أقزام البيت الكبير ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
سعادتي اليوم ليس لها حدود ، فأنا أحمل رسالة خطيرة ، إلى الرجل الأسير ، في البيت الكبير .
واليوم أيضاً نهاية دوامي في مهنة ساعي البريد .
منذ عشرات السنين وأنا أنظر بلهفة لهذا البيت الكبير ، من فوق جبل ساحق ، شهيق ، أو من فوق برج عاجي ، معزول ، وفي كل مرة أراه بشكل جديد .
ويبقى الثابت فيه، بيت كبير ، كبير ، واسع ، فسيح ، له شرفات أربعة ، ويتوسطه مسبح أحمر طويل ، طويل .
وها أنا ذا بعد مشقة الطريق ، أتأقزم تحت أسوار البيت الكبير ، ويتفصد جسدي عرقاً غزيراً ، وألتقط أنفاسي من الجهد تارة ، والرهبة تارات ، فيا ترى ماذا وراء أسوار البيت الكبير ؟! وكيف يكون الرجل الأسير ؟!
رحت أتلفت ذات اليسار ، وذات اليمين ، عسى أن أجد مدخلاً لهذا البيت الكبير ، بلا جدوى كنت أبحث ، ففكرت أن أتسلق الأسوار كأنني لا زلت شاباً صغير !! فرنوت بطرف عيني ثم تابعت بعينين متلهفتين ، وإذا برقبتي ترفع رأسي لأعلى ، ثم لأعلى ، حتى فقدت توازني وطحت على الأرض وأنا أصرخ ، أصيح ، وأضحك ، أقهقه على نفسي ، وأنا أفكر في تسلق سور لا أرى نهايته !!
جلست على الأرض وقد نال التراب من سترتي ، والجهد من جسدي ، واليأس يكاد يملأ قلبي ، أين المدخل لهذا البيت الكبير ؟! ولماذا لهذه الدرجة هو حصن ، حصين ؟! وعدت أشحذ عزيمتي ، وأتطلع للتجول في ساحات وغرف البيت الكبير ، وأنظر للعالم من شرفاته الأربعة ، وأسبح في الحمام المرجاني الأحمر الطويل !! فانتابتني ثورة ، وقمت ، ركضت ، وأنا أتقافز كطفل صغير ، نحو سور البيت الكبير ، ولما دنوت منه بقيت راكضاً ، كأني أسعى لاصطدام رهيب !! وتعالت ضحكاتي مجلجلة ، بهذا الجسد الهزيل ! سأقض أسوار البيت الكبير ؟!
تلامس كتفي الضعيف ، بأحجار الأسوار ، فتزلزلت الأرض ، واهتز السور ، راح يترنح ، وجاء يتأرجح ، حتى دك السور ، وهوى من حيث لم أرى ، حتى صار ركامه تحت قدمي ، وانكشفت عورة البيت الكبير ، صحن فسيح ، فسيح ، وزحام كثيف ، كثيف ، وإذا بأقزام يحتشدون ، ومن حولي يلتفون ، يعتمرون قبعات حديدية ملونة ، ويحتمون بدروع زجاجية مبلورة ، ويضربون الأرض ضرباً مزلزلا، ويطلقون صيحات مجلجلة ، فجثوت على ركبتي رافعاً يدي فوق رأسي مستسلماً ، ومتوسلاً ، فلما جثوت انسحبوا ؟! كتمت ضحكاتي التي تتدافع من أعماق أعماقي ، ودهشتي التي ملأتني حتى كدت أنفجر منها ، أهذا هو البيت الكبير ؟! وهؤلاء الأقزام من تسكنه ؟! ياله من شيء عجيب ! عجيب .
وقفت وغطرسة القوة تملأني ، وغرور العمالقة تملكني ، فرحت أتقدم في ردهات البيت الكبير ، وأنا أستبيح كل ما تقع عليه عيني ، أو تلمسه يدي ، وأنا أنادي ، أصرخ ، أصيح :
_ أين أنت أيها الرجل الأسير ؟! يا ساكن الوهم الكبير !!
وإذا بمئات الأقزام تحتشد من جديد ، وتلتف من حولي ، وتلقي علي شباك من حديد ، من ثقلها رحت أهوى حتى جثوت على ركبتي ، ثم إستويت والأرض ، وصار وجهي مسحوقاً ، ذليلاً ، فدنا من وجهي نعل حذاء غليظ ، رفعه منتعله على خدي ، وراح بلا رحمة يدهسني كأني له عدو منذ ملايين السنين . وبلا وعي رحت أصرخ ، وأتوسل له أن يرحمني ، وتترائي أمام عيني أجساد معلقة كذبائح على أسوار البيت الكبير ، وأخرى مطاردة في فضاء أضيق من حبل الوريد ، وتزاحمت على أذني صيحات مجلجلة ، وأخرى متألمة ، حتى لم أعد أفرق بينهما ؟! وآخرون بالسياط يجلدون ، وبالنار يكتوون ، وفي الزوايا أجساد فحمتها صواعق الكهرباء ، وحرائر عاريات لم يتبق من أجسادهن إلا العظام ، وفي السراديب عبر أنفاق الظلام ، آلاف ترقد بدون سلام ، فصحت غاضباً في ذلك الحذاء ، وأنا أسأله :
- من هؤلاء ؟!
فرد مستغرباً بصوت خشن فيه من القسوة ما تشاء :
- هؤلاء هم أعداء الزعيم ؟!!
فأسرعت مستفسراً :
- الرجل الأسير ؟
فرد مزمجراً:
- جلالة الملك ، سمو الأمير ، فخامة الرئيس ؟!
فصحت فيه وأنا غاضباً :
- إني احمل رسالة عاجلة للرجل الأسير .
فضحك ضحكة ليس بها من الضحك إلا الرنين وقال في سخرية :
- تقصد العملاق الأخير ؟!
فأشرت بيدي أن نعم ، ووجدت نفسي أجر من قدمي مهيناً ، ذليلاً ، عبر طرقات واسعة ، والأقزام تتأملني كأنني شيء غريب ، أقزام متصارعة ، وأخرى محتلة ، وأخيرة لاجئة وما من مغيث ، ورحت أرقب من بعيد ، بعيد ، وجوه اليأس تملكها ، وعيون الرعب أفزعها ، وأبت إلا أن تخترق أذني بلا رحمة ، أنات ، وآهات ، ونحيب ، لم تكن من البشر ، بل من الأرض ، والأحجار ، والسنين ؟!
وتوقفت الأحذية ، وراحت تفك أوصادي ، وأنا في حالة بالية ، أستحي من نفسي ، ولا أكاد اصدق ما حل بي من مجموعة أحذية ؟! حتى تنحنح صوت ينبهني ، ملأ قلبي بالطمأنينة ، وأشعرني أنني باق في دنيا جميلة :
- مرحباً يا ساعي البريد ؟!
سمعت هذا كترتيل الترانيم ، وتذكرت إنني لا زلت ساعي البريد ، وسأبقى كذلك ، سأبقى حتى لا يعد في الدنيا وليد !! ولكني أجهشت في بكاء شديد ، شديد ، وفاضت من عيني أنهاراً ، تكفي لتفيض أنهار البيت الكبير ، وضحكت في الوقت نفسه ، ضحكات مجلجلة ، رنانة ، وأخذت أهز أكتافي وأقهقه ، من فرحة لقائي بالرجل الأسير ، ربت على كتفي بيده وأمسك بي ، وجذبني لأعلى ، وأنا بجسدي أستجيب ، ولا زلت أجهش في بكائي ، ولا يزال يهزني ضحك مميت ، حتى أدارني إليه ، ولامست أطراف أنامله لحيتي التي مرغت في تراب الوهم الكبير ، ورفع رأسي وأنا لا زلت أجهش في بكائي ، ويهزني ضحك مميت ، ومن بين غرو رقت الدموع ، لمحت نوراً ، منبعث من وجه آسر ، بريء من كل الذنوب ، فرحت أكبح جماح بكائي ، وأضع أصابعي على شفتي لأمنع ضحكاتي ، حتى توقفت تماماً ، فمد يده إلي مصافحاً وهو يكرر :
- مرحباً يا ساعي البريد
فنظرت في الأرض على استحياء وقلت بصوت المنكسر الذليل :
- هذا ما تبقى مني يا سيدي ! فأنا حطام ساعي البريد !
فعاد ورفع رأسي لأعلى قائلاً :
- لا تقل هذا فلك العمر المديد !! وإن لي عندك رسالة فهل بقيت ، أم سحقت تحت نعالهم ؟!
فرحت أفتش في كل أركاني ، ووجهي يكسوه فزع كبير ، حتى لامستها مندسة بين آلام قلبي ، وأحزان صدري ، فصحت وأنا أمسكها وأعطها له :
- وجدتها يا سيدي ، الرسائل لا تضيع ، يضيع من يحملها !!
فتح الظرف ، أمسك بالخطاب ، ورقة حمراء ، يسكنها حبر أخضر وهاجاً ، ويحدها خطوط صفراء ، وحمراء ، وبيضاء ، مرسوم فيها صقور ، ونسور ، وغربان ، وتيجان ، وخناجر ، وسيوف ، ونخل ، وزيتون ، ورمان ، وليمون ، وبرتقال ، وأخذ يتمتم قائلاً :
- ولد الأمل من رحم اليأس ، والبؤس ، والحرمان ؟!
انتهى