سؤالي الأول
كيف ترى اليوم من خلفوا أهل العربية القدماء؟ تراهم أضاعوها واتبعوا ما لا ترجى فائدته؟ أم أنهم حفظوها وقدروها حق قدرها؟ ثم كيف هو حال الشعر العربي المعاصر؟
كان العربي ذا حس فني عال وذوق أدبي مميز حقا, حتى إذا أخطأ أحدهم خطأ محتملا فى تلاوة قفلة آية قرآنية مثلا , يجد من يقول له : ليس هذا بقرآن ولا يمكن أن تكون الآية هكذا .
وأين مني الغداة نجد ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وكنت أود الاكتفاء بقول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت فى خلف كجلد الأجرب
ولكني أجد نفسي وإنصافا لبعض الأعمال هنا وهناك وبعض الأخوة أيضا هنا وهناك لابد من وقفة فيها شيء من التفصيل المختصر المفيد .
فاللغة العربية تعاني من محنة في أهلها وبين ظهرانينهم , فأين لأهلها بالوقت للقراءة والمطالعة والمعرفة وهم يصرفون أوقاتهم فى الاستمتاع بفضائيات هدامة ,وألحان ومعان هابطة حتى وصل بنا الحال إلي ( وبحبك يا حمار ) والعياذ بالله , وذلك الذى غنى : بحب عمرو موسى وبكره شارون , ثم تساءل : إلا شارون دا شغال إيه ؟ لم يحافظ على العربية إلا القلة النادرة , وساءني أن تعقد ندوة على إحدى الفضائيات العربية للدفاع عن اللغة العربية والدعوة للمحافظة عليها , وإذا بمشارك منهم لا يميز بين اللُغويين (بضم اللام ) واللَغويين (بفتح اللام ), ناهيك عما يرد من أخطاء إملائية ونحوية على كل فضائية مما يزكم فعلا الأنوف ويجعل المرء في حيرة من أمره , واستمعت مرة لأحدهم من المشاهير الذين يملأون الفضائيات وله شهرة تطبق الآفاق ليقول : كان في العصر الأُموي !! وكأنه لا يعرف أنها من النسب المستثناة التي ترد فى مقدمات القواميس , إذ أن صحيحها هو العصر الأَموي بفتح الهمزة لا ضمها , وآخر ممن يديرون المسابقات الأدبية والثقافية يسأل عن بيت البوصيري الشهير :
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ويتحدث عنها بكل ثقة وجرأة وبوجود وزير الثقافة والإعلام ببلد الفضائية المضيفة بأن البيت من بحر الطويل لمجرد أنه نظر إلي ( أمن ) فتذكر فعو وأكمل على هذا, بينما طلاب المدارس يعرفون بأن القصيدة من بحر البسيط وبها خبن وأولها ( متفعلن) .والرجل دكتور وله شهرته بكل أسف .
رغم ذلك , فأنا أقر وأعترف بوجود فحول فى عالم اللغة والشعر , ولكن الإعلام لا يعطيهم حقهم ولا يتيح للأحياء منهم فرصة إفادة المستمع وكل منا يعلم أن الإعلام تحكمه العلاقات الشخصية والإنتماءات والاعتبارات السياسية وعدد غير قليل ممن يقومون على العمل والإدارة بالفضائيات هم أنفسهم لا يميزون بين الغث والسمين , كما أن ظاهرة ما يسمى بالشعر النبطي أو الشعبي , نشطت ولعبت دورا هداما فى مجال اللغة والشعر .
أضف إلي ذلك معاول الهدم الأكثر إيلاما , الحداثيون فى غير معرفة ولا دراية , أنا لست ضد الحداثة ولا ضد التجديد , ولكني مع الذي يقوم أو تسنده أسس ومقومات ترقى بالعطاء وتجوِّده , فنزار قباني رحمه الله إن كتب بالعمودي أقنعك وإن كتب بشعر التفعيلة أقنعك وأطربك وكذلك شاعرنا السوداني المرحوم صلاح أحمد إبراهيم , أما أن يعتقد معظم الحداثيين أن التجديد هو التحلل من القافية والوزن وفهم الرمز على أنه الإفراط فى الغموض بحيث لا يفهم أحد مما قال شيئا بحجة أنه يكتب للنخبويين والصفوة !!!! فأمر غير مقبول ولا مهضوم , وأتحداهم أن أن يكون هؤلاء أنفسهم يفهمون معنى حقيقيا لما كتبوا !!! إن هي إلا عقد نفسية يتقيؤونها وإن هي إلا تبعية نفسية وأدبية للغرب الذي لا يعلمون عنه أنه تعلم عنا القافية وأخذ منا الكثير . بهم أحيانا أذكر الكيفية التي برزت بها للوجود لفظة ( رجعية ) كما يريها المازني , وكأن اللغة العربية أقفرت حتى راحوا يطلون علينا بألفاظ إنجليزية كالإنتلجنسيا مثلا وهم أيضا لا يعرفون أنها دخلت القاموس الإنجليزي بوساطة سواد الشعب وعاميته مثلما أصبح لفظ الخنفشار جزءا من القاموس العربي بفعل لعبة ومزاح أو قل مكيدة لأحدهم من أدعياء العالمين العارفين بكل اللغة العربية ومفرداتها :
لقد عقدت محبتكم بقلبي كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
عموما أهدي لتلك الفئة من هردبيس ودردبيس وعلطبيس , قول الرفاعي عليه رحمة الله :
أيها الناطقون بالشعـر حــــراً ولكم بــه دعـوة طنانه
اسمعونا إن استطعتم قريضاً لا حديث جالس في حانه
ليس شعراً وإنـما هو شيء فوقه الشعر رتبة ومكانـه
إنما الشعـــر ما تدفـق عذبـاً في بنــاء فأحكموا بنيانه
ليست الفكرة الجديـدة تأبى عرضها في جزالة ورصانه
لا تحيطوا تراثـنـا بلهـيبٍ في غد تكـره العيون دخانه
ومما يجدر ذكره أن العرب عرفواالرمز منذ القدم , لكنهم وظفوه بصورة راقية ترقى بالمعنى والأسلوب , وكثيرا ما أضرب مثلا بأبيات عوف بن محلم الشيباني عندما خاطب سمو الأمير محمد بن الطاهر :
يا ابن الذي دان له المشرقان
طرا وقـــد دان له المغربان
إن الثمــانين وبلغــــــتها
قد أحوجت سمعي إلي ترجمان
وأبدلــــتني بشطاط انحنا
وكنت كالصعــــدة تحت السنان
فـقـــــرباني بأبي أنتــما
إلي وطني قبل اصفرار البنان
فاصفرار البنان كناية عن الموت , وهذا هو الرمز.وخذ للرمز مثلا آخر هو قصيدة أبي فراس الحمداني لسيف الدولة :
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر ؟ ألخ وتأمل .......
وأرجو ألا أكون قد أعطيت صورة قاتمة لما يجرى فى عالم اليوم , ولكني تحدثت عن السواد الأعظم ,إذ أنه هناك ومضات متميزة هنا وهناك فى كل قطر عربي ولا يختلف اثنان مثلا على الجواهري ولا على الكثيرين من شعراء متفرقين على عدد من البلدان العربية ,منهم من هو على قيد الحياة ومنهم من قضى نحبه ولم يجد من الإعلاميين المتخصصين في صناعة النجوم لتلميعهم وتقديمهم للمستمع العربي فلا أعتقد أن أحدا يعلم شيئا عن شعراء السودان الفحول الذين خطوا أروع وأعظم الأشعار , وهم كثر منهم أحمد محمد صالح والمحجوب وعبد الله عبد الرحمن وعبد الله البنا وعبد القادر إبراهيم تلودي وعبد الحميد العباسي وهلم جرجرة , معتقدا أنه حتى التيجاني يوسف بشير لم يعط حقه كما يجب , فقد ولد وعاش ومات فى نفس التاريخ والعمر والمرض مع أبي القاسم الشابي وكان فلتة شعرية وأدبية متعمقة وعظيمة ولولا جهود بعض الإخوة الكتاب المصريين الذين أصدروا ديوانه وكتبوا عنه كتابين يحللان رقة وجمال شاعر الجمال , ربما لم يكن ذكره ساريا عند النخبة العربية فقط حتى الآن !
منوها بشدة إلي ما يشهده المغرب العربي من طفرة عظمى فى كافة مجالات الثقافة والأدب والشعر , مع اعتقادي بأن الشعراء الموريتانيين تقليديون إلي حد بعيد , بينما الشعر أنفاس وروح مع الإتيان بما هو مبتكر جذاب يهززك عند سماعه . فالشعر شعر وغير الشعر ليس بشعر حتى وإن طبل أصحابه وزمروا وإلى قيام الساعة.