تتميز علوم البلاغة عن العلوم اللغوية التحتية الأصوات والصرف والنحو في أمور كثيرة، أهمها وأكثرها جوهرية حيادية العلوم التحتية وانحياز علوم البلاغة.
كيف؟
العلوم التحتية علوم بناء لغة حيادية، تنقل سمات لغات العرب، فمن يستخدمها يكن فصيحا مصيبا، ومن يتركها يكن بعيدا عن الفصاحة والصحة اللغوية. ومن ثم لا يوصف مستخدمها بوصف خاص غير كونه فصيحا مصيبا الصحة اللغوية.
أما علوم البلاغة فهي ظواهر تعبيرية تنطلق من ثقافة الكاتب أو المتحدث وفكره؛ لذا فهي منحازة؛ لأنها اختيارية، ومن ثم يصح وصف كتاب ما أو كاتب ما أو خطبة ما ببلاغة الكتاب الفلاني، أو بلاغة الكاتب الفلاني؛ لاختلاف اختياراته التعبيرية عن غيره.
والسؤال الآن: ما أهمية ما ذكر؟
والجواب هو أن الجميع اتفقوا أن بلاغة القرآن أعلى مستويات البلاغة العربية؛ لأنها خطاب الله تعالى لعباده، وهي تحمل من أسمائه العلا وصفاته الحسنى، فهل اكتشفت بلاغة القرآن من داخلها؟ أم هل اكتشفت من خارجها؟ هل استقرأ البلاغيون القرآن الكريم واستخرجوا ظواهره التعبيرية الخاصة به كما فعل الصرفيون والنحويون مع لغة العرب عند تجريد الأوزان وأنماط التراكيب؟
ما نراه في الكتب البلاغية يتمثل في وقوف البلاغي مع الفن البلاغي، وتأكيد مفهومه، ثم يأتي إلى القرآن الكريم ليذكر أمثلة تطابق مفهومه عن الفن البلاغي المتمثل له. فهل يكفي هذا لاستخراج بلاغة القرآن؟
إن هذه الطريقة تنطلق من غير القرآن لتجلو ملامح الفن، وتكون التصورات عنه، وتصوغ مفاهيمه، ثم ترد القرآن لمحاولة إيجاد أمثلة لما سبق أن كوِّن. ويؤدي هذا إلى معرفة جزئية ببلاغة القرآن، ولا يحمل على معرفة كلية بها من حيث الأنماط الكلية وتحليلها تعبيريا؛ لأن المكوث التأملي لا يطول، فهو يكون بقدر العثور على المطلوب من الأمثلة الدالة.
إن هذا يشبه ما يفعله المهتمون بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، فإنهم يبدأون من النظرية العلمية التي شاعت، ثم يقرؤون القرآن بهدف العثور على مشابه لها، فإذا وجدوها غادروه؛ لأن المهمة انتهت. ولو قرأ العلماء القرآن قراءة علمية كأنه كتاب علمي لوجدوا الكثير والكثير.
يحدث هذا على الرغم من أن القرآن أخبرنا أن الله تعالى جعل الإنسان خليفة كما قال في سورة البقرة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، ثم أنزله إلى الأرض ليعمرها، ووعده بإنزال كتب الهداية له في سورة البقرة حيث قال: [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)].
وأنزلت الكتب هادية له في الأرض، وأنزل القرآن خاتمها هدى، قال تعالى في سورة البقرة: [الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)]
وهذا الهدى يغطي كل مناحي الحياة عقيدة وشريعة وصحة وأدبا ولغة وتعبيرا، ويحتاج الأمر الوقوف مع القرآن وقفات تأمل طويلة ليستبين المنهج في المنحى المطلوب. وتشهد القنوات الفضائية الآن وجودا مكثفا للدكتور الباطني جميل القدسي دويك يشرح فيه نظريته الجديدة في التغذية المستمدة من القرآن الكريم بعد استقرائه إياه، وعثوره على الكليات المكونة لنظريته، وتصنيفها، وتبويبها.
إن هذه المحاولة الطبية حملتني على طرح ما كان يعتمل في نفسي من الرغبة في الوقوف مع القرآن الكريم وقفات تأمل طويلة طويلة؛ لنحاول استجلاء مظاهره التعبيرية، وتجريد سماتها العامة، وتصنيفها، وتبويبها؛ لنصل إلى نظرية بلاغة القرآن من داخله.
إن هذه الوقفة تجعلني أتمثل وقفة الأجداد العظماء الذين أنشأوا حضارتهم التي شملت الحياة بكل جوانبها على القرآن، وتجعلني واثقا من الخروج من هذه الهزيمة النفسية التي نعيشها منذ عقود، والتي لن يمكننا الخروج منها إلا بالقرآن كتاب الهدى في كل مناحي الحياة؛ فلن يصح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.