فإنه كان يعتمد على القراءة الغزيرة إلى جانب الموهبة ، وإن رأى فى عدم الواقعية شرطاً ضرورياً للفن ..
    حين أتحدث عن الخيال ، فأنا لا أعنى بالخيال ما يحتفى به السورياليون ، إنما أعنى الخيال الفنى فى كل مستوياته . وإذا كانت الكتابة لم تدفع بالخيال أبداً إلى حدوده القصوى ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 18 ) فإن الواقعية السحرية ـ والسوريالية كذلك ـ تفجر الخيال إلى أقصى مداه ، تأذن بتحرر اللاوعى إطلاقاً من الرقابة التى قد يمارسها العقل .
    أحياناً ، يشدنى عمل إبداعى بخيال جميل منطلق ، جواد فن يمضى فى طريق بلا آفاق . ثم يئد الفنان انطلاقة خياله ، حين يتذكر أنه كاتب ، وأنه يكتب إلى قارئ ، وأن هذا القارئ لابد أن يجد فى العمل الإبداعى ما يغريه بالمتابعة ، ويتجه العمل ـ بالغصب ـ إلى طرق غاب فيها الخيال ، ونعانى التكرار إلى حد الملل !..
    أستاذنا نجيب محفوظ يحرص على أن يؤطر الخيال بالمنطق . الحلم عند نجيب محفوظ بديل لمنطق الفن ، للامنطق ، للواقعية السحرية [ إقرأ " الطريق " صفحات 60 ، 63 ، 64 ، 67 ، 107 الخ .... ] . أما الواقعية السحرية ، فإن أشد تعرفنا إليها فى أعمال جابرييل جارثيا ماركيث ( كولومبيا ) وميجيل أنجل أستورياس ( جواتيمالا ) وأليجو كاربانتييه ( كوبا ) . وتختلف الواقعية السحرية فى أنها جانب فوق طبيعى للأشياء ، ضرب من الواقعية يتجاهل قوانين السبب ، تماماً مثل الحال فى الأحلام ، والتعبير لماركيث . أن الفن ـ كما يقول إرنستو ساباتو ـ لا يطالب بفصل المنطقى عن اللامنطقى ، والإحساس عن الفكر ، والحلم عن الواقع . إن الحلم والميثولوجيا والفن مصادر مشتركة فى اللاوعى ، بحيث تظهر عالماً ليس من المتاح أن تكون له أية صيغة تعبير أخرى ـ ما هذا البيان المشترك ؟ ـ 139 ) . لم يعد للواقعية الطبيعية أو التسجيلية ـ على سبيل المثال ـ وجود فى أدب الفانتازيا . إنه أدب لا يعرف المستحيل . لقد كسر مبدعو الواقعية السحرية حاجز المعقول ، لا للهروب ، ولا لمجاوزة العالم الحقيقة ، وإنما لفهم العالم بطريقة أفضل . أما الواقعية السحرية ـ فى الموروث العربى ـ فهى الأعمال التى تحيا على الأسطورة والخرافة والغرائبية . إنها لا تجعل من ذلك كله مجرد وسيلة ، ولا تجعل منه ـ على حد تعبير جمال الدين بن الشيخ ـ ملاذاً أخيراً تلجأ إليه الحكاية عندما يتم استنفاد المصادر العادية ( ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ـ 100 ) .
    الأسطورة والفانتازيا والغرائبية تتخلق من داخل العمل الإبداعى ، تشكل جزءاً فى نسيجه . وحين استطاع الرجل الغريب فى قصتى فلما صحونا أن يخضع ـ بسكين ـ أفراد الأسرة المضيفة ، أظهر بعض الأصدقاء من المبدعين والنقاد عجبهم : كيف لجماعة أن تشل إرادتها أمام شخص ، فرد ، يحمل سكيناً ؟ . وفى قصتى المستحيل تعددت الأسئلة حول إقدام الرجل على لزوم بيته لا يغادره ، وهو قد اكتفى بتكويم قطع الأثاث خلف الباب والنوافذ . أما الراوى فى قصة " هل " فهو ميت ، وأهملت السؤال : ألم يكن من الأوفق أن يجرى الحدث فى الحلم ؟ . وكانت الملاحظة التى أبداها البعض حول قصتى أبناء السيد الصافى ـ تنفيذاً لوصيته ـ يبحثون عن الأخوات ، هى الملاحظة نفسها التى أبداها البعض من خارج القصة : كيف لميت أن يعود إلى الحياة ؟
    والأمثلة ـ كما تعرف ـ كثيرة . وهى قد أملت منطق الواقع ، وأهملت منطق الفن ، المنطق الذى يصدر عن الفن . ولعلك تتعرف إلى ما أريد توضيحه فى إمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ونجم وحيد فى الأفق و ما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها من الروايات التى تحركت شخصياتها وأحداثها فى إطار الفن .
    ***
    أوافق على الرأى بأن الواقعية السحرية مجرد مسمى لاتينى أمريكى لظاهرة عالمية قديمة ( فى الواقعية السحرية ـ 43 ) . الواقعية السحرية ـ أداتها قوة الخيال ـ تكشف عن الأبعاد السحرية لواقعنا المعيش . يقول ماريو بارجاس يوسا : " لقد بدأت القصة تتحرر من محليتها ، من اهتمامها فقط بكل ما هو أمريكى لاتينى . لقد تحررت بالفعل من هذه التبعية ، فنراها تتخلى عن مهمتها كخادمة فى محراب الواقع المعيش ، وأصبحت ـ فى الوقت الراهن ـ تسلط أضواءها على الواقع لتستمد منه موضوعات معينة لعرضها على الرأى العام . وبذلك مهدت تغيير الوضع القائم "
    ظاهرة الواقعية السحرية موجودة فى الأساطير والملاحم والحكايات العربية ، منذ أسطورة إيزيس ، وقصة الأخوين ، تواصلاً مع الملاحم والسير الشعبية والحكايات العربية : الهلالية وعنترة وبيبرس وحى بن يقظان ورسالة الغفران والزوابع والتوابع وبركات الأولياء ومكاشفاتهم
    أنا لا أخترع عالماً غير موجود ، وإنما أقدم عالماً أحياه ، وأتذكره ، وأتفهم ما ينبض به من معتقدات وعادات وتقاليد . همى أن أنقل هذا الواقع بلغة تضيف جمالياتها إلى جماليات العمل الفنى . وكما أشرت من قبل ، فأنا أرفض أن أعتبر اللغة أداة توصيل . إنها جزء مهم فى العمل الإبداعى ، تلتحم به ، ومعه .
    وإذا كان كل شىء فى أمريكا اللاتينية ـ كما يقول ماركيث ـ ممكناً ، وواقعياً ، فإن المعنى نفسه يصدق على الحياة فى بلادنا ..
    عبد المحسن صالح ـ كما تعلم ـ واحد من كبار علمائنا فى مجال البكترولوجيا ، بالإضافة إلى إسهامه المتفوق فى مجال تبسيط العلم . ناقش فى كتبه قضايا مهمة ، تبدأ بالحياة اليومية ل،سان وتنتهى بالموت .
    زارنى عبد المحسن صالح ذات مساء . كانت العادة أن يطول نقاشنا فيما يفد إلى خواطرنا من قضايا ، دون أن نعطى حساباً للوقت . لكنه استأذن ـ بعد أقل من نصف ساعة ـ : لماذا ؟ . سأحضر جلسة تحضير أرواح !.
    شردت عن كل الحجج ، وغير العلمية ، التى ساقها عبد المحسن تبريراً للانفصام الواضح بين ثقافته العلمية وثقافته الموروثة .
    وفؤاد ب . ليس طبيباً كبيراً فحسب ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ مثقف كبير ، له آراؤه الموضوعية والجادة فى مختلف قضايانا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها . وكان إيمان الرجل بالتقدم مطلقاً ، حتى أنه لم يكتف بما وصل إليه من مكانة علمية ، فهو يجلس فى المدرجات أثناء مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه للتعرف على الجديد فى مجالات الطب .
    ما لا يعرفه إلا القلة من أصدقاء الدكتور فؤاد ب . ـ وأنا واحد منهم ـ أنه كان يغيب عن القاهرة فى بعض الأمسيات . يمضى بسيارته إلى قرية فى عمق الدلتا . يجلس فى حضرة شيخ يعمل بالسحر والتنجيم وقراءة الطالع !
    هذا الانفصام ، أو التقابل ، يعنى سيادة الموروث الشعبى ، بصرف النظر عن تباين المستويات الاجتماعية والثقافية ، فهى جزء أصيل فى تكوين الإنسان المصرى . ليس ثمة ما يرفضه العقل : السحر مذكور فى القرآن الكريم . الأرواح والجن مذكورة كذلك فى القرآن الكريم . العفاريت والغيلان والمردة ، ما أكثر ما يرويه الأجداد والأبناء عنها للأبناء والحفدة
    نحن ننشأ على حكايات " السماوى " و " أبو رجل مسلوخة " والعفاريت التى قد تركبنا ، أو تفعل بنا ما تفعله العفاريت . تتوالى التحذيرات والنصائح ومحاولات التخويف . تستقر فى أدمغتنا ، لا يلغيها تقدم السن ، ولا اكتشاف الحقائق ، بل إننا ـ تواصلاً مع الموروث ـ نروى ذلك كله ـ وربما نضيف إليه ـ لأولادنا .
    وإذا كانت عادة المصريين هى الاحتفال بذكرى وفاة الراحلين من أحبائنا ، فإننا نحتفل بذكرى أولياء الله . مبعث المفارقة أن أولياء الله يظلون أحياء ، فنحن نلجأ إليهم فى الملمات ، نطلب النجدة والغوث والنصفة والمدد ..
    نحن نلجأ إلى أولياء الله ، نقسم بهم ، نزور مقاماتهم ، نتشفع بهم ، نعدهم بالنذور ، نناجيهم ، نلتمس النصفة والمدد . نحن إذن لا نعتبرهم موتى . إنهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الأولياء الموتى ـ فى يقيننا ـ ليسوا كذلك . نلجأ إليهم لمساعدتنا فى تحقيق ما عجزنا عنه ، ما قد يدخل فى دائرة المستحيل .
    وإذا لم يكن اللقاء المباشر بالراحلين متاحاً ، فإنه يتم فى أثناء النوم ، فى رؤى المنام .
    نحن ننتظر من الأولياء الراحلين أن يؤدوا لنا ما يجدر بنا أن نؤديه . حين ندس رسالة فى صندوق النذور بمقصورة أحد الأئمة ، نضمنها شكوى ، فإننا نترقب قراءة الولى للرسالة ، واستجابته لها ، بحيث تنعكس الاستجابة فى نتائج إيجابية تعيد لنا حقوقنا المهضومة . السيدة زينب ترأس المحكمة الباطنية التى تفصل فى أمور المسلمين ، السيد البدوى هو الذى أتى لنا بأسرى الحروب الصليبية ، سيدى العدوى يستعيد الأطفال التائهين ، إلخ .
    أصارحك بأنى عبرت عما شهدته ، وعشته ، فى طفولتى ، دون أن أحاول تصنيف كتاباتى ، وما إذا كانت واقعية بالمعنى الذى نعرفه ، أم واقعية سحرية كما قرأنا عنها فى الإبداعات العالمية . كتبت ما نهل من التراث ، ومن الموروث ، من المعتقدات والتقاليد والعادات وغيرها من الخصائص التى يمكن أن تشكل فى مجموعها ـ ولو من قبيل التجاوز ـ الشخصية المصرية
    كانت مسامرات كل مساء ـ هل تصح هذه التسمية ؟ ـ تكاد تقتصر على الجن والعفاريت والست المزيرة والقرين ، أو الأخت التى تسكن تحت الأرض " اسم الله على أختك " والبغلة التى تزين للمرء ركوبها ، فإذا ركبها علت به وعلت ، ثم قذفت به إلى الأرض فى مصير مؤلم .
    لا تشغلنى المقارنة ، ولا أوجه الاتفاق والاختلاف ، لكن السؤال الذى يفرض نفسه : ما الخصائص التى تتميز بها الواقعية السحرية ، فلا نجدها فى العجائبية العربية ، كما نجدها فى ألف ليلة وليلة ، والسير ، والحكايات القديمة ؟
    الوجدان المصرى ـ والعربى بعامة ـ يتقبل كل الظواهر الميتافيزيقية ، مهما مالت ـ موضوعياً ـ إلى الخرافة . إنه يتقبل أمور المعتقد وما وراء الواقع باعتبارها أموراً حقيقية ويجب تصديقها ، وممارسة سلوكيات حياتنا فى ضوء ذلك الاعتبار . الإنسان العربى يمارس ما قد يبدو خرافة ، دون أن يضعه فى إطار معرفى محدد ، بل إن القلة القليلة من خاصة المبدعين العرب ، هم الذين يعرفون معنى الواقعية السحرية ، بل إنهم يمارسون واقعيتهم السحرية بعفوية الفعل .
    أما التحذير بأن الواقعية السحرية مما يرقى عن مستوى إدراكنا ، فلسنا نملك إلا أن نكتفى بقراءة الإبداعات الأمريكية اللاتينية التى كتبت فى إطاره ، فهو تحذير يشى ـ للأسف ـ بحرص على الدونية فى النظر إلى معطيات الآخر ، حتى لو أفاض ذلك الآخر فى التحدث عن تأثر واقعيته السحرية بالتراث العربى ، وبخاصة ألف ليلة وليلة .
    نحن لا نحاكى غرائبية الآخر ولا عجائبيته ، ولا حتى واقعيته السحرية ، لكننا نكتب عن الواقع الذى نحياه بكل ما ينطوى عليه من معتقدات وعلاقات إنسانية وتراث وموروث وروايات شفهية ومكتوبة . أوافق إيزابيل الليندى على أن الغموض السحرى ليس وسيلة أدبية ، ليس ملحاً ولا بهاراً ، لكنه جزء من الحياة نفسها . الواقع هو النبع الذى نحاول أن تنهل منه إبداعاتنا ، نقرأ الإبداع العالمى فى إطلاقه ، لكننا نصدر عن التجربة الشخصية والجماعة التى ننتمى إليها ، ونحاول ـ من خلال ذلك ـ أن نعبر عن وجهة النظر الشمولية ، أو فلسفة الحياة ، وهو المعنى الذى أوردته كثيراً فى العديد من مقالاتى . أنا لا أكتب ما قد أسميه الواقعية الصوفية ـ على سبيل المثال ـ لمجرد الانطلاق فى الخيال ، لكننى أحرص على تضفير ذلك بالعلاقات السياسية والاجتماعية ، سواء فى اللحظة المعاشة ، أم فى أحداث تاريخية .
    بمعنى آخر ، فإننا نحاول أن نفيد من ثقافتتنا الموروثة والمكتسبة ، ونتمثل ثقافات أخرى نجد فيها تواصلاً أو امتداداً لثقافتنا الخاصة . ضرورة التواصل مع التراث والموروث لا تعنى الانكفاء على الذات ، ورفض التراث والموروث العالمى ، أو حتى الانعزال عنهما . نحن ـ كإنسانيين ـ ننتمى إلى هذا العالم باختلاف ثقافاته ، وتنوع حضاراته ، ويجدر بنا أن نفيد من ذلك فى إثراء تجاربنا الإبداعية ، بتعدد المنابع التى تنهل منها .
    فى كل الأحوال ، فإننا لا نتعمد جذب انبهار القارئ ولا إدهاشه ، الفن هو البدء والمنتهى ، والفن ليس مجرد رص كلمات ولا زخرفة أو توشية ، لكنه يحاول أن يهبنا دلالة ، ما يستحق عناء المبدع فى الكتابة ، وعناء القارئ فى التلقى .
    ..........
    2003
    رد مع اقتباس  
     

  3. #27  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الفن .. هل هو للتسلية ؟
    .................................

    " كانت الكتب العلمية فى مكتبة أبى تقف ، جنباً إلى جنب ، مع الأعمال الشعرية والروائية ، ولم يخطر ببالى مطلقاً أن أفكر أن أحدهما يقل ، فى قيمته وانسانيته ، عن الآخر "
    أودين

    منذ العشرينيات من القرن العشرين ، تلاحقت الثورات العلمية فى عالمنا المعاصر : ثورة المعلومات .. ثورة الاتصالات .. ثورة التكنولوجيا .. ثورة الهندسة الوراثية ، وغيرها .. وثمة اجتهاد أن المعلومات التى أضافتها الإنسانية إلى رصيدها المعرفى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة ، يفوق ما حصلته خلال تاريخها كله . وكما يقول أستاذنا زكى نجيب محمود فإن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية بقدر ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه .
    العلم ضرورة لبقاء الجنس البشرى ، لأنه هو الذى يمكّن البشر من السيطرة على الطبيعة ، واستخراج العناصر الأساسية لوجودهم ( أدب ونقد ـ أكتوبر 1985 )
    من هذا المنطلق ، فإن محاولة استشراف آفاق القرن الحادى والعشرين فى مجال ما ، يبدو غاية فى الصعوبة .. لكن الإجابة عن السؤال مطلوبة ..
    ولعله يجدر بنا ـ ابتداء ـ أن نشير إلى قضية العلاقة بين العلم والفن :
    يناقش المازنى فى حصاد الهشيم قضية الفن ، وأنه لن يشغل إلا مكاناً ضئيلاً جداً فى الحياة العقلية للقرون البعيدة ، ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقة من الغريزة إلى المعرفة ، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم ، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر ، فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة ، وتأخذ الإرادة ـ يهديها العقل ـ مكان الهوى ، وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية ( حصاد الهشيم ص 52 ) .
    ثمة مقولة إنه لولا العلم لكادت الحياة أن تكون صورة للموت . ويقول فلاديمير مايكوفسكى : " جرّار واحد من صناعة فورد أفضل من مجموعة قصائد شعرية " . وكان رأى مصطفى المنياوى فى رواية نجيب محفوظ الشحاذ أن الفن كان له معنى فى الماضى ، فلما أزاحه العلم عن موضعه ، أفقده كل المعانى . مصطفى يكتب فى اللب والفشار ، إيماناً بقضاء العلم على كل ماعداه . وهو يعترف ببساطة أن العلم لم يبق شيئاً للفن ، وأن العلم ينبض بلذة الشعر ونشوة الدين وطموح الفلسفة ، ولم يبق الفن إلاّ للتسلية ، بل إنه سينتهى ـ يوماً ـ بأن يصير حلية نسائية مما يستعمل فى شهر العسل . يقول : لقد تبوأ العلم العرش ، فوجد الفنان نفسه ضمن الحاشية المنبوذة الجاهلة . وكم ود أن يقتحم الحقائق الكبرى ، ولكن أعياه العجز والجهل ، وحز فى نفسه فقدان عرشه .. ولما استحوذ العلماء على الإعجاب بمعادلاتهم غير المفهومة ، لجأ الفنانون المنهارون إلى سرقة الإعجاب ، باستحداث آثار شاذة مبهمة غريبة ، وأنت إن لم تستطع لفت أنظار الناس بالتفكير العميق ، الطويل ، فقد تستطيعه بأن تجرى فى ميدان الأوبرا عارياً ، ولذلك اخترت أبسط الطرق وأصدقها ، وهو أن أكون مسلياً . ويقول : يجب أن أن نتخلى للعلم عن جميع الميادين ، عدا السيرك !
    ولعل مبدأ فصل العلم والفن فى حد ذاته ، يحتاج إلى مراجعة شديدة ، فلا شك فى أن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضى بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراداى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
    ***
    أنا أومن بالترابط الحتمى بين مختلف فروع المعرفة ، وأوافق على الرأى بأن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . أعجبنى القول إن " أحلام المبدعين جميعاً هى فى الواقع مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، انسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن " ( إدريس الحسن ـ العربى ابريل 1985 ) ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السىء ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
    لقد أفادت البشرية من التكنولوجيا فى استخداماتها الإيجابية ، لكنها أضيرت منها فى استخداماتها السلبية ، وهى استخدامات تحيق بالعلم دماراً محققاً ..
    العلم ـ فى تقدير الكثيرين من كتاب الغرب ـ أشبه باللعنة التى صنعتها البشرية بأيدى أبنائها . انتصاراته المتوالية لها وجهان : إيجابى وسلبى . والوجهان يختلطان بحيث يصعب تحديد جوانب الخير أو الشر . وعندما خصص نوبل قسماً كبيراً من أمواله لجوائز عالمية ، أعلن ـ صراحة ـ أنه قد بادر إلى ذلك تكفيراً عن اختراعه للديناميت . أراده للسلم ، فاستخدم فى الدمار . وكانت بدايات التفكير فى انشطار الذرة لاستخدامات السلام ، ثم تحول الاختراع إلى قنابل ذرية وهيدروجينية وسلاح ذرّى مدمّر . وكان إلقاء القنبلة الذرية على المدينتين هيروشيما ونجازاكى مؤشراً بالغ الدلالة للنتائج المدمرة التى قد تتحقق من التقدم التكنولوجى ، وأن العلم إذا كانت له إفرازاته الإيجابية ، فإن له إفرازاته السلبية أيضاً ، فمن المستحيل إذن أن نضع مستقبل البشرية فى يد التقدم التكنولوجى وحده ..
    إن تقدم العلم ليس مطلقاً . إنه متصل بالإنسان ، بقيمه ومثله ولحظات قوته وضعفه . التقدم العلمى فى إطلاقه لا يمكن أن يحقق للإنسان مشاعر الانتماء ، وحب الأرض ، والاستفزاز ضد العدوان ، والتعاطف مع الآخرين ، وغيرها من المشاعر التى تتصل بالنفس الإنسانية ، مايشغلها وما تنبض به وتعبّر عنه . الأدب يفهم الطبيعة ، وخبرة الحياة اليومية ، بما لا يرقى إليه فهم العلم ، أو تصويره له . والفن ـ فى مقولة ـ يتجاوز العلم فى أنه لا يفهم من خلال التحليل ، ولكن من خلال العرض . الفن يخاطب العاطفة ، وهو ما يعجز عنه العلم ، مهما يسرف فى التفوق . العلم مجاله العقل . أما الفن فإنه قد يخاطب العقل أحياناً ، ويخاطب العاطفة فى كل الأحيان ، والعاطفة التى أعنيها هى وجدان الإنسان ، مشاعره ، أحاسيسه ، فرحه وحزنه وابتسامه واكتئابه وإخفاقه وانتصاره . لقد كان هناك اعتقاد ـ والقول لأندريه مالرو ـ ان العلم حين يصل إلى أهدافه ، فإن فهم الإنسان سيصبح ميسّراً ، لكننا بدأنا نكتشف ـ مع التقدم ـ أن علاقة الإنسان بنفسه تعتمد على تكوين الإنسان نفسه ، أكثر مما تعتمد على أى تقدم علمى . وكما تقول سهير القلماوى فإن تحدى العلم للإنسان ، تحدى أن يفرض العلم على الإنسان ما يختاره هو له . الفن يحاول أن يقوّى الإنسان فى الإنسان . يحاول بطريقته أن يقوى الاختيار ، وممارسة الاختيار فى الإنسان المعاصر ( الهلال ـ مارس 1971 )
    تكوين الإنسان لا دخل للعلم فيه ، فالعلم يستطيع أن يقدم للإنسان أى شئ إلاّ أن يشكّله ، فما يشكل الإنسان هو الاعتقاد فى نوع من الشخصية المثالية . ولعل مهمة الإنسانية اليوم فى إيجاد طريقة لتشكيل الإنسان . ونحن نعلم مقدماً أن العلم لن يحقق لنا ذلك . وربما هذا هو سر أزمة الشباب وثورتهم اليوم ضد الوسائل العلمية . وطالما بقيت أزمة الإنسان بلا حل ، فإن أية نهضة ثقافية تصبح مستحيلة ..
    ***
    ثمة تعريف للفن يضعه فى موازاة العلم والأخلاق . فالفن عمل إرادى واع للإنسان ، هدفه الانفعال الجميل والكمال من أجل الانفعال ، والعلم عمل إرادى واع للإنسان هدفه صدق المعرفة من أجل المعرفة الصادقة . أما الأخلاق فهى عمل إرادى وع للإنسان هدفه الخير وسلوك الخير من أجل المعرفة الصادقة . وبتعبير آخر ، فإن الفن بعد من ثلاثة : العلم وهدفه الحقيقة ، والأخلاق وهدفها الخير ، والفن وهدفه الإحساس بالجمال والكمال ، وتلازم الأبعاد الثلاثة مهم ، من الصعب أن نتعامل مع أحدها فى معزل عن البعدين الأخيرين . وهو ما يبين ـ على سبيل المثال ـ فى الرواية النفسية التى لا يشغلها تشابك العلاقات فى المجتمع ، ولا القضايا السياسية والتاريخية والاجتماعية ، ولا حتى القضايا الأخلاقية ، بقدر ما يركز على مشكلة الفرد ، فرد واحد محدد ، له نفسيته الخاصة ، المستقلة . وهنا تتأكد الصلة بين الرواية كفن وبين علم النفس كعلم تنظيرى وتطبيقى ، ومحاولة كل منهما الإفادة من الآخر كما يتبدى فى عقدة أوديب التى صاغها سوفوكليس فى درامته ، وأفاد منها فرويد فى تشكيل نظريته فى علم النفس ، ثم أفاد نجيب محفوظ من النظرية فى روايته السراب . والواقع أن ظهور النظريات الحديثة فى علم النفس ، أواخر القرن التاسع عشر ، يعد عاملاً مؤكداً فى إفادة الرواية وعلم النفس ، كل منهما من الآخر . بسط علم النفس تعقيدات النفس الإنسانية كما صورتها الأعمال الإبداعية بدءاً بإبداعات الإغريق ، وانتهاء بروايات ديستويفسكى . كما لجأت الرواية إلى نظريات علم النفس فى رسم شخصياتها . وقد أفدت من عقدة " الفتشية " Fetishism فى روايتى النظر إلى أسفل ..
    ***
    الفن ـ فى تعريف أستاذنا حسين فوزى ـ نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ـ فى تقدير حسين فوزى ـ ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس ( الكاتب ـ يناير 1964 ) . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ ( الكاتب ـ مارس 1966 ) . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " . إن أول عمل فنى ـ على حد تعبير مالرو ـ كان أول انتصار للإنسان على لا معقولية الكون ، وأول تحد للموت . ويقول نيدو شيفين : " من الخطأ أن نحصر الفن فى دائرة الإحساس ، أو أن نزعم أن الإدراك الحسى البدائى للعالم ، هو المنبع الوحيد للفن ، والتفرقة بين الفن والعلم على أساس أن محتوى الأول هو الإحساس وحده ، ومحتوى الثانى هو الفكر وحده ، تفرقة خاطئة ، والنقد الصورى الرجعى لا يكف عن ادعاء أن الفن لا يحتاج بحال إلى المحتوى الفكرى ، والهدف من ذلك واضح ، وهو حرمان الإبداع من قوة المعرفة الفعالة ، وجعله مجرد تسجيل للإحساس الذاتى " ( محمد مفيد الشوباشى : الأدب الثورى عبر التاريخ ـ كتاب الهلال ص 31 )
    والحق أن نجيب محفوظ قد خفف ـ فيما بعد ـ من غلواء مناصرة العلم إلى حد كبير ، فهو لم يعد يجد الفن فشاراً فى عصر العلم ، وإنما هو عصر العلم فعلاً ، وعصر التكنولوجيا والروبوت . أما دور الفن اليوم ، فهو ـ والقول لمحفوظ ـ الدفاع عن ذاتية الإنسان وحريته الشخصية والقيم الإنسانية . إن المجتمع العلمى لا يبلغ كماله من الوجهة الإنسانية إلاّ بالفن . " الرسالة التى ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد انفعال نتعاطف به مع الانفعال الأصلى للفنان . الفن يتيح لنا آفاق عالم من المعانى التى يعبر عنها بطريقته الرمزية على نحو فريد ، لا تشاركه إيّاه وسيلة أخرى من وسائل التعبير " ( فؤاد زكريا ـ الفكر المعاصر ـ العدد الأول )
    وإذا كانت التجربة العلمية التطبيقية الناجحة تجبر الجميع على احترامها ، فإن الإنسانيات ـ بصرف النظر عن تفوقها ـ يصعب أن تجد إجماعاً فى تقبّلها أو الموافقة عليها . وكما يقول أستاذنا سيد عويس ، فإن الناس فى محيط العلوم المادية ، على اختلاف أيديولوجياتهم وعقائدهم ، على وفاق ، ولا يكون الفراغ الفكرى إلاّ فى محيط العلوم الإنسانية ( التاريخ الذى أحمله على ظهرى جـ2 ص 64 ) . وبالإضافة إلى ذلك فإن الفن يختلف عن العلم فى أن الجديد لا يلغى القديم ، لا يلغى ما سبق ، لكنه يضيف إلى الفن فى عمومه إذا كان متميزاً . أذكر قول الناقد الكبير أحمد عباس صالح " إن عشرات الكشوف العلمية لا تستطيع أن تحرك شعباً لعمل ثورة ، لكنها قد تكون سبباً فى ظهور حالة اجتماعية غير متوازنة ينيغى التنبيه إليها بواسطة الفن ، واستفزاز الشعور بها لعمل الثورة وإعادة التوازن " ( الكاتب ـ مارس 1966 ) .
    ***
    فإذا حاولنا التعرف إلى صورة إبداعاتنا الأدبية ، فى ضوء بديهية أن العالم قد تحول بالفعل إلى قرية صغيرة ، وأن العقلية العالمية الرحبة هى ما نحتاجه فى مواجهة القرن القادم بدلائله التى تشى بتطورات مذهلة ، فإن اللافت أن البنيوية ـ على سبيل المثال ـ قد ظهرت فى العشرينيات من القرن العشرين ، والواقعية السحرية ظهرت فى الثلاثينيات من القرن نفسه .. لكننا ـ للأسف ـ ظللنا لأعوام طويلة ، قريبة ، نناقش أعمالنا الإبداعية فى ضوء البنيوية باعتبارها النموذج النقدى الأكثر تطوراً . وللأسف أيضاً ، فقد شدتنا أعمال جابرييل جارثيا ماركيث التى تحلق فى أجواء الواقعية السحرية ، وحاول البعض احتذاءها باعتبارها الأحدث ، مع أن مصادر الواقعية السحرية ـ كما قال ماركيث ـ نفسه ، وكما قال سواه من أدباء أمريكا اللاتينية ـ توجد فى الأعمال الإبداعية العربية القديمة ، وفى مقدمتها ألف ليلة وليلة ..
    نحن مجتمعات استهلاكية وغير منتجة فى عمومها ، بمعنى أننا نعتمد على ما يبدعه الغرب المتقدم ، فنتقبله بالصورة التى أتى بها ، أو نحاول المحاكاة والتقليد ، دون أن ننشغل كثيراً بظروفنا الخاصة ، ووجوب اتصال الموروث بالمعاصر ، فضلاً عن افتقاد الجدية فى التعامل مع المعطيات الإبداعية والثقافية العالمية ..
    يقول عالم الاجتماع ريتشارد باكمينستر فوللر : " ليس هناك من فارق عميق بين الفنان ورجل العلم ، إذ كلاهما فى القوة سواء . إن سرعة الإدراك هى فى صميم الإبداع ، علمياً وفنياً " . ويضيف البروفسور جيليو أرجان : " بما أن الفن تعبير عن مستلزمات سنن الجمال لعصرنا . وبما أن ثقافة عصرنا متميزة بالتكنولوجيا ، ومرهونة بها ، فقد تحولت اليوم مشكلة العلاقة بين الفن والمجتمع ، إلى مشكلة العلاقة بين الفن والتكنولوجيا ، فالصلة القائمة بينهما قد قامت مقام الصلة ـ التى مضى عهدها ـ بين الفن والمذاهب الأيديولوجية " ( الأدب المعاصر ـ فبراير 1988 ) .
    ***
    إن أدب الخيال العلمى هو الأكثر ازدهاراً ـ الآن ـ فى الغرب ، يرتكز فى ذلك إلى منجزات علمية حقيقية ، فهو يحاول أن يستشرف آفاقا أخرى لمستقبل الإنسان . وهذا هو السر ـ فى تقديرى ـ لقلة الإصدارات العربية من أدب الخيال العلمى . إن من يحاولون كتابة أدب الخيال العلمى قليلون للغاية ـ وفى مقدمتهم ـ بالطبع ـ صديقى نهاد شريف ـ لأن المجتمعات التى ينتمون إليها مجتمعات مستهلكة لا منتجة ، مجتمعات لم تحيا العلم فى تطوره المذهل بصورة حقيقية . بالإضافة إلى ذلك ، وربما اتساقاً معه ـ فإن البعض يدخلون أدب الخيال العلمى فى دائرة أدب الطفل ، وهى نظرة قاصرة لابد أن تزول بالضرورة فى قرن ستكون للعلم فيه كلمته الحاسمة ..
    وكما يقول نور ثروب فراى ، فإنه من السخف الاعتقاد أن العالم عقلانى ، لاتحركه عاطفة ، وأن الفنان ملقى فى دوامة العواطف الهائجة . إن العلم والفن يستخدمان مزيجاً من الحس العام والحس الداخلى . العلم المتطور والفن المتطور يلتقيان معاً التقاء حميماً من الناحية النفسية وغير النفسية .
    إن العالم الحديث ـ والقول لإيفور ايفانز ـ يستعمل خياله الآن كما يستعمل الفنان خياله ، لكن خيال العالم يخضع للتجارب أكثر من خيال الفنان ، وإن كانت هناك نواحى مشتركة بين كليهما ، فالعالم يشتغل بالتجربة ، ويرضها بها فى حد ذاتها . أما الفنان فهو يحاول أن يشرح هذه التجربة بطريقته الخاصة . وإذا كان العالم يحاول أن ينظر إليها كنظام متصل فإن الفنان له حرية أكثر من العالم . إنه يستطيع أن يخلط استعاراته عن طريق الخيال ، لكن العالم يجب أن يبنى من الخيال عالماً واحداً متماسكاً ، عالماً يعبر عن العلاقات بين التجارب ، وعلى سبيل المثال فإن نظريات نيوتن وفاراواى وأينشتين متصلة بعضها ببعض ، وهى ـ فى ذات الوقت ـ مخلوقات للخيال .
    انطلاقات الخيال تحدها تطبيقات العلم . أما الفن فهو لا يفرض على الخيال قيوداً من أى نوع .
    الفن نشاط إنسانى عام ، تقاسمه الناس كقلة منتجة للفن فى ناحية ، وكثرة مستهلكة له فى الناحية الأخرى . وقد عاب حسين فوزى على المستهترين الذين يرون أنه لا فائدة للفن أكثر من أنه نوع من الترفيه ـ لم يتصور أن ذلك هو رأى نجيب محفوظ ! ـ . وبافتراض ذلك ، فإن الترفيه ضرورة من ضرورات الحياة ، ولكن : هل الفن شئ كالرياضة البدنية ، أو لعب الطاولة ؟ وهل للباليه قرابة ـ ولو من بعيد ـ برقص الصالونات ومجتمعات السكارى ؟!.. الفنون كلها ملتزمة بتأكيد العنصر الروحى فى الإنسان . حتى الترفيه فى الفن الرفيع يعنى الارتقاء من عالم أرضى حسّى إلى عالم سماوى روحانى ، بلوغ درجة من الإحساس الصوفى ، يتجلى فيها للمتصوف الواصل ، اتصاله بغير الكائن الملموس . أوافق أحمد عباس صالح على أن الأخلاق لا تصنع بالمخترعات ، بل بالفكر والفن ، ولعلها بالفن قبل كل شئ . وأشير إلى رأى الشاعر الأمريكى وايتمان : " إن مشكلة الإنسانية فى العالم المتمدن ، هى مشكلة اجتماعية ودينية لابد أن تعالج فى النهاية من طريق الأدب ، من وجهة نظر مكتفية بذاتها " ..
    ***
    إذا كان الترابط حتمياً بين مختلف فروع المعرفة ، فإن العلم والفن متلازمان ، ولا يصح وجود أحدهما إلاّ بوجود الآخر . المطلوب فى العلم أن يهبنا المعرفة ، وهو ما ليس مطلوباً فى الفن ، أو أنه ليس من أولوياته ، والمعرفة ، أو الفائدة ، التى تتحقق فى النتيجة العلمية ، تختلف ـ بالتأكيد ـ عن الدلالة ـ أو المتعة بالطبع ـ التى يهبها لنا العمل الإبداعى . وتقول راشيل كارسن R.Carsen " هدف العلم اكتشاف الحقيقة وجلوها ، وأنا أسلم بأن هذا هو هدف الأدب ، سواء كان سيرة ذاتية أو تاريخاً أو قصصاً وروايات . لذا يبدو لى أنه لا يمكن فصل الأدب عن العالم " ( ت . يمنى طريف الخولى )
    الأديب والعالم كلاهما حالم ، والحالم ثورى ، والثورى يسعى إلى تغيير العالم . ولعل أحلام المبدعين جميعاً مرحلة بين الحقيقة والخيال ، أى بين العلم والفن . الحقيقة المتحولة والمتبدّلة أبداً ، أى ليست مطلقة ، وخيال يمكن أن يتحول إلى حقيقة كائنة . والعالم الذى يعتقد بأنه قد وصل إلى الحقيقة ، لا يمكن أن يكون إلا جاهلاً . والفنان الذى يعتقد بأنه يعيش فى رحاب الخيال فقط ، إنسان متبلّد الشعور ، فالخيط جد رفيع بين الحقيقة والخيال كما هو بين العلم والفن ، ومع هذا ، فأنت قد تكتفى برفض الفن الذى تحبّه ، لا تقبل عليه ـ مثلما لا يقبل عليه الآخرون ـ فتبور البضاعة . أما العلم السيئ ، فهو يحقق نتائجه السلبية بالرغم منا . حتى لو رفضناه ، فإننا لا نملك أن نمنع تأثيراته !
    ..................
    الهلال ـ 1992
    رد مع اقتباس  
     

  4. #28  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح
    .................................................. .

    " احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
    أوجست رودان
    " السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
    تودوروف

    " قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
    جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل

    ـ 1 ـ
    يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
    وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
    ***
    ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
    ***
    إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
    من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
    إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
    ***
    واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
    لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
    التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
    ***
    إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
    ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
    وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
    ***
    يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
    ***
    ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
    لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
    نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
    إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
    ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
    ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  5. #29  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    نحن نخلط كثيراً بين المدنية والحضارة ، فالمدنية هى المكتسبات العلمية والتكنولوجية . أما الحضارة فهى نحن : موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية ، وارتكازاً إلى هذا المعنى ، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث فى صياغة ثقافة ما ، أمر غير وارد ، ومستبعد ، لأن التراث هو معطيات الأمس ، ومعطيات اليوم هى تراث الغد ، والحلقات متصلة ..
    وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف ، فإن ذلك الرأى ـ الذى يصعب أن نفترض فيه حسن النية ـ يجد الرد عليه فى أن التراث لا يستعاد ، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك ، لأن الآتى حتى فيما قد يرين إليه من استاتيكية ، يحمل الإضافة والجديد دوماً . ولكن المطلوب هو تمثل التراث ، وإدراجه فى جدلية التجربة المعاصرة ، الثقافة المعاصرة ، بحيث يصبح هذا التمثل تطويراً للتراث ، موقفاً نقدياً وتجاوزاً فى آن معاً ، وبحيث يصبح دور التراث فى صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة ، لأن التراث أصل أصيل فى أية ثقافة قائمة أو مرجوة . بل إن الأدب العربى المعاصر لم يكتسب ملامحه إلاّ بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة ، والأدبين الإغريقى والرومانى تحديداً . إن الثقافة الجديدة التى يمكن التحدث فيها ، هى تلك التى تصل بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد ، بين الموروث والآنى ، فيصبح المستقبل بكل زخمه هو اتجاهنا الأوحد ..
    أوافق ألان روب جرييه فى أن عظمة الروائى تكمن فى أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيد بنموذج ثابت ( 17 ) ، ولكن من الصعب ـ فى تقديرى ـ أن ينفصل المبدع تماماً عن تاريخه الروائى ، خاصة إذا مثّل هذا التاريخ ارهاصات تمتد بمئات الأعوام ، كما فى التراث العربى القديم ، مثل ألف ليلة وليلة ، وكتابات الجاحظ ، وابن طفيل ، وأغانى الأصفهانى ، ومقامات الهمذانى ، وحكايات أشعب ، ورسالة أبى العلاء ، وكتب التصوف الإسلامى ، وتمتد بعشرات الأعوام ، كما فى الأعمال التى ربما تجد بدايتها فى " علم الدين " أو " حديث عيسى بن هشام " أو " عذراء دنشواى " أو " زينب " إلى آخر القائمة . وعلى حد تعبير بول فاليرى فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة ! .
    إن المبدع العربى لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبرة عن الواقع العربى ، دون تلمّس لجوهر التراث لا حرفيته ، ودون محاولة جادة للإدراك النوعى للحساسية العربية فى عمقها واكتمالها ( 18 ) . الهوية القومية لا تقتصر على المضمون ، على الأحداث والشخصيات ، لكنها تشمل الشكل ، أو التقنية . إن لم يكن لها اختلافها وتميزها ، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوه لإبداعات الآخرين . أشير ـ بتعجب ـ إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة ، حين جعل المرأة تطير فى رائعته " مائة عام من العزلة " . وطارت ـ فور ترجمة الرواية إلى العربية ـ نساء كثيرات ، فى إبداعات عربية ، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل . إن مبدعى أمريكا اللاتينية يتمايزون فى أعمالهم بصورة لافتة ، لكنهم يعبّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها ، عنوانها : الرواية فى أمريكا اللاتينية . وأذكّر بقول إدوارد سعيد " نحن ـ فى الوطن العربى ـ نقوم بالنسخ المباشر . ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب فى التحول إلى فوكوى أو جرامشى
    ***
    مع محاولاتى فى توظيف التراث ، فإنى كنت أحاول ـ فى المقابل ـ أن أتمثل الثقافات الجديدة . إن رواية اليوم ـ والقول لروب جرييه ـ " هى ما سنضعه هذا اليوم ، وإن علينا ألاّ ننحى التشابه بينها وبين ماكانت عليه الرواية بالأمس . علينا أن نتقدم إلى أبعد " . وفى رأيى أن الإضافات التى قدمها الإبداع الغربى إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربى القديم ، لا يعنى اعتبار الفن الروئى والقصصى فى الغرب بداية مطلقة لهما ، وإلاّ فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة فى كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذى تنتمى اليه ، أى أننا نلغى ماسبق ، ونعتبر البداية فى الإضافة والتطوير ..
    والسؤال : هل نعتبر التراث العربى بداية القصة الأوروبية ـ على سبيل المثال ـ فى ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزى ا . ر . جب H . A . R . Gibb بأن أوروبا قد تأثرت ـ أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة ـ بالمأثورات الشعبية العربية ، وهى التى منحتها السمات القومية فى الأدب ، وأن القصة الإيطالية فى عصر النهضة انما هى وليدة القصص الشعبى العربى ، وأن شوسر ـ أبا الأدب الإنجليزى ـ قد تأثر ـ بدرجة وبأخرى ـ بالنهج العربى فى السرد والوصف والتصوير .. ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا ـ على حد تعبير رانيلا ـ لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق " ( 19 )
    ***
    من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث اطلاقاً ، كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية اطلاقاً . واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضى ، والتعامل معه باعتباره " المنقذ من الضلال " ، الحل لمشكلات العصر والأزمات التى نواجهها ، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التى حققها الغرب . توظيف التراث لا يعنى الانكفاء على الماضى ، لكننا نفيد منه فى الإضافة ، أن يكون فاعلاً فى المستقبل . نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة . الصواب أن نفيد من التراث ، ومن الثقافة الغربية المعاصرة فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عموماً . أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، أو النقل عن الغرب . الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن ، لا نكتفى بالتلقى ، بالنقل أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وانما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صوت حياتنا المعاصرة . إن التجديد موصول بالتراث . إنه الجذور التى تحفظ عليها الحياة والاستمرار . ثمة تفاعل خلاق يجب أن ينشأ بين الآنى والتراث ، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام ، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة ، قد تسمى توظيف التراث ، أو استلهامه ، أو استيحائه إلخ .. لكنها تظل ـ فى المحصلة النهائية ـ إفادة من التراث ، اتصالاً به ، تفاعلاًً خلاقاً معه . والعمل الذى يوظف التراث قد يهب المتلقى تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة ..
    ***
    إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التى تتوضح ـ بدرجة أوبأخرى ـ فى إبداعاته ، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه ..
    إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية ، فهى قد فقدت هويتها ، وما ينبغى أن تكون عليه من تفرد . إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة فى الغرب ، تعبر عن واقع معاش . إنها مدارس وليدة البيئات التى أثمرتها لأنها بيئات مثقفة فى عمومها ، ومتأملة ، ومنتجة ، ومستشرفة . أما نحن ، فنبدع ، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب ، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التى تتواصل بالتراث ، وتلاحق العصر ، وتستشرف المستقبل فى آن . إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين ، لا يعنى أننا نحاكيها ، وإنما نذيبها فى تجاربنا الإبداعية ، تصبح نحن ، ولا نصبح الآخرين . ولعلنا نجد مثلاً متفوقاً فى التكنيك ، أو البناء الفنى ، فى سيرة عنترة ، عندما قسم الراوى سيرة عنترة إلى ماسماه اثنين وسبعين كتاباً ، وحرص فى نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ الى المتابعة ، حتى يظل على إنصاته أو قراءته . وكما يقول الموسيقار الألمانى يوهانس برامز ( 1833 ـ 1897 ) فإن " الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة ، لا يمكنها أبداً أن تخلق فناً جديداً " . والأصوب ـ كما يقول فردريك شليجل ، أن يوحد الفنانون ـ عبر عصورهم ـ العالم الماضى مع العالم القادم .
    ***
    فى كتابه " تجديد الفكر العربى " تحدث زكى نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب ، فوجد أن البعض ـ مثل العقاد ـ وجد أن الجمع بينهما ممكن ، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، وثمة آخرون ـ مثل أحمد أمين والحكيم ـ أجروا تعديلاً فى التراث وفى الغرب معاً . أما الأجيال التالية فهى لا تعرف شيئاً من التراث العربى ، ولا ترضى ـ فى الوقت نفسه ـ بقبول الثقافة الغربية " خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين " ( 20 ) . ويزيد زكى نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية ( 21 )
    وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديداً ـ وهى غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية ـ فإنها تحتاج إلى مراجعة ..
    لقد بدأت حركة احياء التراث العربى منذ أواسط القرن التاسع عشر ، انسلاخاً من السكونية التى فرضها الحكم العثمانى . كان توظيف التراث بداية المسرح المصرى كما يتبدى فى أعمال مارون النقاش ( 1817 ـ 1855 ) وأبو خليل القبانى ( 1833 ـ 1903 ) ثم فى الأعمال المسرحية التالية ، وصولاً إلى زماننا الحالى فى أعمال أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور والفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدنى . أما توظيف التراث فى الرواية فيجد بدايته فى روايات جورجى زيدان التى عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر . ثم توالت الروايات التى تحاول توظيف التراث ، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوى ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجى ومجيد طوبيا وجمال الغيطانى وخيرى عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم .. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا ـ وموروثنا ـ الشعبى المصرى ، تصلح قواماً لأعمال أدبية معاصرة : الخضر وأبو زيد والسيد البدوى وأشعب والشاطر حسن وعلى الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتى وهبنقة وجحا وسيبويه المصرى وذو النون وأبو الحسن الشاذلى وشحادى أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر إلخ ..
    ***
    يعجبنى التعبير : " إن ولادة اليوم الإبداعية هى حصاد إخصاب تم فى فترات سابقة " ..
    وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسير والحكايات الشعبية العربية من إمكانات ، مضمونية وشكلية ، فكتبت الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل واعترافات سيد القرية ، وغيرها ..
    لم ألجأ الى التراث مثلما يفعل علماء الآثار فى حفرياتهم . بل ان تلك الحفريات تصل الماضى بالحاضر على نحو ما ، تجعل السلسلة متصلة الحلقات . التراث اشتباك فنى ـ ودلالى ـ بين موتيفات الماضى والواقع المعاش . توظيف التراث لا يعنى ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش ، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه . أذكّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه فى ألف ليلة وليلة كمن يستوحى عملاً قديماً لاستغلاله عصرياً ، أى أن عينه كانت دائماً على الحاضر ( 22 )
    إن توظيف التراث يجد قيمته فى التفسير المعاصر ، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان فى صورة الماضى ، فهى خالية من الروح . وبتعبير آخر ، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذى نحياه [ أرفض كلمة " الإسقاط " ، وأرفض تسمية الأدب السياحى ] ( 23 ) ، وعادة ، فإن التراث ـ الشفاهى بخاصة ـ يتعرض لعمليات انتقاء ، قد تكون إلى الأفضل أو الى الأسوأ ، لكنها عمليات اختيار يعبّر عن العصر ، والفترة ، ومايستهدف الراوى توصيله . بل إن الرواية المعاصرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية ، والأبطال التاريخيين ، وإنما تجاوزت ذلك الى توظيف لغة التراث التاريخى نفسه ، لغة المقريزى وابن اياس والسيوطى وغيرهم ، وان كنت أتحفظ على ذلك لسبب مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب الى لغة الصحافة فى زماننا الحالى . أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء ، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة " إذ لاشئ من هذا فيها " ( 24 ) . على المبدع العربى أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها ، ثم يعيد صياغتها فى قالب جديد ، بحيث يصبح التراث مصدراً للاستعارات والرموز والنماذج العليا التى تعبر عن الحساسية العربية الحديثة ، وتشكلها فى آن واحد ( 25 ) . وفى تقديرى أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هى أهم الروايات العربية إطلاقاً ، لأنها رواية عربية بالفعل . لم تحاول المحاكاة ولا التقليد فى أى من مقوماتها . أفاد نجيب محفوظ فى روايته من الفنون العربية فى الزخرفة والعمارة ، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسير الأبطال ، ومن التاريخ . " الحرافيش " توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية ، ولكن اللغة التى صيغت بها عصرية تنتمى إلى زماننا الحالى ، لغة صوفية ، أو أفادت من الشعر ..
    أنا لا أحاكى النص التاريخى ، لا أحاكى مفرداته ولا جمله ولا تركيباته اللغوية عموماً . لا أنتقل بنصى الإبداعى الخاص إلى عصور سابقة ، وإنما أحاول ـ ما أتاحت لى موهبتى ـ أن أصوغ الوقائع ، وأصور الشخصيات فى لغة العصر الذى أنتمى إليه ..
    من المهم أن تعبّر اللغة عن العصر الذى كتبت فيه ، وليس العصر الذى صورته ..
    ـ 2 ـ
    إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضى ، والتشبث به ، فإنى أرفض ـ فى الوقت نفسه ـ شعور النقص أو الدونية . أشير إلى تأثر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربى من سيرة وحكاية ورواية وغيرها ، مثل سير عنترة وسيف بن ذى يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذرى وروايات المعرى وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع إلخ . أذكرك بقول كرتشكوتسكى " إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربى التى استطاع أجدادنا التعرف عليها فى القرن الثامن عشر " ( 26 ) . وقد تحولت قصة ابن طفيل " حى بن يقظان " إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو ، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية ، وسماّها " روبنسون كروزو " ، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية ، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون ـ وفى مكتبتى مؤلف عن التاريخ الجنسى لروبنسون كروزو ـ وأنتج الغرب العديد من الأفلام التى تتناول قصة روبنسون كروزو فى قالب المغامرة ، وتناست الأقلام ـ وبعضها ، للأسف ، تكتب بالعربية ـ الأصل العربى لقصة ديفو ، وهو نص ينبض بدلالات عميقة ، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة !
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  6. #30  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة . إنه لعنة ألف ليلة وليلة . من يقرأ الكتاب يحل عليه ـ فى نهاية عام القراءة ـ مصيبة تدمر حياته . وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطاً لمئات السنين ..
    لم يعرف لحكايات ألف ليلة مؤلف محدد ، ولا جامع للحكايات ، ولا مترجم ، أو مترجمون ، إلى اللغة العربية . إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر . تقول مقدمة الطبعة الرابعة التى صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه " ليس لهذا الكتاب من كاتب " . وثمة من أكد أن المؤلف سورى " وضعه بلغة مبسطة سهلة ، متوخياً تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخى الاقتراب إلى أفهام الناس " ( 27 ) ، ورأى بأن أصل الكتاب هندى ( 28 ) ، ورأى ثالث بأن الكتاب هندى مطعّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل ( 29 ) . وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها ، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد ( 30 ) . إنها لم تتجمد فى صيغة ثابتة ، لأنه لم يكتبها شخص واحد . تعاقب على الإضافة فيها ، وعلى الحذف والتعديل والتبديل ، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة . ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جمعت ما بين عامى 1517 ـ 1526 م . ويستند فى اجتهاده إلى أنه قد ورد فى الكتاب ذكر القهوة والباب العالى ودواوين الحكومة فى الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفاً قبل تلك الفترة ، فضلاً عن أن القهوة لم تكن قد عرفت فى الشرق قبل ذلك التاريخ . ولعله يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت ـ فى الأعوام التالية لترجمتها ـ جزءاً أساسياً من الثقافات الغربية ، وأضافت إلى الإبداع الأوروبى ما لم يحققه عمل آخر ، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية . أقدر قول فاروق خورشيد : " إذا كان العالم قد ظل ـ منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن ، يعيش فى أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية ، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد ، ولهذه الحضارة العربية الحديثة ، يجب أن يؤديه حباً واحتراماً لأصحاب الفضل فيه " . لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبى تأثيرات متنوعة وكثيرة فى المسرحيات والقصص ، والشعر الغنائى والمسرحيات الغنائية . وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية ، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة ، واعتبرت حكاية " التفاحات الثلاث " ـ ألف ليلة ـ هى الأصل فى نشأة الرواية البوليسية . وعظم تأثير ألف ليلة وليلة فى أواخر القرن الثامن عشر ، ثم طوال العهد الرومانتيكى [ دعك من الصور المشوهة التى حاول الغرب استيحائها ، أو الصاقها ، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة ] فثمة مسرحيتان ليوجين سكريب هما " على بابا " و " المصباح الصغير العجيب " ، وثمة التأثير المؤكد على روايتى بلزاك الجلد المسحور وزنبقة الوادى " ومسرحية فونتين ألف مسرح ومسرح . كما قدم شارل ايتين مسرحية علاء الدين والمصباح العجيب ، وقدم موران دى بومبينى المصباح الرائع ، وكتب بيير كارموش المصباح العجيب ، وألف تيودور كونيار مسرحية على بابا ومسرحية ألف ليلة . وهناك ألف ساعة وربع ساعة و قصص صينية لجيوليت ، وقصص شرقية " لكايلوس ، وحب أنس الوجود لكلود ايتين سافارى .. ونحن نجد ظلاً لحكاية العبد الدميم ، القذر ، القاسى ، فى حكايات ألف ليلة وليلة ، فى رواية إميل زولا نانا . وفى تقدير جبرا ابراهيم جبرا أن " استخدام التكنيك المتعدد الطبقات ، وتفتيت الزمن ، والاهتمام بحياة الفرد فى المجتمع ـ وهى كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة ـ كل هذه موجودة فى ألف ليلة وليلة " ( 31 ) . أما السينما العالمية ، فقد قدمت العديد من الأفلام علاء الدين والفانوس السحرى ، على بابا ، السندباد البحرى المأخوذة عن حكايات ألف ليلة : لص بغداد ، حكايات ، إلخ
    ***
    كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا فى مرايا الآخرين ، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب . وكانت ألف ليلة وليلة مهملة فى حياتنا ، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتاب للتسلية . فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبى منها ، حاكيناه فى استلهاماته ، وأعلنا نفس الإعجاب الذى خص به كتاب الغرب " ألف ليلة وليلة " ..
    ولعلى أوافق على القول بإنه إذا كنا لا نعرف ـ تحديداً ـ من هو مؤلف ألف ليلة وليلة ، ومن حوّرها وأضاف إليها ، فإن المهم هو أنها كتبت بالعربية ، عن المجتمع العربى ، والمواطن العربى . حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى . والمثل شكسبير الذى استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير انجليزية ، وإن ظل فنه ـ فى النهاية ـ إنجليزياً صرفاً ، بقدر ما كان الفن فى ألف ليلة عربياً صرفاً ..
    لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره . وأعلن فولتير أنه لم يبدأ فى كتابة القصة إلاّ بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد ـ ثانية ـ لذة قراءة ألف ليلة . واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت فى مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب . كما اعترف هيرمين ميلفيل ان ألف ليلة وليلة هى التى أطلقت خياله ، وأصدرت العالمة الألمانية كاترينا مومزن كتاباً بعنوان " جوتة وألف ليلة وليلة " أكدت فيه تأثر جوتة بألف ليلة وليلة فى أعماله المختلفة ، ومن بينها فاوست . ويقول " لى هانت " : " تعد الليالى العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب فى العالم ، لا لسبب أن المتعة فيها فقط ، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيّر وتقلّب لا نهاية لها ، ولأن المتعة فى متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال " . ويعترف والتر سكوت : " إنى أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع فى الحسبان ذكريات طفولتى عن قصص ألف ليلة وليلة . أما بورخيس فيعزو تأثره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته فى أعماله إلى أنه قرأهامن أولها إلى آخرها " احتشدت بالسحر . كنت مأخوذاً به " . ( 32 ) . أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال : ما أهم الكتب التى قرأها ؟. يقول : ألف ليلة وليلة ، الملك أوديب لسوفلوكليس ، موبى ديك لملفيل . هكذا بالترتيب . ألف ليلة وليلة ـ القول لماركيث ـ هى الكتاب الأول الذى قرأه فى حياته ، وقد أثر ـ فيما بعد ـ تأثيراً مباشراً على كل كتاباته " " أنا بدأت من الأدب العربى ، من ألف ليلة وليلة بالذات . لقد بدأت من هناك ، ولم أنته بعد . ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته فى حياتى . وجدته فى البيت الذى نشأت فيه ، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك ، لكنى أذكر أنها حوت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد . وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتنى بالأدب منذ ذلك الحين " ( 33 ) . لقد وقفت مذهولاً أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبى بكثير من الحس الطبيعى المطلق الذى ربما لا يوجد ـ فى تقديرى ـ من يملك أسراره غير العرب ( 34 ) . ويقول اليوغوسلافى رادى يوجوفتش إن " أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفولكورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية فى آدابنا الشعبية قبل كل شئ " ( 35 ) . وهو ما توصلت إليه اليوغوسلافية " نيفنا كرستيتش " فى دراسة مطولة لها عن الموتيفات المشتركة فى ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية : وجود 57 موتيفاً مشتركاً تعكس تأثير القصص العربى على القصص الشعبى اليوغوسلافى . وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى فى العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكونى فى شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة ( 36 ) . فلعلى أذكر ـ أخيراً ـ قول شوفان : " من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التى تأثرت قليلاً أو كثيراً بألف ليلة وليلة "
    ***
    من البديهى أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة . إنها معلم مهم ومؤثر فى فننا الروائى والقصصى ، فضلاً عن تأثيرها المؤكد فى فن القصة فى العالم جميعاً [ يشير جبرا ابراهيم جبرا إلى أن أسلافنا ـ رحمهم الله ! ـ لم يعدوا ألف ليلة أدباً ـ مجلة " الأديب ـ يناير 1954 ، ويضيف ا . ل . رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة ، باعتبارها نمطاً من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية ، وغير جديرة بالاحترام ، لأنها عامية وسوقية ، وليست أدباً بأى حال من الأحوال ، إنما هى خليط من فولكلور الشارع صيغ بلغة سوقية ] ( 37 ) . وحسب اجتهادى الشخصى ، فإن ما سمّى بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة ، أساء إليها ، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية ، ومن عفوية الفن وبساطته . تحول الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية ، وعظية . وقد ظلت الحكايات موضعاً للرقابة والحذف والتبديل ، بدعوى المراعاة الأخلاقية ، وحورت فأصبحت غالبية حكاياتها أدباً للأطفال ـ مع إنها ليست كذلك ! ـ وظلت النظرة إلى النص الأصلى عموماً تنطوى على عدم الاحترام . وكما يرى جمال الدين بن الشيخ ، فإنه حتى فى زمننا الحالى ، فإن نصوص الليالى الألف لا ينظر إليها فى الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة ( 38 ) . بل إن موريس بلانشو يجد فى الليالى الألف ما يخاطب القارئ الأوروبى ابتداء . فهو يتساءل : كيف أمكن لليالى أن تتحدث إلى العرب ؟.. فى باله ـ بالطبع ـ آلاف المحظورات والنواهى ومحاولات وأد التخيل . يضيف بلانشو " إنها تتحدث إلينا " ( 39 )
    والحق أن تأكيدى على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة ، لا يعنى أن نظرتنا إليها قاصرة فى إطلاقها . ثمة من يجدون فيها أثراً أدبياً يستحق الكثير من الدرس والاهتمام . أستاذتنا سهير القلماوى فى رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة ، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزاً مهماً لعناية الغرب بالشرق ، عناية تتعدى النواحى الاستعمارية والتجارية والسياسية " بل لسنا نغالى إذا أرجعنا كثيراً من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلاً ومن بعده كثيراً إلى زيارة هذه البلاد الشرقية " . وأشير إلى أن الروائى ودارس التراث الشعبى فاروق خورشيد يخصص فى مكتبه ـ منذ فترة طويلة ـ جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة ، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين ، يناقشون الحكايات ، ويحللونها ، ويعرضون لجوانب الإبداع الفنى فيها ، والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة فى اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها " مزيج غنى من الواقع والرمز ، فهى تصور حضارة عصر معين ، وفى الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقاً ، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة ، والكثير مما فيه ضرب من الحوادث الحلمية ، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق فى أحلام اليقظة . ومع ذلك ، فإن ذلك المجهول الذى جمع الحكايات بين دفتى كتاب واحد ، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية ، فجعل من شهريار ـ بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه ـ ملكاً أحكم وأعدل من ذى قبل ، وبذلك دلل على حقيقة رددها فى الغرب نقاد كثيرون ، وهى أن الأدب ينشط المخيلة ، والمخيلة النشيطة تيسّر على المرء إدراك حالات الغير ، وبالتالى فهمهم وحبهم " ( 40 ) .
    ***
    يقول ليتمان : إن النواة الأصلية لكتاب " ألف ليلة وليلة " مأخوذة عن كتاب قصصى فارسى يعرف بكتاب هزاز أفسانه [ ألف خرافة ] ربما نقل إلى العربية فى القرن الثالث الهجرى ، وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندى . ويضيف : " على هذا فإن هذه القصص التى أخذت من كتاب هزاز أفسانه هى التى تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة ، ثم تجمعت حول هذه النواة فى أرض عربية ، طبقات مختلفة من الحكايات " . أما الألمانى فالتر فيبكه فيذهب إلى أن " حواديت ألف ليلة وليلة " لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس ، إنما هى أساطير جالت وصالت فى دول المشرق العربى والشرق الأقصى " . ويتساءل ماكدونالد : " من هو ذلك الفنان ، أو الفنانون المصريون ـ حدد الرجل الجنسية ! ـ الذين كتبوا قصص معروف وجودر وأبو قير ؟ ومن الذى ابتكر حكايات الأحدب ، وحكاية مزين بغداد ؟ ومن هو الذى كتب قصة علاء الدين بالعربية ؟ . إن هذه الحكايات جميعاً فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما فى القصص الفارسى أو الهندى من بعد عن الواقع " ( 41 )
    وتخلصاً من مشكلة مؤلف الحكايات : هل هو كاتب واحد أو مجموعة كتاب ، وهل الحكايات ذات أصل فارسى أو هندى عربى أو مصرى .. فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسى ـ هندى ـ بغدادى ـ مصرى . ربما لأن أحداث الحكايات دارت فى هذه البلدان . لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد ، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين ، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث . وبصرف النظر عن الاجتهادات التى تختلففى أصول ألف ليلة : هل هى مقتبسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية ، أم هى مؤلف عربى مجهول ، فإن الليالى ـ بالصورة التى تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية ـ عربية المكان والزمان والقسمات ، فيما عدا بعض الهوامش التى لا تبدّل من الملامح الأساسية . إن للثقافات العالمية دورها الذى يصعب إغفاله فى رواية الليالى الألف ، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس فى " إبداع " ذلك الإنجاز العالمى المهم . وكما يقول الباحث العراقى عبد الغنى الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة ، بالإضافة إلى كونه نابعاً من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة ، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة ، فإن للعرب الدور الأكبر فى تسجيله ، وإخراجه بشكله النهائى ، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة ( 42 )
    والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل ـ بالفعل ـ بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة ، فضلاً عن المجتمعات العربية التى تخلقت بعد ظهور الإسلام ، وهو ما سمى بالأجزاء البغدادية ، أو المصرية . لكن ألف ليلة تظل أثراً اسلامياً ، ينتصر للدين الإسلامى ، وللشخصيات الإسلامية ، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامى : المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز ، وانطلاقات المكان فى بلاد ومدن اسلامية ، هى القاهرة والبصرة والبغداد والشام وغيرها ، وشخصيات تحيا فى تلك البلاد والمدن ، فثمة السلطان والوزير وعالم الدين والقاضى والصياد والحمّال والحشاش واللص والجندى والصيرفى والنخاس والجندى والدلاّلة والصانع ، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء إلخ . فضلاً عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب . لقد وضعت ألف ليلة ـ للمرة الأولى ـ فى مدينة إسلامية ، ثم انتقلت إلى مدينة اسلامية أخرى ، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف واضافة ، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى ، فى عصور تالية ، وأدخلت عليها حكايات جديدة ، فجاءت الليالى الألف تعبيراً عن الحياة فى امتداد العالم الإسلامى . ويلاحظ قاسم عبده قاسم ان فارس وأجزاء كبيرة من الهند ، كانت ـ ولا تزال ـ ضمن دار الإسلام . وكانت الثقافة العربية هى ثقافة المسلمين فى تلك المناطق ( 43 )
    لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية ، أو تنسلخ صفتها العربية منها . " إن ألف ليلة " حكايات عربية ، كانت تلبى حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس فى العالم العربى آنذاك ، كما كانت تعبيراً عن جوانب هامة من حياة الفرد العربى فى تلك الفترة " ( 44 ) . ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة " تشكلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهى . فقد أضيفت مواد ، إما عن طريق المصادفة ، أو توافق الظروف ، ولكن لكى تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها . وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا فى تشكيل الحكايات ، فى حين صقلها الرواة " ( 45 ) [ ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثانى الهجرى ـ هلال ناجى ـ المورد جـ45 العدد 2 المجلد 2 ]
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  7. #31  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لقد جمعت ألف ليلة موروثاُ هائلاً من الحكايات والخرافات والحواديت . وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلى ، وما سبق ، وإما من الشعوب التى عرفها العرب ، واحتكوا بها ، مثل فارس والهند واليونان وغيرها . لكن الموهبة العربية ـ والمصرية بخاصة ـ تظل غالبة ، ذلك " لأن الهندى يحكى ويبالغ ويكدس مايرويه ، أما العربى فإنه يرسم ويتأنى ، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية " . ويقول حسين فوزى : " أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصرى فى الكثير من قصصه " ( 46 ) . ويذهب المستشرق " نولد كافه " إلى أن حكايات الصعاليك فى ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصرى خالص . بل إن الكاتب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف ـ وإسهاماته فى دراسة الأدب الشعبى رائدة ومتفردة وثرية ، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة ! ـ يؤكد أن القاهرة هى موطن ألف ليلة وليلة ، وفيها صنعت قصص هذا الكتاب وصيغت فى سردها القصصى المعروف . ويقول " جالان " فى مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة ، إن " ألف ليلة وليلة هى الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة ، وانها الصورة الصادقة له ، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق ، ورآه ، ولمسه لمس اليد " . ويقول فون ديرلاين : " هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة " ، فهى حكايات عربية إذن .
    ـ 3 ـ
    استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة . أذكّرك بأحلام شهرزاد لطه حسين ، وشهرزاد للحكيم ، وشهرزاد لباكثير ، والقصر المسحور لطه حسين والحكيم ، ورحلات السندباد لخليل حاوى ، وشهريار لعمر النص ، ورحلات السندباد السبع لأحمد هاشم الشريف وغيرها . ومع إن توظيف نجيب محفوظ لليالى الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التى ظفر بها معظم أعمال محفوظ ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب ( 47 ) . يقول : " ألف ليلة تحولت معى ، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات ، إلى الحاضر . ويشبه ذلك ما فعله بعض الكتاب حين تناولوا أسطورة أوديب ، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة " ( 48 )
    وإذا كانت معظم الإبداعات التى حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت ـ بداية لأحداثها ـ الليلة الثانية بعد الألف ، فإن روايتى زهرة الصباح تبدأ فى الليلة الأولى بعد الألف ، ثم تمضى أحداث زهرة الصباح فى موازاة أحداث ألف ليلة وليلة . تروى الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلى ، مثلما تروى الثانية حكاية شهرزاد وشهريار ..
    رواية زهرة الصباح محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة فى عمل معاصر ، وإن ظلت ليالى ألف ليلة إطاراً له . زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار ، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد ، تنتظر دورها ، إما أن يمل شهريار الحكى ، أو تخفق شهرزاد . وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل مايقرأه ويستمع اليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية ، تحفظها حتى تبقى على حياتها لو حل عليها الدور . وأثناء ذلك أيضاً ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلى الملوانى ، الشاب المقيم فى البيت المقابل . ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب ، ويتم زواجهما فى السر ، ويحيا الشاب فى قصر أبيها باعتباره خادماً ، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها ، مما يقرأه ويسمعه ، فى الوقت الذى تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار ، مقابلاً لإصراره على قتل بنات الناس . ويواجه شهريار ـ فى النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة ، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء . وهو ماحدث فى ألف ليلة وليلة بالفعل . ويعود شهريار عن غيه ، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء ، والسؤال يشغل الجميع : هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس ، أو أن الكلمة قد أثرت فيه من خلال حكايات الليالى الألف ، فتبدلت أحواله . أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته . وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد ، ويعترف بأبنائه الثلاثة ، تكون هى حاملاً من زوجها سعد الداخلى
    ***
    كانت دنيا زاد هى الفتاة التالية لشهرزاد فى ألف ليلة . أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هى التالية لشهرزاد فى روايتى . ليس ثمة دنيا زاد فى الرواية ، وهذا ـ كما تعرف ـ حق الفنان . الفن اختيار ومخيّلة . وقد حاول كل من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته ، أو يرجئ ـ فى الأقل ـ وصولها إلى بقعة الدم ، ولكن الوسائل اختلفت ، فقد حاول الوزير أن يثبّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك . وهى ـ كما ترى ـ كانت محاولة يائسة ، وإن يفسّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته . أما عبد النبى المتبولى فقد لجأ إلى المتاح ، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكى ، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم ، فى الليلة التى لا تجد فيه ما ترويه ، أو يشعر شهريار بالملل . وفى الليالى الألف تتداخل الحكايات : شهرزاد هى الراوية لحكايات متوالية ، ننسى بعضها ، ونتذكر بعضها . أما رواية زهرة الصباح فهى تروى لنا حكاية واحدة ، هى التى تهمنا ، وليست الحكايات التى ترافق أيامها ، سواء نسبت إلى شهرزاد ، أو إلى قضايا الناس ، أو سير الرواة [ بالنسبة للشكل ، فإنى أتأمل ملاحظة صديقى أحمد درويش ، وأوافق عليها ، بامتزاج الحاكى والراوى فى " زهرة الصباح " ، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم ـ تقنيات الفن القصصى عبر الحاكى والراوى ص 258 ]
    ***
    ثمة وصف لشهرزاد بأنها " فتاة فدائية ، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذى فتك ببنات المدينة ، أرادت أن تغويهن ، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف ، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع " ( 49 ) . أما توفيق الحكيم فيجد فى شهرزاد استمراراً لإيزيس . بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه ، وأعادت الحياة إلى انسانيته ، تعلم من أحاديثها وقصصها ، وعادت إليه نفسه ( 50 ) . ولعل ذلك بعض ماعبرت عنه زهرة الصباح ، لكنه لم يكن كل ما حملته .
    ألحت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة ، اتساقاً مع الثقافة العربية التى يرى جمال الدين بن شيخ انها تحمل مسئولية التعاسة للمرأة ( 51 ) . أما حكايات زهرة الصباح ، فقد قدمت المرأة فى صورة مغايرة ، همها البيت والأسرة والحياة التى تخلو من المعايب ، ومن الخوف ..
    إن زهرة الصباح تحيا فى الرواية . تسأل ، وتجيب ، وتنظر من الشرفة ، وتخرج إلى السوق ، وإلى الحمام ، وتحب ، وتتزوج . وشهرزاد فى روايتى لها كذلك ملامحها الواضحة التى يتعرف القارئ اليها ، بعكس شهرزاد فى الليالى ، فإنها مجرد صوت يروى . حتى تنتهى الليلة الواحدة بعد الألف ، وان تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التى كانت ترتديها فى كل ليلة لنماذج النساء اللائى كانت تقدمهن فى كل ليلة ( 52 )
    أفادت شهرزاد من الحكايات التى جمعتها من الكتب ، وهى كتب فى التاريخ والشعر والطب وأقوال الحكماء والملوك ، أفادت من الذاكرة المكتوبة . أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة ـ والفضل لأبيها عبد النبى المتبولى ـ فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار ، والتى كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح ، فإنه نقل حكايات الرواية فى الأسواق والطريف من القضايا التى عرضت عليه ..
    جعل عبد النبى المتبولى نفسه فى موضع ابنته زهرة الصباح ، فأدرك أن الراوى الماهر ـ ترقباً لما سيحدث ، أو قد يحدث ـ " من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات ، ويعرف كيف يرويها . الراوى الماهر كذلك هو الذى يعرف من أين يتزود بالحكايات ، ويعرف بالتالى من يقصده فى حالة الخصاصة بغية الحصول على حكايات جديدة " ( 53 ) . وكما يقول رولان بارت فإن " حكايات العالم لا حصر لها . تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته ، الذى يتفرق فى كيانات مختلفة ، كما لو أن كل مادة فى الكون صالحة لأن يودع الإنسان فيها حكاياته . فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة ، شفوية أو كتابية ، أو تحمله الإشارة ، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات ( 54 )
    ***
    شفى شهريار من مرض الحقد والرغبة فى الانتقام ، وشفى المتبولى من أمراض كثيرة كانت هى التى تسيّر حياته ، وتملى عليه أقواله وتصرفاته . وكانت الحكايات ، الكلمات ، هى الدواء الناجع لكلا الرجلين . وتبين أهمية الكلمة فى حياة كل من شهرزاد وشهريار ، عندما روت الحكاية عن الملك الذى أراد أن يضاجع جارية وزيره ، فقالت له الجارية : هذا الأمر لا يفوتنا ، ولكن صبراً أيها الملك ، وأقم عندى هذا اليوم كله ، حتى أصنع لك شيئاً تأكله . وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحكم التى تنهى عن الزنا ، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصى . لذلك كان حرص شهريار على الكتاب ، فهو يعنى بالكتب ، ويسرف فى اقتنائها واقتناء المخطوطات ، ويمضى نهاره فى المكتبة ، يختلى بنفسه ، يطلب دواة وأوراقاً ، وينشغل فى الكتابة والتأليف فى نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث . وصار يعقد الكثير من جلساته فى قاعة المكتبة ، بعد إعادة تأثيثها ، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء ، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق ، ينصت كثيراً ، ولا يتكلم إلاّ قليلاً ، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضع ظاهر ، يبين عن حبه للعلم والعلماء فى هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه . ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النساخين ، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار ، ويكتبونها بماء الذهب ، فتحفظ فى خزائن الدولة ..
    إن معجزة الإسلام هى القرآن الكريم . لكل نبى معجزاته التى أقنعت المؤمنين به أنه نبى من الله . أما رسول الإسلام ( ص ) فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التى تحدت من يستطيع أن يأتى بمثلها . والقرآن الكريم قوامه الكلمة ، ففى الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة ، وفى الكلمة أيضاً تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحكم وعبر وعظات " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " ..
    لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات ، لكنها كانت تحاول ـ بتلك الحكايات ـ أن تضيف إلى كل يوم فى حياتها يوماً جديداً ، ولعلها كانت تثق فى داخلها أنها ستموت ، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية . وقد فقدت شهرزاد فى الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكى ، أو الرغبة فيه ، أو لأنها لم تعتد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم ، وترغب فى أن تتعرف على مصيرها نهائياً ، وخلال ليلة تكون هى الليلة الحاسمة ( 56 ) . وإذا كانت الطبعة التى قال فيها شهريار لشهرزاد فى الليلة الحادية بعد الألف : كفى ، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه ، وتتوقعه فى الوقت نفسه ، وهو تسرب الملل إلى نفس شهريار .. إذا كانت تلك الطبعة هى الصحيحة ، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلاً من شهرزاد ، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة .
    كان الهدف من حكاية القصص فى ألف ليلة وليلة ـ كما يقول يوسف الشارونى ـ هو التغلب على الوقت والزمن . وقد أتاحت الحكايات / الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل ، حتى كسبتها فى النهاية ، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها . أما الهدف من حكاية القصص فى زهرة الصباح فهو تأجيل الموت . لقد تغلب الإنسان على الخوف ، وتغلبت الحياة على الموت . أتذكر قول رامان سلدن : " إن بقاء الراوى ـ شهرزاد ـ فى ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمروى عليه ـ شهريار ـ ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فقد اهتمامه بما ترويه ( 57 )
    أفلحت شهرزاد فى تخليص شهريار من جنونه ، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها ، بحيث وضعته فى حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت من شفاء حقده وضغينته ، وتمكنت بالتالى من إنقاذ البشرية ( 58 ) . أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة فى ظل الخوف . تأجل ـ بحكايات شهرزاد ـ ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير ، لكن الحكايات ـ فى الحقيقة ـ لم تستطع أن تزيل الخوف الذى ظل فى نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد ..
    واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة . أما زهرة الصباح ، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبت وتزوجت ، واستعدت للإنجاب ..
    ***
    أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة ، فهى تختلف ـ فى مجموعها ـ عن شخصيات التاريخ العربى المكتوب . إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين ، هؤلاء الذين نلتقى بهم فى البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات . من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم . ثمة الشيالون والإسكافية والصيادون والحلاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة . إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقى للفترات التى عاشوا فيها ، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين إلخ ..
    إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية زهرة الصباح " ، وكانوا ـ من قبل ـ الأبطال الحقيقيين لروايات الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل ، تخفت ـ أمام جهارة أصواتهم ـ أصوات المقيمين فى القصور .
    الكاتب العربى أغسطس 1999 ـ فكر وإبداع مارس 2000
    ــــــــــ
    الهوامش :
    1 ـ ت . عاصم إسماعيل ـ آفاق عربية مارس 1985
    2 ـ الهوية والتراث ص 103
    3 ـ العربى مارس 1975
    4 ـ ثقافتنا فى مواجهة العصر ص 54
    5 ـ الأهرام 3/3/1994
    6 ـ زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ص 6
    7 ـ المجلة 2/3/1988
    8 ـ فؤاد حسنين على : قصصنا الشعبى ص 65
    9 ـ رفعت سلام : بحثاً عن التراث العربى ص 20
    10 ـ صبرى العسكرى ـ الأهرام 29/5/1988
    11 ـ ميلان كونديرا : الطفل المنبوذ ـ ت . رانيا خلاف ص 400
    12 ـ البلاغ اليومى 12 يناير 1932
    13 ـ مجلة " الأديب " فبراير 1950
    14 ـ قصصنا الشعبى ص 31
    15 ـ الأعمال الكاملة لشوقى عبد الحكيم ـ جـ 2 ص 65
    16 ـ المتواليات ص 72
    17 ـ ألان روب جرييه : لقطات ـ ت . عبد الحميد إبراهيم ص 65
    18 ـ سامية محرز : روايات عربية ، قراءة مقارنة ص 65
    19 ـ أ . ل . رانيلا : الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 258
    20 ـ تجديد الفكر العربى ـ ص 292
    21 ـ المرجع السابق ص 292
    22 ـ الرأى الأردنية 22/3/1983
    23 ـ الأهرام 29/5/1988
    24 ـ عبد الرحمن مجيد الربيعى : الخروج من بيت الطاعة ص 105
    25 ـ روايات عربية ص 17
    26 ـ لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعاً ، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام 1704 . كما ترجمت حى بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامى 1671 : 1783
    27 ـ الشيراوى ـ مقدمة الطبعة الفارسية
    28 ـ هوم وشيكل ـ الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية
    29 ـ المصدر السابق
    30 ـ المسعودى : مروج الذهب جـ 4 ص 90
    31 ـ العربى مايو 1984
    32 ـ حوار مع بورخيس ـ الثقافة الأجنبية 2/1984
    33 ـ الوطن العربى العدد 277
    34 ـ المرجع السابق
    35 ـ آفاق عربية مارس 1985
    36 ـ الموسوعة الإسلامية طـ 2 جـ 1 ص 209 : 210
    37 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 302
    38 ـ جمال الدين بن الشيخ : ألف ليلة وليلة ، أو القول الأسير ـ ت . محمد برادة ـ المجلس الأعلى للثقافة ص 28
    39 ـ المرجع السابق ص 20
    40 ـ مجلة " الأديب " يناير 1954
    41 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 94
    42 ـ رحلة فى ألف ليلة وليلة ص 8
    43 ـ قاسم عبده قاسم : الرؤية الشعبية للحروب الصليبية ـ المأثورات الشعبية إبريل 1987
    44 ـ المرجع السابق
    45 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 315
    46 ـ سندباد مصرى ص 269
    47 ـ الأهرام 20/10/1988
    48 ـ الرأى الأردنية 22/3/1982
    49 ـ الدوحة نوفمبر 1985
    50 ـ تحت المصباح الأخضر ص 131
    51 ـ ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ص 34
    52 ـ نبيلة إبراهيم : المرأة ذات الألف وجه فى ألف ليلة وليلة ـ أدب ونقد مايو 1966
    53 ـ عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة ـ ت . مصطفى النحال ص 32
    54 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 21
    55 ـ الإسراء ـ 88
    56 ـ العين والإبرة ص 31
    57 ـ رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ـ ت جابر عصفور ص 204
    58 ـ العين والإبرة ص 16
    رد مع اقتباس  
     

  8. #32  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ماذا يريد الكاتب ؟
    ..............

    " الفن .. مقلق أبداً ، ثورى دوماً "
    هربرت ريد
    " الأدب عالم مغاير "
    الفيلسوف بومجارتن
    " لا توجد وظيفة أكثر نبلاً من وظيفة الكاتب . إنه الكائن الذى يقود ، يعمل بريشته ، وريشته تصنع الفرق بينه وبين من يمسك بالمجداف "
    مقولة فرعونية
    " إن الكلمات هى غدارات محشوة "
    الكاتب الفرنسى بريسباران
    " لست إلا أديباً ، ولا أستطيع ، ولا أريد أن أكون شيئاً آخر "
    فرانز كافكا
    لماذا أكتب ؟
    لم أعن بتوجيه السؤال إلى نفسى أو مناقشته . نشأت فى بيئة تدفع إلى القراءة والكتابة ، مكتبة زاخرة بمئات الكتب ، وأب جعل القراءة حرفته وهوايته ، ومناقشات لا تنتهى فى السياسة والاقتصاد والثقافة بين أبى وأصدقائه . أشارك فيها ـ أحياناً ـ بما يدفع الأصدقاء إلى هز رءوسهم بالإعجاب ، أو بما يدفع أبى إلى إسكاتى ، لسذاجة آرائى .
    نشأت وأنا أقرأ وأكتب ، فغاب السؤال ، لأن الفعل سبق تقصى البواعث . وحين واجهنى السؤال ، بدأت التفكير فى إجابة لم أكن فكرت فيها من قبل ، ولا تدبرتها ، لأنى حين بدأت القراءة الأدبية ، فالكتابة ، لم أكن طرحت على نفسى أسئلة من أى نوع .
    والحق أنى لا أذكر متى حاولت الكتابة للمرة الأولى . كانت أيام طه حسين هى أول ما قرأت من أعمال أدبية . أذكر اليوم والظروف وتأثيرات القراءة . أما بدايتى الأدبية ، أول ما كتبت ، فإنى لا أذكر متى ولا كيف ، وهل عرضت محاولتى على آخرين ، أو أنى لجأت ـ عقب الكتابة ـ إلى تمزيقها .
    ***
    كانت القصيدة الشعرية هى أول ما كتبت . لم أكن تعلمت الأوزان ، فلجأت إلى المحاكاة . قصيدة الرثاء التى كتبها شوقى ـ مثلاً ـ تتحول إلى قصيدة مناجاة للحبيبة ، القصيدة البرمكية الشهيرة : قل للخليفة ذى الصنيعة والعطايا الفاشية .. وابن الخلائف من قريش والملوك العالية .. إن البرامكة الذين رموا إليك بداهية .. صفر الوجوه عليهموا حلل المذلة بادية .. إلخ ، كتبت على منوالها : قل للحبيبة ، وكلمات أخرى باعثها التقليد ، فبديهى أن ابن الثامنة ، أو التاسعة ، لن يكون قد تعرف إلى حب الجنس الآخر بالمعنى الفرويدى ، أو حتى الأفلاطونى .
    ثم كتبت العديد من القصص وأنا فى المرحلة الأولية ، وهو ما أتصور أن الكثير من الأطفال ـ فى المرحلة السنية نفسها ـ يفعلونه ، لا شبهة نبوغ ، أو تفرد ، القضية هى فيما يلى هلاميات البداية .
    كنت أكتب قصصاً مما يبعث به الصغار إلى مجلات الأطفال ، فتنشرها بعد أن تهذبها ، أو تعيد كتابتها ، وقرأت محاولاتى لتلاميذ ـ وأحياناً : أساتذة ـ مدرسة البوصيرى الأولية . وعجل زميلى فى الدرج المجاور باحترافى ، حين أصر أن أكتب له قصة ، فلا يقرأها سواه ، ودفع المقابل مليمين ، كنت أسعد الناس بهما ، لا للقيمة المادية ، بل لأنى تقاضيت أجراً عما كتبته !
    ***
    كانت الملاك روايتى الأولى ، المطبوعة . توليفة مقلدة للمنفلوطى وطه حسين والمازنى والسباعى وعبد الحليم عبد الله وغيرهم ، تلتها رواية ظلال الغروب . توهمت ـ دون وعى حقيقى ـ أن الجنس مهم فى العمل الفنى، فحشوتها بمواقف جنسية زاعقة ، وغير مبررة ، فى حين كان قوام الرواية قصة حب ساذجة بين شاب وفتاة ، انتهت بموت الفتاة إثر مرض لم يمهلها . قصة أتيح لى معايشتها ، وكانت الفتاة الراحلة هى طرف العلاقة الآخر . ثم كتبت رواية باسم أين الطريق ؟ ، لا أذكر شيئاً من أحداثها ولا شخصياتها ، وإن كنت أذكر ـ بحب ـ محاولة صديقى المهندس صلاح شاهين ـ أحد قيادات الإخوان المسلمين بالإسكندرية ـ طباعتها على نفقته .
    إرهاصات ، أحتفظ بها فى مكتبى ، من قبيل الذكرى ، ولتلمس خطوات البداية . أما القصة التى أعتبرها بدايتى الحقيقية ، فهى " يا سلام " ، كتبتها فى 1956 ، ونشرتها ضمن مجموعتى " تلك اللحظة " .
    حاولت ـ بالطبع ـ أن أنشر محاولاتى الباكرة فى صحف الإسكندرية . قدمت الفصلين الأولين من روايتى " أين الطريق " إلى رئيس تحرير جريدة " العهد الجديد " ، وكانت تصدر كلما توافر لها من الإعلان ما يحقق الربح سلفاً ، ونشر الفصل الأول من الرواية فى الجريدة ، لكن رئيس التحرير دفع بالفصل الثانى إلى جريدة أخرى اسمها " الاتحاد المصرى " ، فنشرته . وعرفت أن الجريدتين تتبادلان النشر بما يسوّد بياض الصفحات ، ولأن القارئ الذى يتابع كان غائباً ، فقد كانت تكملة نشر مواد إحدى الجريدتين فى الأخرى مسألة واردة ، المهم أن تصدر الجريدة فور أن تتوافر لها الإعلانات التى تحقق لها الربح المسبق .
    بالمناسبة : لقد ضاعت مسودات تلك الرواية الباكرة . ومع أن صديقى صلاح شاهين قد تكفل بطباعة الجزء الأكبر من الرواية على نفقته ، ولم يطبع الجزء الباقى لتكاسل منى ، لا لتقصير منه .. مع ذلك ، فإن كل ما يتعلق بتلك الرواية الباكرة يبدو فى ذاكرتى الآن كالأصداء البعيدة ، الاسم وحده هو ما أذكره الآن منها !
    ***
    الفن ـ الرواية والقصة على وجه التحديد ـ عالمى الذى أوثره بكل المودة ، أتمنى أن أخلص لهما ـ تجربة وقراءة ومحاولات للإبداع ـ دون أن تشغلنى اهتمامات مغايرة ، لكن الإبداع الروائى والقصصى فى بلادنا لا يؤكل عيشاً . ربما أتاحت رواية وحيدة فى الغرب لكاتبها أن يقضى بقية حياته بلا عوز مادى ، فيسافر ، ويتأمل ، ويقرأ ، ويخلو إلى قلمه وأوراقه ، دون خشية من الفقر ، وما يضمره من احتياجات .. لكن المقابل المحدد ، والمحدود ، الذى يتقاضاه المبدع فى بلادنا ثمناً لعمله ، يجعل التفرغ فنياً أمنية مستحيلة .
    لقد اعترف الروائى الإنجليزى فرانسيس كنج ـ فى بساطة وصراحة ـ أن السبب الحقيقى فى اتجاهه للنقد ، هو أنه من الصعب ـ فى بريطانيا ـ أن يحيا المرء على كتابة الروايات فحسب ، ومن ثم فقد اتجه ـ وعدد آخر من الروائيين البريطانيين ـ إلى كتابة النقد والدراسات الأدبية . فإذا كان ذلك هو ما يقدم عليه الروائيون فى الغرب ـ لظروف اقتصادية كما ترى ـ فماذا تتوقع من الروائيين العرب الذين يتقاضون ـ مقابلاً لأعمالهم ـ بما لا يكاد يصل إلى قيمة نقلها على الآلة الكاتبة ؟! [ هذه الكلمات ، قبل أن يستبدل الحاسوب بالآلة الكاتبة ، بالإضافة إلى تفشى جريمة الحصول من الأدباء على تكاليف النشر بدلاً من مكافأتهم ، ولو ببضع نسخ ! ]
    من هنا ، كان اختيارى ـ أو لجوئى ـ للصحافة ، فهى الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته ، وهمومه أيضاً . وكنت أتذكر المازنى وهو يجد فى كل ما يصادفه مادة صحفية ، بينما الفن وحده شاغله وهواه ، وكتبت فيما أعرفه ، واستعنت ـ بالقراءة ومحاولة الفهم والاقتراب المباشر ـ فيما لم أكن أعرفه . ووجدت فى حياتى الصحفية ـ أحياناً ـ ما يغرى بكتابة عمل أدبى : رواية النظر إلى أسفل مثلاً ، ورواية الأسوار ، ورواية الخليج " ، ورواية صيد العصارى " ، ورواية كوب شاى بالحليب وغيرها ، لكن الأدب ظل ـ بالرغم منى ـ تزجية فراغ . أحاول الكتابة إن وجدت فى أسوار الصحافة منفذاً . لذلك كان ترحيبى ـ متحسراً ـ بالسفر إلى سلطنة عمان ، للإشراف على إصدار جريدة " الوطن " . وكنت أمنى النفس بأن أدخر فى الغربة ما يعيننى على الإخلاص للفن وحده ، لكن الأمنية ظلت فى إطارها لا تجاوزه . وكان لابد أن أكتب فى موضوعات تقترب من الفن ، أو تبعد عنه . وحتى لا أفقد ذاتى فى سراديب مجهولة النهاية ، فقد فضلت أن تكون محاولاتى أقرب إلى ما يشغلنى بالفعل ، فى الفن ، وفى الحياة عموماً . وبصوت هامس ـ ما أمكن ـ فإن " مصر " ، الموطن واللحظة والماضى والمستقبل ، هى الشخصية الأهم فى كل إبداعاتى . ذلك ما أحرص عليه ، وما لاحظه حتى القارئ العادى . تعمدت أن تكون مصر : تاريخها وطبيعتها وناسها ومعاناتها وطموحها ، نبض كتاباتى جميعاً ، ما اتصل منها بالصحافة وما لم يتصل ، ما اقترب من الأدب وما لم يقترب ، وكانت حصيلة ذلك ـ كما تعرف ـ عشرات المقالات التى تتناول شؤوناً وشجوناً مصرية ، بدءاً بكتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى كتاب " مصر المكان " ، وربما إلى كتب أخرى تالية .
    لم تكن الصحافة إذن مدخلى إلى الأدب ، لكن الأدب كان مدخلى إلى الصحافة . أحببت الأدب ـ كما قلت لك ـ فى سن باكرة ، لا أستطيع تحديدها تماماً . ولما حاولت اختيار وظيفة أحيا من راتبها ، كانت الصحافة هى المهنة الأقرب إلى اهتماماتى الأدبية . أذكر قول أرسكين كالدويل : " لم يكن لدى طموح فى أن أجعل الصحافة مهنتى فى الحياة ، لكن عمل الصحافة هو الكتابة ، وكانت الكتابة هى الشيء الذى كنت أريد أن أتعلمه " ( ت سيد جاد ) . أقدمت على العمل فى الصحافة وفى خاطرى قول همنجواى " إن العمل الصحفى لن يؤذى الكاتب الناشئ إذا استطاع أن يتخلص منه فى الوقت المناسب . وكنت أدرك ـ كما أدرك تولستوى دوماً ـ أن أية مهنة لا يمكن أن تنتزعنى من الأدب . عاهدت نفسى ـ مثلما فعل كالدويل من قبل ـ على أن أى عمل أشتغل به غير الكتابة ، سوف يكون مؤقتاً ، لا لشيء إلا من أجل الاستمرار فى العيش ، والاحتفاظ بسقف فوق رأسى ، وبكساء فوق جسدى .
    قد تقتل الصحافة موهبة الأديب إن نسى نفسه ، وارتمى فى أمواجها . اخترت الصحافة لأنها أقرب المهن إلى طبيعة الأديب ، وإلى اهتماماته ، وحتى لا أصبح مثل جوليان سورل ـ بطل ستندال ـ فأواجه دائماً تلك المشكلة الأليمة التى تتمثل فى الوجبة التالية ، ومن أين آتى بها . إذا كنت قد حاولت الإجادة ، فلأنى أحاول الإجادة فى أى عمل أوافق على أدائه ، حتى لو لم أكن أحبه . مع ذلك ، فإنى أحاول أن أجعل معظم وقتى للأدب ، وأقله للصحافة . علمتنى ذلك تجربة السنوات التسع التى قضيتها مسئولاً عن تحرير " الوطن " . وحتى الآن ، فإن حلم كافكا يراودنى فى أن أستطيع الحصول من عمل أكتبه على ما يسد احتياجاتى ، لكى أفرغ لكتابة عمل آخر . حينذاك تكون كل آمالى فى الحياة قد تحققت .
    ***
    أستعيد ـ فى لحظات انشغالى ـ قول همنجواى " كلما ازداد الكاتب انغماساً فى عمله ، بعد عن أصدقائه ، وأصبح وحيداً " . ومع أن جابرييل جارثيا ماركيث يؤكد أن لحظات السعادة المطلقة ، والوحيدة ، لم يعشها إلا أثناء الكتابة ، فإن الكتابة ـ فى تقديره ـ أكثر المهن عزلة فى العالم " فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء فى كتابة ما يكتب " .
    من ناحيتى ، فأنا لا أعتزل الناس حتى فى لحظات الكتابة . إنهم شاغل ما أكتبه ، وسدى كلماته . وإذا كان بوريس بورسوف يؤكد أن أى فنان حقيقى ينطلق فى أعماله من تجربته الروحية الذاتية ، فالواقع أنى لا أكتب لنفسى ، لا أكتب لأودع ما أكتبه أحد الأدراج ، أو أمزقه بعد أن أنتهى منه ، وإنما أدفع به إلى الناشر ، سواء فى صحيفة أو كتاب . يشغلنى أن يرى النور ، أن يقرأه الناس ، ويفيدون ، أو يستمتعون به ، أو يناقشونه ، أو حتى لا يجدون فيه ما يستحق القراءة . نصحت بيرل باك كتاب الرواية ، أو من يريدون كتابة الرواية ، بألا يصبحوا ذلك إذا استطاعوا تجنبه . إن تأليف الروايات يستنفد حياة الروائى كلها ووجوده " وإذا لم يضح بحياته ووجوده وهو جذلان ، فعليه ألا يقدم على التضحية إطلاقاً " .. " لا توطن نفسك أبداً على أنك ستجنى مالاً من تأليفك رواية ، إنها أكبر مغامرة فى العالم ، إذا كنت عجوزاً أو قلقاً ، بل وإذا كنت قلقاً فقط ، أكتب الرواية إذا أحسست بأنه لابد أن تكتب رواية ، لكن اعتبر الأجر مصادفة سعيدة قد لا تحدث . احصل على جزائك من مجرد كتابتك لهذه الرواية ، وحاول أن تقنع بهذا " ( ملحق " المساء " الثقافى 30/12/1964 )
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  9. #33  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    الكاتب لا يخترع شخصياته . من الصعب أن تكون الشخصيات منبتة عن الواقع تماماً . بل إن كاتب نفسه ربما تصور أنه اخترع الشخصية ، والحقيقة ليست كذلك . إنه لو حلل الشخصية إلى عناصرها الأولى ، فلابد أن يجد فيها ملامح وقسمات من شخصيات عرفها بصورة مقيمة ، أو طارئة ، وربما قرأ عنها ، أو سمع بها ، دون أن يتاح له التعرف إليها مباشرة . وكما يقول ألبير كامى ، فلا يمكن أن تكون إحدى شخصيات العمل الفنى هى الفنان نفسه ، وإن ظل هناك احتمال بأن يكون الفنان فى آن واحد ، جميع الشخصيات التى خلقها . إن العمل الأدبى ـ على نحو ما ـ يحمل طابع السيرة الذاتية ، وعلى حد تعبير الناقد الروسى بوريس بورسوف ، فإن " الذى يكتب بشكل حقيقى ، هو من يفكر بنفسه ، وبكل شيء آخر فى آن معاً " .
    " أنا مدام بوفارى " ، عبارة لفلوبير . وفيما عدا استثناءات قليلة ، فإن رواياتى وقصصى ـ بدرجة أو أخرى ـ حياتى . لست أزعم ـ كما قال ألان روب جرييه عن نفسه ـ إن مذكراتى الحقيقية موجودة فى رواياتى ، لكن معظم أعمالى ـ إن لم يكن جميعها ـ تنطلق من تجربتى الشخصية ، وإن صعب القول إنه يمكن اعتبارها سيرة ذاتية حقاً . ولعلى أوافق نجيب محفوظ على أن تجربة الفنان ليس من الضرورى أن تحدث له شخصياً ، لكنها قد تحدث لآخرين ممن أتيح له أن يعايشهم عن قرب [ ونتذكر كامل رؤبة لاظ بطل روايته السراب ] . معظم ما كتبته ، وأكتبه ، يتناول أحداثاً عشتها ، أو تعرفت إليها ، بصورة صحيحة . وعلى حد تعبير همنجواى فأنا لا أعرف إلا ما رأيته . أوافق يحيى حقى فى أن التصوير الفنى لوردة فى حديقة ، يختلف عنه لوردة فى صورة كتاب ، تلمس خشونة الأوراق والساق وقطر الندى يختلف عن التعرف إليها فى الصورة المسطحة . حتى أعمالى التى حاولت توظيف التراث ، أفدت فيها من ملامح وتصرفات شخصيات تعرفت إليها ، وعايشتها . وكما وصف كونراد بطل روايته " لورد جيم " بأنه " واحد منا " ، فلعلى أزعم أن الوصف نفسه ينطبق على معظم الشخصيات التى تناولتها فى أعمالى . ولا يخلو من دلالة أن العديد من أبطال رواياتى كانت القراءة شاغلاً أساسياً لهم : منصور سطوحى فى الصهبة ، حاتم رضوان فى الشاطئ الآخر ، عادل مهدى فى " المينا الشرقية ، المؤرخ فى قلعة الجبل ، شاكر المغربى فى النظر إلى أسفل ، محمد إبراهيم مصطفى العطار فى قاضى البهار ينزل البحر ، رفعت القبانى فى حكايات الفصول الأربعة ، وغيرهم .
    وإذا كان فوكنر قد اخترع مدينة هى " جيفرسون " تدور فيها أحداث رواياته ، فى حين اخترع ماركيث مدينة هى " ماكوندو " تعبيراً عن خصوصية البيئة فى أمريكا اللاتينية ، فإنى حرصت على الكتابة عن " بحرى " باعتباره كذلك . لم أحذف ، ولم أضف ، إلا بقدر الاختلاف بين الواقع والفن ، وكما أشرت قبلاً ، فإن الفن ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع ، لكنه إيهام بذلك الواقع . بحرى ليس ماكوندو ماركيث ، ليس فردوساً أرضياً وفرصة رائعة أمام الإنسان ، ليحقق ما عجز عن تحقيقه من أمنيات . أهل بحرى يعانون ويقاسون ويعملون ويمرضون ويفرحون ويموتون ويألمون ويأملون ، لا أضيف جديداً لو قلت إن المحلية هى البيئة الحقيقية التى يجدر بأعمالنا الفنية أن تتحرك فى إطارها ، توصلاً للإنسانية . وإذا كانت المحلية ـ فى اتفاق الجميع ـ شرطاً أساسياً لتحقيق العالمية ، فإن المحلية ليست فى تلك الحكايات الساذجة ، أو الهلاميات ، أو الصور التى تفتقد الترابط ، بحيث يصعب نسبتها إلى العمل الفنى فى إطلاقه . وعندما ترجمت ـ بمبادرات طيبة من لجاننا المختلفة ـ نماذج من تلك الأعمال التى يمكن القول ـ بكثير من التجاوز ـ إنها جيدة فنياً ، فإن القارئ الأجنبى وضعها فى الإطار الذى ينبغى ألا تتجاوزه . المحلية العالمية هدف من الصعب بلوغه . ترجمنا العديد من أعمال كبار أدبائنا إلى لغات أجنبية ، فلم تجاوز اهتمامات المستشرقين والمعنيين بالثقافة العربية . صارحنى أستاذنا حسين فوزى ـ وقد طالت إقامته فى أوروبا ـ عن " نهر الجنون " لأستاذنا الحكيم ، بأن ترجمتها إلى الفرنسية حققت أثراً سلبياً ، لأن قيمتها الفنية تهبط عما يمكن لطالب فرنسى فى المرحلة الثانوية إبداعه . لم يجد حسين فوزى فى تلك الملاحظة انتقاصاً لأعمال الحكيم ، فالإعجاب بيوميات نائب فى الأرياف وعودة الروح ـ على سبيل المثال ـ يبين عن نفسه ـ فى المقابل ـ فى آراء النقاد الأجانب ، وإن تحفظت تلك الآراء فى نسبتها كذلك إلى الإبداع العالمى ، بكل ما تنطوى عليه الصفة من مواصفات محددة ، وصارمة . مع ذلك ، فإن الإبداعات العربية الحديثة قد أفرزت ـ فى فهمها الواعى لمعنى المحلية ـ معطيات يصح انتسابها ـ بدرجات متفاوتة إلى الأدب العالمى فى إطلاقه . العمل الفنى الحقيقى هو الذى يلتحم ببيئته بصدق ، ويعبر عن تلك البيئة بالصدق نفسه ، شريطة أن يعى الفنان مقومات الإبداع الفنى بعامة ، وأن تكون الهموم التى يتناولها ـ رغم محليتها ـ هى هموم الإنسان فى كل مكان . المثل الذى يحضرنى قصة تشيخوف الرائعة " لمن أسرد أحزانى " . لا يجد الحوذى من يسرد له أحزانه ، فيتجه بالحديث إلى حصانه ، يبثه ما يعانيه ، شخصية روسية تنتمى إلى أواخر القرن الماضى ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ شخصية إنسانية ، بكل ما تنطوى عليه هذه الصفة من دلالات .
    ***
    الملاحظة التى ربما أبداها البعض ، واكتفى البعض الآخر بإيرادها تساؤلاً فى عينيه ، هى أن حياتى خاصة ، فلا أغادر بيتى إلا نادراً ، ولا ألتقى الآخرين إلا لضرورة ، ولا أتردد على الندوات أو المقاهى أو أماكن التجمعات بعامة ، بما يعجل بنفاد مخزون " التجارب " التى تصلح نبضاً لأعمالى . والملاحظة ـ فى ظاهرها صحيحة ـ بل إنى أقدرها تماماً ، وإن كنت أجد فيما قدمت من أعمال جواباً مقنعاً . وبصراحة ، فليس ثمة فجوات فى حصيلتى المعرفية والاجتماعية والنفسية . ولعلى أحرص ـ فى كل لحظة ـ على أن أحتفظ بقدرتى على الدهشة . إذا زايلتنى هذه القدرة ، فإن الخطوة التالية ـ كما أتصور ـ هى أن أهجر الإبداع مطلقاً . إن عين الفنان تختلف فى نظرتها إلى من حولها ، وما حولها ، عن عين الإنسان العادى . عين الفنان شديدة الحساسية ، بارعة الالتقاط ، دقيقة الملاحظة . قد يغادر الإنسان العادى حياة كاملة لها خصوصيتها وتفردها ، فلا يستقر فى داخله منها شيئ. أما الفنان ، فقد تهبه جلسة عادية مع أناس عاديين ، حياة خصبة ، بما يضيف إليها من تجاربه ورؤاه وخياله . من خصائص العمل الجيد أن صاحبه يلفت نظرى إلى أشياء طالما شاهدتها من قبل ، لكننى لم ألتفت إليها ، بل ولم أفطن إلى وجودها .
    مع تأكيدى على أهمية التجربة ، فليس إلى حد تذوق الزرنيخ مثلما فعل فلوبير ، حين أراد التعبير عن انتحار مدام بوفارى ، ليرى مدى تأثير الزرنيخ فى النفس والجسد . الشخصية الروائية لا تبدو غريبة عن الواقع ، أو هذا ما ينبغى أن يكون . الفن ـ كما أشرت ـ إيهام بالواقع ، والفنان لا يأتى بشخصياته من فراغ . إنها محصلة الواقع والخيال فى آن . من هنا ، أتفهم قول برتولت بريخت إن " شخصيات العمل الفنى ليست مجرد أشباه للناس الأحياء ، بل صور حددت ملامحها بما يتناسب والمنهج الفكرى للمؤلف " . على سبيل المثال ، فإن السلطان خليل بن الحاج أحمد وعائشة بنت عبد الرحمن القفاص وخالد عمار والمعلم شيحة ومختار الرمادى وتغريد وخيرات ، هؤلاء وغيرهم ليسوا شخصيات تاريخية حقيقية ، لكنها شخصيات اخترعها خيال الفنان ، وإن أفاد فى ملامحها الظاهرة والنفسية من شخصيات معاصرة تعرف إليها . أكد لى الصديق الراحل فاروق خورشيد أنه قرأ قلعة الجبل باعتبار أن السلطان خليل شخصية حقيقية فى التاريخ المملوكى ، وتوافق اسم سلطان التاريخ مع سلطان الرواية لا يجاوز المصادفة البحتة . أما الصديق الأستاذ الجامعى حسن البندارى فقد عرض مساعيه لبيع ما تصور أنه يوميات المتنبى لجامعات أجنبية . وأما الصديق الشاعر كامل أيوب ، فقد دفع برواية من أوراق أبى الطيب المتنبى إلى سلسلة المكتبة الثقافية ، بتصور أنها تحقيق وتقديم ليوميات المتنبى . فلما صارحته بأن الرواية من تأليفى ، أصر أن أكتب ورقة تتضمن ذلك المعنى .
    حين ألح فى وجود المصدر الواقعى للشخصيات التى تضمها أعمالى ، لا أعنى أنى أنقل الشخصية كما هى فى الواقع . ألتقط لها صورة فوتوغرافية ، أو أرسم " بورتريه " يحاول الإجادة فى النقل ما أمكن . المصدر الواحد ، المحدد ، فى الشخصية ، أولى به أن يبعد عن الفن ، إنه يصبح أقرب إلى الكتابة الببليوجرافية ، أو التقارير . ثمة نمط إنسانى معين ، شخصية محددة ، لكن تلك الشخصية تهجّن ، تطعّم بقسمات وملامح من شخصيات أخرى ، تتداخل معها ، فتشكل شخصية أخرى ، هى شخصيات العمل الأدبى ، الشخصية الأصل ، الشخصيات المتداخلة ، موروثات الكاتب وقراءاته وتجاربه . ليست كل الشخصيات مما يصلح لأن يتوقف الكاتب أمامها ، يتأملها ، يعلن بينه وبين نفسه : هذه شخصية روائية . مع ذلك ، فإن الكاتب لا ينقل ملامح الشخصية وقسماتها كما هى فى الواقع . إنه يضيف إليها ، ويحذف منها ، فتنتهى إلى شخصية روائية حقيقية ، فيها من الواقع ، ومن الكاتب نفسه . قد يختار الفنان شخصية من الواقع ، ثم يضفرها بتجاربه ـ وتجارب الآخرين ـ ورؤاه وخبراته وقراءاته وخياله ، فتتشكل من ذلك كله شخصية جديدة ، هى الشخصية الروائية . والذهن ـ وحده ـ ليس مصدر استلهام الشخصية الروائية ، إنها عملية معقدة ، يشارك فيها الذهن والوجدان والعين والأذن ، لتبين الشخصية الروائية عن ملامحها . وبافتراض أن الفنان قد استطاع أن يخترع شخصيته الروائية تماماً ، فلا ظل وجود لها فى الواقع ، فإنها ستأتى ـ بالضرورة ـ شخصية آلية ، بلا حياة . وأغلب الظن أنها لن تكون شخصية مقنعة .
    لقد كتب جارثيا ماركيث وقائع موت معلن بعد حادثة قتل شاهدها فى أحد شوارع مدينة أرتاكا " أطلقت الرصاصات على الضحية وهو عائد إلى منزله ، أغلقت أمه الباب ، ذلك شيء يفوق التصور : رجل ثرى له أهميته يضرب من جهتين . طلبت منى أمى ـ فى ذلك الحين ـ ألا أكتب شيئاً ، لأن هذا سوف يقاضى أم الضحية بتهمة إغلاق الباب على نفسها . وعدت أمى ألا أكتب شيئاً طيلة حياة هذه المرأة . وقد سمعت أنها ماتت منذ خمس سنوات ، وبدأت أفكر فى كتابة الرواية " ( الهلال ديسمبر 1982 ) . أما أستاذنا نجيب محفوظ ، فقد كانت روايته الشهيرة اللص والكلاب تأثراً مباشراً بسيرة السفاح محمود أمين سليمان ، الذى أراد أن ينتقم من زوجته الخائنة ، فأصابت رصاصاته أبرياء كثيرين . ويصف لنا يحيى حقى فى كتابه " عطر الأحباب " تلك الأيام التى كانت فكرة " اللص والكلاب " قد شغلت فيها نجيب محفوظ ، سيطرت على أفكاره ومشاعره ، تحاول التخلق كعمل فنى .
    ***
    يقول أرسكين كالدويل : " إنى أعتقد أن الكتابة الخلاقة تحركها حالة ذهنية معينة ، وأن أولئك فقط الذين ولدوا بهذه الموهبة ، ويسعون بجهد متواصل ليعبروا عن أنفسهم كتابة ، يمكن أن يحققوا النجاح الذى يريدون " ( كيف أصبحت روائيا ـ 266 ) . وفى تقديرى ، أن كاتب الرواية أو القصة القصيرة ينبغى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية والتاريخ والأنثربولوجيا ، وملماً ـ إن لم يكن منغمساً ـ بالتطورات السياسية فى بلاده ، وفى العالم ، فضلاً عن وجوب أن يكون ذا نفس مناضلة ، تحيا واقع الجماعة ، وتحس به ، وتخلص فى التعبير عنه . وباختصار ، فإن الروائى ، والمبدع بعامة ، ينبغى أن يكون متسلحاً بثقافة موسوعية . نحن إذا هدمنا شيئاً ما ، بناية مثلاً ، فإن الهدم ليس غاية فى ذاته ، إنما الهدف ـ أو هذا هو ما ينبغى ـ أن يكون الهدم للبناء ، للإضافة ، للتطوير . الهدم لمجرد الهدم مرفوض ، والتعرف إلى البدايات والقواعد والركائز والأصول هو ما يجدر بالأديب أن يحصل عليه ، مثلما أنه على الفنان التشكيلى أن يتعرف إلى المذاهب والاتجاهات الفنية المختلفة . الأمر نفسه بالنسبة للمبدع فى كل المجالات ، أن يحيط بالخصائص الفنية ، التقليدية ، للفن الذى اختاره . بوسعه ـ بعد ذلك ـ أن يهدمه ، ليضيف ، ويطور ، بقدر ما تمنحه قدراته الفنية وموهبته . أشير إلى قول هنرى جيمس : لا يمكن لقصة جيدة أن تنبثق عن ذهن سطحى " .
    أنا حين أتحدث عن ثقافة الكاتب ، عن خبراته وقراءاته وتجاربه وتأملاته وإفادته من كل الفنون فى إثراء فنه ، وتوضح البعد الثقافى بعامة فيما يكتب .. حين أتحدث عن ذلك ، فإن الأرضية التى يقف عليها ذلك كله هى الموهبة . لا فن بلا موهبة . مهما حصّل الكاتب من ثقافة ، فإنها لا شيء بلا موهبة . حتى الفلسفة بمعناها الأكاديمى المتخصص يجب أن يحصل المبدع على المتاح من التثقف فيها . وفى المقابل ، فلعل أهم ما يجدر بالفنان أن يحرص عليه ، هو أن يحترم ثقافة قارئه ، وأن يحترم ذكاءه أيضاً . وقد طالما حرص الرومانتيكيون على تضمين أعمالهم خطباً وشعارات ، بينما يكتفى الفنان المعاصر ـ أو هذا هو المطلوب ـ بالإضمار التصويرى . يثق فى ذكاء قارئه ، وأن من حق القارئ ـ وواجبه ـ أن يتأمل العمل الفنى ، ويمعن النظر فيه ، بل ويملأ الفجوات التى يتركها الفنان فى ثنايا العمل بما يحمله من ثقافة وذكاء . كانت تلك محاولتى ـ على سبيل المثال ـ عقب إضراب النزلاء فى الأسوار ، ملأت الفجوات بفقرات تروى نتفاً من وقائع التاريخ القديم، والمعاصر، واعتبرتها نسيجاً فى العمل الفنى ، يصل ما بين بدء الإضراب ، والرضوخ لمطالب النزلاء ، وتركت لذكاء القارئ تبين ذلك .
    والأمثلة كثيرة .
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  10. #34  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    لست أذكر القائل : إن على الكاتب مهمتين : الأولى أن يقول شيئاً ، والثانية أن يروى شيئاً ، لكنه قول صحيح تماماً . ورغم احترامى لقول بيكيت " ليس لدى شيء أقوله ، فأنا الوحيد الذى يستطيع أن يقول إلى أى حد أننى ليس لدى شيء أقوله ، أو مضطر لأن أقوله " فإن المقولة / الدلالة واضحة فى أعمال بيكيت . قد تتعدد التفسيرات ، والتعرف إلى ما يحمله العمل من دلالات مضمونية ، لكنها موجودة [ أذكرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية فى كتابى نجيب محفوظ : صداقة جيلين ] . فى رسالة من تولستوى إلى مواطنه الروائى الروسى ليونيد أندرييف ، يشير إلى أنه على الكاتب ألا يكتب " إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التى يود التعبير عنها بأحسن ما فى طاقته ، وألا يفكر حينئذ فى شيء آخر غير إجادة التعبير ، فلا ينظر إلى ما تضفى عليه الكتابة من شهرة أو مال " , وكتب تشيخوف فى إحدى رسائله : " دعنى أذكرك بأن الكتاب الخالدين ، أو فى الأقل ذوى الموهبة ، الذين يهزون نفوسنا ، لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية ، هى أنهم يتجهون إلى شيء ، وأنهم يدعونك إليه أيضاً ، وإنك تحس ، لا بعقلك وإنما بكيانك كله . إن لديهم هدفاً ، بعضهم لديه أهداف مباشرة ، كالقضاء على الإقطاع وتحرير البلاد ، وكالسياسة أو الجمال ، أو مجرد الفودكا ، وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله ، وكالحياة بعد الموت ، وكسعادة البشرية ، وهكذا، وإن أفضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هى ، ولكن على الرغم من أن كلاً منهم يستغرقه هدف واحد ، فإنك تحس فى أعمالهم ، لا مجرد الحياة كما هى ، بل تحس الحياة كما ينبغى أن تكون ، وإن هذا ليأسرك " . إن للعمل الأدبى استقلاليته ، لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذى كتبه ، من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه . أفترض أن العمل كتب نفسه ، أو هذا ـ فى الأقل ـ ما أتحمس له ، لكننى لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ ، حتى الثمرة المعينة هى ـ فى الأساس ـ بذرة معينة ، وضعت فى تربة معينة ، ومناخ معين .. وإلا ، فما سر زراعة محصول بذاته فى بلد ما ، ولا يمكن زراعته فى بلدان أخرى ؟!. وإذا كان رأى بوشكين أن " الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن " ، فإنى أجد أن القضايا التى يناقشها الفن ويطرحها ، وليس الفن كغاية ترفيه ، هى ما ينبغى على الفنان أن يخلص لها . ولعلى أذكر قول بيرل باك " الفنان اليوم لم يعد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة ، بل لابد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبر عنه " ، بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلى أنه " على الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء " ( ما الأدب ص 25 ) . وقد أبدى سارتر أسفه على لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره ، وعلى عدم الفهم ، وعلى الخوف أيضاً الذى أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة ، فضلاً عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولين عن القمع الذى أعقب حكومة الكوميونة، لأنهما لم يكتبا حرفاً واحداً.
    المسألة ـ فى تقدير بريخت ـ ليست مجرد تفسير العالم ، بل تغييره ، وعلى حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هى أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت ، إلى حياة لا نهائية ، أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلى ما هو متفق عليه مع القانون العام " إن رسالة الكاتب نبوية " .
    بالنسبة لى ، فإن الكتابة قضية حياة ، وليست مهنة . وكما أشرت سلفاً ، فقد بدأت الكتابة دون أن أفكر : لماذا أكتب ؟. العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة ، ورسالة الأديب هى رسالة الحرية والجمال ، قلمه يجب أن يصبح سلاحاً ضد الديكتاتورية والاستبداد . ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال : لماذا يكتب الأديب ؟ ، يذكرنى بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة ، اسمه " الملاك " ، من الصعب تصنيفه ككتاب ، فعدد صفحاته ستة عشر بالتمام والكمال ، فهو إذن أقرب إلى الكراسة أو الكتيب فى أفضل الأحوال ، محاولة غلبت عليها السذاجة ، وارتكزت إلى التقليد ، مهدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد ، وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لى قراءته من كتب . أما الكلمات فهى : الحق ، الحرية ، الحب . ومع أنى لا أذكر الظروف التى كتبت فيها هذه الكلمات ، ولا بواعث كتابتها ، فضلاً عن أنى لم أكن أفهم دلالاتها جيداً ، وإن أمليتها على قلمى .. مع ذلك ، فإنى حين أتدبر هذه الكلمات الآن ، أجدها واضحة فى إطار اهتماماتى الفكرية .
    الرواية ـ فى تقدير دوبريه ـ " ذلك الشكل الأدبى الذى يؤدى دور المرآة للمجتمع ، مادتها الإنسان ، أحداثها مبعثها صراع الفرد ضد الآخرين ، للملاءمة بينه وبين مجتمعه ، وينتج عن ذلك الصراع خروج القارئ بفلسفة ما ، أو رؤيا شمولية للروائى " . أرفض دعوة ناتالى ساروت بأن تتحرر الرواية من كل هدف أخلاقى أو اجتماعى ، وأعتبر الكاتب ـ بدرجة وبأخرى ـ موقفاً فى عصره . أستعير من د . هـ . لورنس قوله " بما أن الإنسان يصور العالم من منطلق نظرى ، فمن المطلوب أن يكون لكل رواية خلفية أو مخطط لنظرية عن الوجود ، شيء ميتافيزيقى ، لكن ذلك الشيء الميتافيزيقى عليه أن يخدم الهدف الفنى دوماً، ويختفى وراء وعى الفنان ، وإلا تحولت الرواية إلى دراسة " . وأذكر أن دعوت ـ فى سن باكرة ـ نسبياً ـ إلى ضرورة أن يتضمن مجموع أعمال كل أديب فلسفة حياة ، نظرة شاملة مجتمعية وسياسية وثقافية وميتافيزيقية . كتبت فى " المساء ( 8/9/1960 ) بعنوان " فلسفة القصة " : لو نظرنا إلى أعمال أعظم روائى فى الشرق العربى الآن ـ نجيب محفوظ ـ لأخذتنا الروح الشعبية الصميمة ، واللمسات الإنسانية التى تنبض فى كل سطورها . لكن هذه الأعمال جميعاً لا تريد أن تقول شيئاً محدداً ، فالثلاثية ـ مثلاً ـ اعتبرها بعض النقاد تخطيطاً جغرافياً وتاريخياً ناجحاً للإقليم المصرى [ اسم مصر حينذاك ] إبان ثورة 1919 ، هى صورة اجتماعية صادقة لحياة العصر ، لكنها تفتقر إلى الفلسفة الواضحة التى تعكس نظرة الكاتب إلى الحياة [ راجعت هذا الرأى فيما بعد ، وتوصلت إلى قناعات مغايرة ، أثبتها فى كتابى نجيب محفوظ ـ صداقة جيلين ] والواقع أن كل قصاصينا ، الكبار والصغار [ التعميم مبعثه حماسة الشباب ] ليست لديهم فلسفة معينة ، يمكن أن نحس بها فى كتاباتهم ، كل ما نلاحظه ونحن نخرج من قراءة أية قصة ، أن قاصنا يريد أن يحكى حكاية ، يريد أن يفض عن نفسه تجربة عاشها وعاناها ، أما ما هو الذى يريد أن يقوله من خلال هذه الحكاية ، فلا شيء على الإطلاق " .
    أعمال أى مبدع يجب أن تشكل وحدة متكاملة " يوضح كل مؤلف منها مؤلفاته الأخرى، وكل منها يرى وجهه فى الآخر " . أزيد فأزعم أنى حاولت منذ تلك اللحظة ـ مجموعتى القصصية الأولى ـ والأسوار ـ روايتى الأولى ـ أن أحقق ـ بتوالى ما أكتبه ـ تلك الوحدة المتكاملة . ما أنشده فى مجموع كتاباتى ـ ومجموع كتابات الآخرين أيضاً ـ أن ينطوى على فلسفة حياة متكاملة . أن يعبر مجموع أعمال فنان ما عن صورة العالم لديه بما يختلف عن صورته فى نظر الآخرين . الأدب غير الفلسفة ، لكنه ـ فى الوقت نفسه ـ تصور للعالم ، يرتكز إلى درجة من الوعى ، وإن صدر عن العقل والخيال والعاطفة والحواس . طريقة الفيلسوف هى التنظير والتحليل والإقناع ، والصدور عن العقل ، والاتجاه كذلك إلى العقل . أما طريقة الأديب فهى العاطفة والخيال والحواس ، والصدور عن ذلك كله إلى المقابل فى الآخرين ، من خلال أدوات يملكها الأديب ، وتتعدد مسمياتها ، كالتكنيك والتطور الدرامى والحوار واللغة الموحية وإثارة الخيال إلخ . وإذا كنت أومن بوحدة الفنون ، وأن على كاتب الرواية ـ مثلاً ـ أن يضم إلى معارفه وأدوات ثقافته : القصة القصيرة والمسرحية والفن التشكيلى والموسيقا والسينما وغيرها من الفنون ، فإنى أومن ـ بالدرجة نفسها ـ بضرورة أن يقرأ الأديب فى الفلسفة ، يتأمل معطياتها ، يناقشها ، يحاول أن تكون له فى ذلك وجهات نظر . بعض كتاب القصة يعنون بالشكل السوريالى فى أعمالهم ، فإن شاهدوا لوحة سوريالية ، وقفوا أمامها فى تحير ، وربما أعرضوا عن مشاهدتها ، وثمة شعراء لا يجدون فى الأعمال الروائية ما يستحق عناء القراءة ، وسماع الموسيقا الكلاسيكية همّ ينأى عنه غالبية المبدعين [ أذكرك بمقدمة يحيى حقى البديعة لكتابه : تعال معى إلى الكونسير ] . ولعله يمكن التأكيد كذلك على أن نظرة الغالبية من أدبائنا إلى الفلسفة تحتاج إلى مناقشة ، وإلى تقويم ، والزعم بأن الفلسفة ـ وربما الثقافة بعامة ـ تفسد الموهبة ، وتسئ إلى التلقائية والبساطة والشاعرية التى ينبغى أن ينهض عليها العمل الفنى .. ذلك الزعم غير صحيح ، لأن مجرد استقراء تاريخ المشاعل فى حياتنا الأدبية يؤكد أن الحصيلة المعرفية ، والتأمل ، ومحاولات التوصل إلى صورة خاصة للعالم ، كانت هى الدعامات التى استندت إليها أعمال هؤلاء الأدباء . بل لقد أفادت الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم النظرية والتطبيقية ، من أعمال أدبية لسوفوكليس وشكسبير وديستويفسكى وعشرات غيرهم ، أثروا الحياة الإنسانية بمعطياتهم . وفى المقابل ، فإن المذاهب الفلسفية كانت هى النبع الذى ارتوت منه المراحل الأدبية المختلفة . وضع الفلاسفة وعلماء النفس نظرياتهم ، فبدت أعمال هؤلاء الأدباء ـ أحياناً ـ كأنها تطبيقات لتلك المذاهب [ السراب وعقدة أوديب مثلاً ] . وأفادت الأعمال الأدبية كذلك من قوانين الوراثة [ ثلاثية نجيب محفوظ مثلاً ] ، ونظرية التطور ، ونظريات علم الاجتماع ، وعلوم البيئة . وباختصار ، فإن دراسة الفلسفة ـ كجزء من عملية التحصيل الثقافى ، ينبغى أن تكون هماً لكل أديب ، يحاول أن يشكل ـ من خلالها ـ آراءه ونظرته وتصوراته للعالم الذى يعيش فيه . إنها ـ بالقطع ـ ليست ترفاً قد تستغنى عنه موهبة الأديب ، لكنها ضرورة .
    لم يعد دور الأدب فى المجتمع من القضايا المطروحة فى حياتنا الثقافية . وإذا كنا قد شغلنا ـ زمناً ـ بقضية : هل الفن للفن ، أو الفن الحياة ، ودارت فى ذلك مناقشات عقيمة منذ مطالع الخمسينيات إلى مطالع السبعينيات ، فإن دور الأدب فى المجتمع الآن ، ودور الأديب بالتالى ، مما يصعب إغفاله ، أو التهوين منه ، بل ومما يصعب مناقشته ، لأنه دور قائم ومؤكد . الأديب لا يكتب لنفسه ، ولا تنطلق إبداعاته من فراغ ، ولا تنطلق إلى فراغ كذلك ، لكنه يعبر ـ على نحو ما ـ عن هموم قد تكون مجتمعية أو سياسية ، أو حتى ميتافيزيقية ، لكنها هموم تشغله ، وتلح عليه ، وتعبر عن نفسها فى أعماله الإبداعية . وتحديداً ، فإن لى موقفاً ـ أتصوره واضحاً ـ من القضايا الإنسانية والاجتماعية . هذا الموقف يبين عن نفسه فى مجموع ما صدر لى من كتابات . ثمة وشيجة تربط روايتى " الأسوار " مثلاً ، بقصة " التحقيق " برواية " قاضى البهار ينزل البحر " ، ورواية " المينا الشرقية " إلخ . وثمة وشيجة أخرى تربط روايات الشاطئ الآخر ، وزمان الوصل ، وصيد العصارى ، وزوينة " إلخ . ووشيجة بين من أوراق أبى الطيب المتنبى ، و " الأسوار ، وإمام آخر الزمان ، والنظر إلى أسفل ، والخليج ، واعترافات سيد القرية ، وحكايات الفصول الأربعة ، ورجال الظل ، وكوب شاى بالحليب . ووشيجة تربط بين زوينة ، وصيد العصارى ، و زمان الوصل ، وذاكرة الأشجار . وثمة وشيجة تربط بين رباعية بحرى ، وأهل البحر ، ونجم وحيد فى الأفق ، ومواسم للحنين ، ومجموعة ما لا نراه ، والكثير من القصص القصيرة ، إلخ . ربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل . يختلف الحدث والتناول ، لكن الفكرة تتردد فى محاولة ـ غير متعمدة ـ لتأكيد نظرة بانورامية شاملة . ولعلى أفضل أن يتناول النقد أعمالى بصورة كلية ، كل عمل يشرح ويفسر ما قد يكون غامضاً فى أعمال أخرى ، من المهم أن نتنبه إلى الفرق بين السؤال : ماذا يريد الفنان فى هذا العمل ، وبين السؤال : ماذا يريد الفنان فى مجموع أعماله ؟ . مجموع الأعمال يعكس نظرة شاملة ، فلسفة حياة ، تحول الجزئيات إلى بانورامية تزخر بالتفصيلات.
    إن غاية ما تطمح إليه أعمالى ألا يظل قارئها كما هو بعد قراءتها ، وإنما يشعر بالحصار ، بالاستفزاز ، بالتحدى ، وأنه يواجه فقدان الحرية مثلما واجهه بطل القصة ، أو يواجه القهر كما واجهه بطل القصة ، أو الظلم والكبت والتهديد ، ويعانى المطاردة [ الإحساس بالمطاردة يعاودنى طول الحياة . تختلف بواعثه ، لكنه قائم ، متجدد ، أعانى تأثيراته ، أحاول التخلص منها ] ، ومن ثم ، فإنه يشعر بوجوب التحرك ، وأن يفعل شيئاً لمجابهة الخطر القائم ، أو المحدق . ثمة وحدة ما ـ موجودة ، أو أتوق لتحقيقها ـ يشكّلها مجموع أعمالى . ولعل العنوان الرئيس الذى يعلو مفردات نظرتى الشمولية هو المقاومة ، المقاومة ضد كل قبيح وزائف ومتسلط وعدمى وقاهر للإرادة الإنسانية . قد أكون مخطئاً فى هذا المعنى ، لكنه المعنى الذى ناقشته ـ بينى وبين نفسى ـ واطمأننت إليه ، ساعد على ذلك قراءاتى الشخصية ، المتأملة ، لأعمالى ، وملاحظات النقاد حول تلك الأعمال . وكما أشرت ، فربما تناولت الفكرة نفسها ، الموضوع ذاته ، فى أكثر من عمل ، رواية ، أو قصة قصيرة . وإذا كان فيتزجرالد يرى أن على الكتاب أن يكرروا أنفسهم على الدوام ، فإن هذه ـ فى تقديرى ـ هى الحقيقة . ثمة فى حياتنا تجربتان أو ثلاث ، كبيرة ومثيرة ، نحن نرويها فى كل مرة ، بقناع جديد ، عشر مرات ، وربما مائة مرة ، وبقدر ما نجد أناساً يصغون إلينا . ولعلى أنفى عن ماركيث ما يبدو مبالغة فى قوله إن الروائى لا يؤلف غير رواية واحدة فى حياته ، ويصدر له العديد من الروايات تحت الفكرة نفسها ، وإن حملت عناوين أخرى مختلفة . ومنذ أصدر سارتر عمله الأول " الغثيان " ( 1938 ) فإن كل ما كتبه كان يلح فى اكتشاف حرية الإنسان ، وعدم جدواها : " لماذا أنا حر ؟ " . أذكر أنى أشرت فى حوار مع ناقد صديق إلى تشابه " القضية " فى العديد من كتاباتى ، فلما أعاد الناقد ملاحظتى فى إحدى الندوات ، ثار عليه معظم الحضور ، رأوا فى كلماته قسوة متجنية ، وتغلب الشعور بالامتنان للأصدقاء الأدباء ، على تفهمى للورطة التى أوقعت فيها ـ بحسن نية طبعاً ـ صديقى الناقد ، فلو أنى احتفظت بملاحظتى لنفسى ، ربما غابت عن كلماته ، ولم يواجه ثورة الحضور . مع ذلك ، فإنى أطمئن إلى ملاحظتى ، وأجد أنها سليمة فيما يتصل بالكثير مما كتبت ، وبالكثير مما كتبه أدباء آخرون أدين لهم بالأستاذية ، مثل إبسن الذى ركز فى معظم مسرحياته على موقف الفرد من المجتمع ، وتشيخوف فى تفرد غالبية إبداعاته بمناقشة " العمل " كضرورة حياة ، فراراً من خواء النفس ، وخواء الأيام ، وبرنارد شو وتحدد معظم كتاباته فى مناقشة الفوارق بين المثالية التى لا تجاوز إطار الأحلام ، والبرجماتية التى قد تهمل المبادئ والمثل ، فالنجاح ـ بكل السبل ـ هو ما تسعى إليه ، وأدباء آخرون ، أشرت إليهم فى مواضع سابقة ، أو تالية .
    وإذا كان أوجست رودان يؤكد أن " الحياة هى العمل ، وكائنة ما كانت العبقرية الموهوبة ، فلا شيء ينمّيها ويصقلها غير مواصلة العمل " ، فإن قيمة العمل تتبدى بعداً أساسياً فى العديد من أعمالى . فى " الأسوار " بادرت سلطات المعتقل إلى منع التعذيب وطوابير العمل ، وتواصلت الأيام بالنزلاء متشابهة ، يؤرخ لتواليها أحداث تافهة ، حتى أعلن النزلاء ـ فى محاولة لطرد الملل ـ رغبتهم فى الخروج إلى الوادى ، زراعة الأرض أهون ملايين المرات من الثرثرة فى اللاشيء ، والتحديق فى اللاشيء ، وترقب اللاشيء . وفى نجم وحيد فى الأفق يرفض البطل حياة الدعة والنعيم ، ويتوق للعودة إلى مهنته التى طالما ضايقته . ومن الأقوال التى أستحضرها ـ دوما ـ ما كتبه تشيخوف " لو أن كل إنسان فى العالم صنع كل ما فى استطاعته ، فى أرضه الخاصة ، لغدا العالم رائعاً " .
    ولعل أهم " القضايا " التى حاولت مناقشتها فى أعمالى ، ذلك السؤال عن صلة المثقف بمجتمعه : هل يؤدى ما عليه ، باعتباره واجباً لا يرجو فيه مقابلاً ، أو أنه من المفروض أن يشعر مواطنوه ، ويشعر هو أنهم شعروا ، بهذا الدور ؟. كما تناولت ـ فى بعد آخر لصلة المثقف بمجتمعه ، دور الأعوان فى صناعة الطاغية ، بداية من رواية " من أوراق أبى الطيب المتنبى ، إلى رواية رجال الظل ، مروراً بقلعة الجبل ، وزهرة الصباح ، وإمام آخر الزمان ، واعترافات سيد القرية ، وما ذكره رواة الأخبار عن سيرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله ، وغيرها .
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

  11. #35  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    والوقوف على أرضية الصفر ، بمعنى مواجهة الخطر ، وتحديه ، هو ما يلجأ إليه أبطال رواياتى ، عندما تحاصرهم الأزمة تماماً . يترددون فى البداية ، تنهكهم المطاردة ، يحاولون الاختباء أو الفرار أو التجاهل ، لكن الخطر يدفعهم ـ فى النهاية ـ إلى تحديه ، إلى مواجهته ، ومقاومته . فى روايتى الصهبة يقول الهاجس لمنصور سطوحى : لكى تفر مما يشغلك ، اقذف بنفسك داخله . وكان الوقوف على أرضية الصفر هو سر صمود بكر رضوان فى " الأسوار ، وسر حفاوة " الأستاذ " بالمصير المحتوم . وقد أذهل محمد قاضى البهار مطارديه ، وهو يصفّر ، ويغنى ، فى طريقه إلى البحر ، ليقذف بنفسه فيه . ومثلت مواجهة عائشة للسلطان خليل بن الحاج أحمد لحظات الحسم فى إصرار السلطان على أن ينتزع عائشة من المدينة ، لتقيم معه فى قلعة الجبل . واستطاعت زهرة الصباح أن تحيا فى ظل الخوف ، وتحب ، وتنجب . وفى " الجودرية " تأكد دور المهمشين فى صناعة الثورة ضد حملة بونابرت . وصارت الشقة المطلة على البحر فى البحر أمامها وطناً أعدت السيدة نجاة نفسها للدفاع عنه . وقد أراد بطل قصتى القصيرة المستحيل بإغلاق الأبواب والنوافذ ، وتكويم قطع الأثاث وراء الأبواب والنوافذ المغلقة ، أن ينأى عن الخطر فى خارج البيت ـ فعل مشابه لمد الأيدى أو إغماض العينين ـ اتقاء مواجهة ما يهدد الحياة . تناسى الرجل أن الخطر الذى يتحرك فى الخارج ، يهدد ، ويدمر ، إنما يستهدفه هو فى الدرجة الأولى . وفى قصة فى الشتاء يعانى البطل الفرار من المجهول ، فإذا تحتمت المواجهة ، بدا المجهول لا شيء لقاء إصرار البطل على المقاومة . وفى حدث استثنائى فى أيام الأنفوشى بدا السكوت عن مقاومة أسراب السمان ـ التى قاسمت أهل بحرى حياتهم ـ طريقاً إلى الجنون .
    وبالطبع ، فإن هذه الأعمال مجرد أمثلة .
    ***
    أذكر لأستاذنا زكى نجيب محمود قوله : " إنه ليكفى الكاتب العربى أن تكون أحداث العصر قد ألقت فى وجهه شيئاً اسمه إسرائيل ، لتكون وجهة نظره إلى مشكلات العصر وحوادثه ، مختلفة أشد اختلاف مع زملائه الكتاب من الجماعات التى اقترفت فى حقه هذا الجرم ، حين ينظر معهم إلى مسائل العصر وحلولها " ( العربى ـ يناير 1971 ) . كانت يا سلام أولى قصصى المنشورة ( 1958 ) هى التعبير عن انعكاس تجربة الحرب [ حرب 1956 تحديداً ـ على حياة البسطاء ، كما سجلها شاب فى حوالى الثامنة عشرة . ثم أصبحت مصر هى " القضية " فى كل ما كتبت ، مصر الماضى ، والحاضر ، واستشرافات المستقبل ، ما يعجز الفن عن تسجيله ، فإنى أحاول أن أناقشه فى دراسات . وقد أشرت فى مقدمة كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " إلى أن من بين الأسباب التى دفعتنى لتأليفه ، والابتعاد ـ لسنوات ـ عن الكتابة الإبداعية ، تأكيد الصداقة بين الكاتب وبلاده ، بالتعرف المباشر ، وبالقراءة التى تشمل جوانب الحياة المصرية ، بكل اتساعها وخصبها وثرائها . العجوز فى يا سلام تأثرت حياته بنتائج الحرب ، لكن السلام الزائف أخطر ـ فى تقديرى ـ من الحرب ، عندما يوهمك عدوك أن المعارك بينك وبينه قد انتهت إلى الأبد ، وتعانق الوهم ، فى حين يصرف العدو جهده إلى الإعداد للحرب الحتمية ، القادمة . ثمة قول فى سفر التثنية ( الإصحاح العشرون ـ الفقرة العاشرة ) " حين تقترب من مدينة لكى تحاربها ، استدعها إلى الصلح " . الصلح غير العادل ـ كما يقول القانونى فاتيل ـ ظلم لا تتحمله أية أمة إلا لافتقارها لوسائل نقضه ، وإحقاق حقها بالسيف . القضية المحور التى تشغلنى منذ سنوات ، هى مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى : الحياة والبقاء والموت ، الكينونة وانعدامها ، الاستمرار والانقطاع . تلك هى القضية التى تسبق فى اهتماماتى ما عداها من قضايا ، لأنها قضية المصير العربى فى إطلاقه . ألح فى أن أدب المقاومة ليس وقفاً على التحريض ضد المستعمر الذى يسعى إلى احتلال أرضى , وتشويه حضارتى وقيمى وموروثاتى وملامح شخصيتى بواسطة أدوات قد يكون من بينها معاهدة سلام . السلام مطمح ، لكنه ـ بالتأكيد ـ ليس ذلك السلام الذى يدفع أحد طرفى النزاع إلى الاطمئنان للغد والمستقبل ، والاطمئنان كذلك إلى النيات المقابلة ، بينما الطرف الآخر يدبر ويخطط ، بل وينفذ ـ علناً وسراً ـ تدبيراته . الحذر إذن مطلوب ، والتنبه إلى الغزو السلمى ، بأبعاده الاجتماعية والثقافية ، يستوجب التعرف إلى الشراك الخداعية فى حقول السلام . أشير إلى رواياتى : النظر إلى أسفل ، ومن أوراق أبى الطيب المتنبى ، والمينا الشرقية ، وصيد العصارى ، ومجموعات : هل ، وحارة اليهود ، وموت قارع الأجراس ، ورسالة السهم الذى لا يخطئ ، وغيرها .
    ***
    ثمة قضايا أخرى ، آنية ، مثل قضايا التخلف : غلبة الاستهلاك على الإنتاج ، محدودية المسار الديمقراطى ، زيادة أعداد الأميين ، انعدام الوعى السياسى والبيئى ، الزيادة غير المسئولة فى النسل ، وغيرها من المشكلات التى قد لا تكون فى صميم مسئوليات المبدع ، لكنها ـ فى الدرجة الأولى ـ قضايا المجتمع الذى يعيش فيه ، ولابد أن ينشغل بها على المستويين الشخصى والعام ، و تتوضح فى أعماله ، بصورة وبأخرى ، على أن تنتسب هذه الأعمال إلى الفن ، وترفض الجهارة والمباشرة . فى قصتى " الرائحة " يقول الطبيب : غلطتان كفيلتان بتقويض أية ثورة .. زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية . المثل الشعبى يقول " السجن سجن ولو فى جنينة " ، وغياب الديمقراطية معناه تحول المجتمع إلى سجن ، قد يكون مزوداً بكل الضروريات ، وقد يوفر لنزلائه وسائل الراحة ، لكنه يظل ـ فى النهاية ـ سجناً . الديمقراطية تعنى الرأى والرأى الأخر ، مناقشة المحكوم للحاكم ، التعبير عن وجهة النظر دون خشية من مصادرة أو اعتقال .
    ***
    هنا يفرض السؤال نفسه : كيف تدعو إلى فلسفة الحياة فى العمل الفنى ، وتناقش ـ فى الوقت نفسه ـ صورة المجتمع فى القصة والرواية ؟
    ظنى أن انشغالى بضع سنوات فى إعداد الأجزاء الثلاثة من كتابى " مصر فى قصص كتابها المعاصرين " ـ كأول محاولة تطبيقية فى علم الاجتماع الأدبى ـ يؤكد أهمية أن تعبر القصة عن المجتمع الذى صدرت عنه ، وصدرت فيه . لكن العمل الفنى الحقيقى هو الذى يتناول مشكلات آنية فلا يفقد جوهره ولا جودته بغياب تلك المشكلات ، ولا يموت بموتها . ثمة أعمال إسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير وموليير وبلزاك وزولا وفلوبير وديكنز وإبسن ونجيب محفوظ وغيرهم ، كانت تعبيراً ملحاً عن قضايا مجتمعها ، لكنها ـ من بعد ـ تجاوزت " الآنية " لتعنى باهتمامات الإنسان الباقية ، وتجيب عن أسئلته المهمة . لذلك فإن المبدع الذى يدرك قيمة الفن ، يتحفظ على الإبداعات التى انشغلت باللحظة الآنية ، فتجردت من الديمومة التى تهب العمل الفنى استمرار الحياة . صارحت أستاذنا نجيب محفوظ ـ عقب نكسة 1967 ـ بإشفاقى من أنه يعنى بالتعبير ـ فيما سماه مسرحيات ذات فصل واحد ـ عن التطورات السياسية والاجتماعية ، التى ربما تتصل بالطارئ والمؤقت ، بحيث تنتسب ـ فى المستقبل ـ إلى التاريخ بأكثر من أن تنتسب إلى الفن . قال لى محفوظ : إن لدى استعداداً لأن أكتب عملاً من هذا النوع ، ولظروف سياسية أحب أن أمارس دورى فيها ، حتى لو قدر لهذه المسرحية أن تموت فور انتهاء المناسبة التى كتبت فيها . لقد عنى ـ على حد قوله ـ بالتوصيل قدر اهتمامه بالتعبير . وكان لذلك بواعثه الملحة ، وهى أن مصر كانت تحيا فى ظل نكسة ، ومع تفهمى لقول سارتر " إننى أكتب لزمنى ، لا يهمنى من يأتون بعدى " ، فإن العمل الإبداعى يختلف ـ بعامة ـ عن الوثيقة التى تخاطب اللحظة المعاشة .
    ***
    صلتى بعملى الأدبى ، وفهمى له ـ بعد أن يجد سبيله إلى النشر ـ يجب ألا تجاوز صلة الآخرين به ، وفهمهم له ، بمعنى أنه ينبغى ألا أتصور فى نفسى قدرة على تفسير العمل ، وفهم دلالاته ، أكثر من الآخرين . وبالتأكيد ، فإن الفنان ليس أقدر الناس على الإحاطة بعمله ، بل إنه قد يكون أبعد الناس عن ذلك . ولأن المتنبى كان ذكياً وفاهماً ، فقد كان جوابه على السائلين عن شعره : عليك بابن جنى ، فإنه أعرف بشعرى منى !. وكان أبو الفتح عثمان بن جنى هو شارح ديوان المتنبى وناقد شعره . على الفنان أن يطرح الأسئلة طرحاً صحيحاً ، لكنه ليس مطالباً بأن يجيب على ما يطرحه من أسئلة . وكما يقول تشيخوف ، فإنه ما من سؤال واحد قد أجيب عليه ، أو وجد حلاً ، فى رائعة تولستوى " أنا كارنينا " ، لكن الرواية ترضينا تماماً لأن كل الأسئلة قد طرحت طرحاً صحيحاً . مهمة المبدع أن يطرح القضية طرحاً جيداً ، وإن كان عليه ـ فى الوقت نفسه ـ أن يظل الطرح بلا حل ، تظل النهاية مفتوحة . فإيجاد الحل هو مهمة المتلقى . إن عليه ـ فى المقابل ـ أن يبذل جهده , ويفكر فيما طرحه المبدع . إنى أكتفى ـ فى نهاية كل قصة ـ وأحياناً فى ثنايا القصة ـ باللمحة الدالة التى تخاطب ذكاء القارئ , وعيه ، تراثه الروائى والقصصى ، لا تفرض عليه استنتاجاً أو رأياً . الكثير من سردى الفنى ينتهى بصيغة السؤال ، أو التساؤل . أذكر قول أندريه جيد " إن واجب الكاتب أن يوجه الأسئلة للقارئ ، ويحاصره ، ويدفعه إلى الإجابة " . كذلك فإنه من حق المتلقى ـ بصرف النظر ما إذا كان ناقداً متمرساً أم قارئاً عادياً ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من القيم والمعانى والدلالات مادامت طبيعة العمل تحتم ذلك ، وليس المطلوب من كل غواص أن يستخرج من البحر ما استخرجه الآخرون .
    الفعل الإبداعى لحظة ناقصة ، لا تستكمل إلا بالمتلقى الذى تستكمل اللحظة بتلقيه . قراءة النص إعادة خلق له . بل إن النص المتفوق هو ما يجاوز الدلالة المغلقة ، ليطرح العديد من الدلالات . من حق قارئ العمل الأدبى ـ ومن واجبه أيضاً ـ بصرف النظر عن مدى ثقافته ، أو تخصصه ـ أن يستنبط من العمل ما يشاء من المدلولات ، التى يجد أن العمل يحتمل التعبير عنها . بل إن تصور التفسير الواحد لعمل ما ، ينزع عن ذلك العمل صفة الديناميكية التى تعد سمة أساسية فى العمل الفنى . وكما يقول رينيه ويلك فإنه لو قدر لنا أن نسأل شكسبير عن المعنى الذى قصد إليه من كتابة " هاملت " لما كان فى جوابه ما يشفى الغليل ، مع ذلك فنحن نجد فى هاملت ما قد يكون ـ فى الأرجح ـ بعيداً عن ذهن شكسبير ".
    العمل الفنى الجيد هو الذى يحتمل العديد من التفسيرات ، تعدد التفسيرات دليل على خصوبة العمل ، وعمقه ، بشرط أن تصدر كل التفسيرات من داخل العمل ، ولا تفرض عليه من الخارج ، أو تستنطقه بغير ما يقول .
    ***
    يقول أرسكين كالدويل : " إن واجب الكاتب والتزامه يجب أن يكون أمام نفسه ، وأمام قارئه " .
    الالتزام لا أرفضه ، ولعلى أوافق عليه . أما الإلزام ، فإنه يعنى القضاء على ملكة الإبداع ، وهى ملكة " فردية " لا تستطيع أن تتحقق ، وتنطلق ، إلا فى جو من الحرية . الإلزام فى الفن يعنى ـ بأبسط عبارة ـ القضاء على موهبة الفنان ، فهى لا تحيا وتزدهر إلا فى الحرية المطلقة . التزام الفنان ينبع من داخله ، من ذاته ، من نظرته إلى الأمور ، وفهمه لها ، وإيمانه بالقضية التى يعالجها ، وفى كل الأحوال ، فإن ذلك الالتزام ينبغى أن يتحرك فى دائرة الفن . وقد أعلن كامى ـ يوماً ـ أنه ضد الالتزام ، إن كان الالتزام يعنى ارتباط الفنان بصانعى التاريخ الذين يغنون على مؤخرة السفينة للقمر والنجوم ، بينما سياط جلاديهم تسلخ شعوبهم فى قلب السفينة نفسها . بل إن الكاتب ـ إذا كان قد اختار مهنته عن اقتناع ، وبجدية ووعى ـ لا يستطيع أن يصمت ، إلا إذا اعتبر الصمت مظهراً من مظاهر الكلام . الأدق : مظهراً من مظاهر رفض الكلام ، لأن الضغوط لا تتيح له أن يتكلم بصورة طبيعية ، وبما يمليه عليه ضميره . وكما يقول سارتر فإذا " تناولت هذا العالم ، بما يحتوى عليه من مظالم ، فليس ذلك لكى أتأمل هذه المظالم فى برودة طبع ، بل لكى أراها حية بسخطى ، أكشف عنها، أبعثها مظالم على طبيعتها ، أى مساوئ يجب أن تمحى " .
    وبالنسبة لأوضاع مجتمعاتنا العربية ـ التى لا تجاوز الديمقراطية فيها دائرة التمنى ! ـ فلعلى أزعم أنى أتفهم قول تورجنيف : " يجب على الكاتب ألا يفقد شجاعته ، وإنما عليه أن يمضى فى بسالة إلى النهاية ، فلنرفع رءوسنا إذن فوق الأمواج ، حتى تجتذبنا الأعماق تماماً " . بوسع الكاتب ـ كما يقول الفرنسي بريسباران ـ أن يصمت ، " ومادام قد اختار أن يطلق رصاصاته ، فإن عليه أن يتصرف كرجل ، يصوب إلى الأهداف الحقيقية ، ولا يفعل كطفل يطلق رصاصاته عشوائياً ، وهو مغمض العينين ، لا ينشد سوى سماع صوت انطلاق الرصاصات " .
    ليس المهم أن أردد الشعارات الباهرة عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها ، المهم أن أومن بذلك ، أن تتطابق تصرفاتى مع أومن به . الكتابة الحقيقية فى عصرنا نوع من الشهادة ، والكاتب الحقيقى يصرعه رصاص كلماته ، وإن كنت أومن بأن المستقبل للإنسان .
    ..............
    1985
    رد مع اقتباس  
     

  12. #36  
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    القصة تكتب نفسها
    ...........................

    " إن الفنان الحقيقى يهب نفسه كلها للفن "
    بوشكين
    " للفنان عالم خاص يملك مفتاحه هو وحده "
    أندريه جيد
    إن الفن يزلزلنى ، عبارة لفلوبير ، أتذكرها كلما أنهيت عملاً ما . كانت الكتابة ـ فى تقدير فورستر ـ أمراً مريحاً ، وأعلن دهشته لعبارة " آلام الخلق " . وأكد مورافيا أنه يكتب ليسلى نفسه . والكتابة ـ عند الكثيرين ـ هى مجرد تسلية . يغيظنى قول أحدهم ، رداً على اعتذارى عن موعد بأنى مشغول : يعنى مشغول فى ايه ؟. والكتابة : أليست مشغولية ؟ أليست هما يجب حشد النفس له ؟. أذكر عجب جون برين من افتراض الناس أن الكتابة لا تعدو ضرباً من السحر ، وأنها تخلو من الجدية . عذر الفتاة مقبول إذا تحدثت عن انشغالها بغسل شعرها ، أما عذر الانشغال بالكتابة فهو غير مقبول . وحين سئل وليم ستايرن : هل يستمتع بالكتابة ؟. أجاب : كلا بالقطع !. نعم ، إنى أشعر شعوراً طيباً عندما أجيد ، لكن ذلك الشعور يتخللهالألم الذى أعانيه كلما شرعت ـ كل يوم ـ فى الكتابة . بصراحة ، إن الكتابة جحيم !
    اللغة تقول إن الإبداع هو " إحداث شيء على غير مثال سابق " . وإذا كان أندريه جيد قد كتب إبداعاته على أمل أن يجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة عليه ، فإن ناتالى ساروت تعلن " يجب ألا نكتب إلا إذا أحسسنا بشيء لم يسبق أن أحس به ، أو عبر عنه ، كتاب آخرون " . ويقول سيزان : " إننى أريد أن أرسم ، وكأن رساماً واحداً من قبلى لم يقم بهذه المهمة " . ولعلى أوافق فلوبير بأن مهمة الرواية الأهم هى أن تبين دائماً عن الجديد . الخطأ الأكبر الذى يقع فيه الروائى هو أن يكون سلفياً ، فيكرر ما اكتشفه ـ من قبله ـ الآخرون . القول بانه لا جديد تحت الشمس يحتاج إلى مراجعة . ثمة الجديد دائماً تحت الشمس ، وكل يوم هو إضافة ـ سلبية أو إيجابية ـ فى حياة الفرد والجماعة ، وفى حياة الكون جميعاً ، وإلا فماذا تعنى آلاف المنجزات التى تقدمها البشرية ، فى توالى الأيام : الكتب والاختراعات والاكتشافات وطرائق التربية والإبداعات الفنية وغيرها ؟. يعجبنى قول جارثيا ماركيث " الكاتب الذى لا يعرف ماذا يعمل ، يسعى دائماً ألا يكون شبيهاً بالآخرين ، لكنه يصبح فى الحال غير متجاهل للكتاب الذين يحبهم ، أفضل من هجرهم نهائياً " . ودلالة قول هيراقليطس " أنت لا تستطيع أن تستحم فى مياه النهر مرتين " واضحة ، فمياه النهر فى جريان دائم ، بحيث يغتسل المرء دائماً فى مياه جديدة .
    والحق أنى لا أذكر متى كان تعرفى إلى الإبداع السردى ، كقارئ فى البداية ، ثم كواحد من الذين يطمحون لتقديم إضافة فى هذا المجال . كانت أيام طه حسين هى أول ما أذكره من قراءات مؤثرة ، قرأتها فى حوالى الثامنة من عمرى ، أحببت لغتها فى القراءة الأولى ، ثم ألممت بضمونها فى القراءة الثالثة ، وأفدت ـ بعد ذلك ـ كثيراً من مكتبة أبى . كانت تضم عدداً هائلاً من المؤلفات التى تعنى بألوان المعرفة الإنسانية ، والقصة والرواية ـ بالطبع ـ من بينها . وحين جرى القلم بالمحاولات الأولى ، فإنها لم تكن أكثر من تقليد ساذج لكتابات المنفلوطى والمازنى وهيكل وحقى وعبد الحليم عبد الله ومكاوى وغيرهم من أدباء جيل الرواد ، وجيل الوسط الذين أتاحت لى مكتبة أبى قراءة مؤلفاتهم [ تعرفت إلى نجيب محفوظ فى مرحلة تالية ] . وقد أقدمت فى سن باكرة على إصدار كتابين [ التسمية لا تخلو من تجاوز ] يتبدى فيهما ذلك التأثر بصورة مؤكدة ، وهما الملاك وظلال الغروب . أنت تجد فى كل فقرة ، وكل تعبير ، إفادة من كتابات هؤلاء الكبار . كنت أنفذ ـ دون أن أدرى ! ـ نصيحة د . جونسون " انقل كتابات أدبائك المفضلين حتى تستطيع ـ ذات يوم ـ أن تكتب مثلهم " . كنت فى مرحلة الصبا ، لم أستقر على أسلوب ، وإن تعجلت ـ فى الوقت نفسه ـ أن أكون كاتباً . كانت " الملاك " أشبه بمقال رثائى لأمى التى اختطفها الموت قبل سنوات . أما ظلال الغروب فقد عرضت لقصة حب بين شاب وفتاة . وبالطبع ، فإنى أعتبر هذين النصين من ذكريات الصبا ، بل إنى أتردد كثيراً فى وضعهما تحت تصرف الدارسين ، حتى لا يصدموا فى سذاجات البداية . أما قصة البداية التى أعترف بها ، فهى يا سلام من مجموعة تلك اللحظة . كنت أسير فى شارع شريف ، بالقرب من ميدان محطة الإسكندرية ، عندما استمعت إلى شيخ يبيع الكيزان الصفيح ، يخاطب نفسه بأنه يريد النوم فى أى مكان . ولأن مصر ـ أيامها ـ كانت تواجه عدوان 1956 ، فقد تناولت مأساة الرجل باعتباره ضحية للحرب . ثم كتبت العديد من القصص القصيرة ، قرأها أستاذى أحمد عباس صالح ، فنصحنى بأن أمزق معظمها ، وأنشر أقلها ، وبعضها لم أنشره فى مجموعتى الأولى .
    ***
    يقول نورمان بوردور فى سيرته الذاتية : " الكتابة من أشد الأنشطة الإنسانية غموضاً ، ولا أحد ، حتى المحللين النفسيين ، يعرف القوانين التى تحكم حركتها أو توقفها . فالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية والمقالة ، وحتى الدراسة النقدية ، هى هناك ، حتى قبل أن يخط الكاتب كلمة واحدة على الورق . وفعل الكتابة أشبه بالمفتاح السحرى الذى يفتح الباب المغلق ، فيبدأ الإبداع فى التدفق " . وبالنسبة لى فإنى أخشى العمل الفنى قبل أن أبدأ فى كتابته ، يشغلنى ، ويلح على . أقرر ـ مرات كثيرة ـ أن أخلو إليه لأكتبه ، لكننى أتذرع بحجة ما ، فأتشاغل عنه ، وإن ظل يشغلنى إلى حد بعيد . ثم أبدأ فى الكتابة عندما أشعر أن هناك إلحاحاً داخلياً يدفعنى إلى ذلك . ربما انشغلت ، أو تشاغلت ، فتفلت اللحظة الماسبة . وحين أتوهم ثانية أنها قد عادت ، تأتى الكلمات باهتة ، باردة ، كالوجبة التى لم تقدم وهى ساخنة . وفى معظم الأحيان ، فإن البدء والختام فى قصة قصيرة ـ أحرص أن يكون ذلك فى جلسة واحدة ـ تأتى أقرب إلى المفاجأة . ربما تطاردنى الفكرة شهوراً ، فأتناساها وأهملها ، وأنصرف عنها إلى قراءات وكتابات أخرى ، ثم يجرى القلم على الورق دون تعمد . ولعلى أتذكر ملاحظة صامويل باتلر عن أعماله الروائية " إننى لا أضعها أبداً ، إنما هى تنمو ، فهى تقبل على ملحة فى أن أكتبها ، ولولا أننى أحببت موضوعاتها لحزنت ، وما كان لشيء أن يحملنى على كتابتها إطلاقاً . أما وقد أحببت هذه الموضوعات فعلاً ، وأما وقد جاءت الكتابة قائلة إنها تريدنى أن أكتبها ، فقد تململت قليلاً ، ثم كتبتها " ( ت نبيل راغب ) . ويعرّف جورج مور الرواية بأنها " تتابع منظم للحوادث فى أسلوب إيقاعى منظم للعبارات " . ولعلى أعترف أنى أبدأ فى كتابة العمل ، وأواصل الكتابة ، وقد أهملت كل ما قرأته وتعلمته عن الشخصية والحدث والبيئة والصراع والعقدة والذروة والحل ، وغير ذلك من التعريفات التى أعتبرها مخزوناً معرفياً ، أفيد منه بالضرورة ، ودون تعمد ، شأنه شأن الذكريات والتجارب والخبرات والقراءات إلخ ، عفوية الإبداع لا تلغى ثقافة المبدع ، بل إن الثقافة لازمة للمبدع إطلاقاً .
    أحياناً ، أهم بكتابة رسالة أو مقال صحفى ، فيتحول ـ منذ البداية ـ إلى القصة التى كانت تشغلنى وتشاغلنى . وعندما أنتهى من كتابة القصة ، فإنى أعيد النظر فيها بين حين وآخر ، حتى أطمئن ـ فى النهاية ـ إلى إمكانية نشرها . فإذا نشرت ، لم يعد لى بها بعد ذلك صلة . ولأن الفكرة حين تختار لحظة تسجيلها تكون أشبه بالمولود الذى لابد أن يغادر بأكمله رحم أمه ، فإنى أكتب بسرعة ، دون توقف . ما يشغلنى هو التدوين فحسب . ربما أتوقف أمام كلمة ، أو جملة ، أو موقف كامله ، فأتجاوز ذلك كله ، وأترك السطور مكانه خالية وأواصل الكتابة ، على أن أعود إلى السطور الخالية بعد ذلك ، فأحاول أن أسود بياضها . بعض أعمالى واتتنى [ هل ، على سبيل المثال ] وأنا فى حلم يقظة ، وحين قرأتها ، لم أضف إليها ـ ولا حذفت ـ حرفاً ، نقلتها على الآلة الكاتبة بصورة الكتابة الأولى [ لم أكن قد تعرفت إلى الكومبيوتر بإمكاناته المذهلة ! ] . كنت أتردد فى البوح بذلك الأمر ، حتى عرفت أنه يحدث للكثير من الأدباء . أذكر قول همنجواى " يحدث لى أحيانا أن أحلم بالسطور نفسها ، وفى هذه الحالة ، فإنى أستيقظ وأكتبها ، وإلا ربما نسيت الحلم تماماً " . كانت كوليت تقضى الصباح كله فى كتابة جملة واحدة . وأنا أفضل أن أترك لهذه الجملة موضعها فى السياق ، ثم أتأملها ، أضعها فى بالى ، أحاول صياغتها فى حياتى العادية : فى البيت ، فى المكتب ، فى الطريق ، حتى إن تشكلت على النحو الذى أطمئن إليه ، ملأت بها الموضع الخالى من السياق . تعمد وصل الجمل بالمعانى الغائبة يضر بالعمل الإبداعى ، فأنت قد تقبل ـ لتكامل النص ـ كتابة ما ، قد يكون فى وعيك أفضل منها . أنا أكتب القصة القصيرة ، أو الفصل فى رواية ، فى جلسة واحدة . لا أترك القلم والورق قبل أن أنهى ما بيدى ، يملى النص ما يحمله . ربما اتجهت الأحداث إلى عكس ما كنت أفكر فيه قبل البدء فى الكتابة ، وربما أبانت الشخصيات عن نقيض ما كنت أتصوره فيها . لا أحاول التدخل ، إنما أترك المسألة برمتها إلى موروثات وقراءات وتأملات ورؤى وخبرات وتجارب . وعلى حد تعبير همنجواى ، فإن همى الأول ـ وأنا أبدأ فى كتابة الرواية ـ هو أن أنجزها . إذا صادفت قلقاً فى بعض المواقف أو التعبيرات ، أو حتى الكلمات التى تهب المعنى ، فإنى أتجاوزها ليظل الخيط متصلاً إلى نقطة الختام ، ثم أبدأ فى رتق [ وأعتذر لردءاة التشبيه ! ] ما أهملته من قبل ، أو يبدو لى غير منسجم مع النص . لا أترك القلم ، أعتبر النص منتهياً إلاّ إذا بدا النص جسماً مكتمل الملامح والقسمات والتكوين ، لوحة فنية متكاملة الأبعاد والألوان والظلال ، قطعة نسيج خلت من العيوب التى تقلل من قيمتها . لا أقصد من ذلك أنى أكتفى بمجرد وضع السواد على البياض ، أو على حد تعبير موباسان " اكتب أى هراء ، ولا يهمنى ماذا يكون ، ثم أنظر فيه بعد حين " . أنا أكتب بالفعل ، أحاول أن أعبر بقدر ما تواتينى الموهبة ، وحضور اللغة ، فإذا استعصى التعبير تركت الجملة ، أو الفقرة ، حتى لا أفقد المواصلة ، ثم أعود إلى النص ، أطيل قراءته ، أعاودها ، أتأمل وأفكر وأضيف وأحذف وأبدل ، حتى أطمئن إلى أنى لم أخطئ فى صياغة جملة ، ولا إلى موضع كلمة ولا حرف . وربما أقدمت على تمزيق النص ، لأن صورة المولود شوهاء ، فلن تجدى إعادة نظر . عموماً ، فإنه يجب أن تكون أمام الفنان فترات للتأمل ، وهذه الفترات عندى حين أقود سيارتى ، أو عند ركوبى المواصلات العامة ، أو لحظات القراءة . تثيرنى معلومة ، فأسرح فيها ، وربما بعيداً عن المعلومة نفسها . قد تأتى لحظات التأمل تحت " الدوش " ، أو فى دورة المياه ، أو حتى أثناء تناول الطعام . إنها تأتى فى اللحظات التى أنعزل فيها ـ دون وعى دائماً ـ عن الآخرين ، أذهب إلى جزر قريبة ، وبعيدة ، أتنقل بين عوالم واضحة وضبابية وهلامية ، فى هذه اللحظات ، تواتينى فكرة الرواية ، أو القصة ، أستكمل الجملة الناقصة ، أحذف الكلمة الزائدة ، وربما الحرف الزائد . قرأت لفيلكس ألكرن إن قلمه كان يجرى على الورق بقدر ما تواتيه السرعة ، فهو يجعل بعض الكلمات إشارات وخطوطاً ، ويملأ الصفحات بما يصعب قراءته . ربما كان خط ألكرن جيداً ، فهو يكتب ـ بسرعة ـ كلمات وجملاً واضحة . أما خطى فهو سيء فى الكتابة العادية ، ويصعب على قراءته ـ أحياناً ـ بعد أن أكتب بسرعة ، ولولا أن عمل زوجتى بالتدريس لأعوام طويلة ، فخبرتها فى الخطوط طيبة ، ولولا أنى أفلح فى القراءة بالتذكر ، فلعلى كنت سأتخلص من الكثير الذى قرأته ، يأساً من قراءته .
    ***
    يعرف بعض الأدباء " الإلهام " بأنه القدرة على أن يخلق المرء فى نفسه أنسب الحالات للعمل . ويقول أوستروفسكى : إننى مقتنع بشيء واحد ، هو أن الإلهام يأتى أثناء العمل ، والكاتب يجب أن يكون كالبناء فى هذا البلد ، أى أن يعمل فى جميع الأجواء ، سواء كانت سيئة أم حسنة " . أنا أتفق مع هذا الرأى تماماً ، فالقضية ليست فى " أنسب الحالات للعمل " ، ولكن فى مدى قدرتناعلى إيجاد تلك الحالة فى النفس . كذلك فإنى أتفق مع الرأى بأنه ينبغى على الكاتب ألا ينتظر حتى يأتيه الإلهام ـ وقد لا يأتيه ! ـ وإنما عليه أن يذهب فيحصل عليه . من الخطأ ـ على حد تعبير جون برين ـ أن ننتظر الوحى قبل الكتابة ، لا لأن الوحى لا وجود له ، بل إنه لا يأتى إلا مع الكتابة . يكفى أن تكون لديك الصورة ، ليس من الحتم أن تكون عالماً بأصل الصورة ، المهم أن تكون لديك الصورة ، وهى لن تكون موجودة ، ومتبلورة إلى حد ما ، ما لم تكن قد اتخذت قراراً بكتابة القصة ـ أو الرواية ـ وهممت بكتابتها . ولعلى أشير إلى قول همنجواى : " فى روايتى العجوز والبحر كنت على علم بأمرين أو ثلاثة من الموقف كله ، لكن لم أعرف القصة ، كما لم أكن أعرف على وجه الدقة ما سيقع من أحداث فى لمن تدق الأجراس ، أو وداعاً للسلاح .
    والحق أنى حين أبدأ فى كتابة عمل ما ، فإن صورته فى ذهنى لا تكون واضحة تماماً . إنى أكتفى بالفكرة دون تفصيلات ، وإن توضحت بعض التفصيلات الصغيرة ، لكننى أفضل أن يكتب العمل نفسه ، بمعنى أنى أرفض التحديد الصارم لصورة العمل منذ بداية الكتابة ، حتى لحظة ترك القلم ، ذلك تعسف لا أتصور أنى أقدم عليه . وكما قلت ، فإنى أبدأ الكتابة وصورة العمل غير واضحة الملامح ، فتتوضح معالمها أثناء الكتابة ، لأنها هى التى تهب تلك الملامح ، بإسهام من المخزون الذى أمتلكه من الخبرات والتجارب والرؤى والتصورات . عندما أبدأ الكتابة ، فإنى أعتمد كثيراً على الخبرات ـ خبراتى وخبرات الآخرين ـ الكامنة والمترسبة فى أعماقى . لا أجهد نفسى فى البحث ، ولا أحاول انتزاعها ، إنما أترك للعملية الإبداعية سبيل استدعائها على الورق ، تظهر فى الوقت الذى تريده ، وعلى النحو الذى تريده ، دون تعمد ولا قسر من ناحيتى . وربما تكون الشخصية ، أو الحادثة ، غائبة تماماً ، فلا أتذكرها إلا أثناء عملية الكتابة .
    ***
    (يتبع)
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  2. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08/07/2011, 12:01 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
  4. مع الروائي محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 54
    آخر مشاركة: 21/08/2008, 10:02 PM
  5. كتاب .. "زواهر الفكر وجواهر الفقر" .. لابن المرابط ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01/02/2007, 12:45 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •