الكاتب .. والقارئ
......................
نحن نكتب على أمل أن نجد قارئاً لم يقرأ الأعمال السابقة علينا
أندريه جيد
إذا كان الفن يكمن فى العلاقة بين الدوافع الكامنة وراء الإبداع الفنى وبين المتلقى لهذا الإبداع ، فإن الكثير من الشخصيات الروائية ـ والقول لأندور لايتل ـ يجيئون إلى الحياة عبر صفحات العمل الإبداعى بقوة الإلهام اللاشعورى المتحكم فى مسيرة الكتابة ، دون إعداد سابق قد يسهل على القارئ تبينه . أذكر رأى أستاذنا حسين فوزى بأن " الحاسة الفنية لا يكاد يخلو منها إنسان ، وإن تفاوتت قدرات الناس على الانفعال بالفن ، واختلفت قيمة الأعمال الفنية ذاتها بالنسبة لمقدرة الناس على التذوق ، ووعيهم الثقافى " ( الطليعة ـ مارس 1967 ) . لذلك فإن على القارئ أن يستدعى مخزونه المعرفى من قراءات وتجارب الذات وتجارب الآخرين ، بل وإعمال الخيال ليصل ما قد يحمله العمل الإبداعى من دلالات ..
الفنون هى أعلى شكل من أشكال النشاط التوصيلى . والعلاقة بين المبدع والمتلقى ـ فى تصورى ـ أشبه بالعلاقة بين جهازى الإرسال والاستقبال ، وعلى المبدع أن يطمئن إلى سلامة توصيلاته ، بمعنى أن يطمئن إلى صدقه الفنى ، لا يتعمد الغموض ، وإنما يترك العمل يكتب نفسه ، مستفيداً من موهبة المبدع ، ومن خبراته وقراءاته وتجاربه .. وفى المقابل ، فإنه على المتلقى أن يبذل جهداً مكافئاً لما بذله المبدع فى فنه ، أن يشارك المبدع مغامرة اكتشافه وإبداعه ، لا يكتفى بالتلقى السلبى أو السطحى الذى ينشد المتعة المجانية ، وإنما يحاول تذوق العمل الإبداعى ، وتبين دلالاته ، وتلمس النشوة الروحية العميقة التى يهبها لمتلقيه . بل إن عملية القراءة تختلف باختلاف لحظات التلقى . فالذهن الرائق ، والحالة المسترخية المنبسطة ، أو الموافقة التى قد تكون مسبقة لما يحمله النص من دلالات ، تتلقى النص بصورة مغايرة للذهن المكدود ، أو الحالة المزاجية المتعكّرة ، أو الرفض الذى قد يكون مسبقاً لما يحمله النص .
ولعلى أوافق سارتر على أن القراءة عملية خلق من القارئ بتوجيه من الفنان . ثمة نصوص تهبنى نفسها منذ السطر الأول ، تهبنى صداقتها ، وخطابها التحدثى ، وحميميتها . تنفتح أمام القارئ ، فيسهل عليه المتابعة والفهم . قد يكتفى بدلالة ما ، وقد يعيد القراءة ، فيخرج بدلالات أخرى . وثمة نصوص تنغلق أمام قارئها ، فهو يجد صعوبة فى تلقّيها ، لا يصل ـ من خلال المتابعة ومحاولة الفهم ـ إلى مستوى دلالى ، ومن ثم فهو يضطر ـ لتحقق المتابعة ـ إلى تحميل النص دلالات قد لا يحتملها ، أو قد يمتنع عن مواصلة التلقى .
القول بأن موت المؤلف سيجعل القارئ على الحياد ، يحتاج إلى مراجعة ، لأن عملية التلقى ـ بافتراض موت المؤلف ـ لا شأن لها بشخصية المتلقى نفسه . المتلقى شخصية مقابلة ، مغايرة ، لها خصائصها التى تحسن التلقى ، أو العكس . أنا أقبل على قراءة العمل الأدبى بمخزون معرفى وخبرات ، تمثل ـ فى مجموعها ـ الشخصية المتلقية التى هى أنا . المتلقى ليس شخصاً مطلقاً ، ليس مجرد فهم واحد ، متكرر ، فى تلقى العمل الأدبى ، لكنه شخص ، فرد ، يختلف فى ظروفه وبيئته وثقافته وتجاربه عن بقية القراء ، وباختلاف ذلك كله تختلف درجة التلقى بين قارئ وآخر ..
ربما وجد الفنان فى دراسة نقدية لأحد أعماله دلالات لم تكن فى باله عندما شرع فى الكتابة ، بل ولا حين دفع بالعمل إلى المطبعة . لم يكن يقصد المعنى الذى تحدث به القارئ / الناقد إطلاقاً . وللدكتور عبد الله الغذامى مثل مهم ، هو أن المتنبى كان يقول إن ابن جنى أعرف بشعره منه ، أى من المتنبى . وكانت اجتهادات ابن جنى فى شعر المتنبى ، تأويلاً وتفسيراً ، رائدة وغير مسبوقة ، فضلاً عن امتيازها المؤكد المستند إلى ثقافة موسوعية . لكن الأجيال توالت ، وقدمت تأويلات جديدة لشعر المتنبى ، تختلف ـ بصورة جذرية أحياناً ـ عما قدمه ابن جنى من تأويلات ..
والحق أن مشاهدة مسرحية ، أو فيلم سينمائى ، لا تحتاج من المتلقى إلاّ التركيز فى متابعة ما هو متجسد أمامه بالفعل . أما قراءة الرواية أو القصة ، فهى تترك للذهن تجسيد ما يقرأه ، بتخيل الشخصية والحدث ، بإثارة الحوار مع ، وفى ، ذلك جميعاً . إن الإبداع الجيد هو الذى نكتشف أننا لم نعد كما كنا عندما بدأنا تلقيه ..
وبالطبع ، فإن الكتابة لا تتم فى لحظات ، إنما هى قد تأخذ زمناً طويلاً من الكتابة والمراجعة والتأمل ، والاطمئنان إلى الصورة النهائية . بالإضافة إلى ما سبق ذلك من قراءة وتجربة ومعايشة ، بحيث اكتملت للمبدع أدواته الفنية ، واكتملت نظرته الشاملة . وفى المقابل ، فإن القراءة يجب ألا تتم فى لحظات . إنها تحتاج إلى جهد يقترب ـ ما أمكن ـ من جهد الكتابة . قد تصح القراءة السريعة لمواد الجريدة اليومية من أخبار وتحقيقات وغيرها ، لكن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة واعية ، ومتأملة ..
***
ابتداء ، فإن المبدع يجب أن يعيد قراءة ما كتب أكثر من مرة . الناقد فى ذات المبدع هو صاحب النظرة الأخيرة التى تناقش وتحذف وتضيف وتجيز . وقد يكتب الأديب قصة فى ليلة ، ويراجعها فى أشهر .. وهذا ما أفعله شخصياً . وفى المقابل ، فإنه على القارئ أن يبذل جهداً مساوياً للجهد الذى بذله المبدع فى الكتابة . من الصعب التوقع بأن يمنح العمل الإبداعى عطاءه ، ويكشف مقولته ودلالاته ، دون أن يسهم القارئ فى مغامرة الاكتشاف . النص الإبداعى يحتاج إلى قراءة متأملة ، متعمقة ، متفكرة ، بحيث يلامس مفتاح العمل ، ويستطيع اكتناه دلالاته . وكما يقول أوكونور ، فإنه ليس للروائى أن يتوقع من القارئ أن يصبر على قراءته مرتين اثنتين ، إذا لم يكن مستعداً لقراءة ما يكتب عشرات المرات . أشفق على المبدع الذى يعنيه القارئ أكثر مما تعنيه العملية الإبداعية فى ذاتها . إنه يفكر فى التأثير الذى سيحدثه الموقف ، أو الشخصية ، أو الدلالة التى يعنيه توصيلها .. لكننى ـ فى الوقت نفسه ـ أرفض القارئ الذى تعنيه سهولة العمل . القارئ الذى أريده هو الذى يشاركنى فى متابعة الأحداث ، وفى فهمها ، وتقبل الشخصيات ، أو عدم تقبّلها ، التعاطف معها ، أو معاداتها . يقرأ بإيجابية ، يتأمل ، يضع الملاحظات ، يشارك بإيجابية فى تنامى النص ، يظل منشغلاً بما قرأه بعد أن يتركه . من المهم أن تتحول العلاقة بين المبدع والمتلقى من مجرد متابعة مسلية إلى مناقشة ، أخذ ورد ، قبول ورفض . ولعل غاية ما أرجوه أن أثير فى القارئ ـ القارئ العادى تحديداً ـ ملكة النقد . كذلك فإنى أفضل النهاية المفتوحة بدلاً من النهاية التى تقرر وتحسم . إنها تحض على تأمل العمل ، والتحاور معه ، ومحاولة الكشف عن الدلالة ـ أو الدلالات ـ الكامنة فيه . النهاية المفتوحة ، مجرد النهاية المفتوحة لقصة ما ، بحيث يضع المتلقى دلالتها ، يعنى أن المتلقى ليس مجرد مستهلك للعمل الإبداعى ، لكنه مشارك فى عملية الإبداع ..
الأدب هو المعرفة الكاملة بخبرة الإنسان ، والمقصود بالمعرفة الفهم الفريد والمتشكل للعالم ، وهو ما لا يقدر عليه غير الإنسان . وبالنسبة لى ، فحين أستغرق فى القراءة ، أغادر صفحات الكتاب ، وأغادر الكرسى الذى أقعد عليه ، والحجرة التى تحتوينى ، والمدينة التى أقيم فيها . أتعرف إلى أماكن أخرى ، قريبة وبعيدة ، وإلى شخصيات تتحدث بلغات متباينة ، وأحيا التاريخ والجغرافيا والفلسفة والميتافيزيقا وعلم الاجتماع والسياسة إلخ . وثمة حقيقة ـ أتصورها بديهية ـ هى أن عمل الروائى الأساسى هو أن يجعل القارئ يستمر فى قراءته ، وهو لن يستمر إلا إذا استهواه ما يقرؤه ، أو فلنقل ما دام يؤمن بصدق ما يقرؤه .
ثمة من لا يملك صبراً طويلاً على الأدباء الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليتفهم كتاباتهم : " ليس لدى صبر طويل على هؤلاء الكتاب الذين يكلفون القارئ مجهوداً ليستبطن معنى ما يقولون . وما عليك إلاّ أن تذهب إلى كبار الفلاسفة لترى أنه من الممكن التعبير فى وضوح عن أعمق الأفكار " . وتقول الشاعرة ماريان مور : " إذا لم تستطع أن تشد انتباه المتلقى منذ البداية ، وتجعله يتابع ما كتبت ، فلا جدوى من الاستمرار " ، ولكن على القارئ ألاّ يتوقع حلاّ جاهزاً يقدمه له المبدع ، وعلى المبدع ـ فى الوقت نفسه ـ أن يحرك فى القارئ استجابة كافية للعمل بما يدفعه ـ بإرادته ـ إلى التفكير فى التغيير . الأدب فن للقراءة يقوم به القارئ وحده وهو يتلقى الصور التى يخلقها العمل الأدبى بمخيلته فى الدرجة الأولى ، أى فى التصور الروحى .
يقول ميشيل بوتور : " إن القارئ لا يقف موقفاً سلبياً محضاً ، بل يعيد من جديد بناء رؤيا أو مغامرة ابتداء من العلاقات المجمعة على الصفحة ، مستعيناً هو أيضاً بالمواد التى هى فى متناول يده ، أى ذاكرته ، فيضىء الحلم الذى وصل إليه بطريقته هذه كل ما كان يغشاه من الإبهام . إن الإبداع ليس مهمة المبدع وحده ، وإنما يجب أن يشاركه فيه القارئ ، لأنه وجه العملة الآخر . أوافق على أن القارئ طرف فى علاقة طرفها الآخر هو النص . " نحن نبدع النصوص حين نقرأها ، ونحن بالقراءة نقيم حياة النصوص ، أو نشهد على موتها " . وكان كورناى Corneille يترك الجميع يعلنون آراءهم ، ثم يحاول أن يفيد من النصائح الصالحة ، بصرف النظر عن مصدرها . ربما لذلك أحرص على أن أدفع بكل عمل جديد أكتبه إلى أصدقاء متباينى الثقافة والمكانة الأدبية أو الاجتماعية ، يبدون آراءهم ، فأهمل مالا أراه عيباً فى العمل ، أو إضافة له ، وأعمل بالملاحظات الإيجابية . وأذكر أنى عملت بملاحظات أصدقاء بعيدين عن العمل الثقافى ، لأنها أنقذت بعض ما كتبت من أخطاء معيبة . وعلى سبيل المثال ، فقد تنبه صديق إلى وفاة الخادم فى اعترافات سيد القرية قبل وفاة البطل " زاو مخو " ، وكنت قد جعلته يقف على تحنيطه كما كان الحال فى العصر الفرعونى . خطأ مبعثه مغالاتى ـ كما ذكرت لك ـ فى أن تكتب القصة نفسها . أبدأ بالقليل ، ويتخلق الكثير الباقى فيما بعد . تتخلق أحداث ، وتظهر شخصيات ، وتموت شخصيات ، وتتبدل مسارات ، ولا يكون لى فى ذلك كله حيلة . وأذكر أنى توقفت عند النهاية التى اختارها محمد قاضى البهار ، بعد أن حاصرته الظروف تماماً ، حتى همس لى ـ بعد أيام قليلة ـ وأنا أسير فى الشارع ـ انه اختار النزول فى البحر ..
ونزل محمد قاضى البهار البحر ، وإن لم أجعل ذلك التصرف نهائياً فى حياة قاضى البهار ، ربما لأنى وجدت فيه قيمة مصرية . قد تغيب عن حياتنا ـ لبواعث طارئة ـ لكنها لابد أن تعود ..
***
الفن إضمار ، بمعنى أن العمل الإبداعى يجب أن يوجد فيه ضوء ، وفيه أيضاً ظلال . وفى أوفيد بجماليون : " الفن هو أن تخفى الفن " . بل إن العمل الإبداعى قد يجد إضماره فى تقديم بعض المفاتيح غير الحقيقية ، بحيث يصعب أن نتوصل من خلالها إلى دلالات مؤكدة . وعلى حد تعبير جون برين فأنت لا تدرى ما يحدث فى الرواية حتى تنتهى .. بل إن الفنان ـ فى تقدير جورجى جاتشيف ـ لا يدرك الكثير من تفسيراته الممكنة .. ومع ذلك ، فإنى أوافق شوبنهاور على أن " أسلوب التعبير الملتبس الغامض دائماً ، من الدلالات البالغة السوء . وهو يأتى فى معظمه نتيجة لغموض الفكرة ، بمعنى أنه يوجد نقص وتناقض فى الفكرة نغسها ، أو أن الفكرة خاطئة " .
***
يقول فلوبير : " ان الفنان فى العالم الروائى ، صاحب القدرة على كل شئ ، برغم أنه لا يكشف عن ذاته .. ان عليه أن يكون مختفياً فى ثنايا عمله ، كالإله فى السماء " . لذلك فإنى أرفض الوصف الجسدى إذا لم يكن للعمل الإبداعى حاجة إليه . لماذا أقتحم ذهن التلقى بصورة محددة ، فى حين أنه ربما رسم صورة مغايرة ، تتسق مع الشخصية ، ومع الأحداث . الأبعاد الحقيقية لشخصية ما فى عمل إبداعى هى الأبعاد النفسية . كلما أجاد الفنان التعبير عنها ، توضّح تميزها ، صورتها الخاصة . وثمة عوامل مساعدة ، مهمة ، للأبعاد النفسية مثل تيار الوعى ، والحوارات الداخلية ، ودرامية الحوار ، والتصورات والأحلام والرؤى والذكريات الخ . أتفهم حب الكثير من الأصدقاء للقراءة أو السماع ، بدلاً من المشاهدة . القراءة والسماع يتركان للمتلقى فرصة تخيل المكان والشخصيات . أما المشاهدة فهى تحدد ذلك بصورة قاطعة . أنا أرسم الملامح الظاهرة إذا فرضت الحتمية الروائية ـ إن جاز التعبير ـ ذلك . أما الوصف لمجرد أن يكون للشخصية ملامحها الخارجية ، فهو تزيد لا معنى له ، ويشوش على الصورة التى ربما رسمها القارئ ـ فى ذهنه ـ للشخصية .
العمل الإبداعى يصل إلى المتلقى بقدر الصدق الفنى الذى عبّر به المبدع . الصدق الفنى هو ما أطلبه فى العمل الإبداعى الذى أتلقاه . ما يهمنى هو قيمة العمل الفنية ، لكننى لا أستطيع أن أهمل البيئة التى أحيا فيها ، لا أستطيع أن أهمل المعتقدات والقيم والتقاليد ، فلا أنسلخ عنها ، ولا أرفضها ، ولا أسخر منها . العلاقة الإبداعية هى بين مبدع ومتلق . ومن الصعب أن تنهض هذه العلاقة على نقيض الاحترام ، وهو ما لن يتحقق إذا ناقض المبدع ما يؤمن به المتلقى من قيم ثابتة ..
***
فماذا عن النقد ؟.. أليس الناقد قارئاّ ؟..
الناقد الممتاز ـ فى تعريف البعض ـ هو فنان تبحر فى المعرفة ، وذوّاق كبير ، لا أفكار مسبقة عنده ولا غيره . بينما يرى آخرون أن الناقد ليس مقوماً بتوخى العدالة فى أحكامه ، إنما هو روح مرهفة الحس تصف لنا مغامراتها بين روائع الفن . ويرى جوتييه Gautier فى الناقد الخصى المسكين المجبر على مشاهدة السيد الكبير ـ المبدع ـ وهو يلهو ! . أما روجر ب . هينكل فقد لاحظ أن معظم الدراسات التى تعنى بالقراءة النقدية تسلك أحد سبيلين ، فهى قد تتخذ من المجموعات القصصية أو المقتطفات الروائية ما تعتمد عليه فى تحقيق ما تريده من إيضاح المداخل المتعددة للقراءة النقدية ، أو أنها قد تلخص المقالات النقدية النظرية المعنية بدراسة الرواية . ويناقش الفرنسى ألبير تيبوديه ما يشاع بين الكتاب من أن الفنان مبدع ، وأن الناقد لا يبدع شيئاً ، وليس له وظيفة إلا أن يرى ، وأن يحكم ، وعلى وجه أخص أن يطرى ما ابتدعه الآخرون . والمديح الأكبر الذى يمكن أن يوجهه إنسان إلى ناقد كبير هو أن يقول له : إن النقد فى المستوى الذى ارتفعت به إليه أصبح حقيقة نقداً مبدعاً خلاقاً . ويجيب تيبوديه عن السؤال : ما هو ذلك الإبداع ؟.. يقول : " لنأخذ نمط المعمارى . لكن هناك معمارى ومعمارى . معمارى يبنى بيتاً للسكن ، على حين أن مايكل رانج يبتدع قبة سان بيير . أن تبنى معناه أن تطبق قواعد استخدام المواد الأولية وتلاحمها وفقاً لخريطة معدة ، أن تطبق الذكاء الحركى ، لكن أن تبدع ، معناه أن تسهم فى قوة الطبيعة ذّاتها ، أى أن تنتج من خلال عبقرية موازية للعبقرية الأولى " ( ت أحمد درويش ) .
***
ويفرض السؤال نفسه : هل الناقد مجرد وسيط بين المبدع والمتلقى العادى ، ليصبح المتلقى قادراً على الاستجابة للعمل الإبداعى ؟..
النقد الأدبى ـ بأبسط تعبير ـ هو فن الحكم على الإبداع الأدبى . دراسة العمل الفنى يجب أن تركز على العمل نفسه ، وليس المبدع أو المتلقى . تركز على بناء العمل ، مكوناته ، صورته الفنية ، عناصره المختلفة ، تفصل بين العمل الفنى وأية عوامل أخرى أساسية أو مساعدة ، مادامت لا تتصل ببنية العمل نفسه . وبالنسبة لى ، فأنا حين أقرأ عملاً ما لا أدعى أن ما كتبته عنه هو تقويم بقدر ما هو تعبير عما فى خاطرى . وأستعير التعبير من " ليمز " .
والحق أن قراءة النقد الذى يعرض للأعمال الأدبية ، ويناقشها ، ليست بديلة عن قراءة الأعمال الأدبية نفسها . ومع أن الناقد هو قارئ فى الدرجة الأولى ، فإن مهمته هى تحويل القراءة إلى كتابة ، أى أنه يهبنا فى كتابته ما لم يفصح عنه العمل الإبداعى . وفى أسرار البلاغة يقول الجرجانى إن الباحث عن المعانى كالغائص فى الدر . الكتابة السردية كنز ، والتأويل فعل اكتشاف ذلك الكنز .
ثمة رأى أنه " ليس هناك قراء يتشوقون إلى متابعة أحكام النقد أكثر من المؤلفين أنفسهم " . وفى تقديرى أنه إذا كان النص ـ حين يبدأ الناقد فى قراءته ـ يتحول إلى علاقة بين وعيين : وعى المبدع ، ووعى الناقد ، فإن النقد فى أفضل صوره ـ والتعبير لفورد مادوكس ـ يتعامل مع العمل الفنى كنقطة بداية فى عملية خلق جديدة . أما أبشع أنواع النقد ، فهى تلك المبنية على معرفة مسبقة خارجة عن العمل الفنى . الرومانسية ـ على سبيل المثال ـ تنظر إلى العمل الأدبى على أساس " أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ، ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بهدف فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن له تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية " ( فصول ـ إبريل 1981 ) . ولعلى أميل إلى قول بيير ماشرى Pierre Macherey إن مهمة الناقد أن يركز اهتمامه على " لا شعور " النص " أى ما لا يقال ، وما هو مكبوت بالضرورة ( ت . جابر عصفور ) .
يقول همنجواى : " كثيراً ما أشعر بأن هناك اليوم منافسة بين الأدباء والنقاد ، بدلاً من الشعور بضرورة مساعدة كل جانب للآخر " . لا ينبغى ـ والقول لأميرسون ـ أن يكون النقد باحثاً عن الشجار ، داعياً إلى هدر الطاقات ، يمسك بالسكين ، وينتزع الجذور . عليه أن يكون هادياً ، معلماً ، ملهماً . عليه أن يكون ريحاً منعشة وليس ريحاً باردة تجمّد الأطراف " . أما بوب فإنه يرى ان " الناقد الكامل يقرأ كل عمل بالروح نفسها التى كتب بها المبدع عمله . عليه أن ينظر إلى العمل فى شموله ، ولا يسعى إلى أن يتصيد الهنات ، مادامت العاطفة الحقة قد حفزت الكاتب ، والنشوة قد أوقدت عقله " ..
أذكر قول تشستر فيلد : " لنترك الناقد الغبى يعيش على جثث الأعمال . أعطونى أنا روح العمل ورواءه " ..
أما الفنان الذى يمارس النقد ، فلعلى أذكر قول أستاذنا يحيى حقى إن " الفنان الذى يشتغل بالنقد ، إما أن يكون تدفقه غنياً جداً ، وموهبته كبيرة جداً ، بحيث لا يؤثر اشتغاله بالنقد على فنه ، وإما أن تكون قدرته على الفيض الفنى محدودة ولا ترضيه ، فيحاول التعبير عن أفكاره بكتابة المقالات النقدية مادام لم يشملها تدفقه الفنى " .
***
إذا تحدثت عن موقف النقد من حيث الكم النقدى الذى تناول أعمالى الإبداعية ، فلعلى أعترف أنه كثير للغاية إلى حد أن جماعة " أصوات " الأدبية ضمت بعض المقالات والدراسات والحوارات التى ناقشت أعمالى حتى عام 1984 فى كتابين ، وثمة أعمال أخرى سابقة وتالية ، تفوق ما ضمه كتابا جماعة أصوات ، وهما " محمد جبريل وعالمه القصصى " و " قراءات فى أدب محمد جبريل " . أذكرك بكتاب حسين على محمد " البطل المطارد فى روايات محمد جبريل " ، وكتاب ماهر شفيق فريد " فسيفساء نقدية ـ تأملات فى العالم الروائى لمحمد جبريل " ، وكتاب سعيد الطواب " استلهام التراث فى روايات محمد جبريل " وكتاب نعيمة فرطاس " فلسفة الحياة والموت فى رواية محمد جبريل الحياة ثانية " ، وكتاب حسن حامد " مصر التى فى خاطره " ، وكتاب سمية الشوابكة " التراث والبناء الفنى فى روايات محمد جبريل ، وكتاب محمد زيدان " المنظور الحكائى فى روايات محمد جبريل " إلخ ..
مع ذلك ، فإنى ـ حتى الآن ـ لست مدرجاً فى قوائم ـ وبتعبير أدق : لست مدرجاً فى تصنيفات السادة الأعزاء من أدباء الأيديولوجية والشللية ونقادها . إذا أرادوا أن يتحدثوا عن كتاب القصة والرواية ، فإنهم يعلنون القائمة التى تضم ممثلى الأيديولوجية أو الشلة فى أقل تقدير .. ولأنى أتصور الكاتب أكبر من أى منصب أو تنظيم حزبى أو أيديولوجى ، لأنى أرفض مبدأ الشللية فى إطلاقه ، ولأنى لا أتردد على المقاهى والجلسات الخاصة ، وأفضل المشاركة فى المؤتمرات الثقافية ، والحياة مع الناس العاديين ، وقضاء غالبية الوقت فى بيتى أقرأ وأكتب .. لذلك كله فإن قوائم الشلل والأيديولوجيات تخلو من اسمى ، وإن وجدت تعويضاً حقيقياً ، وجميلاً ، فى الكثير من الكتب والدراسات والموسوعات المتخصصة والحوارات التى تناولت سيرتى الإبداعية وأعمالى ، وفى العديد من الرسائل الجامعية التى كان قرار أصحابها بإعدادها أول تعرفى إليهم .
أزمة النقد ـ التى يتجدد حديثها فى الصحف والدوريات ـ اصطنعتها تلك التقسيمات الجائرة ، والمنحازة .. حتى أنه يمكن القول : قل لى من هم نقادك ، أقل لك من أنت !
...............
1987 بإضافات.