(1)
أورد بدءا قصة هذا الشطر من كتاب "بدائع البدائه" لابن ظافر الأزدي، وهي:
وأخبرني الوجيه أبو الفضل جعفر بن جعفر الحموي وابن شيث من أصحابنا، قالا: مضى الوجيه علي بن الذروي والنجيب هبة الله بن وزير في جماعة إلى الحمام المعروف بأبي فروة. فجرى بينهما تنازع أدى إلى تناكر فضيلة الأدب، ثم تراضيا بأن يحكم بينهما الشريف المعروف بأنكدودة، فحكم بأن يصنعا قطعتين في صفة الحمام على البديهة، ثم يقع التفضيل بينهما بقدر التفاوت بين القطعتين.
فصنع ابن الذروي بديها:
إن عيش الحمام عيش هنيئ ... غير أن المقام فيه قليل
جنة تكره الإقامة فيها ... وجحيم يطيب فيه الدخول
فكأن الغريق فيه كليم ... وكأن الحريق فيه خليل
وصنع ابن وزير بعد بطء:
لله يوم بحامٍ نعمت به ... والماء من حوضها ما بيننا جار
كأنه فوق شفاف الرخام بها ... ماء يسيل على أثواب قصار
فانتقد عليه الجماعة تشبيهه الماء بالماء، واستبردوا ما أتى به، فقال ابن الذروي:
وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... أوكاد يحرقه من فرط إذ كاء
أقام يجهد أياماً رويته ... وفسر الماء بعد الجهد بالماء
(2)
آثرت إيراد القصة بكاملها حتى يتضح مورد البيت، الذي صار مثلا يضربه الناس لكل من لا يأتي بجديد، وقد قارب أن يكون علما على بذل الجهد فيما لا طائل تحته ولا فوقه، وصار كناية عن العبث وقتل الوقت فيما لا يفيد.
هذا هو المورد والمضرب، لكن هل يصح ذلك؟
(3)
لا أظن ذلك يصح.
لماذا؟
لأن هذا الشطر الذي اخترته جزءا من العنوان يمثل أغوارا أبعد وأعمق في عمل العقل وفي أنماط الناس.
كيف؟
إن الناس ينظرون إلى منتهى العمل فإذا لم يجدوه قد أحدث فرقا نوعيا قرروا أن لا جديد.
لكن هل يكون هذا صحيحا؟
لا.
كيف؟
لفهم ذلك لا بد من استصحاب الحالات الاستثنائية التي تعتور الإنسان من وقت إلى وقت، وهي تختلف في خصائصها عن لحظات عموم الحياة.
أقول: بعد استصحاب حالة استثنائية فارقت فيها ما تواضع عليه من حولك ابدأ معي الرحلة!
تبدأ الرحلة وتمر وتنتهي، وحتى تقيّم الرحلة فلا ينبغي إهمال البدء والمرور والنزول حيث النهاية فقط.
إننا جميعنا مررنا بهذه اللحظة، لا أشك في ذلك، فمن منا لم يفارق ما حوله في مسألة ما، ثم عاد أو لم يعد.
في لحظة ثورة معرفية كهذه بدأ الشاعر رحلة إعادة تعريف الماء، ولعله أتى بجديد ورأى أن من حوله لا يستسيغونه، أو لعله أتى بجديد لم يستطع صياغته، أو لعله رأى أن المقام لا يستحق تغيير الأعراف، أو لعله رأى أن الموقف موقف ارتجال، أو ... أو ... لعله عرض له شيء من ذلك فنزل من رحلته التي أراد فيها أن يأتي بالجديد الذي يراه إلى ما تواضع عليه من حوله.
إذن: فليس نزوله على الشائع بعد كد الذهن عبثا؛ لأن احتمالات هذا النزول كثيرة كثيرة كثيرة.
(4)
ويفرض هذا سؤالا في الأدب والنقد ينتظر التفاعل.
ما هو؟
إنه: هل نستصحب مناسبة القول وملابساته في تقييمه؟ وإذا كانت التجربة الشعرية هزلية فهل يحتم ذلك إبداع كلام ساقط؟ أم هل يكون الأمر أن النص إذا قيل تؤمل بعيدا عن ملابساته الأولى، وإذا احتجنا إليها نأتي إليها مستأنسين بها لا محكمين لها؟
الذي أراه أن الأدب كالإنسان يمكن أن يتغير وفق المتذوق وأدلته، فالإنسان يمكن أن يولد في فقر وجهل، ثم يغيرهما ويرتفع بأسرته وعائلته، بل وأمته. وقد يكون عاصيا ويتوب، وقد يكون طائعا فينحرف؛ لأنه ابن غير، وهكذا الأدب عندي، والمعتبر أن يكون التذوق مبنيا على أدلة.