إنها بحق لغز،شيء بين الحقيقة والوهم،نستشعره من خلال استرجاع الأحداث والتأمل في الناس والأشياء،من خلال تحليل العلاقات التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل.نستشفها مع توالي الأيام ،نحدق فيها حينما تضيع أشياء امتلكناها،وأيام استمتعنا بها،وفراق أناس خلقوا سعادتنا.ومع إيماننا أن البارئ استهون أمرها وجعل الدار الآخرة هي الحيوان،نقف على الفلاسفة فنجدهم خاضوا تجارب لفك لغز الحياة،فاعتلوا كراسي عالية لرصد حركة الناس والأحداث حتى يمنطقوا العلاقات.لكنهم اختلفوا اختلافا كبيرا،ولم يغادروا مُتَرَدَّماً فكريا إلا قالوا فيه،ولا مبحثا إلا تناولوه.لكنهم كانوا يفاجأون بجديد لم يكن في الحسبان،فيغيرون نظرتهم،ويتغير معها التاريخ،ويضيع الإنسان في متاهات.فعجبا أنك ما زلت في القرن الواحد والعشرين ترى المجازر والاحتلال.وكأن الإنسان جُبِلَ على صراع الخير والشر ،إنسان يحب البقاء،يخاف الفناء،ولو على حساب الآخرين،قلما تجد إنسانا اعتلى خشبة الموت من أجل الآخرين.مات ابن تيمية في السجن وكان لا يلوم من يدخله السجن كل مرة لأنه كان على علم بجهله،لكنها سنة الله في الأنام ولن تجد لسنة الله تحويلا.جاليلي كان واثقا من حقيقته تمام الثقة لذلك استهون الإعدام.ويوما ما ستلاحظ بإمعان صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وهو على خشبة الإعدام في كتب التاريخ ،كما أمعنا النظر في صورة ولي عهد النمسا وهو يغتال قبيل اشتعال فتيل الحرب العالمية الأولى.تمر الأيام وَكَأَيِّنْ من حدث يبقى راسخا وكأنه يوجهنا،ذكريات أليمة وأخرى سعيدة نستثيرها ونحن نواجه الحياة.
والأدباء ليسوا أحسن حالا من الفلاسفة،لقد اكتووا بنار السؤال الوجودي،فأبو القاسم الشابي بعدما اشتدت آلامه وضاقت آفاقه الرومانسية،انهال على الحياة بلومه حتى قال*:"ما هذه الدنيا الكريهة ويلها،حقت عليها لعنة الأحقاب".ورغم دعوات أبي ماضي ورفقته التفاؤلية،فما لجوؤهم إلى الطبيعة إلا دليل على عدم انسجامهم مع محيطهم،ومخاصمتهم واقعهم.ولكل أديب رؤيته الخاصة للعالم والحياة بشكل عام،فباولو كويليو بعدما حقق أحلامه شعر بالخيبة لأنه حقق ما ظل ينشده طوال سنين، ولم تحصل له السعادة التي طالما بحث عنها،فطفق ينشئ طموحات حتى تستمر كتاباته،قل حياته.ويظن البعض أنه يصنع الخلود حين تحقيقه إنجازات باهرة وحصوله على جوائز عالمية،وأن اسمه تخلد في ذاكرة الآخرين،أنى له الخلود،فأسماء تطفو وأخرى تغوص مع توالي الأحداث والأزمنة.
وهناك من يرى أن غير الأدباء في النعيم يسعدون ولا يجهدون أنفسهم في عناء التأمل والتفكر،بل هم سواء في أمور التدبر.فترى الواحد يتشبث بطريقة لباس لا يحيد عنها،يظن أنها تميزه،والآخر يلح على التعبير عن أفكار موقن بها،يود لو أن الآخرين تبنوها.وكلما ازداد العالم تقدما،ازدادت همومه.لقد خرجت آفات من رحم حداثته،وعلل استعصت على علمائه،صارت تؤز راحته أزيزا.وكلما وجد المأمن ظهرت مخاوف جديدة.وبالتالي يمكن القول أنه حُكِمَ عليه بالعيش بين السعادة والشقاء،بين الخلاف والوئام،بين الحرب والسلام.

*أغاني الحياة-ديوان أبي القاسم الشابي-دار المعارف للطباعة والنشر-سوسة-تونس-الطبعة السابعة2007.ص180