تَشدو خَطواتي حَصى الطريق.. مُتجهاً نَحو شِقتي فِي نهاية شارع شُبرا العريقْ.. الساعةُ الآن الثالثةُ صباحاً.. كُل شيءٍ نائمٌ إلا الله ..لكنَ خطواتي في هذا الشارعِ كشفت لي عن أٌناسٍ لا تَنامْ.. ليسَ قوةً وحولاً إنما طابعٌ من الخوف ...إنحرفتُ على رَصيف ليس فيه مطبات بينا أنا أحرق افكاري حول هدوء هذا الطريق.. ووحشةُ الطريقِ كأنفاسِ الغريقْ.. هدوء هذا الدَرب كشرخٍ عميقٍ نابتٍ في الارض ..وترانيم طقسه كأنفاسِ عملاقٍ قبلَ أن يُفيقْ..أمشي وأمشي وأمشي حتى انعطفتُ الى حارةٍ قريبة مَلائى بالضباب ..مَلائى بالهباب .. أهو لكثرةِ التراب من كثرةِ عِتيِّ زمانهم عليهم أم لكثرة ما تَناهى أبناؤُه في الغياب فَغَدَتْ مَنازِلُهُم كعروش ثمود ؟؟ ...
فِي زَحمة الضبابِ..تَبانُ لَك البيوت كَحُفرٍ في الحيطان ..جحوراً بلا ابواب تغطيها بقايا قماشٍ هَزلي الألوان ..وشرفاتها تحلق حول فضاء الطريق الصغير كأنهن وجوه العماليق وهي تنظر الى شيء حقير..في زحمة الضبابْ ..عَلا وَجهٌ ثُم غاب.. واصواتٌ تدنو لمسامعي من قريب.. وصوتٌ يشبهُ صوت إحتكاكَ الحديدِ بالحديدِ.. قططٌ تأخذ مَجرى البيوت طريقاً كيلا تتيه ..علا صوت ثم غاب .. ثم علا صوتٌ من جديد ..هوصوتُ أُنثى إستعرَّ قلبها فتصيح ( لنْ أعود لك لن أعود ...يأخذكَ السكرُ حتى تموت لن أعود إلى البيتِ ثانيةً ..فلا زلت تقسم لي انك لن تشرب هذا الصديد ثم تعود لتثمل من جديد"" وطفق ظلها أمامي يسير.. يسيرُ خَلفها ظِلٌ مُترنحٌ يشدو ورائها ويسألها أن تعود وصراخ رضيعها في لَفَّتِهِ هو الآخرُ يسألها أن تعود ..وأنا لازلت أنا.. أكملتُ المسيرَ بلا أي ثقل على ضميري فأستدير لأي صوت.. كأني حفظتُ طولَ سَنةٍ تِلكَ التَرانيمْ ..وأَصبحَ الضميرُشَيئاً لا يُستَثَارُ وَلا يُثِير..

يالهذا الهباب ..لا يزول.. عَلا وَجهٌ ثُم غابْ.. وَجهُ عَجوزٍ يَعتريهِ الذُهول.. وَوَجهٌ أخرَ لاحَ ثُم أَفَلَ من جديد.. لم أتيقن الجالس على دكة بابه في هذه الساعة المتاخرة ولم أنتبه ..مَن يكونُ هذا الكائن المتأكل ..أكملتُ طريقي في حارة الضباب اسمع صوت سباب ...عجوزٌ توسطت الطريق تَنْهالُ بالشتائم على سُكان تلك الدار (أتطردني من داري يا هذا ؟؟ ليتني ما حملت بك يوما ولا غذيتك من دمي تسعاً؟؟ ألأجلها ؟؟ بعتُ كلّ شيءٍ كَي أزوّجك إياها "" ..مفرعة قصائبها وشالها تهاوى لهول عصيانهم ..فمُها نَديٌ بالعبرات...عادتْ تَطرقُ بَابَهم بِخشيةٍ وصوتٍ مكسور "" ادخلني..سأصلي الفجر وأخرج بعدها ولن أعود "" إقتربت منها وتجاوزتها بكل هدوء .. عجباً لكَ أيها الإنسان.ما أكفرك!! أي خليقةٍ أنت ؟؟
أكملت طريقي مسرعاً ..أشقُّ طريقَ الضبابِ نحو شقتي في آخرِ الشارع .. الساعةُ الآن الثالثة والنصف وغداً عندي عيادة في الصباح ..أسمع صوت صياح.. صوت فتاة ثم اختفى ثم بان لي رجلٌ بدين.. أحقاً إنَّهُ (عَم جورج) صاحب الخمارة العتيقة ..سَمعت إن سَكيراً قتلهُ مُنذ شَهرٍ ونَيف..لاتَزالُ الحُثالات تتنفس الهواء.. وَجهه المَليءُ بالبثورِ وصوتُهُ يجرحُ الآذانَ كصوتِ الشيطان اذ يوسوسُ في قلوبِ المؤمنين ""لدينا أفخر أنواع الخمر ..خذِ كأساً والآخرْ مَجاناً تفضل يا دكتور "" .. سحقاً إنه يعرفني حقاً ويعرف اني ألعنُهُ في سِري وجَهري ويعلمُ عِلمَ اليقين إني لا أُطيقُ شَمَّ رَائِحَةِ الخمور فلما يناديني هذا (ال....) ألا يزالُ هذا البدين يسقي الناس خمره المغشوش هذا!!!!.. خذ هذا العجوز المتنرح أمامي مثالاً..لا يدري في أيِّ طريقٍ هو فيسقط ألارتجاف ركبتيه ؟؟ أم لكثرة ماإحتسى من سموم؟؟..ما أدراني ...يحاول عابثاً ان يلتقطَ أيَّ شيءٍ يتشبثُ بهِ..يسقطُ ويتكأ على حائطٍ مهتريء.. تشابهَ الكائنان يالها مِن صدف.. ولا يتألم بل يدندنُ بلحنٍ غريب....مررتُ مِن قُدّامه بهدوئي المعتاد لم اقف حين مد لي يداه طالبا بعض القروش لكي يحتسي المزيد, لم أعطِ الأقل فَلا أعتقد إني سأعطي المزيد ..
وأخيراً بلغت باب الشقة ..قبل أَنْ أفتح الباب نَزعتُ من على عاتقي هموم طريقي هذا,و أعينَ الشخوص..كل واحد منهم غضٌ بالهمومِ ..غضٌ بالاثامِ ..أيكونُ طبعُ الانسانِ حَملَ الهموم ؟؟..فلما نبكي إذن إذا لُسعنا وهم لا يبكون ...وعلى اكتافهم عصائب كرؤوس الجبال وتحويهم بيوتٌ خرائب؟؟ ..مَهلاً ...إن كان بالإيجابِ سؤلي فَمن منّا الانسان؟؟ أسَاكن الطريق هو أم عابر الطريق؟؟؟؟